mardi 7 février 2012

رسالة إلى ديستويفسكي

عزيزي السيد ديستويفسكي المحترم



تخطر على بالي كثيراً هذه الأيام، لا بوصفك روائياً كبيراً فقط، إنما كمواطن روسيّ أيضاً.



ربما لم تتوقع يوماً أن تنتشر شخصياتك في العالم بأسره، والعربي منه تحديداً، أن يصبح «كارامازوف» اسماً عالمياً، وألا يجهل أحد يقرأ الأدب، ويعرف عن الرواية،عناوين مثل «الأبله» أو «الجريمة والعقاب» أو» مذلون مهانون» أو أي عنوان آخر من إبداعاتك.



في شكل أكثر انتشاراً من أقرانك، من الذين أحبّهم القارئ العربي، والقارئ الشرق - أوسطي. في شكل أكثر كثافة من مواطنيك، ليرمنتوف ومايا كوفسكي وتشيخوف وغوغول وتولستوي وغوركي وبوشكين، الذي أطلق أحد أبناء عمومتي اسمه على ابنه، تبقى أنت الأكثر تميّزاً في جيلي، لأن الرواية «الديستويفسكية»غدت مدرسة واصطلاحاً.



في أحد الأيام، وأنا أحب أن أذكر لك هذه الحادثة الطريفة، جرى حوار بين صديق قديم لي مع بعض الأصدقاء الآخرين، كانوا يتحدثون عن الأدب، حين قال أحدهم مستهجناً وساخراً:» ومن يكون هذا الديستويفسكي؟»، فما كان من صديقي،إلا أن خلع حذاءه، ورمى به ذلك الرجل.انتظر،لا تلمه كثيراً، فقد لام صديقي نفسه بما يكفي،ولا يزال يؤثّم نفسه حتى اليوم،لأنه لجأ إلى العنف، وأهان إنساناً، فقط لأن اسمك «ديستويفسكي» كان بمثابة «تابو» بالنسبة اليه، كما لو أن إلهاً له قد أُهين.



لا أعرف إن كانت قيمتك في عالمنا تهمك، أو لا، لأنك لم تسعَ إلى الشهرة والانتشار. ولكنني لا أكتب لك لأعلمك بأهميتك ومدى انتشار كتبك وشخصياتك في السينما والتلفزة والرواية العربية. إنما لأصف لك العار الذي تمثّله بلادك.



أعتقد، وأكاد أجزم، أنك لو كنت حياً اليوم، لخرجت في وجه حكومتك، وتظاهرت ضدها مطالباً بإسقاطها، حتى لو كانت ستنفيك مجدداً إلى سيبيريا، كما فعلت من قبل، جاهلة أهميتك.



أما اليوم، وبعد أن أنهت روسيا عصر القياصرة، واتجهت نحو الضوء والحرية، واستعادت كرامتها، كما ينبغي،وأقرّت بك كأحد أهم مبدعيها،أرى أنها ترتكب حماقة أخلاقية، لا بحقك فقط كمبدع ينتمي إلى جغرافيتها، بل وبحق كل إنسان يطالب بحرية الإنسان،ويدافع عن حق العيش بكرامة.



أنت تعرف جيداً عزيزي ديستويفكسي معنى الظلم، معنى القهر، ومعنى الخوف. لقد ساهمتَ بتشكيل جماعة التفكير المتحرر» جماعة دائرة بتراشيفيسكي»، فقامت روسيا القيصرية باعتقالك، وحكمت عليك بالإعدام، ثم خفّفوا حكمهم بالنفي والأعمال الشاقة.



كتبتَ، عزيزي ديستويفسكي،عن آلام الاعتقال، عن الاضطجاع داخل تابوت،عن البرد والقذارة والعفن والبراغيث والقمل والخنافس السوداء وكل ذلك العالم المرعب في سجون القياصرة.



اليوم، في سورية، وبعد مئة واثنين وستين عاماً من تاريخ اعتقالك، يتكرر المشهد ذاته، بل ويفوقه ظلماً وطغياناً ، حيث يقطعون أعضاء المعتقلين التناسلية، يبترون حناجرهم، يشقون بطونهم، يقطعون أيادي الفتيات بعد أن يغتصبهن.. وأشياء أكثر فظاعة، لو حكيتها لك دفعة واحدة، لتعذّر على رسالتي هذه وصولها إليك.



