jeudi 19 octobre 2017

مها حسن «شهرزاد» الحرب السورية
نبيل سليمان ـ الحياة 


تشرع رواية مها حسن «الراويات» ذراعيها بقول الكاتبة «خُلقتُ لأروي». وفي روايتها الجديدة «عمتِ صباحاً أيتها الحرب» (دار المتوسط) يحضر جذر هذه العبارة في قولة ماركيز «عشت لأروي»، بينما تكرر الكاتبة عبارتها السابقة مرادفةً بين «وُلدتُ وخلقت»، وترسل الأم أمينة عبارتها «رويت لأعيش»، فهي أيضاً تتولى شطراً كبيراً ومهماً من السرد، مثل ابنتها الكاتبة التي كانت قد أفادت من أمها في وصف نساء روايتها (تراتيل العدم)، وهذا ما تذكّر به في الرواية الجديدة وهي ترسم أمها كشخصية روائية: امرأة خيالية، وكائن خرافي قفز من الأسطورة وعاش في الأرض عالقاً بين الحكايات والواقع.
من قبرها تشارك الأم في السرد، وتفسح لسواها من الراحلات، فتضفي على اللعب الروائي مسحة خاصة. وهي تعلن الأم أنها كانت في حياتها شهرزاد الحارة، وغدت في مماتها شهرزاد البستان- الحديقة التي تحولت إلى مقبرة بفعل الحرب. أما الكاتبة فتعلن أمها «شهرزاد الحرب». لكن الرواية تعلن عن أكثر من شهرزاد، وإن تكن الأم تظل هي شهرزاد الكبرى، أو الأولى. فللكاتبة نفسها نصيب وافر من الحكايات والحكي. ولشقيقها حسام نصيبه الوافر أيضاً. ولسواهما نصيب يسير. وهكذا كان للحرب شهرزاداتها.

الإبنة والأم
وفي موقع آخر تحكم أن ابنتها راحت تفكك عبر الكتابة انتماءاتها، وتحللها، مقتربة من أمها. كما تحكم بأن الكتابة صنعت من مها كائناً عاقلاً وعادلاً في آن. وما أكثر ما يرطن لسان الأم بما تسوق الابنة عليه. فالأمية تتحدث عن الزواج الرومانسي، وعن جوهرها التلقائي، وعن جيناتها، وعن جوهر وبذور ابنتها الإبداعيين، وبعد كل ذلك تصرح بأنها لا تفهم كلام مها النحوي، ولا مصطلحاتها. ومها نفسها ستكتب أنها تتصرف بمفردات الأم. وبالتالي، ينبثق السؤال عما إذا كانت لعبة الميتة التي تروي تكفي لتبرير رطانة لسان الأم، أم أن الأَوْلى أن يكون قد بقي لها لسانها الشعبي البديع المميز، وجرى تصريف رطانتها الثقافية بلعبة أخرى؟
هنا، ربما تحسن الإشارة إلى تصنيف الأم والابنة للرواية، وقد تداول سابقون لهذا التصنيف تعبيراً عن النظر إلى الرواية ككتاب مفتوح، هو من السرد والشعر والبحث والمسرح ومختلف صنوف الكتابة، وحسبي الإشارة إلى رواية- كتاب «النخاس» لصلاح الدين بوجاه.
بيد أن مفهوم «الكتاب» اكتفى في «عمت صباحاً أيتها الحرب» بالسرد الشهرزادي، وأحياناً: الوثائقي، وغالباً: السيري. وبما أن الكاتبة عاشت شطراً من حياتها في حلب، وتعيش في فرنسا، فالبيت يصير هوية، والسؤال يلوب عما إن كانت تكتب هذا «الكتاب» لتصدق الحياتين اللتين تشك بوجودهما: الحياة الحلبية، والفرنسية.
بالعودة إلى شهرزاد الأم نراها تقطع الحكاية بغير العبارة الألف ليلية التي تعلن الصباح والسكوت عن الكلام المباح. والقطع يأتي مرة بتحليق طيران، ومرة بسقوط قذيفة هاون قرب الحديقة التي يسميها «الأغبياء الأحياء» مقبرة، فيما هي، بلسان الأم، بستان، والنساء في دفائنه خرزات تطرزه.
