mardi 22 décembre 2009

تراتيل العدم صيغة جديدة في الكتابة الروائية العربية

محمد غرافي
 
لا يمكن قراءة رواية 'تراتيل العدم' للروائية السورية مها حسن، الصادرة هذا العام عن دار الكوكب/ رياض الريس، من دون أن نشعر بأن شيئا جديدا قد حصل في الكتابة الروائية العربية المعاصرة.
تنفرد هذه الرواية بأشكال كتابية لم تتعرض لها الرواية العربية بكل هذا التنوع، فهي إضافة إلى كونها تجمع بين السرد والمشهد المسرحي وتعليق صوت الراوي/ الكاتبة على الأحداث في قالب نقدي، فإنها تهدف منذ الصفحات الأولى إلى إزعاج القارئ وكسر ما تعود عليه من قراءة نمطية. إنها تمارس عليه استفزازا يصل حد التشويش أحيانا. فالمستوى السردي تتقاطع فيه أصوات ثلاثة: جدار وجوزفين وم (مها؟) يخبرنا فيه الصوت الأخير أن الرواية كتبت بشكل جماعي، رغم أن صوت م هو الصوت الذي يطغى على سرد الأحداث، مثلما يطغى صوت شخصية أرض/ الأم كسلطة لا تقهر، حتى بعد مماتها.
زمن الرواية دائري لأن الرواية تنتهي من حيث تبدأ، لكن الأحداث تدور في الماضي البعيد على مدى أزمنة وأجيال عديدة، من دون أن يشعر القارئ بسلطة الزمن، وهذا ما يعطي للرواية أولى أبعادها الأسطورية. أما المكان العام الذي تدور به الأحداث فهو قلعة أرض وحرث تليها قلعتان أخريان، قلعة ابنهما طُهر (العلماني) وحفيدهما حرز (بطل الرواية) بدون أي أثر جغرافي أوحضاري أو ديني محدد. مما يعطي للنص بعدا إنسانيا أشمل.
كتبت الرواية بطريقة تجمع بين الواقعي والأسطوري، فالأحداث تبدو ضاربة في القدم كأنها تقصّ أصل الكائن البشري، لكن محاكاة البطل لإحدى مقولات الفيلسوف كيركيغارد وإحالة السارد الى مرجعيات فلسفية إغريقية ومعاصرة وإدراج بعض الأحداث في إطار زمني ومكاني مألوف لدى القارئ (مؤتمر صحفي مثلا)، كل ذلك يعطي للنص مستوى فنيا يخرج عما راكمته الرواية العربية لحد الآن ويجعل قراءة الرواية محفوفة بالمخاطر، سواء من حيث تعدد شخصيات الرواية التي قد تختلط أسماؤها في الذهن أو من حيت تداخل أزمنة الحكي وتقاطعها، مما يستلزم التوقف من حين إلى آخر لإعادة ترتيبها. جاءت تقنية الكتابة هذه متعمَّدة باعتراف الراوي (الكاتبة؟) نفسه في لازمة تقول: 'تتحول أزمنة القص، وتتعدد مستويات القص، وتتبختر راويات العمل...' مثلما جاء متعمَّداً أيضا إلحاق دليل بأسماء الشخصيات في آخر النص، وهو 'دليل' خادع لأنه لا يقوم بدوره المعهود في الإيضاح ومساعدة القارئ على فهم ما تعذر فهمه في ثنايا النص، بل يزيد من غموض الأشياء لديه. مما يجعل صفحات الدليل المثبت بعد نهاية أحداث الرواية جزءا من الإطار الفني والدلالي للنص.
يمكن اعتبار 'تراتيل العدم' من هذه الزاوية رواية القارئ القلِق، الصبور واليقظ ضدّا على القارئ المتقبِّل وضدّا على قراءة الاسترخاء والكسل.
لكن الجديد الأكثر إثارة لانتباه القارئ هو أسماء الشخصيات. نظريا، تعدّ أسماء العلَم في بعدها السيميائي اعتباطية مرتين: الأولى لأنها ترتكز على وحدات لغوية أطلقت اعتباطا في الغالب على الأشياء، والثانية لأنها انتقلت من مستواها الدلالي الأول كي تشير إلى أشخاص من دون أن يكون ثمة بالضرورة علاقة منطقية بين الإسم وحامل الإسم. ولذلك جاءت أسماء الشخصيات في الرواية العربية التي لا تزال في الغالب أسيرة الاتجاه الواقعي أسماء مألوفة لدى القارئ ومستهلَكة واقعيا ورمزيا. الجديد الذي تنفرد به رواية مها حسن هو توظيفها لوحدات لغوية كأسماء علَم لم تدخل بعدُ ـ تحت هذه الصفة ـ حيّز الاستعمال في الواقع ولا في المخيال العربيين: أرض، حرث، إغماء، عناد، حرز، سماء، رؤية، طُهر، نجمة، جدار، حداد، شمس، غياب، آثام... أسماء تنتمي بالطبع إلى حقل الدوال اللغوية