ربما لم تكن كاتباً ملتزماً كما قد يحصر التقليديون مفهوم الالتزام، ولكنك كنت هكذا، كما أراك، وغيري ممن يرون الالتزام بالشرط الإنساني، هو الأوسع والأكبر والأشمل من الالتزام السياسي.



إن تبنّيك لألم «الأبله» والدفاع عنه، وتركيزك على وجع الـ» مذلون مهانون»، وتحليلك وتوصيفك الدقيق لراسكولنيكوف، يدل على تبنّيك للبطل الهامشي،الضعيف،المقهور،أمام الجماعة الكبيرة، المتسلطة،الفاحشة الثراء،المستبدة...لهذا فأنا لا أشك لحظة، في تبنّيك لرموز الربيع العربي، ووقوفك إلى جانب الشعوب المتطلّعة إلى العيش بكرامة وكبرياء، بينما يحاول الطغاة الذين يقمعون شخوصك، والذين قمعوك أنت شخصياً، والذين يقمعون حرية الفنان والمبدع والإنسان في كل مكان، ويسلطون الآلة صوبه لمحوه.. يحاولون قتل الربيع فينا.



عزيزي ديستويفسكي:



لا أحاول التأثير فيك، أو استدراجك لتقف مع شعوب العالم المقهور،والمتطلّع نحو الخلاص، فأنا أثق بوقوفك هذا، لكنني أكتب لك وأطالبك بالتنحّي عن الانتماء إلى روسيا الحالية.روسيا التي تقف مع القاتل، التي ترتكب أخطاء لا يمكن غفرانها، بحق الشعوب، وبحق العدالة ذاتها.



أعرف أن روسيا الحاكمة،لا تمثل روسيا الشعب، ولا روسيا الفن، ولا روسيا الرواية، ولكن إعلانك بالانسحاب والتخلي عن هذه الجنسية، للبلد الذي يحكمه مساندو الطغاة، ومسوّغو جرائمهم، ومبيّضوها،هو موقف تنتظره الشعوب الذاهبة نحو الحرية، والتي تقف حكومة بلدك مع طغاتها، لتكرار الجريمة التي مورست بحقك ذات يوم، حيث يحاولون إرسالنا إلى السجون أو الموت، إلى سيبريانا نحن، سيبريا العرب،وسيبيريا سورية.



عزيزي ديستويفسكي،



ارمِ أوراق انتمائك إلى هذا البلد، الذي لا يستحقك، ولتكن صفعة بوجهه، إلى أن تستعيد حكومته وعيها، وتتنبّه إلى الحماقة التي ترتكبها.



بكل حب ووفاء لروحك النبيلة ووقوفك غير المشروط مع المطالبين بالحرية والرافضين للذل والمهانة.



ملاحظة: نُشرت هذه المادة في جريدة الحياة تحت عنوان: لو كنتَ حياً يا  ديستويفسكي لتظاهرت ضد حكومتك



mercredi 1 février 2012

الكاتبة السورية مها حسن: الدافع الأول لكتابتي كأمرأة هو الدفاع عن فرديتي وسط المجموع

أجرى الحوار عبد المنعم الشنتوف: تعتبر مها حسن الكاتبة والروائية السورية المقيمة في العاصمة الفرنسية باريس منذ سنوات صوتا متميزا في المشهد الإبداعي العربي المعاصر. أبدعت عددا من الأعمال الروائية نذكر من بينها 'اللامتناهي: سيرة الآخر'، 'تراتيل العدم'، 'الحبل السري'، 'بنات البراري'.

وهي تشتغل في السياق ذاته بالكتابة الصحافية وتعبر بجرأة عن مواقفها الفكرية والسياسية خصوصا فيما له تعلق بالدفاع عن حقوق المرأة أو حضور الهوية الثقافية واللغوية الكردية. كان هذا الحوار مناسبة للاقتراب من رؤيتها للكتابة الإبداعية والدور الذي قد تضطلع به في الارتقاء بالذات إلى مستوى الحضور الفاعل في العالم علاوة على رؤيتها لواقع الحريات في العالم العربي من منطلق انتمائها إلى التاريخ الثقافي الكردي الخصب وتصورها لمستقبل العالم العربي بعد ما أصبح يعرف بالربيع العربي.