تفتتح شهرزاد الابنة- الكاتبة الروايةَ بقصف المعارضة لبيت العائلة، مع أن مها وإخوتها مع المعارضة، ما عدا لؤي المقرب من النظام، والذي قاطع إخوته، وظل وحده في حلب، بينما تقاذفت المهاجر البقية. وفي حي بني زيد المعارض، حيث استأجر لؤي بيتاً، هدده المعارضون بالاغتيال، فرحل إلى السكن الجامعي. وقد أهدت الكاتبة الرواية إلى لؤي وإلى كل سوري فقد بيته وأسرته. وجعلت الرواية في فصلها الأول بخاصة، ثم في ثناياها، من البيت نبضاً حاراً لها. فالأم التي تروي كيف أثثت البيت، تحدّث عن (شوق البيت) كما تسمّي مها ذلك الشوق الأعلى من شوق البشر. ومها ترسل أيضاً قولها بـ مزاج البيوت، وتحدّث عن أنها تحمل عقدة البيوت، وتطلق السؤال الملتاع «أين هو بيتي الحقيقي»، فالبيت هويتها، وهي واقعة في غرام البيوت. وفي فقرة «هاجس البيت» ترى حلم السوريين سيكون فقط بيتاً، بعد حلم طويل من الحرية والمساواة والتحرر من الخوف.

رواة ثانويون
للبيت شأوه أيضاً في حكايات الشهرزادات الثانوية، أي رواة الرواية الثانويين. فزوجة عدي (الأسدية) تنادي مها لتتفرج على الغرفة التي تؤويهم في السكن الجامعي «كأننا في سجون عائلية». وإلى فنلندا هاجرت أماني فكان لها وحدها من دون الآخرين بيتها السعيد. أما حسام- شهرزاد الثالثة، بعد الأم ومها- فيتحدث عن اللابيت بعدما تطوّح من تركيا إلى السويد، حيث رُفض طلبه باللجوء، واكتشف ما عدّه أكذوبة أمان السويد وعدالتها. وقد جاء كل ذلك في الفصل الأخير من الرواية، والذي يعزف على أسطورية الرقم 7، وعنوانه: «سبعة بيوت في سبعة أيام لسبعة أولاد». وفي هذه النهاية تعلن الكاتبة «البيوتيتية» أن البيت عندها «وطن دائم للكتابة والتخيل واكتشاف الذات والعالم». وكانت قد سبقت ذلك فقرة «البيت المستعاد» في فصل «شهرزاد الحرب». وتروي الفقرة صديقة لمها تطلب عدم الكشف عن اسمها، مستعيدة ذكريات الدراسة الثانوية. وقد احتلت جبهة النصرة بيتها، وسطت المعارضة المسلحة عليه وطردتها منه، كما أن النظام يراها بيئة حاضنة للإرهاب. وفيما يشبه أن تكون قناة سياسية، تبدي شهرزاد المجهولة هذه وتعيد في أن النظام خلق الإرهابيين، وفي أن الثورة اجتماعية وتلقائية، أجهضتها المعارضة الفاسدة التي وضعت مصالحها فوق مصلحة الشعب، مثل النخب الانتهازية التي تخلت عن خطابها الأخلاقي وصفقت للسلاح الديني. ومع ذلك، تهدر هذه الشهرزاد بأن شعلة الثورة مستمرة، ولن يقتلها النظام ولا الرايات السوداء والصفراء.
مع حسام- شهرزاد الثالثة تتفجر حكايات التظاهرات السورية السلمية عام 2011، فالتحول إلى العسكرة والأسلمة، ليبقى صوتاً خافتاً ووحيداً للسلمية، فيضطر إلى الهجرة. ومن تركيا إلى اليونان إلى السويد تتفجر حكايات التغريبة السورية التي تحيا مها وإخوتها فصولاً أخرى منها. وسواء عبر التغريبة، أم عبر يوميات الحرب في حلب وفي ريفها، أم عبر ما يُستعاد من الماضي قبل الحرب، تبرز الهوية كشاغل بامتياز للرواية.
