mardi 22 décembre 2009

تراتيل العدم صيغة جديدة في الكتابة الروائية العربية

محمد غرافي
 
لا يمكن قراءة رواية 'تراتيل العدم' للروائية السورية مها حسن، الصادرة هذا العام عن دار الكوكب/ رياض الريس، من دون أن نشعر بأن شيئا جديدا قد حصل في الكتابة الروائية العربية المعاصرة.
تنفرد هذه الرواية بأشكال كتابية لم تتعرض لها الرواية العربية بكل هذا التنوع، فهي إضافة إلى كونها تجمع بين السرد والمشهد المسرحي وتعليق صوت الراوي/ الكاتبة على الأحداث في قالب نقدي، فإنها تهدف منذ الصفحات الأولى إلى إزعاج القارئ وكسر ما تعود عليه من قراءة نمطية. إنها تمارس عليه استفزازا يصل حد التشويش أحيانا. فالمستوى السردي تتقاطع فيه أصوات ثلاثة: جدار وجوزفين وم (مها؟) يخبرنا فيه الصوت الأخير أن الرواية كتبت بشكل جماعي، رغم أن صوت م هو الصوت الذي يطغى على سرد الأحداث، مثلما يطغى صوت شخصية أرض/ الأم كسلطة لا تقهر، حتى بعد مماتها.
زمن الرواية دائري لأن الرواية تنتهي من حيث تبدأ، لكن الأحداث تدور في الماضي البعيد على مدى أزمنة وأجيال عديدة، من دون أن يشعر القارئ بسلطة الزمن، وهذا ما يعطي للرواية أولى أبعادها الأسطورية. أما المكان العام الذي تدور به الأحداث فهو قلعة أرض وحرث تليها قلعتان أخريان، قلعة ابنهما طُهر (العلماني) وحفيدهما حرز (بطل الرواية) بدون أي أثر جغرافي أوحضاري أو ديني محدد. مما يعطي للنص بعدا إنسانيا أشمل.
كتبت الرواية بطريقة تجمع بين الواقعي والأسطوري، فالأحداث تبدو ضاربة في القدم كأنها تقصّ أصل الكائن البشري، لكن محاكاة البطل لإحدى مقولات الفيلسوف كيركيغارد وإحالة السارد الى مرجعيات فلسفية إغريقية ومعاصرة وإدراج بعض الأحداث في إطار زمني ومكاني مألوف لدى القارئ (مؤتمر صحفي مثلا)، كل ذلك يعطي للنص مستوى فنيا يخرج عما راكمته الرواية العربية لحد الآن ويجعل قراءة الرواية محفوفة بالمخاطر، سواء من حيث تعدد شخصيات الرواية التي قد تختلط أسماؤها في الذهن أو من حيت تداخل أزمنة الحكي وتقاطعها، مما يستلزم التوقف من حين إلى آخر لإعادة ترتيبها. جاءت تقنية الكتابة هذه متعمَّدة باعتراف الراوي (الكاتبة؟) نفسه في لازمة تقول: 'تتحول أزمنة القص، وتتعدد مستويات القص، وتتبختر راويات العمل...' مثلما جاء متعمَّداً أيضا إلحاق دليل بأسماء الشخصيات في آخر النص، وهو 'دليل' خادع لأنه لا يقوم بدوره المعهود في الإيضاح ومساعدة القارئ على فهم ما تعذر فهمه في ثنايا النص، بل يزيد من غموض الأشياء لديه. مما يجعل صفحات الدليل المثبت بعد نهاية أحداث الرواية جزءا من الإطار الفني والدلالي للنص.
يمكن اعتبار 'تراتيل العدم' من هذه الزاوية رواية القارئ القلِق، الصبور واليقظ ضدّا على القارئ المتقبِّل وضدّا على قراءة الاسترخاء والكسل.
لكن الجديد الأكثر إثارة لانتباه القارئ هو أسماء الشخصيات. نظريا، تعدّ أسماء العلَم في بعدها السيميائي اعتباطية مرتين: الأولى لأنها ترتكز على وحدات لغوية أطلقت اعتباطا في الغالب على الأشياء، والثانية لأنها انتقلت من مستواها الدلالي الأول كي تشير إلى أشخاص من دون أن يكون ثمة بالضرورة علاقة منطقية بين الإسم وحامل الإسم. ولذلك جاءت أسماء الشخصيات في الرواية العربية التي لا تزال في الغالب أسيرة الاتجاه الواقعي أسماء مألوفة لدى القارئ ومستهلَكة واقعيا ورمزيا. الجديد الذي تنفرد به رواية مها حسن هو توظيفها لوحدات لغوية كأسماء علَم لم تدخل بعدُ ـ تحت هذه الصفة ـ حيّز الاستعمال في الواقع ولا في المخيال العربيين: أرض، حرث، إغماء، عناد، حرز، سماء، رؤية، طُهر، نجمة، جدار، حداد، شمس، غياب، آثام... أسماء تنتمي بالطبع إلى حقل الدوال اللغوية في المعجم العربي لكنها ستنتقل لأول مرة إلى حقل أسماء العلم. ولأن هذا الانتقال لم تتحكم فيه الأعراف والاستعمال الجمعي للغة، فإنه جعل أسماء الشخصيات في الرواية أقرب إلى دلالتها التعيينية باصطلاح رولان بارت، ولن تأخذ تلك الأسماء رمزيتها إلا عن طريق تشكُّل حامليها شيئا فشيئا في ثنايا النص. هكذا ستكون أرض هي المرأة الساحرة ذات السلطة التي لا تقهر، لكنها تظل مشدودة إلى المعنى التعييني للكلمة : الأرض التي نحيا عليها جميعا والحضن الأول للوجود البشري، الأم التي ستنجب مع زوجها حِرث سلالة تبلغ تسعا وتسعين فردا.
يصعب تلخيص رواية 'تراتيل العدم'، أو أن كل تلخيص لها سيكون لا محالة تعسفا، لأنه ما عدا الحدث الرئيسي الذي تعلن عنه الرواية منذ صفحاتها الأولى والذي يتمثل في مشهد احتراق البطل، ليس ثمة ما يشكل أحداثا مركزية وأخرى ثانوية بالمعنى المتعارف عليه في جنس الرواية.'كل الأحداث تبدو عادية ومركزية في الوقت نفسه: عادية لأنها نابعة من صلب اليومي في حياة البشر (ولادة، طفولة، زواج، حب، استحمام، نوم، تشرد، موت، حلم، غناء، مضاجعة، إلخ) ومركزية لأنها رغم واقعيتها وأشكالها تأخذ في غالب الأحيان طابعا سحريا وأسطوريا.
تبدأ الرواية وتنتهي بمشهد احتراق البطل حرز على كومة قش استلقى فوقها وأضرم فيها النار متأملا مشهد احتراقه. حرز هو حفيد أرض، وأرض هي زوجة'حرث وصاحبة أطول ضفيرة استغرق فكها يوم زفافها الليل كله ونصف النهار 'وقيل إن أرضا حين كانت تستلقي، أو تجلس، أو تقف في مكان، ويلامس شعرها المكان المتاخم لوقوفها أو جلوسها أو استلقائها، فإن محل الملامسة، يظل يسكنه، ولساعات طويلة، بعد مغادرتها ظل كان يصنعه شعرها، وإذ يغيب الأصل (شعرها) يبقى الظل لا يبارح المكان...' ص. 44.
تزوجت أرض رجلا إسمه حرث في اليوم السادس من الأسبوع.'وفي اليوم السابع جاءت امرأة 'جميلة المنظر' اسمها 'ذاكرة' لتبارك زواجهما وتترك لأرض وصية: 'احفظي هذه الصيغة وكرريها أمام أبنائك كل يوم كما تكررين أسماءهم ليتعلموها جيدا، ستلازمك هذه الصيغة طويلا، وتحصن أبناءك من خطر قد يصيبهم'. ص. 41. تقول 'الصيغة': 'حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيدا تموت وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك' ص. 42.
تشكل صيغة التحذير هذه لازمة تتكرر كثيرا في النص كدلالة على حضورها القوي في أذهان جميع شخصيات النص ومطاردتها لهم كتميمة مقدسة. وإذا كان أفراد سلالة أرض قد تعاملوا مع هذه الصيغة بلامبالاة أحيانا وبتمرد علني كما فعل طُهر، فإن حرز هو الشخصية الوحيدة في الرواية التي اكترثت بها حد القلق وتمسكت بها كوصية مقدسة. تقول أرض: 'لقد تلوت صيغتي على الجميع، فما اكترثوا، فلماذا يتبرع هو بالاكتراث؟' ص. 283.
تحفل الرواية بأحداث ووقائع تجمع بين الواقعي والسحري وتذكّر بعض أجوائها بأجواء روائية سابقة في الأدب العالمي والعربي: أرض وحرث يُذكّران بعائلة بوينديا في رواية مائة عام من العزلة وأرض (إلهة الاغتسال) تذكر أيضا بصاهبّاء التي تتطهر بالشمس في رواية السّدّ لمحمود المسعدي، بينما تُذكّر بعض الأحداث المرتبطة بالأساطير والجن وعلاقة الإنسان بالحيوان والطقوس بأجواء الواقعية السحرية في روايات إبراهيم الكوني. ناهيك عن مرجعيات أسطورية أخرى توظفها الرواية مثل أسطورة سيزيف أو دينية/صوفية كالكابال أو أدبية كروايات التشيكي ميلان كونديرا أو فلسفية مثل نظرية سقراط عن 'الانهمام بالذات' ونظرية كيركيغارد الوجودية.
