mardi 19 juillet 2011

أصدرت بنات البراري مها حسن: أعتبر نفسي كاتبة تجريبيّة

كتب: محمد الحجيري

بعد «حبل سري» و{تراتيل العدم»، أصدرت الروائية السورية المقيمة في باريس مها حسن رواية جديدة بعنوان «بنات البراري» (منشورات الكوكب، رياض الريس للكتب والنشر)، وفيها تتطرّق إلى موضوع «صارخ» هو قضيّة «جرائم الشرف» التي تتعرّض لها فتيات عربيات وتركيات وكرديات  كثيرات، ذلك عبر قصة حب تنحو قليلاً إلى اللعبة الفانتازية.


في روايتها الجديدة اختارت مها نمطاً مختلفاً عن رواياتها السابقة، فهي إذ اعتمدت «الثقافة» إذا جاز التعبير في رواية «تراتيل العدم» والسرد في رواية «حبل سري»، تأتي اليوم لتكتب بأسلوب التكثيف والفانتازيا ومسرحة المشاهد بل وإدخال بعض نصوص شعرية.

تكتب مها عن جريمة الشرف بلغة النشيد وكأنها صرخة لأجل الحرية، وتهدي روايتها الى «جميع النساء اللواتي أزهقت أرواحهن باسم الشرف». تتحدّث عن قتل النساء باسم الشرف عبر سرد حكاية صبية اسـمها سلطانة، تعشق الحياة والبرية. تقع في قصة حب، لتكون بعدها ضحية شرف. فتحلّ لعنة دم سلطانة على القرية فيُصبغ كلّ ما فيها باللون الأحمر.

بعد سنوات، تبدأ القرية بالتخلّص من لعنة اللون الأحمر، وتتدرّج ألوانها، وفق فصـول الرواية المسماة بها، من الأصفر إلى البرتقالي ثم الأزرق قبل الوصول إلى الأخضر عندما تسترجع القرية لونها الأصلي، وتحظى البرية الحمراء بلونها الأخضر مجدداً…

تكتب مها بأسلوب الواقعية السحرية بطريقتها وتستنتج في الختام أن هذه الظاهرة الاجتماعية لم تنتهِ فصولها، تقول: «نشأت في بيئة غنية بقصص الشرف والقتل بسبب الشرف، منها الخيالي ومنها الواقعي، إلا أنني أحطت دوماً بمجموعة تعاليم وتحذيرات من الوقوع في خطيئة الشرف». بمعنى آخر، تكتب الروائية جانباً من سيرة الطفولة ومجتمع الشقاء وسيرة الجسد المقيّد بألف «تابو وتابو» في مجتمع شرقي ورث القوانين والأعراف من عصور غابرة وما زال يوظّفها حتى في المجتمعات الأوروبية.

مها التي زارت بيروت قبل أيام، تحدّثت الى «الجريدة» في لقاء خاص حول نظرة بعض العرب العنصرية إلى أصولها الكردية، إلى حدّ أن أحد الكتاب استغرب كيف توضع روايتها «حبل سري»، لمجرد أن كاتبتها من أصل كردي، على لائحة «بوكر» الطويلة. هي في هذا الإطار عاشت المنفى مراراً، تارة في مجتمعها الكردي بسبب خياراتها الثقافية، وتارة ثانية في محيطها العربي بسبب الأفكار العنصرية التي تتحكّم بالبعض، وطوراً في فرنسا حيث تعيش منفى اللغة والثقافة، وصولاً الى منفى التواصل… ولا تخفي الروائية أنها متحمّسة بقوة للرواية الغربية المترجمة، وتعتبر أنها في بدايتها كانت تميل الى التمثيل والمسرح، لكن لا مكان لهذا الاختبار في مجتمعها المحافظ لذا لجأت إلى الكتابة للتعبير عن ذاتها المنفية ولتبيان الشعور بالاغتراب.

تنفي مها حسن أن تكون اختارت عنوان «بنات البراري» كصيحة على نحو ما عرفنا في رواية «بنات الرياض» و{بنات إيران» و{نساء بيروت»، وتقول إنه ربما وردت في ذاكرتها رواية «ذئب البراري» للروائي الألماني هرمان هسه (ثمة من يترجمها «ذئب السهوب»)، وتضيف بأنها أرسلت نسخة من الرواية بعنوانين الى الناشر، الأول «بنات البراري» والثاني «الأرض المطرّزة بالدم»، وفي النهاية اختارت العنوان الأول لأنها وجدت الثاني طويلاً وغير مناسب لرواية.