كانت حارة العمران في أطراف حلب هي هوية الصداقة والجيرة التي شققتها العسكرة، وحلّ محلها كهوية خارجُ الحارة، فكان أول انفصال بين حسام الكردي وصحبه العرب. وفي فصل «الهوية العالقة في الممر»، يأتي اعتقال المسلحين العرب بقيادة أبو عرب لحسام الكردي كشعرة تقضم ظهره، وهو يروي إحساسه بالظلم، وبألا تشفع له مشاركته في التظاهرات، مما أعاده إلى أصوله الكردية، بعدما كان يشعر بالغربة حين يسمع أبويه يتحدثان الكردية. لقد اكتشف فجأة أنه ليس مثل أصدقائه العرب، فالثورة كشفت له الفرق بين العربي والكردي. وإذا كان عنصر من الجيش الحر قد هدده بحرق الأكراد في عفرين، فهو ليس حاقداً، ولا يكره العرب، لكنه يجأر أنه لا ينتمي لهذه الثورة إذا كان أبو عرب وأمثاله قوادها، ومن يقررون مصيره، لكأن الثورة ملكهم، وفي السويد، في فقرة «الهوية المرتدة» يكرر حسام أنه لم يفكر يوماً بكرديته، ولا باختلافه عن صحبه من العرب، لكن ذلك حدث بعد الثورة. وهذا الذي عاش حياته بعيداً عن القوميات، بات يحس بانتمائه الكردي، وإن يكن ينفي أنه واحد من الشيعة والسنة والأكراد الذين حوله في الكامب- مخيم اللاجئين.
أما «عمتِ صباحاً أيتها الحرب»، وعلى رغم نثار الشخصيات النكرات، ومن ضغط الوثائقي والتوثيق أحياناً، والسياسي نادراً، فقد جاءت مغامرة سردية بديعة ومميزة، سواء في مدوّنة صاحبتها الروائية، أم في المدونة الروائية للزلزال السوري.






عمتِ صباحًا أيتها الحرب: توثيق الحرب السورية روائيًا




مرة أخرى تطّل علينا الحرب برأسها، ولكنها حربٌ مختلفة تمامًا هذه المرة، ليست بين جنسياتٍ مختلفة، ولكن بين أصحاب البلد الواحد، إنها الحرب السوريّة التي كانت نتيجة ثورة الشعب السوري ضد سنواتٍ من القهر والظلم والاضطهاد، فلم تلبث أن تحوّلت إلى قتال عنيف وحرب مسلّحة دامية لم يكن أحد يتوقع أن تفضي إلى ما أفضت إليه من خراب ودمار وشتات!
في روايتها الجديدة «عمتِ صباحًا أيتها الحرب»، الصادرة مؤخرًا عن «دار المتوسط»، تخوض الروائية السورية «مها حسن» مغامرةً سردية وفكريةّ من نوعٍ خاص، إذ تقرر أن تكتب ما يمكن أن يُسمّى «يوميات الحرب» ولكن بطريقة روائية فريدة، تجمع فيها مهارتها كساردة وخبراتها الحياتية كامرأةٍ كاتبة، في المجتمع العربي وفي سوريا بشكلٍ خاص، مع نشأتها الكردية ومذكرات عائلتها الشخصية، حتى تُشكِّل من كل ذلك مادة خصبة وثريّة لا يمكن أن تعتمد على أفضل منها في صياغة روايةٍ مُحكمة.
ليست المرة الأولى التي تتناول فيها «مها حسن» حكايةً عن الثورة، ولا عن تشريح الواقع السوري بهذا الشكل، ولكن على العكس بدا أن ذلك هاجسها الرئيسي، بل ربما كانت من أوائل من كتب عن الثورة السورية في بداياتها مع روايتها «طبول الحب» الصادرة عام 2012، وحينها قدّمت حكاية الثورة والحرب مع قصة حبٍ استثنائية.
كما عادت إلى الحديث عن الثورة، وتحديدًا مدينتها «حلب» في روايتها الصادرة في العام الماضي «مترو حلب»، والتي كان هاجسها الأساسي فيها البحث عن الهويّة في المنفى الاختياري الذي كانت فيه البطلة في فرنسا، بعد أن تعددت الهويات السورية أثناء الثورة وفي أتون الحرب!
