jeudi 19 octobre 2017





عمتِ صباحًا أيتها الحرب: توثيق الحرب السورية روائيًا




مرة أخرى تطّل علينا الحرب برأسها، ولكنها حربٌ مختلفة تمامًا هذه المرة، ليست بين جنسياتٍ مختلفة، ولكن بين أصحاب البلد الواحد، إنها الحرب السوريّة التي كانت نتيجة ثورة الشعب السوري ضد سنواتٍ من القهر والظلم والاضطهاد، فلم تلبث أن تحوّلت إلى قتال عنيف وحرب مسلّحة دامية لم يكن أحد يتوقع أن تفضي إلى ما أفضت إليه من خراب ودمار وشتات!
في روايتها الجديدة «عمتِ صباحًا أيتها الحرب»، الصادرة مؤخرًا عن «دار المتوسط»، تخوض الروائية السورية «مها حسن» مغامرةً سردية وفكريةّ من نوعٍ خاص، إذ تقرر أن تكتب ما يمكن أن يُسمّى «يوميات الحرب» ولكن بطريقة روائية فريدة، تجمع فيها مهارتها كساردة وخبراتها الحياتية كامرأةٍ كاتبة، في المجتمع العربي وفي سوريا بشكلٍ خاص، مع نشأتها الكردية ومذكرات عائلتها الشخصية، حتى تُشكِّل من كل ذلك مادة خصبة وثريّة لا يمكن أن تعتمد على أفضل منها في صياغة روايةٍ مُحكمة.
ليست المرة الأولى التي تتناول فيها «مها حسن» حكايةً عن الثورة، ولا عن تشريح الواقع السوري بهذا الشكل، ولكن على العكس بدا أن ذلك هاجسها الرئيسي، بل ربما كانت من أوائل من كتب عن الثورة السورية في بداياتها مع روايتها «طبول الحب» الصادرة عام 2012، وحينها قدّمت حكاية الثورة والحرب مع قصة حبٍ استثنائية.
كما عادت إلى الحديث عن الثورة، وتحديدًا مدينتها «حلب» في روايتها الصادرة في العام الماضي «مترو حلب»، والتي كان هاجسها الأساسي فيها البحث عن الهويّة في المنفى الاختياري الذي كانت فيه البطلة في فرنسا، بعد أن تعددت الهويات السورية أثناء الثورة وفي أتون الحرب!
تنزع «مها» هذه المرة كل الأقنعة السردية المعروفة والمألوفة، لتخوض تجربة مختلفة ومغايرة في توثيق وتدوين مذكراتٍ تبدو شخصية جدًا عن يوميات الثورة السورية، وعن علاقتها بأمها وأخواتها، ولكن من خلال السرد أيضًا، إذ تستنطق في الرواية أشخاصًا غائبين عرفتهم عن قرب، وحان الوقت لتسجيل تجربتهم المرّة القاسية من خلال صوت الراوية المحايد، الذي يحكي عن نفسه طرفًا وعنهم بلسانهم (بطريقة الراوي المشارك) أطرافًا أخرى.
ينتقل السرد بين الراوية «مها حسن»، وبين أمها  «أمينة» المتوفاة قريبًا، ولكنها قادرة على تخطي الحواجز والحكاية عن كل لحظات الحياة قبل وفاتها، ثم «حسام» أخوها المهاجر الذي يبحث عن حياةٍ مستحيلة في «السويد»، تبدو الأم أكثر درايةً ووعيًا من ابنتها، وعنها ترث البنت السرد ومهارة الحكايات، كما تؤكد في رواياتها دومًا، تخاطبها قائلةً:
غيّرتْكِ الكتابةُ. نحن الأمّهات، نقول حين تصبح بناتُنا أمّهاتٍ، تعرفنَ معنى الأمومة، وتُقدّرنَ قيمة الأمّ. أمّا أنتِ، فقد خضتِ مغامرةَ الكتابة التي كانت حقا مُنصفا لي ولكِ، عبر الكتابة رحتِ تُفكِّكين انتماءاتِكِ، وتُحلِّلينَها، وتقتربين منّي خطوة إثر خطوة. أمّا المنفى، والمسافاتُ الطويلة، واستحالةُ اللقاء الذي تحوّل إلى حلم لديكِ خاصّة أكثر منّي، فقد نقّى ذلك مشاعركِ أكثرَ، وجاء موتُ أبيكِ، ليقصمَ ظهرَ المسافةِ العاطفيّةِ، لتنظري إليّ كامرأةٍ أرملةٍ، تعيشُ ألمَ الفقدان.
الكتابةُ صَنَعَتْ منكِ كائنا عاقلا، وكائنا عادلا في الوقت نفسه، فأجريتِ مراجعاتٍ لنفسِكِ، واكتشفتِ خطأ ميولِكِ لمعسكرِ أبيكِ، وانحيازكِ إليه طيلة تلك السنوات، كنتِ تبحثين عن الأمان في اعترافِهِ بكِ.