إن قصة حرز في 'تراتيل العدم' هي قصة الشرط الإنساني بمعناه الفلسفي«'إنها تثير أسئلة الوجود والعدم والخلق والحرية الفردية وعلاقة الفرد بالجماعة وتثير بشكل خاص إشكالية الفعل الإنساني في عالم أشبه إلى حد كبير بالعالم الروائي، أي بالخيال أو الوهم. إن حرز يموت كما يقول هو نفسه 'مجّانا' والصيغة السحرية تحذر من ترتيل نشيد تبيَّن في آخر الرواية أن محتواه لا يتعدى أبجدية فارغة المعنى أو على أكثر تقدير غامضة كالطلسم: 'آه باه تاه جاه داه زاه .... ياه' ص. 293. وهكذا تصير الصيغة التي ورثتها أرض عن الساحرة 'ذاكرة' مجرد حافز للحكاية ('مات حرز، من أجل مجرد رواية' ص. 293) وفي نهاية المشهد الدرامي لاحتراق حرز تتماهى 'الصيغة' مع الظلمة أي مع الفراغ والعدم.
كما أن قصة حرز تطرح إشكالية الإنسان الذي يموت وكأنه يتحمل خطايا الآخرين، آل القلعة، من بني جنسه في سلالة أرض. لقد كانت ولادته نفسها مثار جدل لأن أباه ظل يشك'في أن يكون حرز ابنه الحقيقي، ولذلك أبى أن يطلق عليه اسما حتى لا يكون مسؤولا عن مصيره، فظل الصبي بدون اسم 'لعدة أسابيع' إلى أن أطلقت عليه جدته أرض اسم حرز خوفا عليه من المصائب. كل ذلك ساهم منذ بداية الرواية في تفسير مسبق لمشهد الاحتراق: 'أسميك حرز لأحميك باسمك من الوقوع في أسر ما أُسرَّ لي' ص 31. لقد أدى كل ذلك بحرز إلى البحث مستقبلا في حقيقة نشأته وطرح أسئلة القلق حول الذات بدْءاً من التساؤل عن جسده وعضوه التناسلي ('الزائدة اللحمية') إلى التساؤل عن حقيقة ذاته (أهو كائن إنسي وجني في الوقت نفسه؟) وانتهاءً باحتياره في موته 'المجّاني' وهو يتأمل النار تحرق جسده على كومة من القش.
تتناول الرواية هذا القلق الذي رافق البطل منذ طفولته حتى مماته على ضوء التصور الفلسفي لنظرية 'الانهمام بالذات'. وهي نظرية من بين النظريات الفلسفية التي تحيل اليها الرواية في حواشيها وتقوم على تفسير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لعبارة سقراط 'اهتم بنفسك' على أساس أنها ليست دعوة إلى النرجسية أو الأنانية، بل هي تعبيرعن سلوك الفرد نحو نفسه ونحو الآخرين، وهي الجهد الذي عيله أن يبذله للعبور إلى الحقيقة، حقيقته هو وحقيقة أفعاله. لقد اعتنى فوكو بهذه النظرية وحاول تفسيرها لأول مرة (قبل أن تصدر سنة 1984 كعنوان للجزء الثالث من كتابه تاريخ الجنس) خلال محاضرة له بكوليج دو فرانس يوم السادس من يناير سنة 1982 كنقطة أولى لتناول إشكالية الذاتية والحقيقة. وانتهى إلى أن مقولة سقراط كانت بمثابة 'المبدأ الأساسي' الذي قامت عليه الفلسفة الإغريقية والهلّينية والرومانية وأنها تعدّت حدود التصور الفلسفي لتصير في ما بعد المبدأ الأساسي الذي قامت عليه أيضا المذاهب الروحية المسيحية، خاصة في شقها الصوفي (أنظر ميشيل فوكو، هيرمونيطيقا الذات، سوي/غاليمار، 2001). هاهنا نعثر عن إجابة عن السؤال الذي يطرحه أي قارئ وهو يفاجأ بتدخل صوت الراوي/الكاتبة في حاشية الكتاب (ص.156) مدرجا اسم ميشيل فوكو ومقولة الإنهمام بالذات في النص. إن مرد ذلك كله يعود إلى أن حرزا سيعمل بنصيحة أرض ('عليك فقط الاهتمام بنفسك، والإنهمام بذاتك') سالكا طريق القلق والسؤال والمعاناة من دون أن يستطيع تغيير شيء مما اعتبره قدرا لا مفر منه«'ألم تسرّ له أمه في خضم تساؤلاته الكثيرة بأن أباه الحقيقي اسمه 'أقدار'؟
ولعل الإشكالية الكبيرة التي تطرحها الرواية في علاقة الكائن الإنساني بوجوده وبالعالم تقترب كثيرا من مفهوم العبث. مقابل صيغة التحذير التي وجهتها أرض لحرز ثمة ما يثير تناقضا في إصرارها على حماية حرز خوفا عليه من الوقوع في ما أُسِرَّ لها به مسبقا، أي شيء مرعب، أو خاتمة درامية. وسيُحسم هذا التناقض بوقوع حرز في ما سُطّر له سلفا، مما يجعل مسار حياته مسارا عبثيا. غير أن البطل يحاول تفسير نهايته المأساوية كنتيجة منطقية لا لمسار كان مقدّرا سلفا، بل لصيغة أرض نفسها واكتراثه الكبير بها: 'تلك الصيغة' طاردتني، حتى شوشتني وبعثرتني وشككتني وأقلقتني، فقتلتني!' ص 273.
هكذا يموت حرز لا بسبب عصيان الإله ( أرض) بل بسبب الإيمان به وطاعته : 'لم تقتلك الصيغة. قتلك الإيمان (...) لقد تلوت صيغتي على جميع أبنائي وأبنائهم وبناتهم، فأهملوا إلا حرزا فحقت عليه اللعنة' ص. 272ـ276.
لقد حاول حرزمنذ صباه الخضوع لصيغة المرأة الأولى (أرض). ورغم ابتلائه بصوت صيغة ثانية تدعوه إلى نفي الصيغة الأولى والتمرد عليها، فإنه ظل متمسكا بوصية جدته أرض إلى أن يتخذ بنفسه قرار الانتحار. هكذا يكون فعل الانتحار هو الفعل الإرادي الوحيد الذي خلص حرز من الإذعان لسلطتين/صيغتين تتجاذبان ذاته:
أكان موتي'اختيارا مني؟
ـ نعم، لأنه لم يكن ردا على تلك الصيغة، ولا ربطا بها ص. 284.
جاء موت حرز احتراقا ليس فقط من شدة ما لاحقته صيغة أرض، بل أيضا نتيجة عجزه عن مواجهة ثقل تلك الصيغة/السلطة المتذرعة بمفهوم القدَر. لقد كان ثمة شيء أساسي يشدّ حرز إلى الحياة، ألا وهو عبقريته الموسيقية التي ورث نصيبا منها عن أمه، أي من امرأة تمثل الكائن المتمرد دوما على توجهات الإلهة أرض. هاهنا يكمن أيضا أحد العناصر الأساسية لفهم المآل الذي آل إليه البطل. لقد ورث حرز حبه للموسيقى عن أمه التي كانت تتقن فن الغناء وصار استحضار صوتها الغنائي هو الملاذ الوحيد لحرز كي يحس 'برحابة الحياة' ص. 108. فصار حرز قائدا لفرقة موسيقية على عكس أبيه الذي كان قائد جيش: 'إذا كنت قد ورثت شيئا عن أبي، فهو حب القيادة، وإذا كان ثمة خلاف كبير وأساسي بيننا، فهو في شكل القيادة، إذ أراها في الموسيقى، العازفين، الآلات، ويراها، في الجيش، العساكر، الدبابات والقذائف. شكلان من القيادة لا يمكنهما الالتقاء، إلا في فكرة، حب القيادة' ص.109.
تطرح الرواية هنا مسألة الفن كطريقة ليس فقط للإحساس 'برحابة الحياة'، بل كوسيلة لتخليص العالم من البؤس والطاعة الكاملة للسلطة بمفهومها الغيبي أو الدنيوي. إن البطل وهو يعتقد أنه قد تمكن كقائد أوركسترا من كل صفات القيادة/البطولة، وعددها سبع كما نلاحظ (الثقة، السيطرة، القوة، الامتلاك، القرار، الإرادة، البناء)، صار حريّا به أن يعلن عن قدرته على تغيير العالم: 'فأقود العالم نحو موسيقى تخلصه، وأقود الموسيقى إلى تخليص العالم' ص. 109. لقد كانت الموسيقى عنده 'محاولة للشفاء' من قلقه الوجودي وهي وحدها ذلك 'الموجود الذي يلغي الفراغ، فينفي عن الكون فكرة العدم. الموسيقى هي إلغاء العدم، الموسيقى وجود' ص. 187. ها'هنا يتعزز فهم القارئ لإشكالية الانهمام بالذات الواردة سلفا، فحرز يتحول من كائن قلق إلى شخصية سقراطية مهمتها 'قيادة' الآخرين وتوجيههم والتضحية من أجلهم.
غير أن حرز سيفشل في إحداث هذا التغيير. لم تنفعه عبقريته الموسيقية في شيء فقرر وضع حد لحياته رغم أنه ابتكر لحنا سماه بـ'الصيغة الجديدة' ضدا لاشكّ على صيغة أرض وصيغةِ صوتِ نقيضتها. فجاء انتحاره تعبيرا علنيا عن فشله 'أعرف أني لن استطيع التغيير (...) لقد فشلت وخسرت' ص. 173ـ174.
هل يمكن قراءة الرواية من هذه الزاوية فقط واعتبارها رواية الفشل والتشاؤم الإنساني؟ هل يمكن اعتبارها تنديدا بالطاعة المطلقة ودعوة إلى العصيان؟ أم أن النهاية الدرامية لحرز هي الضريبة التي على الإنسان أن يدفعها ليتحقق الشطر الأخير من الصيغة ويكتسي البطل صفة عنقائية ويتحقق أخيرا عالم أفضل: 'لن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك'؟
إن الاكتفاء بقراءة واحدة سيكون لاشك إجحافا في حق نص أراد لنفسه أن يكون إشكاليا ومفتوحا ـ فنيا ودلاليا ـ على قراءات متعددة.
كاتب مغربي مقيم بفرنسا
عن صحيفة القدس العربي