في المعجم العربي لكنها ستنتقل لأول مرة إلى حقل أسماء العلم. ولأن هذا الانتقال لم تتحكم فيه الأعراف والاستعمال الجمعي للغة، فإنه جعل أسماء الشخصيات في الرواية أقرب إلى دلالتها التعيينية باصطلاح رولان بارت، ولن تأخذ تلك الأسماء رمزيتها إلا عن طريق تشكُّل حامليها شيئا فشيئا في ثنايا النص. هكذا ستكون أرض هي المرأة الساحرة ذات السلطة التي لا تقهر، لكنها تظل مشدودة إلى المعنى التعييني للكلمة : الأرض التي نحيا عليها جميعا والحضن الأول للوجود البشري، الأم التي ستنجب مع زوجها حِرث سلالة تبلغ تسعا وتسعين فردا.
يصعب تلخيص رواية 'تراتيل العدم'، أو أن كل تلخيص لها سيكون لا محالة تعسفا، لأنه ما عدا الحدث الرئيسي الذي تعلن عنه الرواية منذ صفحاتها الأولى والذي يتمثل في مشهد احتراق البطل، ليس ثمة ما يشكل أحداثا مركزية وأخرى ثانوية بالمعنى المتعارف عليه في جنس الرواية.'كل الأحداث تبدو عادية ومركزية في الوقت نفسه: عادية لأنها نابعة من صلب اليومي في حياة البشر (ولادة، طفولة، زواج، حب، استحمام، نوم، تشرد، موت، حلم، غناء، مضاجعة، إلخ) ومركزية لأنها رغم واقعيتها وأشكالها تأخذ في غالب الأحيان طابعا سحريا وأسطوريا.
تبدأ الرواية وتنتهي بمشهد احتراق البطل حرز على كومة قش استلقى فوقها وأضرم فيها النار متأملا مشهد احتراقه. حرز هو حفيد أرض، وأرض هي زوجة'حرث وصاحبة أطول ضفيرة استغرق فكها يوم زفافها الليل كله ونصف النهار 'وقيل إن أرضا حين كانت تستلقي، أو تجلس، أو تقف في مكان، ويلامس شعرها المكان المتاخم لوقوفها أو جلوسها أو استلقائها، فإن محل الملامسة، يظل يسكنه، ولساعات طويلة، بعد مغادرتها ظل كان يصنعه شعرها، وإذ يغيب الأصل (شعرها) يبقى الظل لا يبارح المكان...' ص. 44.
تزوجت أرض رجلا إسمه حرث في اليوم السادس من الأسبوع.'وفي اليوم السابع جاءت امرأة 'جميلة المنظر' اسمها 'ذاكرة' لتبارك زواجهما وتترك لأرض وصية: 'احفظي هذه الصيغة وكرريها أمام أبنائك كل يوم كما تكررين أسماءهم ليتعلموها جيدا، ستلازمك هذه الصيغة طويلا، وتحصن أبناءك من خطر قد يصيبهم'. ص. 41. تقول 'الصيغة': 'حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيدا تموت وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك' ص. 42.
تشكل صيغة التحذير هذه لازمة تتكرر كثيرا في النص كدلالة على حضورها القوي في أذهان جميع شخصيات النص ومطاردتها لهم كتميمة مقدسة. وإذا كان أفراد سلالة أرض قد تعاملوا مع هذه الصيغة بلامبالاة أحيانا وبتمرد علني كما فعل طُهر، فإن حرز هو الشخصية الوحيدة في الرواية التي اكترثت بها حد القلق وتمسكت بها كوصية مقدسة. تقول أرض: 'لقد تلوت صيغتي على الجميع، فما اكترثوا، فلماذا يتبرع هو بالاكتراث؟' ص. 283.
تحفل الرواية بأحداث ووقائع تجمع بين الواقعي والسحري وتذكّر بعض أجوائها بأجواء روائية سابقة في الأدب العالمي والعربي: أرض وحرث يُذكّران بعائلة بوينديا في رواية مائة عام من العزلة وأرض (إلهة الاغتسال) تذكر أيضا بصاهبّاء التي تتطهر بالشمس في رواية السّدّ لمحمود المسعدي، بينما تُذكّر بعض الأحداث المرتبطة بالأساطير والجن وعلاقة الإنسان بالحيوان والطقوس بأجواء الواقعية السحرية في روايات إبراهيم الكوني. ناهيك عن مرجعيات أسطورية أخرى توظفها الرواية مثل أسطورة سيزيف أو دينية/صوفية كالكابال أو أدبية كروايات التشيكي ميلان كونديرا أو فلسفية مثل نظرية سقراط عن 'الانهمام بالذات' ونظرية كيركيغارد الوجودية.