تتميز الكاتبة بجرأتها في التعبير واعتناقها لقيمة الاختلاف في سياق من التسامح والاعتراف بحضور الآخر. ويمكن أن نرى إلى مجمل تحققاتها النصية باعتبارها تمثيلا لاختيار في الكتابة السردية يراهن على مؤالفة ذكية وراقية بين الجمالي والمعرفي..

الحوار:

* أود لو أعود بك إلى بدايات تخلق التجربة الإبداعية. كيف حدث الانفتاح على الكتابة؟ لماذا اختيار السرد؟ نعرف أن السرد فعل أنثوي بامتياز. هل كان لاختيارك هذا الشكل التعبيري علائق خاصة بتفاصيل من سيرتك الحياتية؟ أنت سورية من أصول كردية؛ وهذا يعني أنك تنتمين جغرافيا وتاريخيا إلى هذا الهامش بالمقارنة مع المركز واستلزاماته. هل يمكننا تأويل اختيارك للسرد باعتباره قرينة دالة على رغبة في الاحتجاج ضد الكبت والإقصاء ووطأة التهميش؟

*يُسعدني اعتبارك أن السرد فعل أنثوي، من هنا تماماً تبدأ علاقتي بالسرد، منذ اكتشاف جنسي أو نوعي، والقهر الواقع عليّ وعلى بنات جنسي. حين بدأتُ الكتابة، كان الأمر بمثابة فعل احتجاج على عالم الذكور. نشأت في بيئة محافظة جداً، تقيم كل الأوزان للرجال، ولا تترك للمرأة أي حيّز، سوى ذلك الذي يقرره ويحدده الرجل. مبكّراً تولدت لديّ هذه الحالة الاحتجاجية، من خلال شعوري بالحنق من التمييز التربوي، إذ يتاح للذكر ما لا يُتاح للمرأة من هوامش، داخل المنزل الواحد حتى. من هنا، فإن هويتي الجنسية كانت السباقة، وكان وعيي بنوعي، كامرأة، قبل وعيي بأصولي ككردية، لأن القمع الذي تتعرض له النساء واحد في كل تلك المجتمعات المتشابهة، والمتواطئة في عقد جماعي، يُخضع المرأة. ثمة شيء سأقوله للمرة الأولى هنا، أن الدافع الأول لكتابتي، هو الخوف. كامرأة، عانيت مبكراً من الخوف، ومن وحدتي في هذا الخوف، حيث ضمن'العقد الاجتماعي'، تجد المرأة التي تعي فرديتها، نفسها وحيدة، دون دفاع اجتماعي، لهذا فإن محرّك كتابتي كان الدفاع عن الذات الفردية، ضد الخوف الواسع، الجمعي.

*شرعت في الكتابة في تسعينيات القرن الفارط بإصدارك لباكورة نصوصك الروائية 'اللامتناهي: سيرة الآخر'عن دار الحوار بسورية عام 1995. هل يمكنك أن تسلطي الضوء على هاته البدايات؟ هل كان الانشغال السردي بـ 'الآخر' محصلة توقك إلى اكتشاف المختلف ثقافيا وتاريخيا وتعبيرا عن الحصار الذي كنت تعانين منه آنذاك؟

*في اللامتناهي كان لدي هاجس الهوية، الهوية الفردية والهوية الفنية، لهذا حاولت، في أول نص لي، كسر شكل الرواية، حاولت صياغة شكل كتابي مختلف، ليس سيرة ذاتية، بل سيرة الآخر. لا يزال هذا الكتاب من أقرب كتبي إليّ، كأنه الحب الأول، أرتبط به، وأحزن عليه. لا أزال أنظر إلى (أدهم بن ورقة) بطل الكتاب، في وحدته وعزلته رغم كل هذه السنوات، لكن أحداً لم يفهمه، وكأن العقد الاجتماعي يسحب شروطه على الفن، ليقع البطل الفرد أسير القمع الجمعي الفني، إذ أن الشروط الإبداعية في العالم العربي لا تؤمن، ولا تشجع على التمايز، بل على التماثل. لا أزال أنظر بحسرة على كلمات أدهم بن ورقة، في بداية الكتاب، الرواية ربما: (الحياة قائمة على التناقض والتضاد، لا على التماثل والتوازي)، لذا فانشغالي بالآخر كان شكلياً، إلا أنه في العمق، هو انشغال بالذات التي هي نواة ذلك الآخر، برأيي.