lundi 21 décembre 2009

محاولة لإعادة النظر في كارثتنا الثقافية

مع أن « أهل مكة أدرى بشعابها»، أي أن اللبنانيين أدرى بطبيعة وإمكانية تقييم الأوضاع الثقافية في لبنان، إلا أني أختلف مع السيد رياض الريس، في مقالته بجريدة الأخبار، بأن « بيروت عاصمة عالمية للكتاب» هي تسمية لإرضاء غرور الشوفينية اللبنانية.

بداية أعتبر قيام دار الريس بطباعة روايتي الأولى، والثانية على الأبواب، حظّا أقدّره، وقد كُتب قليلا حول المساحة اللبنانية التي أُتيحت مؤخرا أمام الكتاب السوريين، حيث حازت الأعمال السورية الصادرة في لبنان، في داري الريّس والآداب، اهتماما لا بأس به، لم تكن لتحظى به، لو أنها صدرت في سوريا. أقول هذا الكلام، لأعبر عن تقديري للانفتاح الفكري والسياسي للسيد الريس الذي أعتبره شخصيا إحدى بوابات الأمل في الثقافة العربية الراهنة، ومواقفه مشهود بها. وليس المقال هنا للإطراء عليه، بل أوردت هذا المقطع، لأثبت حسن نواياي في الاختلاف معه حول نظرته لتسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وأرجو التفريق، والسيد رياض يعرف هذا دون شك، بين العاصمة العالمية للكتاب، وعاصمة الثقافة العربية، حيث الأولى صادرة عن منظمة اليونسكو العالمية، أما الثانية، فهي ناجمة عن اقتراح المجوعة العربية في اليونسكو. الأولى لها صبغة عالمية، بينما الثانية فهي تقريبا ذات ملامح عربية.