لا تقتصر الرواية على حكاية مأساة العائلة الشخصية وما حل بهم من شتاتٍ ودمار، على قسوته وما في تفاصيله من آلام، ولكنها تتعرّض أيضًا لتفاصيل «الثورة السورية» وتحولاتها، وكيف بدأت منادية بالعدل والحرية، وما الذي قادها إلى هذه النتيجة المؤلمة والقاسية، تتناول مثلا أسطورة «الجيش الحر» وكيف مثّل في البداية ذلك البطل القادم على حصانه الأبيض يحمل لواء الحق والخير وينصف المظلوم ويقتص من الظالم.
تلك الصورة المثالية سرعان ما تشوّهت بممارسات أفراد ذلك الجيش الذي مارس هو الآخر عمليات القتل والتعذيب والتنكيل بكل المخالفين له، ولم يختلف في النهاية عن سلطة النظام الغائمة التي أذاقتهم الويلات طوال تلك الفترة!
تعرض الرواية تفاصيل دقيقة للحياة في ظل الحرب، وأحلام البسطاء في الهجرة، حفاظًا على حياتهم، ومشاعر الخوف والذعر التي يتعرّض لها السوريون يوميًا، تلك الحياة التي تغيب عنها كل مقومات الحياة، حياةٌ على أطراف الموت الذي يهددهم كل لحظة!
يتسرّبون مثل الزئبق، يسيرون مُلتصقين بالجدار، ظهورهم في الجدار، ووجوههم تترقّب الفتحاتِ بين المباني والبيوت التي قد تتسرّب منها طلقة القنّاص، تسألينني لماذا نخاف من القنّاص؟ نعم، هو يُطلقُ الرصاص دون هدف، قد يقتلُ طفلا أو امرأة، لا يهمّه، بل قد يلعب مع أصحابه، ويُحدِّد هدفا ما، يصيبه، دون أنْ يسأل عن الشخص الذي يقتل، لهذا أخاف الخروج من الحارة. فقط أخرج من البيت إلى البيوت المجاورة، المتلاصقة، حيث لا فجوات بين الجدران، ولا فتحات تتسرّب منها طلقات القنّاص، لا أخاف من الموت، يا بنتي، لكنّني أخاف من التّشوّه، العجز، مَنْ سيعتني بي إذا شلَّتْني طلقة القناص، وأقعدتْني؟
ينتقل السرد برشاقة وانسيابية بين الماضي والحاضر، بين مآسي الداخل السوري، وتفاصيل مأساة «حسام» تحديدًا الذي يمثّل الثورة وهي تهرب لاجئة إلى بلاد الغرب حيث الحرية وحقوق الإنسان، ليفاجأ بمعاملة قاسية، وبلاجئين لا يختلفون كثيرًا عمن تركهم هناك في حارته في حلب! يتذكّر أصدقاء الصبا ورفاق الثورة وكيف تحولوا بين عشية وضحاها، وكيف كانت صدمته فيهم، وينجو أخيرًا بنفسه حيث يبقى لاجئًا عالقًا في انتظار أن يسمحوا له بالإقامة في تلك البلاد التي كان يحلم بها، ولكن يبدو أن لعنة الحرب تطاله إلى هناك!
تقدّم «مها حسن» لروايتها بمقطع من «صلاة تشرنوبل» كتاب «سفيتلانا أليكسييفيتش» الحائزة على جائزة نوبل عن كتابتها عام 2015، والذي جمعت فيه شهادات ضحايا كارثة الحرب النووية الشهيرة عام 1986، ومن ذلك الوقت حتى وقتنا الراهن تتجدد المآسي وتتعدد عربيًا وعالميًا، فماذا يكون بوسع الكاتب أن يقول عنها ولماذا يرصدها؟!
تقول سفيتلانا:
فلماذا إذن يتذكَر الناس؟ لاستعادة الحقيقة؟ العدالة؟ التحرر والنسيان؟ كي يدركوا أنهم مشاركون في الحدث الضخم؟ أو يبحثون عن الحماية في الماضي؟!
وتقول مها حسن (على لسان أمها):
 الكُتُبُ هي الأصلُ، هي أهمُّ من حقائب الملابس وأغراض المطبخ والحمام.. الكتابةُ تحفظ الذاكرة، الملابسُ تذهبُ، تلتهمُ الحروبُ الملابسَ والذَّهَبَ والبيوتَ، لكنّها لا تلتهمُ الكتابةَ، لأنّ الكتابةَ تبقى في الرأس. اكتشفتُ هذا مؤخّرا، اكتشفتُهُ أكثرَ وقت الحرب، واكتشفتُهُ أيضا، وبشكل فاقع هنا، بعد الموت. الحكاياتُ التي أسردها، وتدُوِّنينها، هي خلاصي من هذا الانتظار الممُلّ في موت طويل وبارد، لا يكتمل.
وهكذا تمثّل رواية «عمت صباحًا أيتها الحرب» وسيلة الخلاص الأخيرة، مرثيّة كبرى للبيوت التي تهدّمت، وللأصدقاء الذين فقدوا ولملاعب الصبا وذكريات الزمان التي ضاعت في خضم صراعات الكبار بين السياسة والدين وفرض الوصاية والطغيان والاستبداد، مرثيةً للحياة التي ينزعونها من الأحياء عنوة، فلا يبقى في النهاية إلا الحكام وروح أبت أن تفارق تصر على رواية الحكاية متحدية بذلك الموت نفسه
إبراهيم عادل ـ إضاءات