تنزع «مها» هذه المرة كل الأقنعة السردية المعروفة والمألوفة، لتخوض تجربة مختلفة ومغايرة في توثيق وتدوين مذكراتٍ تبدو شخصية جدًا عن يوميات الثورة السورية، وعن علاقتها بأمها وأخواتها، ولكن من خلال السرد أيضًا، إذ تستنطق في الرواية أشخاصًا غائبين عرفتهم عن قرب، وحان الوقت لتسجيل تجربتهم المرّة القاسية من خلال صوت الراوية المحايد، الذي يحكي عن نفسه طرفًا وعنهم بلسانهم (بطريقة الراوي المشارك) أطرافًا أخرى.
ينتقل السرد بين الراوية «مها حسن»، وبين أمها  «أمينة» المتوفاة قريبًا، ولكنها قادرة على تخطي الحواجز والحكاية عن كل لحظات الحياة قبل وفاتها، ثم «حسام» أخوها المهاجر الذي يبحث عن حياةٍ مستحيلة في «السويد»، تبدو الأم أكثر درايةً ووعيًا من ابنتها، وعنها ترث البنت السرد ومهارة الحكايات، كما تؤكد في رواياتها دومًا، تخاطبها قائلةً:
غيّرتْكِ الكتابةُ. نحن الأمّهات، نقول حين تصبح بناتُنا أمّهاتٍ، تعرفنَ معنى الأمومة، وتُقدّرنَ قيمة الأمّ. أمّا أنتِ، فقد خضتِ مغامرةَ الكتابة التي كانت حقا مُنصفا لي ولكِ، عبر الكتابة رحتِ تُفكِّكين انتماءاتِكِ، وتُحلِّلينَها، وتقتربين منّي خطوة إثر خطوة. أمّا المنفى، والمسافاتُ الطويلة، واستحالةُ اللقاء الذي تحوّل إلى حلم لديكِ خاصّة أكثر منّي، فقد نقّى ذلك مشاعركِ أكثرَ، وجاء موتُ أبيكِ، ليقصمَ ظهرَ المسافةِ العاطفيّةِ، لتنظري إليّ كامرأةٍ أرملةٍ، تعيشُ ألمَ الفقدان.
الكتابةُ صَنَعَتْ منكِ كائنا عاقلا، وكائنا عادلا في الوقت نفسه، فأجريتِ مراجعاتٍ لنفسِكِ، واكتشفتِ خطأ ميولِكِ لمعسكرِ أبيكِ، وانحيازكِ إليه طيلة تلك السنوات، كنتِ تبحثين عن الأمان في اعترافِهِ بكِ.
لا تقتصر الرواية على حكاية مأساة العائلة الشخصية وما حل بهم من شتاتٍ ودمار، على قسوته وما في تفاصيله من آلام، ولكنها تتعرّض أيضًا لتفاصيل «الثورة السورية» وتحولاتها، وكيف بدأت منادية بالعدل والحرية، وما الذي قادها إلى هذه النتيجة المؤلمة والقاسية، تتناول مثلا أسطورة «الجيش الحر» وكيف مثّل في البداية ذلك البطل القادم على حصانه الأبيض يحمل لواء الحق والخير وينصف المظلوم ويقتص من الظالم.
تلك الصورة المثالية سرعان ما تشوّهت بممارسات أفراد ذلك الجيش الذي مارس هو الآخر عمليات القتل والتعذيب والتنكيل بكل المخالفين له، ولم يختلف في النهاية عن سلطة النظام الغائمة التي أذاقتهم الويلات طوال تلك الفترة!
تعرض الرواية تفاصيل دقيقة للحياة في ظل الحرب، وأحلام البسطاء في الهجرة، حفاظًا على حياتهم، ومشاعر الخوف والذعر التي يتعرّض لها السوريون يوميًا، تلك الحياة التي تغيب عنها كل مقومات الحياة، حياةٌ على أطراف الموت الذي يهددهم كل لحظة!