بما أن تسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، حيث وردت التسمية من اليونسكو، التي تسمي سنويا مدينة ما، لا علاقة لها بأي نوازع سياسية أو جغرافية، لتخصصها عاصمة للثقافة. أي أنه تقليد عالمي، وليس عربياً.

في العام الفائت، كنت في أمستردام، حيث كانت عاصمة عالمية للكتاب، أعرف أن الكتاب الذين أعرفهم عن قرب، لم يشاركوا في الحفلات العامة، أو حتى في حفل الافتتاح، لما فيه من «مشهدية»، تخلط الحابل بالنابل « السياسي بالفني، المنصب بالثقافة، رجال الأعمال والواجهات مع الكتاب...»، ولكني أعرف أنه فيما بعد، تتم نشاطات متفرعة عن هذه التسمية العالمية، وتتيح لكثير من الكتاب المغمورين بالظهور، وتقديم أنفسهم.

فمثلا، تمت دعوتي، للمشاركة في حفل عشاء أقيم على شرف الروائي الهنغاري جورج كونراد، صحيح أن النشاط لم يكن أدبيا بحتا، بل كان مناسبة لتعارف الكتاب، من أجيال وجنسيات مختلفة.وهي فرصة لإطلاع على التقاليد الثقافية الغربية، التي لا تعاني من أمراضنا الثقافية.

لا شك أن تلك التقاليد، تقاليد الثقافة الغربية مختلفة عن الأخرى، العربية، وهذا لوحده يتطلب صفحات طويلة لعرضه، وعلى سبيل المثال، فقد لخص الريس الوضع الثقافي العربي بـ : الطائفية والشللية والمحسوبية....

الثقافة الغربية ليس فيها عقدة التعالي، أو الأجيال. لكل كاتب شخصيته وحضوره ومكانته، بغض النظر عن شهرته، أما الثقافة العربية، فهي لا تزال، في قسم كبير منها، خاضعة لعقلية «القطيع»، حيث المحاباة، والعلاقات الشخصية، ونبذ الآخر المختلف...

نعم، عزيزي السيد رياض الريس، أنت محق في غضبك من الثقافة العربية، ومحق في عدم تفاؤلك، وأنا، وغيري كثيرون، نقاسمك هذا اليأس، حيث «الفكر الجماعي» يلغي الفردية، التي هي من أول قواعد الإبداع، حيث تحول الكاتب العربي إلى لاهث وراء المال والشهرة والمنصب... وحيث لم تفرز الحداثة العربية، والتطور المعلوماتي والبنياني للمؤسسات العربية، إلا المزيد من القهر والنبذ للكاتب أو المثقف المختلف، الذي لا يزال خارج السرب، محلقا ـ مرغماـ إلى فضاءات أكثر بعدا... ولكن كل هذا، لا علاقة له بأن بيروت عاصمة للكتاب.

ما ذنب اليونسكو التي اختارت بيروت، كما اختارت الإسكندرية ومدريد ونيودلهي من سنوات سابقة، وأمستردام في العام المنصرم، وكما ستكون « لوبيانا « عاصمة للعام القادم، و« بوينس آيرس « في العام الذي يليه.

المشكلة فينا، لا في التسمية، لأن تسمية بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وعدم قدرتنا « كعرب» إلا إظهار تفوق أحدنا على الآخر، كشكل من أشكال الاستعراض، لا القدرات الحقيقية، وإظهار « شوفينيتنا»، حيث أتفق مع السيد الريس، في أن الثقافة العربية تحمل الكثير من الشوفينية»، ولكن كل هذا لا يعيب التسمية. لتكن بيروت عاصمة للكتاب، حتى ولو لم يكن للكتاب عاصمة، وحتى لو كانت التسمية رمزية، كما نحتفل بأعياد ميلادنا، وعيد الأم والاستقلال... لتكن مناسبة للاحتفاء بالكتاب.

عزيزي رياض الريس، أن تكون بيروت عاصمة للكتاب أمر رائع برأيي، بيروت التي تحتمل كل تناقضاتنا، وخلافاتنا، وآفاتنا «كمثقفين عرب، وكسياسيين»، وأن يكون معرض الكتاب البيروتي فرصة لإعادة النظر في «الكارثة الثقافية» العربية، فهنا أشد على يدك بقوة، وأعتقد أن ثمة الكثير من الأسماء الشعرية والروائية والنقدية، وربما من المشاركين في المشهد الثقافي بتحفظ، متحمسون جميعا لدعوتك، لنحاول معا تفعيل المشهد الثقافي العربي، عبر ممارسة حقنا في كوننا موجودين، داخل السرب، دون تماهي، وبمسافات آمنة تبقينا، داخل المشهد، مع حذر الانزلاق في الحظيرة، حظيرة القطيع الثقافي.
عن نوافذ المستقبل

mercredi 2 décembre 2009

الجدد لم يأتوا بجديد لأن ثورتهم ثورة أفكار لا أسلوب



حاورها: اسكندر حبش
 مها حسن: الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية
تفاجئنا رواية مها حسن - (كاتبة سورية مقيمة في باريس) - «تراتيل العدم»، (الصادرة عن (الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر)، بتجريبيتها العالية. مفاجأة سعيدة بدون شك، ففي حين يذهب كثيرون إلى كتابة تحاول الحفاظ على «أقل الأضرار الممكنة»، نجد مها حسن، تغوص في «السرد الشائك»، بمعنى أن الأسلوب عندها هو الذي يحدد كلّ أطر الرواية.


من إحدى ميزات الرواية ابتعادها عن الحبكة التقليدية وكأن ثمة لعبة بالزمن تحاولها الكاتبة. هذه الحبكة السردية تعللّها مها بكونها، هي، «كاتبة تجريبية»، تؤمن دوما بضرورة الإتيان بالجديد، وتضيف: «أكره التماثل والتشابه والتقليد. الإبداع هو الجديد. كلّ كتاب لي هو محاولة لخلق طريقة جديدة، أنا أعشق التكنيك ومهووسة بالشكل. «المعاني مرصوفة على الطرقات»، كما قال الجاحظ، المهم برأيي هو كيف نقول الأشياء المهمة، بمتعة. الرواية في النهاية هي لعبة، لعبة يجب أن تكون ممتعة للطرفين، للقارئ والكاتب، وليست حكاية، وأنا أرفض اعتبار الرواية حكاية. وربما نشأتي الأولى أو قراءاتي الأولى للفلسفة، شكلّت لديّ هذا الهاجس في كسر البناء التقليدي للرواية، لتحريرها من الحبكة والقص والتسلسل المنطقي للأحداث والتواريخ». إزاء ذلك، حين صدرت روايتها «لوحة الغلاف»، قال لها أحد كتاب مدينة حلب، «لماذا تكتبين رواية؟ «لوحة الغلاف» هي بحث وليست رواية، اذهبي واكتبي أيّ جنس آخر سوى الرواية، «وتعاركنا «لغويا» آنذاك حول التصاق الرواية بالحكاية»...