إن قصة حرز في 'تراتيل العدم' هي قصة الشرط الإنساني بمعناه الفلسفي«'إنها تثير أسئلة الوجود والعدم والخلق والحرية الفردية وعلاقة الفرد بالجماعة وتثير بشكل خاص إشكالية الفعل الإنساني في عالم أشبه إلى حد كبير بالعالم الروائي، أي بالخيال أو الوهم. إن حرز يموت كما يقول هو نفسه 'مجّانا' والصيغة السحرية تحذر من ترتيل نشيد تبيَّن في آخر الرواية أن محتواه لا يتعدى أبجدية فارغة المعنى أو على أكثر تقدير غامضة كالطلسم: 'آه باه تاه جاه داه زاه .... ياه' ص. 293. وهكذا تصير الصيغة التي ورثتها أرض عن الساحرة 'ذاكرة' مجرد حافز للحكاية ('مات حرز، من أجل مجرد رواية' ص. 293) وفي نهاية المشهد الدرامي لاحتراق حرز تتماهى 'الصيغة' مع الظلمة أي مع الفراغ والعدم.
كما أن قصة حرز تطرح إشكالية الإنسان الذي يموت وكأنه يتحمل خطايا الآخرين، آل القلعة، من بني جنسه في سلالة أرض. لقد كانت ولادته نفسها مثار جدل لأن أباه ظل يشك'في أن يكون حرز ابنه الحقيقي، ولذلك أبى أن يطلق عليه اسما حتى لا يكون مسؤولا عن مصيره، فظل الصبي بدون اسم 'لعدة أسابيع' إلى أن أطلقت عليه جدته أرض اسم حرز خوفا عليه من المصائب. كل ذلك ساهم منذ بداية الرواية في تفسير مسبق لمشهد الاحتراق: 'أسميك حرز لأحميك باسمك من الوقوع في أسر ما أُسرَّ لي' ص 31. لقد أدى كل ذلك بحرز إلى البحث مستقبلا في حقيقة نشأته وطرح أسئلة القلق حول الذات بدْءاً من التساؤل عن جسده وعضوه التناسلي ('الزائدة اللحمية') إلى التساؤل عن حقيقة ذاته (أهو كائن إنسي وجني في الوقت نفسه؟) وانتهاءً باحتياره في موته 'المجّاني' وهو يتأمل النار تحرق جسده على كومة من القش.
تتناول الرواية هذا القلق الذي رافق البطل منذ طفولته حتى مماته على ضوء التصور الفلسفي لنظرية 'الانهمام بالذات'. وهي نظرية من بين النظريات الفلسفية التي تحيل اليها الرواية في حواشيها وتقوم على تفسير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لعبارة سقراط 'اهتم بنفسك' على أساس أنها ليست دعوة إلى النرجسية أو الأنانية، بل هي تعبيرعن سلوك الفرد نحو نفسه ونحو الآخرين، وهي الجهد الذي عيله أن يبذله للعبور إلى الحقيقة، حقيقته هو وحقيقة أفعاله. لقد اعتنى فوكو بهذه النظرية وحاول تفسيرها لأول مرة (قبل أن تصدر سنة 1984 كعنوان للجزء الثالث من كتابه تاريخ الجنس) خلال محاضرة له بكوليج دو فرانس يوم السادس من يناير سنة 1982 كنقطة أولى لتناول إشكالية الذاتية والحقيقة. وانتهى إلى أن مقولة سقراط كانت بمثابة 'المبدأ الأساسي' الذي قامت عليه الفلسفة الإغريقية والهلّينية والرومانية وأنها تعدّت حدود التصور الفلسفي لتصير في ما بعد المبدأ الأساسي الذي قامت عليه أيضا المذاهب الروحية المسيحية، خاصة في شقها الصوفي (أنظر ميشيل فوكو، هيرمونيطيقا الذات، سوي/غاليمار، 2001). هاهنا نعثر عن إجابة عن السؤال الذي يطرحه أي قارئ وهو يفاجأ بتدخل صوت الراوي/الكاتبة في حاشية الكتاب (ص.156) مدرجا اسم ميشيل فوكو ومقولة الإنهمام بالذات في النص. إن مرد ذلك كله يعود إلى أن حرزا سيعمل بنصيحة أرض ('عليك فقط الاهتمام بنفسك، والإنهمام بذاتك') سالكا طريق القلق والسؤال والمعاناة من دون أن يستطيع تغيير شيء مما اعتبره قدرا لا مفر منه«'ألم تسرّ له أمه في خضم تساؤلاته الكثيرة بأن أباه الحقيقي اسمه 'أقدار'؟
ولعل الإشكالية الكبيرة التي تطرحها الرواية في علاقة الكائن الإنساني بوجوده وبالعالم تقترب كثيرا من مفهوم العبث. مقابل صيغة التحذير التي وجهتها أرض لحرز ثمة ما يثير تناقضا في إصرارها على حماية حرز خوفا عليه من الوقوع في ما أُسِرَّ لها به مسبقا، أي شيء مرعب، أو خاتمة درامية. وسيُحسم هذا التناقض بوقوع حرز في ما سُطّر له سلفا، مما يجعل مسار حياته مسارا عبثيا. غير أن البطل يحاول تفسير نهايته المأساوية كنتيجة منطقية لا لمسار كان مقدّرا سلفا، بل لصيغة أرض نفسها واكتراثه الكبير بها: 'تلك الصيغة' طاردتني، حتى شوشتني وبعثرتني وشككتني وأقلقتني، فقتلتني!' ص 273.