هنا أسئلة طرحناها على مها حسن…

هل تبحثين عن نمط محدّد في كتابة الرواية، خصوصاً أنك ذكرت لي أن ثمة تفاوتاً في أسلوب رواياتك؟

أعتبر نفسي كاتبة تجريبية… ربما لدي بعض رواسب الوجودية، لكنني لا أحاول التأطر ضمن نمط محدد.

هل بدأت تتأثرين بالمناخ الفرنسي في كتابة الرواية؟

حتى الآن لم يحدث ذلك، ولا تزال روايتي رهينة تفكيري ومخيّلتي العربية.

هل أنصفك النقد حتى الآن؟

في الفترة الأخيرة نعم، بعد وصول روايتي إلى اللائحة الطويلة لجائزة «بوكر»، وأتساءل أحياناً، لو لم تكن روايتي على تلك اللائحة، أتراها كانت لتهمّش كأعمالي السابقة؟

كيف تجدين الفرق بين الشرق والغرب لناحية التعاطي معك باعتبار أنك من أصول كردية؟

الغرب لا يقف كثيراً أمام مسألة الإثنيات بسبب تنوّع مجتمعه، وكوني كردية فلا يحمل ذلك ميزة ولا عيباً في ذلك المجتمع. بالنسبة إلى المجتمع العربي، أتحدث ثقافياً طبعاً، وعلى رغم العراقيل التي واجهتها كثيراً في بداية مشواري الكتابي وتعرّضي لكثير من التمييز، إلا أنني اليوم، إما بسبب كتابتي ذاتها، أو بسبب تغيّر ظروف المنطقة، ومنها السياسية، لا سيما بعد تحقّق الحكم الذاتي في العراق وحصول الأكراد على كثير من الاعتراف، باتت كرديتي اليوم مرحّباً بها في الأوساط الثقافية التي تتفهّم التنوّع. أما بالنسبة إلى الفكر القومي العروبي، فثمة مضايقات واستفزازات يعاني منها أمثالي، المتحدرون من قومية أخرى، لكننا نكتب بالعربية.

عندما تقرئين روايتك الأخيرة، كيف تقدّمين ملاحظات عليها كقارئة؟

لا يمكنني التعامل مع نصّ كتبته بحيادية القارئ.

ما هو انعكاس لغة البراري على لغة الرواية؟

أعتقد أن هذا السؤال موجّه إلى الناقد وليس لي، ومع هذا أعتبر أن وجود تفاصيل البرية من نباتات وطقوس وألوان له علاقة بلغة الرواية.

هل تكتبين عن جرائم الشرف كجزء من سيرة الجسد؟

لا أميل إلى تفصيل العلاقة بين الشرف والجسد هكذا، لكني من دعاة تحرير الإنسان، امرأة أو رجل، من دون التركيز على الحرية الجسدية، وليس هذا تهرباً من مواجهتي حقوق الإنسان الجسدية أو الجنسية سواء أكان رجلاً أو امرأة، إلا أنني لا أميل إلى التركيز أو الاقتصار على الحق الجنسي أكثر من حق التعبير مثلاً أو الاعتقاد، لكن خصوصية المجتمعات الشرقية تجعل من قضية المرأة وحريتها وحقوقها حالة محورية، حيث غالباً النساء هن الضحايا حتى لدى الطبقات الثقافية.

كيف تقارنين واقع الجسد بين مجتمعك الشرقي الأسطوري ومجتمعك الآخر الغربي؟

هذا سؤال تطول الإجابة عنه. في روايتي «حبل سري» تحدثت كثيراً عن هذا الاختلاف الحاد… خذ مثلاً صغيراً، حين تجلس امرأة في المترو بطريقة ما من دون أن تبالي أو تركّز على طبيعة جلستها، لتظهر أجزاء معينة من جسدها، فإن أحداً لا يلتفت إليها، وحين يحصل، فإن المتلصّص يفعل بسرية لأنه سيدان إن ضبط مختلساً النظر. فالمرأة ليست عورة وليس جسدها فخاً لاستدراج الرجل والحصول على بعض الميزات… ثمة «دمقرطة» لجسد المرأة والرجل، إذ يتم الفصل بين الجسد الحميمي والجسد في العلاقة العادية الرسمية… حيث الاحترام وعدم التركيز على دلالة الجسد الجنسية… أما «الاغتصاب» مثلاً، فحالة لا يتم التساهل معها على عكس مجتمعاتنا.