من هذه الرؤية، ترى مها حسن أن «ما يحصل اليوم في عالم الرواية العربية لا يبشر بأيّ أمل. يتحدثون عن «الرواية الجديدة»، والكُتّاب الجُدد برأيي لم يأتوا بالجديد - مع استثناءات دائمة - لأن ثورتهم ليست ثورة أسلوب، بل ثورة أفكار. وهذه الأفكار ليست مستحدثة، وقد اخترعها الكاتب، بل موجودة، جاء واستعملها في رواية «اجتماعية وأخلاقية»، فدخل عمله ضمن «الكتابة الجديدة». أنا لا أهتم بجرأة الرواية من حيث كسرها للتابو الاجتماعي، ثمة أبحاث ومقالات تقوم بهذا، وأنا أكتب كثيرا في هذه الشؤون التي لا تمّت للإبداع بصلة. الجرأة الروائية هي جرأة شكل، جرأة أسلوب، وجرأة تقنية. روايتي الأولى صدرت منذ أكثر من عشر سنوات، مع تحفظي على وسمها بالرواية، إلا أني لا أزال متمسكة بأنها مكتوبة بتقنية غير موجودة في المنتج الروائي العربي، قد لا تكون قراءتها ممتعة، وقد لا تروق للكثير، وهذا حقهم، ولكنها كتقنية، مختلفة فعلا، وهذا ما أسعى إليه في كتابتي: الاختلاف».


في مدينة ذكورية


هذا الاختلاف بدأ منذ ولادتها، إذا جاز التعبير. فهي ولدت، كما تقول، في «حيّ محافظ ومنغلق في مدينة حلب الذكورية، حيث يصعب اختلاط الرجال بالنساء. وحيث تؤثم أيّ اختلاف تقوم به المرأة». لكنها لا تحمل أيّا من صفات المدينة التي ولدت فيها فهي لا تشعر بأيّ انتماء أو حنين لها. هي الطفل الأول لعائلة تشكل العائلة الكردية الوحيدة، في الحيّ الذي ولدت فيه. «وكان أبي، اليساري الوحيد، ولو بتكتم، وكنت وحدي، أخرج صباحا من بين كلّ فتيات الحيّ للذهاب إلى المدرسة، ثم الجامعة، ثم العمل، ووحدي التي لا أضع غطاء رأس، وكنت «كالعين المقلوعة» في ذلك الحيّ المرعب.


كان عليها، وهي التي نمت في أسرة بسيطة من الناحية الاجتماعية، وفقيرة جدا من الناحية الفكرية (ولأبوين أميّين) أن تشق الطريق وحدها، بوصفها الشخص الأول المتعلم في تلك البيئة. إذ «كان مجرد متابعة التعليم في عائلتي حظا استثنائيا لي، ولكن الدخول المبكر للسياسة في حياتي، فتح عيني على القراءة، ومن هنا كان السحر. القراءة هي التي صنعت مني كائنا آخر، وغيّرت مسار قدري التقليدي».


بدأت مها حسن، في الرابعة عشرة، بقراءة هيغل: «أمر مضحك، كنت لا أفهم ما أقرأ، ولكني ألتقط جملا أدونها و«أصفن فيها» حتى أفهم الديالكتيك الهيغلي، نظرا لأن هيغل كان مرجعية ماركس كما تعلمت آنذاك»، وتضيف: «في الوسط الكردي، يُقدّس الشباب «نيتشه» ويعتبرون «هكذا تكلم زراداشت» بمثابة المرجعية الضرورية لكلّ مثقف كردي. توجهت كذكور العائلة «المسيّسين جميعا بالفكر القومي» إلى زراداشت نيتشه، وكان الانقلاب في حياتي». كان نيتشه صاحب الضوء الأول الذي تسرّبت منه عبر ممرّات القراءة وكهوفها السحرية، ومنه انزلقت إلى سارتر، «دفعت فواتير ضخمة نتيجة إيماني الأعمى بسارتر، وتمّت قطيعتي مع اليسار بسبب سارتر «البورجوازي». وهكذا تمّت المسألة بالتدريج وعبر سنوات» تعرفت من خلال سارتر على الوجودية، على هايدغر وكيركيغادر «الذي أهديت روايتي الثانية للإنسان الذي تحدث عنه في يومياته «ذلك الفرد»، ثم دخلت في دوائر السرياليين. وبدأت أتلمس متعتي الخاصة لا في قراءة الفلسفة فحسب، كما كنت أحكم على نفسي، بل باكتشاف متعة الرواية». أمام ذلك كلّه تجد مها حسن أنها مدينة للسياسة التي دفعتها نحو الفلسفة، «حيث تعلمت وتمتعت بالقراءة، القراءة التي هي المفتاح السحري لاكتشاف الذات والآخر». أمام ذلك كان لا بدّ أن تأتي «مصيدة الكتابة، لأنه يصبح لدينا أشياؤنا التي نريد أن نقولها، بعد أن أصغينا للآخر في ما قاله. تصبح لنا أنواتنا المختلفة التي تحاول أن تخرج من شرنقة الجماعة، لتعبر عن فرادتها، حتى ولو كانت تلك الفرادة أو التفرد، عبر طرح مختلف لحالة الألم، أو المقت، أو الخوف». أول إصدارات مها حسن كان في العام 1995، مع كتاب «اللامتناهي – سيرة الآخر»، الذي لا ترغب في أن تدعوه رواية، ولا سيرة ذاتية أيضا، فقد كان «سيرة الآخر»، كما دونت في العنوان، كانت، مع كتابته، تحلم بابتداع جنس أدبي، عبر شكل سيرة الآخر، «أدهم بن ورقة»، لا البيوغرافيا، بل السرد المتعدد. فأدهم، متعدد الولادات، متعدد الشخصيات في كل ولادة، إنه الإنسان اللامتناهي فينا. بعد سبع سنوات (2002)، جاء الكتاب الثاني: «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى». تتعرض في هذه الرواية لمفهوم الخيبة عبر الأجيال، عبر كريم الحاوي، بطل الرواية العربي، الوجودي، الكافكاوي، «الذي يشبه الكثير منا، نحن أبناء الخيبة، وخاصة تلك التي تكرست فينا بعد الستينيات «هزيمة 67»، التي أدت مثلا، وأبقى في مجال الفن، إلى انتحار فنان بمستوى لؤي كيالي «انتحاره غير مؤكد»، أو حتى الانتحار الفاتن الذي قام به خليل حاوي».