*اصدرت عام 2009 روايتك 'تراتيل العدم' عن دار الكوكب رياض الريس. يبدو لي من خلال قراءتي لهذا العمل المتميز من حيث معماره السردي وطبيعة مقصديته المعرفية أنك راهنت على الإسهام في التأريخ السردي لسيرة الذات الكردية في سياق بحثها عن مكان تحت الشمس إن صح هذا التعبير. كيف يمكنك تفسير ذلك؟ وما هي المسافة التي احتفظت بها مع التجارب السردية السابقة وأفكر تخصيصا في سليم بركات؟

*لم أراهن على أي إسهام. حين أكتب، فإنني لا أمتلك أحلاماً كبيرة عن أثر كتابتي. سأتابع ما قلته لك في ردي على السؤال الأول، وما لم أقله ذات يوم، أن كتابتي، وتعدديتي الأسلوبية، وبحثي عن الاختلاف، كلها محاولات للدفاع عن فرديتي ضد القمع الجمعي. ليست لديّ أفكار إيديولوجية في كتابتي، ولا يعنيني أن أكون كردية أو أمازيغية أثناء الكتابة، لأن الكتابة فعل إبداعي تخييلي مرافق لاشتغال واعي ومعرفي، لا يمت للإيديولوجيا بصلة. ولكن تأتي لاحقاً العوالم والتفاصيل التي تتسرّب إلى كتابتي، بقصدية أحياناً، ودون قصد في بعض الأحايين، كتمايز بيولوجي معرفي. أنا مؤمنة بالأنثربولوجيا، ومؤمنة بعلاقة الفن بالمورثات الجينية. ربما نقلت لي جدتي الكردية بعض الولع بالإبداع، الذي كانت تمارسه، كامرأة أميّة، عبر الحكايا الشفهية... لجدتي الكردية تأثير كبير على عوالمي الروحية، ولكن هذا لا علاقة له كثيراً بمفهوم الاضطهاد الجمعي للهوية الكردية، بقدر ما له علاقة بالاضطهاد الجمعي، والتواطؤ العام على الفرد وتفاصيله الداخلية.

*تشكل روايتك المثيرة 'حبل سري' الصادرة عام 2010 عن دار الكوكب رياض الريس تأريخا إبداعيا مكثفا لتجربة الانتقال من سورية إلى فرنسا. إنها رواية اللقاء بالآخر وإعادة اكتشاف 'الذات'. هل يمكننا النظر إلى هذا النص باعتباره رواية سير ذاتية؟ وأين يتقاطع الروائي والسيري في هذا العمل؟ هل يسع القارئ تمثل ظلال لشخصيتك في نموذج باولا بيران مثلا؟

*ثمة الكثير من هواجسي الذاتية في هذه الرواية، خاصة هاجسي الهوية والوطن. إن كرديتي تشكل بطريقة ما حالة'حرمان' أو 'عقاب' مسبق. أن تكون كردياً غير متحزّب أو منضوٍ تحت لواء جماعة، أن تحتفظ بفرديتك الإبداعية، وأن تكتب باللغة العربية، التي تربيت عليها، وامتلكت فهمك للعالم عبرها، هو معركة لم أخترها. أنا لستُ مقاتلة، في العمق أنا كائن اضطر للدفاع عن فكرته عن العالم، ووجد نفسه دوماً في ساحات الخصام العنيفة. كرديتي كشكل من أشكال 'التهمة' الجاهزة، وجدت متنفّسها الإبداعي عبر 'حبل سري'. هناك الكثير من السيري في هذه الرواية، ولن أستطيع الإجابة عن تحديد مواقعه ومواقع الروائي، لأنني سأدخل في تفصيل إرضاء شهوة القارئ المتلصص على الكاتبة المرأة. ولكنني أعترف أن بعض الشخصيات الواردة في الرواية، قابلتها في حياتي الفعلية، إلا أنني اشتغلت عليها ومررتها عبر غربالي الكتابي، حتى أن بعضهم، لا يعرفون أنفسهم في الكتاب. أما عن القول بأن صوفي بيران تمثل ظلال شخصيتي، أجيبك أنها ربما تمثّل الجانب غير الواعيّ مني، إنها'لاوعيي' المنفلت، ورغبتي ربما في أن أكونها، لكنني في الحياة أقل جرأة وميلاً إلى المغامرة منها، لكننا نتقاسم الخوف وعدم الإحساس بالأمان والمطاردة من الآخر المختلف، المؤثّم.