العيش في الأحمر

مها حسن في بنات البراري


العيش في الأحمر

رواية "بنات البراري" للروائية السورية المقيمة في فرنسا، مها حسن، تقاطع أنماط متعددة من الروي السردي والتكويني والأطري في آن. الرواية بموضوعها الرئيس الذي يصطرع مع جرائم الشرف في بلادنا العربية، تخط امارات الحكاية بأسلوب خيالي يجاوز السوريالية، وبتقنية شفافة تواكب الواقعية. أما بنائية السرد، فيخالطها النفس الأسطوري مع مزيج من الانطباع التراثي، والاكتناه الحداثوي، والغلاف الشرقي، ضمن صيغة لغوية يغدو فيها الايقاع الشعري رافداً من روافد العمل الروائي، الذي يؤدي الى تظهير الهوية الروائية، بعيداً عن النص التقريري، أو التوثيقي والبارد.



مؤثرات عديدة تحملها بداية الرواية، وفيها تتوافر صورة متكاملة الصدم العيني، والمباغتة السردية والتوليف الفني، الذي يستقطع من مركبات الرعب التخييلي ـ وربما السينمائي كتجربة هيتشكوك ـ طيف الوحش القابع في حنايا الانسان ـ هذا الوحش الذي يطل برأسه وأصابعه قاطعاً الأعناق، فاصلاً الرؤوس عن الأكتاف، مدحرجاً العيون على أرض الحياة، مخلفاً الرؤية "الفوبياوية" الفاصلة بين غيمتي البقاء والرحيل داخل جزئيات الألياف البصرية لدى الضحية.

بداية الرواية تصل الى القارئ خارجة من مختبر اللون الأحمر. هو ليس مختبراً للعلوم الطبية، يمارس فيه الأطباء فحوصهم وابحاثهم التشخيصية، وليس مختبراً للفنون يمارس فيه الرسامون لوحاتهم التشكيلية. انه مختبر "الجريمة والعقاب" و"الضحية والجلاد" و"درب الآلام" و"المعذبون في الأرض". لذا يتوالد منه الأحمر ليتدفق بعد مقتل "سلطانة" (البطلة والقتيلة) لون الدم على مظاهر الحياة والطبيعة والأشياء والسماء في القرية، ويطوف بعد ذلك كاشطاً ألوان الثمار والثياب والأشجار والبيوت والأدوات من اصولها الضوئية المتعددة الاخضرار والاصفرار والزرقة والبياض والسواد، فارضاً وجوده "الاحمراري" برمزيته التي تؤشر الى منظومة الدماء المسفوكة البريئة، والى نقمة السكينة والصفاء والعدل في مواجهة كل أنواع الظلم. أليس القتل بغير حق ظلماً؟ أليس الخروج على أحكام الشريعة فسوقاً؟

نقرأ في بداية "الأحمر" (ص 11): "في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل.

مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول الرأس، يتدلى من بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين؟ رأس في الأعلى، وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأول، المفصول عن جسده. لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الرأس الثاني".

عند هذه الواقعة اختارت مها حسن أن تمرحل المرثية الروائية للحب والقتل، بأسلوب الروي الذي يعود من النهاية الى البداية، (فلاش باك) لكنه يبقى اسلوباً غريباً غير تقليدي، يدخل فيه الراوي والقارئ أيضاً مع ابطال القرية، ومع وقائع الأحداث الى متن الكتاب، كأن الجميع حاضرون في ساحة المحاكمة الرمزية التي تتخذ لها موقعا في عوالم الادب ومناخاته، من دون أن تخرج عن جذور الواقع وآفاته. لذلك كان للتوصيف الفني المصقول بالشعر وبترانيم الموسيقى وهسيس البرية، وأفراح الغرام، مسار مرادف لمسار التوصيف الحدثي المجبول بالجهل وسواطير الدماء وصراخ الروح، فيما استندت الكاتبة بعد القبض باحكام الى هذين المسارين المتوازيين في الرواية، الى منظومة الروي الأسطوري، الى الروي الذي يدلف الى مغاور السحر والتعاويذ والتمائم للربط بين الشخصية الذكورية، الذي يمثلها (الأب القاتل) من جهة، والحبيب ـ الذي يصبح فيما بعد هو ايضاً أباً قاتلاً. من جهة ثانية، وذلك ضمن مروحة من الحبكة السردية الممسرحة في بعض الاحيان، والمرصودة تحت مجهر الألوان... بدءاً بالأحمر، مروراً بالأصفر، والأحمر القاني والبرتقالي، وصولاً الى الأزرق العابر والاسود والأخضر. ونرى في ذلك اشارات ورموزاً انكشافية تحاول بها الكاتبة أن تعطي الأفعال ألوانها، والأفكار ألوانها، والأسباب والعلل ألوانها، وذلك عبر منظومة انقلابية على مفاهيمية اللون ودوره، كأن مها تعطي اللون قدرته الرمزية على القصاص وعلى الرضا، على البهجة وعلى العذاب، على الامل وعلى الخيال في آن.