تنهمك مها حسن في العمل على أسماء شخصياتها في رواياتها: كريم الحاوي، سوزان الحاج، خالدة الغاوي. وهو يتبدى بقوة في «تراتيل العدم»، حيث يحمل الكثير من المضامين. يكاد هذا الولع أن يكون «ثيمة ثابتة في كتاباتها»: «هذا أحد هواجسي في بناء الرواية، إذ في بعض الأحيان، فإن الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية وسلوكها. خذ مثلا «أدهم بن ورقة» بطل «اللامتناهي»، كلّ النص يلعب على اسمه، ويبرر في كل مرة، أو في كل ولادة تتم لأدهم، لماذا هو «ابن ورقة». ولن أفسر أكثر، لأن إجابتي الدقيقة على سؤالك «الهدف من تحميلها هذه المضامين» قد يحرم القارئ برأيي من متعة البحث، ويحرمني من لذة اللهو قليلا مع القارئ، لندع للرواية بعض أسرارها!


مع «تراتيل العدم»، تذهب مها حسن إلى الكتابة الملحمية، وكأن فيها كتابة «إغريقية». لا زالت تبحث إذاً عن هذا «الاختلاف» الذي دفعها إلى الذهاب «إلى هذه التقنية في روايتي، عبر وجود كورس ملازم للسرد، وأنا لا أريد أن أشرح، وأنت تعرف أنه يصعب كثيرا تفسير رواية متعددة الدلالات، تستحق عدة وقفات، لتلخيص هاجسها في سطور. ولكني كما أسلفت لك، في كلّ كتاب لي، أحاول أن أكون مختلفة عن غيره، ثمة كتابة «وجودية» في «لوحة الغلاف»، وثمة كتابة فانتازية أسطورية في «تراتيل العدم»، أنت تراها ملحمية، ربما اقترابها من التقنية المسرحية، أعطاها هذا الإحساس الملحمي. يسعدني، أن تُفسر هكذا، لأني حين كتبتها، لم أكن واعية لهذه المسألة، أو على الأدق لم أكن قاصدة».


المنفى


هل بسبب كل هذه «المواصفات المسبقة» غادرت بلدها لتعيش في «المنفى»، وهل هو منفى أصلا؟ ترى الكاتبة أن كلمة المنفى «ترتبط عادة بالعقاب، أما منفاي فهو حريتي. في الغرب الفرد هو المهم، وليس تاريخه العائلي، فهو لا يتحمل تبعة غيره. الحرية المرتبطة بالمسؤولية هنا، حررتني من الكثير من الخوف، ومن «الانهماك» بالآخر، بالمعنى السارتري للكلمة، الآخر الذي هو الجحيم حين يتدخل في كل تفاصيل حياتنا، ويصبح نعيما، حين نضع له حدودا، فتكون العلاقة قائمة على الحوار والحرية، لا على الخضوع والتبعية. هذا ما منحني إياه «المنفى»، حريتي في التفكير والمخالفة والاعتراض واللامبالاة. حريتي في كوني أنا. لا الآخر. أعتقد أن المنفى حالة داخلية لا ترتبط بالمكان، أنا كنت «منفية» في بلادي «التي لم أعد أشعر كثيرا بياء النسبة هذه»، بينما أنا هنا، في «منفى» يحترم إنسانيتي وحريتي، ببداهة ودون معارك ونضالات».
عن السفير

dimanche 8 novembre 2009

رائحة الصباح - مها حسن

لكل صباح رائحته. ولكل صباح رائحته التي لا تشبه أية رائحة أخرى، ولا أية رائحة أي صباح آخر. بل تتغير الرائحة بتغيير المكان، من القرية، إلى المدينة، إلى البلاد

فرائحة حلب، لا تشبه رائحة باريس، ولا رائحة باريس تماثل رائحة أمستردام

في صباحات باريس، غالبا ما تداهمني رائحة حلب. كلما خرجت من المصعد في الطابق السابع، تلصصت على طهو جارتي المغربية، عبر الرائحة، لأستردّ حلب، روائحيا

كنا نغادر المدرسة جائعات، نحن طالبات البكالوريا، ونبدأ بفتح شهواتنا الروائحية لترصد أنواع الطبخات التي تحتويها مطابخ بيوت الجميلية في حلب. نأخذ بتعداد الأطباق التي نتصورها من خلال الروائح الهاربة من طناجرها، محشي، فاصوليا خضرا، بامية... هممممم فلافل. والفلافل هي سيدة الروائح، تشدنا رائحتها، نتوقف أمام بياع الفلافل، ولكننا نكتشف أننا لا نستمتع بالنكهة، بل تغوينا الرائحة

ولكني الآن في أمستردام، الغريب أني لا أتفقّد رائحة حلب، بل تداهمني رائحة باريس كلما استيقظت في الصباح، وقبل أن تمتزج رائحته بأنفاس الهولنديين. كما لو أنك حتى تتيقن من امتلاكك أو حيازتك لرائحة مدينة ما، عليك أن تذهب إلى المدينة التالية، التالية فقط

حلب لا تأتيني في أمستردام، حلب التي تقفز روائحها في مطبخي، حين أكون وحدي، فأتفنن بالإتيان بحلب، عبر الملوخية خاصة، والتي لا يمكن التكتم على طهوها. إن ما يقفز في نافذتي الصباحية في أمستردام، هو باريس. أفتقد باريس في أمستردام، تماما كما أفتقد بعضا من حلب في باريس. وكما علي أن أفتقد أمستردام في بروكسل

أستيقظ في بعض الصباحات الأمستردامية، ممتلئة برائحة بروتانيا، الواقعة في غرب فرنسا. والمطلة على الأطلنطي والمانش. لرائحة الصباح البروتوني خصوصية لا تفارق ذاكرتي الشمية. ولكني في أمستردام، فكيف تقفز رائحة الغرب الفرنسي، إلى الشمال الهولندي

كما لو أن رائحة المكان تتنقّل، تلحق بالذاكرة. فرائحة الربيع الحلبي، تستطيع أن تتسلل إلى رائحة ربيع ما في جونفلييه، حيث بيتي في الضاحية الباريسية. ورائحة الحقلة الصغيرة المنزوية في حوش عمتي فريدة، المزروعة بالفول، تستطيع أن تنطّ فتحطّ في شارع هوتبول في الحي التاسع عشر في باريس، قريبا من بيت صوفي. من قال أن الروائح تلصق بالمكان !
إن الروائح تولد في المكان، ولكنها تغادره، إن غادرنا. يكفيها أن تتسجل في ذواكرنا، بوصفها رائحة المكان الفلاني، حتى تتنقل معنا، وتنضم إلى خزان الروائح القابع بداخلنا، والذي يميز بدقة في أي صباح، كهذا الذي أصفه الآن، لأقول وأنا في أمستردام متنشقة الهواء بعمق، زافرة ذاكرتي من رئتي: يا له من صباح بروتوني، أو، كما أني في تريغومور على الكوت دا أرمور
تأخذ الرائحة، آن ولادتها في مكان ما، هوية المكان. ثم تتحرر من المكان، حاملة اسمه كتمييز لها. تتجاوز الحدود والمطارات والحقول الشاسعة. أنا الآن في أمستردام، وثمة حلب تتنفس جواري، في صباح ما، صباح آخر، غير هذا الصباح
لا أعرف إن كنت حقا في أمستردام، في شقتي قريبا من أمستل، أم أني في بروتانيا، في تريغومور. إذ أن هذه الأغنية التي لا تتوقف، تربطني إلى طاولة الحديقة في منزل تريغومور، حيث يغني سونوريون دو "ماريو سي برومين ".. ماريو تتنزه