هكذا يموت حرز لا بسبب عصيان الإله ( أرض) بل بسبب الإيمان به وطاعته : 'لم تقتلك الصيغة. قتلك الإيمان (...) لقد تلوت صيغتي على جميع أبنائي وأبنائهم وبناتهم، فأهملوا إلا حرزا فحقت عليه اللعنة' ص. 272ـ276.
لقد حاول حرزمنذ صباه الخضوع لصيغة المرأة الأولى (أرض). ورغم ابتلائه بصوت صيغة ثانية تدعوه إلى نفي الصيغة الأولى والتمرد عليها، فإنه ظل متمسكا بوصية جدته أرض إلى أن يتخذ بنفسه قرار الانتحار. هكذا يكون فعل الانتحار هو الفعل الإرادي الوحيد الذي خلص حرز من الإذعان لسلطتين/صيغتين تتجاذبان ذاته:
أكان موتي'اختيارا مني؟
ـ نعم، لأنه لم يكن ردا على تلك الصيغة، ولا ربطا بها ص. 284.
جاء موت حرز احتراقا ليس فقط من شدة ما لاحقته صيغة أرض، بل أيضا نتيجة عجزه عن مواجهة ثقل تلك الصيغة/السلطة المتذرعة بمفهوم القدَر. لقد كان ثمة شيء أساسي يشدّ حرز إلى الحياة، ألا وهو عبقريته الموسيقية التي ورث نصيبا منها عن أمه، أي من امرأة تمثل الكائن المتمرد دوما على توجهات الإلهة أرض. هاهنا يكمن أيضا أحد العناصر الأساسية لفهم المآل الذي آل إليه البطل. لقد ورث حرز حبه للموسيقى عن أمه التي كانت تتقن فن الغناء وصار استحضار صوتها الغنائي هو الملاذ الوحيد لحرز كي يحس 'برحابة الحياة' ص. 108. فصار حرز قائدا لفرقة موسيقية على عكس أبيه الذي كان قائد جيش: 'إذا كنت قد ورثت شيئا عن أبي، فهو حب القيادة، وإذا كان ثمة خلاف كبير وأساسي بيننا، فهو في شكل القيادة، إذ أراها في الموسيقى، العازفين، الآلات، ويراها، في الجيش، العساكر، الدبابات والقذائف. شكلان من القيادة لا يمكنهما الالتقاء، إلا في فكرة، حب القيادة' ص.109.
تطرح الرواية هنا مسألة الفن كطريقة ليس فقط للإحساس 'برحابة الحياة'، بل كوسيلة لتخليص العالم من البؤس والطاعة الكاملة للسلطة بمفهومها الغيبي أو الدنيوي. إن البطل وهو يعتقد أنه قد تمكن كقائد أوركسترا من كل صفات القيادة/البطولة، وعددها سبع كما نلاحظ (الثقة، السيطرة، القوة، الامتلاك، القرار، الإرادة، البناء)، صار حريّا به أن يعلن عن قدرته على تغيير العالم: 'فأقود العالم نحو موسيقى تخلصه، وأقود الموسيقى إلى تخليص العالم' ص. 109. لقد كانت الموسيقى عنده 'محاولة للشفاء' من قلقه الوجودي وهي وحدها ذلك 'الموجود الذي يلغي الفراغ، فينفي عن الكون فكرة العدم. الموسيقى هي إلغاء العدم، الموسيقى وجود' ص. 187. ها'هنا يتعزز فهم القارئ لإشكالية الانهمام بالذات الواردة سلفا، فحرز يتحول من كائن قلق إلى شخصية سقراطية مهمتها 'قيادة' الآخرين وتوجيههم والتضحية من أجلهم.
غير أن حرز سيفشل في إحداث هذا التغيير. لم تنفعه عبقريته الموسيقية في شيء فقرر وضع حد لحياته رغم أنه ابتكر لحنا سماه بـ'الصيغة الجديدة' ضدا لاشكّ على صيغة أرض وصيغةِ صوتِ نقيضتها. فجاء انتحاره تعبيرا علنيا عن فشله 'أعرف أني لن استطيع التغيير (...) لقد فشلت وخسرت' ص. 173ـ174.
هل يمكن قراءة الرواية من هذه الزاوية فقط واعتبارها رواية الفشل والتشاؤم الإنساني؟ هل يمكن اعتبارها تنديدا بالطاعة المطلقة ودعوة إلى العصيان؟ أم أن النهاية الدرامية لحرز هي الضريبة التي على الإنسان أن يدفعها ليتحقق الشطر الأخير من الصيغة ويكتسي البطل صفة عنقائية ويتحقق أخيرا عالم أفضل: 'لن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك'؟
إن الاكتفاء بقراءة واحدة سيكون لاشك إجحافا في حق نص أراد لنفسه أن يكون إشكاليا ومفتوحا ـ فنيا ودلاليا ـ على قراءات متعددة.
كاتب مغربي مقيم بفرنسا
عن صحيفة القدس العربي