يتسرّبون مثل الزئبق، يسيرون مُلتصقين بالجدار، ظهورهم في الجدار، ووجوههم تترقّب الفتحاتِ بين المباني والبيوت التي قد تتسرّب منها طلقة القنّاص، تسألينني لماذا نخاف من القنّاص؟ نعم، هو يُطلقُ الرصاص دون هدف، قد يقتلُ طفلا أو امرأة، لا يهمّه، بل قد يلعب مع أصحابه، ويُحدِّد هدفا ما، يصيبه، دون أنْ يسأل عن الشخص الذي يقتل، لهذا أخاف الخروج من الحارة. فقط أخرج من البيت إلى البيوت المجاورة، المتلاصقة، حيث لا فجوات بين الجدران، ولا فتحات تتسرّب منها طلقات القنّاص، لا أخاف من الموت، يا بنتي، لكنّني أخاف من التّشوّه، العجز، مَنْ سيعتني بي إذا شلَّتْني طلقة القناص، وأقعدتْني؟
ينتقل السرد برشاقة وانسيابية بين الماضي والحاضر، بين مآسي الداخل السوري، وتفاصيل مأساة «حسام» تحديدًا الذي يمثّل الثورة وهي تهرب لاجئة إلى بلاد الغرب حيث الحرية وحقوق الإنسان، ليفاجأ بمعاملة قاسية، وبلاجئين لا يختلفون كثيرًا عمن تركهم هناك في حارته في حلب! يتذكّر أصدقاء الصبا ورفاق الثورة وكيف تحولوا بين عشية وضحاها، وكيف كانت صدمته فيهم، وينجو أخيرًا بنفسه حيث يبقى لاجئًا عالقًا في انتظار أن يسمحوا له بالإقامة في تلك البلاد التي كان يحلم بها، ولكن يبدو أن لعنة الحرب تطاله إلى هناك!
تقدّم «مها حسن» لروايتها بمقطع من «صلاة تشرنوبل» كتاب «سفيتلانا أليكسييفيتش» الحائزة على جائزة نوبل عن كتابتها عام 2015، والذي جمعت فيه شهادات ضحايا كارثة الحرب النووية الشهيرة عام 1986، ومن ذلك الوقت حتى وقتنا الراهن تتجدد المآسي وتتعدد عربيًا وعالميًا، فماذا يكون بوسع الكاتب أن يقول عنها ولماذا يرصدها؟!
تقول سفيتلانا:
فلماذا إذن يتذكَر الناس؟ لاستعادة الحقيقة؟ العدالة؟ التحرر والنسيان؟ كي يدركوا أنهم مشاركون في الحدث الضخم؟ أو يبحثون عن الحماية في الماضي؟!
وتقول مها حسن (على لسان أمها):
 الكُتُبُ هي الأصلُ، هي أهمُّ من حقائب الملابس وأغراض المطبخ والحمام.. الكتابةُ تحفظ الذاكرة، الملابسُ تذهبُ، تلتهمُ الحروبُ الملابسَ والذَّهَبَ والبيوتَ، لكنّها لا تلتهمُ الكتابةَ، لأنّ الكتابةَ تبقى في الرأس. اكتشفتُ هذا مؤخّرا، اكتشفتُهُ أكثرَ وقت الحرب، واكتشفتُهُ أيضا، وبشكل فاقع هنا، بعد الموت. الحكاياتُ التي أسردها، وتدُوِّنينها، هي خلاصي من هذا الانتظار الممُلّ في موت طويل وبارد، لا يكتمل.
وهكذا تمثّل رواية «عمت صباحًا أيتها الحرب» وسيلة الخلاص الأخيرة، مرثيّة كبرى للبيوت التي تهدّمت، وللأصدقاء الذين فقدوا ولملاعب الصبا وذكريات الزمان التي ضاعت في خضم صراعات الكبار بين السياسة والدين وفرض الوصاية والطغيان والاستبداد، مرثيةً للحياة التي ينزعونها من الأحياء عنوة، فلا يبقى في النهاية إلا الحكام وروح أبت أن تفارق تصر على رواية الحكاية متحدية بذلك الموت نفسه
إبراهيم عادل ـ إضاءات





عُمتِ صباحاً أيتها الحرب: قصةُ تآلف الإنسان مع الشر



الحربُ ليست واقعاً مُرعباً يعاني من يعيشُ في ظل أجوائه الكابوسية وحسب، بل إنَّ الصور والمشاهد التي تتوالى من مناطق الصراع غزت كل الفضاءات، بحيثُ أصبح الإدراك البصري لدى المتابع نهباً لكل مظاهر الخراب والدمار الناجمة من الحرب، وذلك بفعل تسابق القنوات الفضائية لإنجاز السبق الصحافي، وانتشار الوسائل الأخرى التي تضعُ المُشاهدَ في تفاصيل الصورة، بما تحمله من البؤس والإحباط، لكن الإعلامُ في أحسن أحواله لا يتسنى له تجاوز النمط الاختزالي، هذا فضلا عن احتمالية تراجع المستوى التفاعلي مع الأبعاد المأساوية للمشهد، نتيجة سيل من الصور غير المُتجانسة.