وداعا للعشق الورقي

لا مكان لحب الورق، إلا لأبناء نوستالجيا الكتاب. فقد دخلت التكنولوجيا في تفاصيل حياتنا، لتسهل علينا كل شيء، حتى القراءة، ولتخفف أعباءنا.
في سؤال نشرة أخبار الثامنة، لتصويت الجمهور، كان السؤال متعلقا بالكتاب الالكتروني، حيث طرحت شركة "أمازون" نسخة جديدة ومحدثة من هذا الاختراع. والسؤال كان "هل أنت مستعد للقراءة بانتظام في الكتاب الإلكتروني؟".
نسبة المصوتين قاربت ثمانية آلاف مشارك، حتى لحظة كتابة هذه المادة، وقد تساوت الأصوات تقريبا بين 4،50 في المئة نعم، و6،49 في المئة لا.
تجولت الكاميرا في مكتبات البيع لتستمزج الجمهور. إحدى سيدات نوستالجيا الورق أجابت بأنها غير مستعدة لاقتناء الكتاب الإلكتروني، لسبب بسيط أنه لا ينتمي الى جيلها، بينما اعترضت صبية على الكتاب الالكتروني مبررة موقفها بحبها للمس الورق وتقليب الصفحات. أحد الكتّاب قال إنه مواظب على استعمال الكتاب الالكتروني منذ سنوات، لسهولة حمله، والتنقل به. فهذا الكتاب الخفيف الوزن، يمكن تحميله مجموعة كتب، ومن السهل اختيار الكتاب المراد قراءته، إضافة الى خيارات أخرى، كتكبير حجم الخط مثلا، والقراءة بمواصفات يختارها القارئ.

صديقتي أنياس، لا تزال تستعمل الدفاتر في كتابة أبحاثها ورواياتها البوليسية، شارحة أنها مولعة بالورق والقلم. إنها تخشى اندحار القلم، تتحدث عن الرسائل البريدية بشغف كبير، مفتقدة ذلك الفرح بفتح رسالة تحمل خطوات أقلام من نحب. تقول إنه رغم سرعة البريد الالكتروني، والذي صارت مرغمة على استعماله في كتابة رسائلها، إلا أن هذا لا يقدم شخصية المرسل، لأن خط اليد، والجهد الأكبر الذي نبذله في التدوين اليدوي، يكشفان بعضا من خصائص الكاتب. إنها مولعة بالقلم وخطواته على الورق، تستعمل أقلاما ملونة للعناوين الرئيسية والفرعية.
كانت هاجر أيضا تتحدث عن ملمس الورق بشفافية العاشقة، تقول إنها تحب رائحة الكتب القديمة. ما إن تفتح كتاباً، حتى تقفز روائح الماضي العبق إلى روحها، فتنتشي بالرائحة قبل الأفكار.
شخصيا، منذ سنوات لم أعد أستخدم الورق، إلا حين أكون في الطريق أو في سيارة أو في أي مكان عام، فأرغب بتدوين فكرة عابرة قبل أن تفوتني. لكني أطمئن أكثر الى الحاسوب. وأظن أن حال معظم الكتّاب العرب والغربيين هي كذلك. من منا لا يزال متمسكا بالأوراق والأقلام؟
هل ننضم قريبا إلى عالم النوستالجيين، فنفتقد أوراقنا، مهما يكن حجم علاقتنا بها صغيرا؟ هل نقول وداعا لعشق الورق، وداعا للعشق الورقي؟
عن جريدة النهار

vendredi 23 octobre 2009

تراتيل العدم في مكتبات النيل والفرات



هذه الرواية فريدة في سردها ولغتها وبنيانها. نمط مميز يفرض نفسه ويمسك بالقارئ منذ البداية. فالكاتبة تقول أن عدد من الراويات يكمنّ وراء هذا العمل، وأن سبب اختيارها لانجازه هو كونها "الكائن الأكثر واقعية من بين مجموعة الشخصيات في هذه الرواية" التي يتقاطع فيها الماضي بالحاضر، وعالم الغيب والخيال بعالم الواقع، وتتداخل مكونات الأسطورة بأحداث التاريخ، والأحداث الشخصية بالأحلام.


تبدأ الكاتبة روايتها، بمشهد بطل الرواية القائد، حين يشعل النار في سريره القشيّ، "كأنه يريد للنار أن تلتهمه ببطء" و"ببطء يزحف نحو الموت"، لتتخذ منه إطاراً وموقعاُ تخرج منه الحكايات وتعيش وتنتهي، فمنذ البداية تعلن موته اللاحق:"إذ يموت، مع انتهاء هذه الصفحات"، وتختار هذه اللازمة: "تجري أحداث هذه الرواية، بأزمنتها المتعددة، على خلفية مشهد احتراقه، أجل، يظل مشهد الاحتراق ثابتاً، بينما تتحوّل أزمنة القصّ، وتتبختر راويات العمل، على خلفية آلامه"، والتي تتكرر باستمرار كوسيلة لتقطيع مشاهد الرواية ولإعادة ربط أجزائها، بطريقة جمالية خاصة من السرد العفوي والمدروس في آن.
يعود القائد دائماً إلى الحكايات الأولى، فـ "حدقة "حرز" تدور باحثة عن المشاهد الأولى"، إلى طفولته، وإلى حكايا المرأة الأولى،"وكأنه محبوس داخل الصيغ البدئية". يتحدث عن أمه وعمه، وجدّه "حرث" وجدته "أرض" التي تتخذ الراوية من شخصيتها الفريدة والفذّة رمزاً أسطورياً وواقعاً غنياً بالقدرات، تعبر عنها بلغة جميلة حيّة "كان شعر أرض، المائل إلى الاحمرار يلمع كلهب من بعيد وتتجمع حوله العصافير، التي يخالها الناظر من بعيد، دخاناً أسود متطايراً من نار متأججة، وقال "حرث" إن ثمة عصافير ملونة وحمامات بيضاء وملونة أيضا، كانت تحط على رأسها"،"فصارت أرض منتجة لأعداد هائلة من بشر وورود وعصافير وحكايات، ورواية!"
لكن طفولة "حرز"، كانت مليئة بالكوابيس وأحلام اليقظة والخوف الذي كان يطارده "أينما اتجه"، و"لا أحد يصدق أن تلك هي نشأة القائد، نشأة مغمّسة بالرعب وصرخة الختام"، فيستعيد باستعادتها تركيبة شخصيات أجيال مختلفة، مترابطة المنشأ والمصير والآلام.


رواية مفعمة بالحياة، تؤرّخ تفاصيل معاناة شخصيات وسلالة، بأسلوب مميز وجذّاب وشديد الدلالة عن مضمونه، بلغة جمعت جمالية السرد والوصف وتنمية الخيال في آن.