lundi 21 décembre 2009

محاولة لإعادة النظر في كارثتنا الثقافية

مع أن « أهل مكة أدرى بشعابها»، أي أن اللبنانيين أدرى بطبيعة وإمكانية تقييم الأوضاع الثقافية في لبنان، إلا أني أختلف مع السيد رياض الريس، في مقالته بجريدة الأخبار، بأن « بيروت عاصمة عالمية للكتاب» هي تسمية لإرضاء غرور الشوفينية اللبنانية.

بداية أعتبر قيام دار الريس بطباعة روايتي الأولى، والثانية على الأبواب، حظّا أقدّره، وقد كُتب قليلا حول المساحة اللبنانية التي أُتيحت مؤخرا أمام الكتاب السوريين، حيث حازت الأعمال السورية الصادرة في لبنان، في داري الريّس والآداب، اهتماما لا بأس به، لم تكن لتحظى به، لو أنها صدرت في سوريا. أقول هذا الكلام، لأعبر عن تقديري للانفتاح الفكري والسياسي للسيد الريس الذي أعتبره شخصيا إحدى بوابات الأمل في الثقافة العربية الراهنة، ومواقفه مشهود بها. وليس المقال هنا للإطراء عليه، بل أوردت هذا المقطع، لأثبت حسن نواياي في الاختلاف معه حول نظرته لتسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وأرجو التفريق، والسيد رياض يعرف هذا دون شك، بين العاصمة العالمية للكتاب، وعاصمة الثقافة العربية، حيث الأولى صادرة عن منظمة اليونسكو العالمية، أما الثانية، فهي ناجمة عن اقتراح المجوعة العربية في اليونسكو. الأولى لها صبغة عالمية، بينما الثانية فهي تقريبا ذات ملامح عربية.

بما أن تسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، حيث وردت التسمية من اليونسكو، التي تسمي سنويا مدينة ما، لا علاقة لها بأي نوازع سياسية أو جغرافية، لتخصصها عاصمة للثقافة. أي أنه تقليد عالمي، وليس عربياً.

في العام الفائت، كنت في أمستردام، حيث كانت عاصمة عالمية للكتاب، أعرف أن الكتاب الذين أعرفهم عن قرب، لم يشاركوا في الحفلات العامة، أو حتى في حفل الافتتاح، لما فيه من «مشهدية»، تخلط الحابل بالنابل « السياسي بالفني، المنصب بالثقافة، رجال الأعمال والواجهات مع الكتاب...»، ولكني أعرف أنه فيما بعد، تتم نشاطات متفرعة عن هذه التسمية العالمية، وتتيح لكثير من الكتاب المغمورين بالظهور، وتقديم أنفسهم.

فمثلا، تمت دعوتي، للمشاركة في حفل عشاء أقيم على شرف الروائي الهنغاري جورج كونراد، صحيح أن النشاط لم يكن أدبيا بحتا، بل كان مناسبة لتعارف الكتاب، من أجيال وجنسيات مختلفة.وهي فرصة لإطلاع على التقاليد الثقافية الغربية، التي لا تعاني من أمراضنا الثقافية.

لا شك أن تلك التقاليد، تقاليد الثقافة الغربية مختلفة عن الأخرى، العربية، وهذا لوحده يتطلب صفحات طويلة لعرضه، وعلى سبيل المثال، فقد لخص الريس الوضع الثقافي العربي بـ : الطائفية والشللية والمحسوبية....

الثقافة الغربية ليس فيها عقدة التعالي، أو الأجيال. لكل كاتب شخصيته وحضوره ومكانته، بغض النظر عن شهرته، أما الثقافة العربية، فهي لا تزال، في قسم كبير منها، خاضعة لعقلية «القطيع»، حيث المحاباة، والعلاقات الشخصية، ونبذ الآخر المختلف...