من هنا تأتي أهمية النصوص الروائية التي تتمحور حول الحروب المُستهترة بخصوصية الكائن الإنساني، وتتضاعفُ قيمة هذه الأعمال إذا طوعت المعطيات الحديثة وتفاعلت مع الشهود، مدعمة ذلك بما لدى المؤلفُ من ذكريات ومعرفة تأريخية دقيقة عن الأمكنة الحاضنة للحدث. هذه الترسيمةُ السردية هي ما تعولُ عليه الكاتبة السورية مها حسن في «عمتِ صباحاً أيتها الحرب» الصادرة حديثاً عن منشورات «المتوسط إيطاليا» إذ يمتزجُ في نسيجِ هذه الرواية الواقع العياني بعنصر المتخيل، ما يكسيها رداءَ الواقعية السحرية، لاسيما في المقاطع التي تستفيقُ فيها الأمُ من الموت، لا لتُخبرنا عما يقع في عالم البرزخ، بل لتحكي عن مخاوف ساكني المقبرة، مع تجدد قصف الطيران، الأمر الذي يميزُ شهرزاد الحرب عن كل الشخصيات الأسطورية والخيالية التي جابت في العوالم الأخروية، ومن ثُمَّ سجلت ما رأتهُ في عالم مسيج بالألغاز، هي تشغلها أهوال الحرب عن سكينة الموت ومعاينة وضعيتها الجديدة، وفي ذلك ثراء دلالي عن مأساة مدينة حلب التي تتقاطع في أجوائها نيران الملل المختلفة.
مفارقة العنوان
على الرغم من الوضوح في صيغة العنوان، وما يحمله من الوظيفة الوصفية إذ يحددُ مضمون النص، ويٌمكن المتلقي من التوقع الموضوع الأساسي الذي تُبنى عليه هيكلية الرواية ومُحتواها الكُلي. لكن تلك العتبة الاستهلالية تضمرُ مفارقةً عندما تتجاورُ في تركيبتها العبارة المتداولة في سياق العلاقات الإنسانية، مع مُفردة الحرب بما توحي إليه من أفعال مُضادة لما يرشحُ من معنى ودلالة لفظ (عمتِ صباحاً). هنا يتناصُ العنوان مع عمل الكاتبة الفرنسية فرانسو ساغان المعنون بـ«صباح الخير أيها الحزن»، كما أن مُعظم العناوين الداخلية التي تتصدرُ فصول رواية «عمت صباحا أيتها الحرب» هي بمثابة الشروح للعنوان الرئيسي، إلى جانب ما لها من وظيفة تكثيفية لمضامين النص، أضف إلى ما سلف أن المقطع المُسْتَشهد به في مُفتتح الرواية وهو مأخوذ من «صلاة تشرنوبل» للكاتبة البيلاروسية سيفتلانا أليكسيفيتش، يخدمُ البنية الدلالية للرواية، كما يكشفُ عن الصيغ والأساليب التي تمررُ الكاتبةُ من خلالها المادة السردية، إذ أن ما يحتشدُ به هذا العمل من الشخصيات والإرصادات والشهادات، والاستفادة من تقنيات سينمائية ومسرحية وصيغ خبرية. فضلا عن إيراد المُفردات العامية والميل إلى الأسلوب الميتاسردي في بعض الفقرات، والإحالة إلى خارج النص الروائي، وما يأتي ضمن إطار المناصات، وهي خطابات مُصاحبة للنص الأساسي من التوضيح والإحالة الواردة في الهامش يصلُ بالعمل إلى (الكتابة عبر النوعية) على حد قول إدوارد خراط، ويضفي المرونة إلى النص، وقد تتطلبُ الكاتبة من وراء ذلك تكريس ذائقة قرائية جديدة.