*الرواية في السياق ذاته تمجيد للجسد ومعجمه الشهوي ومحاكمة صارمة للأغلال التي تكبله في 'الشرق' أرض البدايات. اكتشفت في هذا الخصوص هيمنة التقابل الحاد بين الشرق باعتباره فضاء للأحادية وسطوة التطابق وتمثيلاته والغرب باعتباره قرينا للخصب والحرية والانعتاق من سلطة النماذج المتعالية والجاهزة. أفكر في هذا السياق في الحرج الذي استشعرته إحدى قريبات باولا بيران أثناء زيارة هاته الأخيرة لحلب حين عمدت إلى خلع تبانها وحمالتي ثدييها ونومها عارية تحت اللحاف. كيف يمكنك أن تفسري هذا التقابل وامتداداته الدلالية؟

*تقصد التناقض أكثر منه التقابل. أن تعيش في الغرب وتحيا تفاصيله اليومية، تجد نفسك أمام شرق قروسطوي فيما يتعلق بالجسد. إذ لا تتم محاكمة الشخص أخلاقياً بناء على حياته الجنسية. من أجمل الأمثلة التي لا تزال تثير مخيلتي عن صورة الرجل الفارس، ما يحصل غالباً، حين تقع الزوجة أو الحبيبة في علاقة مع رجل آخر، يحاول الرجل الأول فعل كل شيء، بحب ، لاستعادة امرأته، وليس عبر ضربها أو تخويفها.... إن الرجل الذي تذهب امرأته مع شخص آخر، لا يؤثّم فعلها، بل يحاول أن يستعيدها عبر منافسة جمالية وعاطفية مع الشخص الآخر، لا عبر النبذ والعنف. هناك أمثلة كثيرة على الحب بشقّه الغربي، الذي يبدو غريباً بل ومُداناً لدى الشرق. إن فعل الجنس لا يزال يُسمى لدى الغرب بممارسة الحب، حتى أن الكثير من الشرقيين يسخرون أحياناً من المداعبات الطويلة بين الغربيين، قبل ممارسة الحب، الأمر الذي لا يعني الكثير من 'الفيزيك' بل هو مزيج من الرغبة والمخيلة واستدراج الفعل. كامرأة شرقية، وجدت في الغرب الكثير من حريتي، التي لا تعني ممارسة الجنس كما قد يفهمهما السطحيون، بل حريتي في الملبس، دون أن أكون محل إثارة أو تهمة. فالجسد ليس تهمة، وحين أقول الجسد، فأنا أعني طبعا كلا من جسدي المرآة والرجل.

*يكتب أمجد ناصر على لسان بطل روايته 'حيث لا تسقط الأمطار': 'الشرق ليس شرقا دائما والغرب ليس غربا دائما'. وقد لاحظت كيف عجزت باولا بيران عن استشراف والانسجام مع فضاء 'حلب' مسقط رأس أمها صوفي بيران أو حنيفة. ولم ينفع ارتباطها بروني وحملها منه في تحقيق هاته الغاية. ومن هنا، كان قرار العودة 'النهائية' إلى باريس مؤشرا على طلاق تام بين الشرق والغرب. هل يمكنك أن تسلطي الضوء أكثر على هذا الاختيار المعرفي؟ وهل تعتقدين حقيقة في هذا التقابل الضدي التام بين الشرق بما هو قرين للاستبداد والغرب باعتباره فضاء للحرية والخصب؟