نعم، عزيزي السيد رياض الريس، أنت محق في غضبك من الثقافة العربية، ومحق في عدم تفاؤلك، وأنا، وغيري كثيرون، نقاسمك هذا اليأس، حيث «الفكر الجماعي» يلغي الفردية، التي هي من أول قواعد الإبداع، حيث تحول الكاتب العربي إلى لاهث وراء المال والشهرة والمنصب... وحيث لم تفرز الحداثة العربية، والتطور المعلوماتي والبنياني للمؤسسات العربية، إلا المزيد من القهر والنبذ للكاتب أو المثقف المختلف، الذي لا يزال خارج السرب، محلقا ـ مرغماـ إلى فضاءات أكثر بعدا... ولكن كل هذا، لا علاقة له بأن بيروت عاصمة للكتاب.

ما ذنب اليونسكو التي اختارت بيروت، كما اختارت الإسكندرية ومدريد ونيودلهي من سنوات سابقة، وأمستردام في العام المنصرم، وكما ستكون « لوبيانا « عاصمة للعام القادم، و« بوينس آيرس « في العام الذي يليه.

المشكلة فينا، لا في التسمية، لأن تسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وعدم قدرتنا « كعرب» إلا إظهار تفوق أحدنا على الآخر، كشكل من أشكال الاستعراض، لا القدرات الحقيقية، وإظهار « شوفينيتنا»، حيث أتفق مع السيد الريس، في أن الثقافة العربية تحمل الكثير من الشوفينية»، ولكن كل هذا لا يعيب التسمية. لتكن بيروت عاصمة للكتاب، حتى ولو لم يكن للكتاب عاصمة، وحتى لو كانت التسمية رمزية، كما نحتفل بأعياد ميلادنا، وعيد الأم والاستقلال... لتكن مناسبة للاحتفاء بالكتاب.

عزيزي رياض الريس، أن تكون بيروت عاصمة للكتاب أمر رائع برأيي، بيروت التي تحتمل كل تناقضاتنا، وخلافاتنا، وآفاتنا «كمثقفين عرب، وكسياسيين»، وأن يكون معرض الكتاب البيروتي فرصة لإعادة النظر في «الكارثة الثقافية» العربية، فهنا أشد على يدك بقوة، وأعتقد أن ثمة الكثير من الأسماء الشعرية والروائية والنقدية، وربما من المشاركين في المشهد الثقافي بتحفظ، متحمسون جميعا لدعوتك، لنحاول معا تفعيل المشهد الثقافي العربي، عبر ممارسة حقنا في كوننا موجودين، داخل السرب، دون تماهي، وبمسافات آمنة تبقينا، داخل المشهد، مع حذر الانزلاق في الحظيرة، حظيرة القطيع الثقافي.
عن نوافذ المستقبل

mercredi 2 décembre 2009

الجدد لم يأتوا بجديد لأن ثورتهم ثورة أفكار لا أسلوب



حاورها: اسكندر حبش
 مها حسن: الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية
تفاجئنا رواية مها حسن - (كاتبة سورية مقيمة في باريس) - «تراتيل العدم»، (الصادرة عن (الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر)، بتجريبيتها العالية. مفاجأة سعيدة بدون شك، ففي حين يذهب كثيرون إلى كتابة تحاول الحفاظ على «أقل الأضرار الممكنة»، نجد مها حسن، تغوص في «السرد الشائك»، بمعنى أن الأسلوب عندها هو الذي يحدد كلّ أطر الرواية.


من إحدى ميزات الرواية ابتعادها عن الحبكة التقليدية وكأن ثمة لعبة بالزمن تحاولها الكاتبة. هذه الحبكة السردية تعللّها مها بكونها، هي، «كاتبة تجريبية»، تؤمن دوما بضرورة الإتيان بالجديد، وتضيف: «أكره التماثل والتشابه والتقليد. الإبداع هو الجديد. كلّ كتاب لي هو محاولة لخلق طريقة جديدة، أنا أعشق التكنيك ومهووسة بالشكل. «المعاني مرصوفة على الطرقات»، كما قال الجاحظ، المهم برأيي هو كيف نقول الأشياء المهمة، بمتعة. الرواية في النهاية هي لعبة، لعبة يجب أن تكون ممتعة للطرفين، للقارئ والكاتب، وليست حكاية، وأنا أرفض اعتبار الرواية حكاية. وربما نشأتي الأولى أو قراءاتي الأولى للفلسفة، شكلّت لديّ هذا الهاجس في كسر البناء التقليدي للرواية، لتحريرها من الحبكة والقص والتسلسل المنطقي للأحداث والتواريخ». إزاء ذلك، حين صدرت روايتها «لوحة الغلاف»، قال لها أحد كتاب مدينة حلب، «لماذا تكتبين رواية؟ «لوحة الغلاف» هي بحث وليست رواية، اذهبي واكتبي أيّ جنس آخر سوى الرواية، «وتعاركنا «لغويا» آنذاك حول التصاق الرواية بالحكاية»...