دفتر العائلة
لا تتسترُ الكاتبة وراء اسم مستعار ولا تُفضلُ الظهور في جلباب الراوي، بل هناك تصريح باسمها في حيثيات النص، وتتواردُ عناوين الأعمال الروائية التي سبقتْ روايتها الأخيرة في سيرورة السرد، وأنَّ الأم كونها شخصية محركة تجمعُ بين مؤلفات الكاتبة، إذ تصفُها في «مترو حلب» بينبوع السرد وتكشفُ ما راودها في رواية «تراتيل العدم» عن رغبة الكتابة حول النساء المشتقات من الأم، كما تشغلُ الأم الموصوفة بشهرزاد الحرب في «عمت صباحاً أيتها الحرب» مساحة أوسع، بل هي تُعدل صيغة الجمل والعبارات وتوهمنا الكاتبة أن شهرزاد الحرب تشاركُ في تأليف الرواية مع غيرها من أفراد العائلة والحارة، وبذلك لا يفوق دور الكاتبة في ما تعرضه وترويه على ما تقدمه الشخصيات الأُخرى، إذ كثيراً ما تتبادلُ الأدوار بحيثُ ينتقلُ الراوي إلى موقع المروي له، وقد أرادت صاحبة «حبل سري» فعلاً الدفع بشخصيات حاضرة داخل بؤرة الأحداث إلى واجهة العمل، إذ تبسطُ كل شخصية دفتر يومياتها وما مرت به حياتها من التحولات عقب الحرب، ويتساوق هذا مع الاسترجاعات إلى زمن قبل اضطرام نار الصراعات، وما كانت عليه طبيعة المكان والعلاقات الاجتماعية في مدينة «حلب». كما تُضمن الأمَّ فصلاً عن بناء البيت وحيازة ملكيته في تضاعيف العمل، بل تصبحُ مُفردة البيت عنواناً داخلياً لبعض أجزاء الرواية، لذا يبدوُ أن البيت ركن الأم في العالم على حد قول (غاستون باشلار) ولا تتحمل الابتعاد عنه، إنما تتمسكُ بركنها بخلاف الأبناء الذين تشتتوا في المنافي، وتزاحمت تكوينات البيوت في أحلام يقظتهم. وهذا ما يتبينُ أكثر لدى شخصية (مها) التي تُسردُ بدورها جانباً من سيرتها وتستعيد ما كان يتميز به مكان المنشأُ من الحميمة والتلاحم، وهو الحارة الخالدية التي تستوعب الجميع، وتغيبُ في أجوائها إشكاليات هوياتية إلى أنْ تغص هذه البقعة بوجوه غريبة ولهجات غير مألوفة في البيئة الحلبية، كما ترفرف رايات بشتى المسميات، هنا في هذا المُناخ المُثخن بخطابات جهوية ينتبهُ حسام ماذا يعنى أن يكون من مواليد عفرين، إذ تختطفه إحدى الجماعات المسلحة التي يتزعمها خالد حيانى صاحب السوابق الإجرامية، هنا تخسرُ الثورة نقاءها ويفقد الجيش الحر سحره، عندما يندسُ في صفوفه المتطرفون من جنسيات مُتعددة، يُذكر أن هناك تلميحات إلى ما يمارسه النظام من التمييز ضد بعض القوميات المنضوية في التركيبة السكانية، كما أن ظاهرة الانشقاق تطال نسيج الأسر فلؤي هو ضمن الموالين من بين أفراد العائلة يقاطع أهله، وتمثلُ ابنتاه فرح ومرح نموذجاً عن الجيل، الذي تضيع سحنة هويته في بيئة تسود فيها صراعات دينية ومذهبية وقومية، ومن المفارقات اللافتة أن من يكون موالياً للنظام يتهدم بيته بصواريخ جيشه، كما يستهدف المعارضون بيوت أصدقائهم، وبهذا لم يعد هناك مكان يحمي خصوصيات الإنسان، وتنمحي الفوارق بين الحي والميت ويتحولُ كل فرد إلى مشروع للموت، عطفاً على ما سبق تلاحقُ مؤلفة «حبل سري» هاربين من جحيم الحرب إلى قساوة الغربة، إذ يتوزعون بين تركيا والسويد، كما أن البعض يذوقون مرارة تجربة الأماكن العالقة. إذن طلعت هذه الرواية من تربة الحرب على قول باتريك موديانو وترصد قصة تآلف الإنسان مظاهر الحرب بوصفها شراً مُطلقا.
٭ كاتب عراقي
القدس العربي