نقرأ (ص 81): "ظلت القرية دوماً غارقة في الأحمر، بمرور الزمن اعتاد الناس ذلك العيش، العيش الأحمر. كانوا يعيشون في الأحمر، يفكرون في الأحمر، لا لون آخر تراه العيون سوى الأحمر. اللون الوحيد، المتسلط... نحن في القرية الحمراء. لا، لنكن أكثر دقة، نحن في الأحمر. نحن في الظاهرة الحمراء... ظاهرة التفاح. إلا أنه ليس من الطبيعي أن يكون الخيار والخس والبقلة والبقدونس والنعنع والقرنبيط والكوسا... كله أحمر! من غير المعتاد أن تكون اجنحة العصافير حمراء، وأن يكون وبر القطط أحمر، وكذلك وبر الأرانب. حتى ريش الطيور، كله أحمر! الأفاعي، الحرباء، العقارب، كله أحمر!". بين لعنة الأحمر، ورؤيوية الأزرق والأخضر، تتوالى فصول الرواية ساردة قصة سلطانة ابنة البرية التي فصل أبوها رأسها عن جسدها لأنها وقعت في الحرام وحملت في الحرام. وتتشابك الشخصيات الروائية في المسار التراجيدي لحياة الأنثى وشرفها وسمعتها. (لكن من قال ان الشرع يأمر بذبح الزانية وبقتل العزباء التي زنت؟ في هذا المسار ـ لست مع العلاقة التي تنشأ في الحرام، كما لست مع القتل الذي يخرج على أحكام الشريعة الاسلامية ولا يلتزم بها ـ). وتتوالى المشهديات وأقاصيص الزهد والدراسة والسحر والحب والياسمين والفضيحة و"الذبيحة" لتشكل مفارقات تتمحور مآثرها حول العفة والعهر، وجريمة الشرف والخنوع، والقاتل والقتيل، والشعر والكوابيس. فيما يلتقي خط الابنة (التي سماها حبيبها ريحانة) والتي ادلت برأيها يوم مقتل امها خارجة الى ضوء التجربة، والى ساحة الجريمة، ليلتقي بعد مرور عقد ونصف العقد، بخط الأم سلطانة... الحدث اياه يتكرر القتل اياه يتكرر، الساطور يقطع العنق الأنثوي فاصلاً بين الرأس والجسد، بين الأبيض والابيض. هنا تستوقف الكاتبة ابطالها وقراءها، تدخل اليهم بفصل تحت عنوان "اسود" تخاطب الجميع عن جرائم الشرف في بلادنا العربية، من خلال روي سردي يتوخى الاطلاع على عدد الجرائم التي ترتكب تحت اسم الشرف. ومن ثم تختم روايتها بالفصل "الأخضر"، هو فصل روائي متخيل لم يحدث بعد، يعكس نظرة الكاتبة المتحررة الى "يوتوبيا" الجسد، وفن العري في براري الحب.

"بنات البراري" تمثل تجربة روائية غريبة، ذات أبعاد تطويرية في النسيج التقني الروائي، وذات اصوات توليفية لمقومات الفن والفكر واللغة والاحساس... قد تكون رواية متقدمة عن خط الحاضر، تفتش عن مثيلاتها، إلا أنها ستفتح بوابة المحطة أمام الرواية العربية لبلوغ ما يتضمنه الفن الروائي الحديث من عوالم ومناخات وأمزجة وأخيلة وأصوات وأسواط غير منسوخة من الغير، أو غير مروية بأساليب الآخر المختلف في قضايا الفكر والعيش، وفي نتاجات الحضارة الغربية الحديثة. ويبقى أن هذه الرواية تختلف عن رواية مها حسن السابقة "حبل سري" لتؤكد باختلافها، أن الكاتبة تتميز بذهنية روائية كبيرة، متجددة، تتوخى الفكر والحس الجمالي والتثويري معاً ـ رغم اختلاف وجهات النظر بيننا على أكثر من صعيد ـ وتتقدم في اتجاه الوصول الى مصاف عليا في فن الرواية.

-صادر عن دار "الكوكب ـ رياض الريس للكتب والنشر".

- الطبعة الأولى: حزيران (يونيو) 2011.

- عدد الصفحات: 151 صفحة من القطع الوسط.



غادة علي كلش