من هذه الرؤية، ترى مها حسن أن «ما يحصل اليوم في عالم الرواية العربية لا يبشر بأيّ أمل. يتحدثون عن «الرواية الجديدة»، والكُتّاب الجُدد برأيي لم يأتوا بالجديد - مع استثناءات دائمة - لأن ثورتهم ليست ثورة أسلوب، بل ثورة أفكار. وهذه الأفكار ليست مستحدثة، وقد اخترعها الكاتب، بل موجودة، جاء واستعملها في رواية «اجتماعية وأخلاقية»، فدخل عمله ضمن «الكتابة الجديدة». أنا لا أهتم بجرأة الرواية من حيث كسرها للتابو الاجتماعي، ثمة أبحاث ومقالات تقوم بهذا، وأنا أكتب كثيرا في هذه الشؤون التي لا تمّت للإبداع بصلة. الجرأة الروائية هي جرأة شكل، جرأة أسلوب، وجرأة تقنية. روايتي الأولى صدرت منذ أكثر من عشر سنوات، مع تحفظي على وسمها بالرواية، إلا أني لا أزال متمسكة بأنها مكتوبة بتقنية غير موجودة في المنتج الروائي العربي، قد لا تكون قراءتها ممتعة، وقد لا تروق للكثير، وهذا حقهم، ولكنها كتقنية، مختلفة فعلا، وهذا ما أسعى إليه في كتابتي: الاختلاف».


في مدينة ذكورية


هذا الاختلاف بدأ منذ ولادتها، إذا جاز التعبير. فهي ولدت، كما تقول، في «حيّ محافظ ومنغلق في مدينة حلب الذكورية، حيث يصعب اختلاط الرجال بالنساء. وحيث تؤثم أيّ اختلاف تقوم به المرأة». لكنها لا تحمل أيّا من صفات المدينة التي ولدت فيها فهي لا تشعر بأيّ انتماء أو حنين لها. هي الطفل الأول لعائلة تشكل العائلة الكردية الوحيدة، في الحيّ الذي ولدت فيه. «وكان أبي، اليساري الوحيد، ولو بتكتم، وكنت وحدي، أخرج صباحا من بين كلّ فتيات الحيّ للذهاب إلى المدرسة، ثم الجامعة، ثم العمل، ووحدي التي لا أضع غطاء رأس، وكنت «كالعين المقلوعة» في ذلك الحيّ المرعب.


كان عليها، وهي التي نمت في أسرة بسيطة من الناحية الاجتماعية، وفقيرة جدا من الناحية الفكرية (ولأبوين أميّين) أن تشق الطريق وحدها، بوصفها الشخص الأول المتعلم في تلك البيئة. إذ «كان مجرد متابعة التعليم في عائلتي حظا استثنائيا لي، ولكن الدخول المبكر للسياسة في حياتي، فتح عيني على القراءة، ومن هنا كان السحر. القراءة هي التي صنعت مني كائنا آخر، وغيّرت مسار قدري التقليدي».


بدأت مها حسن، في الرابعة عشرة، بقراءة هيغل: «أمر مضحك، كنت لا أفهم ما أقرأ، ولكني ألتقط جملا أدونها و«أصفن فيها» حتى أفهم الديالكتيك الهيغلي، نظرا لأن هيغل كان مرجعية ماركس كما تعلمت آنذاك»، وتضيف: «في الوسط الكردي، يُقدّس الشباب «نيتشه» ويعتبرون «هكذا تكلم زراداشت» بمثابة المرجعية الضرورية لكلّ مثقف كردي. توجهت كذكور العائلة «المسيّسين جميعا بالفكر القومي» إلى زراداشت نيتشه، وكان الانقلاب في حياتي». كان نيتشه صاحب الضوء الأول الذي تسرّبت منه عبر ممرّات القراءة وكهوفها السحرية، ومنه انزلقت إلى سارتر، «دفعت فواتير ضخمة نتيجة إيماني الأعمى بسارتر، وتمّت قطيعتي مع اليسار بسبب سارتر «البورجوازي». وهكذا تمّت المسألة بالتدريج وعبر سنوات» تعرفت من خلال سارتر على الوجودية، على هايدغر وكيركيغادر «الذي أهديت روايتي الثانية للإنسان الذي تحدث عنه في يومياته «ذلك الفرد»، ثم دخلت في دوائر السرياليين. وبدأت أتلمس متعتي الخاصة لا في قراءة الفلسفة فحسب، كما كنت أحكم على نفسي، بل باكتشاف متعة الرواية». أمام ذلك كلّه تجد مها حسن أنها مدينة للسياسة التي دفعتها نحو الفلسفة، «حيث تعلمت وتمتعت بالقراءة، القراءة التي هي المفتاح السحري لاكتشاف الذات والآخر». أمام ذلك كان لا بدّ أن تأتي «مصيدة الكتابة، لأنه يصبح لدينا أشياؤنا التي نريد أن نقولها، بعد أن أصغينا للآخر في ما قاله. تصبح لنا أنواتنا المختلفة التي تحاول أن تخرج من شرنقة الجماعة، لتعبر عن فرادتها، حتى ولو كانت تلك الفرادة أو التفرد، عبر طرح مختلف لحالة الألم، أو المقت، أو الخوف». أول إصدارات مها حسن كان في العام 1995، مع كتاب «اللامتناهي – سيرة الآخر»، الذي لا ترغب في أن تدعوه رواية، ولا سيرة ذاتية أيضا، فقد كان «سيرة الآخر»، كما دونت في العنوان، كانت، مع كتابته، تحلم بابتداع جنس أدبي، عبر شكل سيرة الآخر، «أدهم بن ورقة»، لا البيوغرافيا، بل السرد المتعدد. فأدهم، متعدد الولادات، متعدد الشخصيات في كل ولادة، إنه الإنسان اللامتناهي فينا. بعد سبع سنوات (2002)، جاء الكتاب الثاني: «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى». تتعرض في هذه الرواية لمفهوم الخيبة عبر الأجيال، عبر كريم الحاوي، بطل الرواية العربي، الوجودي، الكافكاوي، «الذي يشبه الكثير منا، نحن أبناء الخيبة، وخاصة تلك التي تكرست فينا بعد الستينيات «هزيمة 67»، التي أدت مثلا، وأبقى في مجال الفن، إلى انتحار فنان بمستوى لؤي كيالي «انتحاره غير مؤكد»، أو حتى الانتحار الفاتن الذي قام به خليل حاوي».