*من أصعب لحظات الكتابة، كان اتخاذ قرار باولا بالعودة. في البداية، تركت باولا تدافع في سورية رفقة روني، ثم انحزت لحقوق المرأة أكثر من الحب. ليس الغرب جنة بالتأكيد، وثمة الكثير من المعاناة في الغرب، فهو أيضاً محكوم بصيغ مسبقة وأفكار نمطية. لا يزال الغرب غبياً في التعامل مع المثقف الشرقي، أو المختلف، لا يزال ينظر إلينا بعين الدونية، وينظر إلى كتابتنا على أنها مجرد وثائق وشهادات عن تخلف العالم العربي والإسلامي. الغرب أيضاً مُصاب بقصر نظر، ولكن خياري الروائي هو الحرية، إذ أنك تستطيع أن تقول للأعور أعور في عينه' مثل مشرقي'، ولكنك في بلادنا العربية، لا تملك حق التعبير والاختلاف. الشرق مستبدّ برأيي، ولكن الغرب متعالٍ وأحمق في عدم رؤيته الدقيقة للآخر. وحين أقول شرق أو غرب، فأنا لا أعمم طبعاً، ثمة مشرقيون متقدمون كثيراً عن الغربيين، وثمة غربيون مطّلعون على قضايانا ومنحازون لنا، أكثر من أبناء جلدتنا، أتحدث فقط عن الأغلبيات، وعن النماذج الكبرى، مؤمنة بالفوارق، كي لا أكون عمياء أو حولاء، فأنظر من جهة واحدة.

*روايتك الأخيرة 'بنات البراري' الصادرة عام 2011 عن دار الكوكب محاكمة سردية قوية لتاريخ طويل من قهر 'الذكورة' للأنوثة ولغاتها التعبيرية. تتأسس الرواية على إرادة فضح 'جرائم الشرف' السائدة بطريقة مأساوية في بقاع من عالمنا العربي. هل يمكن للقارئ أن يتمثل هذا العمل السردي الجميل وعوالمه باعتباره إسهاما في كتابة تاريخ 'المرأة' وتخليصه من وضع 'الهامش؟

*يبقى هاجس المرأة أحد نقاط ضعفي الفنية، لأنه ينقلني أحياناً إلى الشعار والخطاب الاجتماعي. لا أحب أن أكون كاتبة قضية، ولكن كوني امرأة وضحية لهذه الثقافة، وكما قلت في أحد حواراتي، كنتُ شخصياً مهيأة لأكون 'ضحية شرف'، حيث لا تميز المجتمعات الشرقية التي تطبق قانون الشرف بين ضحية مثقفة،أو ضحية إبداعية، وأخرى غير هذا. إنها تقتل الكاتبة والمحامية وربة البيت والفلاحة والخيّاطة... إن سكين الشرف قد تطال أية امرأة، وأنا نشأت في بيئة تطبق هذا القانون. إن إعلاء دور الرجل في عائلتي مثلاً، مرده الشرف. إن التميز في بيئتي هو 'الذكورة' أي تميز فيزيولوجي جنسي، لا علاقة له بالتميز الفردي أو الموهبة أو المعرفة. من هنا أجدني مجبرة على 'المساهمة' كما تقول في نص سؤالك، أو محاولة المساهمة في كتابة تاريخ المرأة... إنني بشكل ما، لا أزال أدافع عنّي. ككائن متهم، إذ ولد أولاً، أنثى... محاطاً بالترهيب والتخويف، كونه بركانا متحرك من الخطر.

*هل تعتقدين أن الربيع العربي والحراك الثوري الذي تمخض عنه قد يسهم بطريقة أو بأخرى في تجاوز الأعطاب التي تشل جسد الثقافة العربية وترتقي بها إلى مستوى الحضور الإيجابي والفاعل في العالم؟ كيف يمكن للرواية بما هي شكل تعبيري أن تؤرخ لهاته التحولات؟

*تجاوز الأعطاب كما تصفه، يحتاج إلى وقت طويل. لا يمكن للرواية أن تعبرعن هذه التحولات ونحن لا نزال نحياها، ولا نعرف ماذا يخبئ لنا المستقبل. المشكلة أن هذا الحراك الذي قام ضد القمع والديكتاتورية، مطالباً بالحرية والديمقراطية يتم سرقته لاحقاً. إن سرقة ثورات الربيع العربي من قبل جماعات لا تمت لمفهوم الحرية والديمقراطية بصلة، ستجعلنا أمام سلسلة أخرى من الثورات... أظن هذا سيترك أثره السلبي السيئ على الرواية لفترة لا بأس بها. لست متفائلة فيما يخص أشكال التعبير، متفائلة فيما يخص ثراء التجربة، وربما بعض حريات التعبير. أتفق معك وأنت المتحدث غالبا عن'ثورات ثقافية'... أعتقد أننا في بداية الطريق، وأننا سنعاني طويلاً، أتمنى أن أكون على خطأ.