تنهمك مها حسن في العمل على أسماء شخصياتها في رواياتها: كريم الحاوي، سوزان الحاج، خالدة الغاوي. وهو يتبدى بقوة في «تراتيل العدم»، حيث يحمل الكثير من المضامين. يكاد هذا الولع أن يكون «ثيمة ثابتة في كتاباتها»: «هذا أحد هواجسي في بناء الرواية، إذ في بعض الأحيان، فإن الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية وسلوكها. خذ مثلا «أدهم بن ورقة» بطل «اللامتناهي»، كلّ النص يلعب على اسمه، ويبرر في كل مرة، أو في كل ولادة تتم لأدهم، لماذا هو «ابن ورقة». ولن أفسر أكثر، لأن إجابتي الدقيقة على سؤالك «الهدف من تحميلها هذه المضامين» قد يحرم القارئ برأيي من متعة البحث، ويحرمني من لذة اللهو قليلا مع القارئ، لندع للرواية بعض أسرارها!


مع «تراتيل العدم»، تذهب مها حسن إلى الكتابة الملحمية، وكأن فيها كتابة «إغريقية». لا زالت تبحث إذاً عن هذا «الاختلاف» الذي دفعها إلى الذهاب «إلى هذه التقنية في روايتي، عبر وجود كورس ملازم للسرد، وأنا لا أريد أن أشرح، وأنت تعرف أنه يصعب كثيرا تفسير رواية متعددة الدلالات، تستحق عدة وقفات، لتلخيص هاجسها في سطور. ولكني كما أسلفت لك، في كلّ كتاب لي، أحاول أن أكون مختلفة عن غيره، ثمة كتابة «وجودية» في «لوحة الغلاف»، وثمة كتابة فانتازية أسطورية في «تراتيل العدم»، أنت تراها ملحمية، ربما اقترابها من التقنية المسرحية، أعطاها هذا الإحساس الملحمي. يسعدني، أن تُفسر هكذا، لأني حين كتبتها، لم أكن واعية لهذه المسألة، أو على الأدق لم أكن قاصدة».


المنفى


هل بسبب كل هذه «المواصفات المسبقة» غادرت بلدها لتعيش في «المنفى»، وهل هو منفى أصلا؟ ترى الكاتبة أن كلمة المنفى «ترتبط عادة بالعقاب، أما منفاي فهو حريتي. في الغرب الفرد هو المهم، وليس تاريخه العائلي، فهو لا يتحمل تبعة غيره. الحرية المرتبطة بالمسؤولية هنا، حررتني من الكثير من الخوف، ومن «الانهماك» بالآخر، بالمعنى السارتري للكلمة، الآخر الذي هو الجحيم حين يتدخل في كل تفاصيل حياتنا، ويصبح نعيما، حين نضع له حدودا، فتكون العلاقة قائمة على الحوار والحرية، لا على الخضوع والتبعية. هذا ما منحني إياه «المنفى»، حريتي في التفكير والمخالفة والاعتراض واللامبالاة. حريتي في كوني أنا. لا الآخر. أعتقد أن المنفى حالة داخلية لا ترتبط بالمكان، أنا كنت «منفية» في بلادي «التي لم أعد أشعر كثيرا بياء النسبة هذه»، بينما أنا هنا، في «منفى» يحترم إنسانيتي وحريتي، ببداهة ودون معارك ونضالات».
عن السفير