رواية جديدة


بيروت ـ 'القدس العربي': صدرت عن دار الكوكب الشقيقة لشركة 'رياض الريس للكتب والنشر' ـ بيروت رواية جديدة للكاتبة السورية مها حسن بعنوان 'تراتيل العدم'. في هذه الرواية تعالج مها حسن موضوع الخلق والعدم بطريقة مبتكرة. أسماء من الطبيعة ولها دلالاتها: 'أرض ـ حرش ـ أسماء ـ إحياء ـ نداء ـ سماء ـ طهر ـ إتيان ـ زلزال. اسم الذكر للأنثى واسم الأنثى للذكر. ونصفُ آلهة نصف بشر.


عمل خيالي ـ أسطوري ـ لكنه ممهور بطبائع الانسان: حب، حقد، غضب، غيرة... الخ. وفيه تحذير متكرر (حذرتك الا ترتل هذا النشيد... ولن ينقذك من عذابك الا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك).
ومن الرواية نقتطف:
'وكان يحس انه خليط: واقع وحلم، منام وصحو، أحداث وقعت أحداث يظن أنها وقعت، وهي اما لم تقع، واما وقعت ونسيها، كأن يكون قد زرع أبناء في أرحام ما، أو أنه يتصور ذلك، خليط من أبوين مختلفي التكوين، من امرأة نصف حاضرة، وأكثر من نصف غائبة، وأب مسافر ومبتعد وفي شبه غياب تام، امرأة يشك بأصلها ومنشئها، وجدة سحرية وشبه أسطورية'.

الرواية تقع في 300 صفحة من الحجم الوسط

mercredi 21 octobre 2009

تحطيمُ جدرانِ الخيبةِ وتطويعُها


تحطيمُ جدرانِ الخيبةِ وتطويعُها
هيثم حسين
من «سيرة الآخر اللامتناهي» إلى سيرة الخيبة اللامتناهية بدورها، من سيرة الانقسام والتشظّي إلى سيرة الذوات الملغزة، سيرة القهر المتراكم، سيرة الأسى المستديم، سيرة الوجع المزمن.. وسير أخرى محاذية وموازية ومتقاطعة.. كأنّي بالكاتبة والروائيّة السوريّة مها حسن، في روايتها «لوحة الغلاف – جدران الخيبة أعلى»؛ «روايتها الثانية الصادرة عن دار عبد المنعم – ناشرون ط1/2002»، تستكمل «سيرة الآخر اللامتناهي»؛ «روايتها الأولى الصادرة عن دار الحوار ط1/1995»، من دون أن تحدّد له نهاية، أو بداية، إذ أنّ الآخر غير المعروف، يقترب من الواجهة، ولكن تحت مسمّيات أخرى، مع الاحتفاظ بكثير من الصفات السابقة، التي تتوسّع مداليلها، لتشمل بدائرة الاحتواء نماذج متباينة من البشر، تمارس إسقاطاً واعياً، تغوص في أعماق أنواتها، التي تحيلها ذوات شبه مستقلّة، ترتبط كلّها بخيوط لا مرئيّة بالشخصيّة المركزيّة، التي تلغّم كلّ شخصيّة تتفرّع عنها بطبائع وصفات تميّزها عن غيرها، تتقاطع معها من خلالها، لتستقلّ، أو ربّما تعيّشها وهمَ الاستقلاليّة الروائيّة، تختلق لكلّ منها ماضياً، وتختار له أحلاماً وتضع له مخطّطات ومشاريع مستقبليّة.. رغم اختلاف روايتها «لوحة الغلاف..»، عن «سيرة الآخر اللامتناهي»، لكن يستشفّ منها أنّها جزء غير معلَن لها، من حيث امتداديّة الشخصيّة، فأدهم بن ورقة، المتشظّي في الأزمنة والأمكنة، غير المحدّد تاريخ ميلاده ولا تاريخ موته، حيث أنّه يتناسل من نفسه، يتبعّض، يكون تارة نفسه، وتارة أخرى، يتحوّل أو يترقّى إلى أدهم بن يرقة، وفي كلّ مرّة تختار له ميلاداً جديداً، يتقمّص اسمه آخرين، يتوالد، يتجدّد. وكذلك كريم الحاوي يكون الفرد الجامع لكثيرين، يختصر أكثر من كريم، كأنّهم كلّهم انعكاس لاسم الكاتبة الذي هو جمع «مها» حيث تبدو وكأنّها تختصر أكثر من مهاة أو تنطوي عليها، وكأنّها باختيارها لشهرة الحاوي، تومئ أنّه يحوي جمع شخصيّات، تشي بذلك صفاته التي المتناقضة، وهناك أيضاً المقدّمة المتشابهة في الروايتين، حيث تحرص الروائيّة على الإرباك بقدر ما يُظنّ أنّها إنّما توضّح، حيث توحي أو تُوهم أنّها تكتب سيرة معيّنة، ذاكرة مصادر سيرتها، ومعلنة عنها.. ويستمرّ التضادّ فاعلاً ومؤثّراً في روايتها، كما في شخصيّاتها، فالحكمة التي بدأت بها روايتها الأولى على لسان أحد أداهـ:«مها»؛ «أدهم بن ورقة» الذي يكون وجهاً متعدّد الانعكاس والتمرئي متداخلاً مع كرائـ:«مها»: «الحياة قائمة على التناقض والتضادّ، لا على التماثل والتوازي».
يتبدّى ذلك بوضوح من خلال الثنائيّات التي تكثر منها، أو الازدواجيّات المتوالية التي تتواتر وتترى في الرواية، عملاً بمقولة إنّ الضدّ يظهر حسنه الضدّ، ومن تلك الثنائيّات العكوس: عالم الخارج في مواجهة عالم الخارج، ومن ذلك ما تقوله، عندما يدخل كريم الحاوي؛ بطلها، أو ندّها، أو المسكون بأفكارها وعوالمها، لباسه، أو عندما يخرج منها، على عكس المتعارف عليه من لبس للثياب أو شلح لها، «خرج كريم من بنطاله» ص62، وفي مواضع أخرى كثيرة، وكذلك، عالم الداخل، بمواجهة عالم الخارج، الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، والخارج بتملّقه ومسايرته وتراضياته واسترضاءاته. كذلك تحضر ثنائيّة الضوء والعتمة في أكثر من فصل في الرواية، وتكون هناك عتمة داخليّة وأخرى خارجيّة، وعلى العكس، يكون هناك ضوء داخليّ وآخر خارجيّ، وكلاهما يتداخلان ويتشابكان في عالم يجمعهما، مستخدمة في الوقت نفسه الفعل أنار وأضاء، تقول: «عندما دخلت عايدة غرفتي، وأضاءت النور، ظننت أنّ عايدة قد أضاءت نوراً بداخلي، تماماً بضغطها على زرّ الضوء، فانتشر ضوء لا أعلم مصدره تماماً، أمن الضوء الخارجيّ، أم من الداخل؟ وتغيّرت معالم الأشياء، أجل، هناك أشياء تتبدّل في الظلام، وتأخذ هيئات مختلفة في كلّ من العتمة والنور». ص64. كما أنّ هناك تقاطعاً رئيساً بين ثنائيتي الذكورة والأنوثة، لأنّها تُبادِل السرد بين المذكّر والمؤنّث، تارة تسرد على لسان كريم الحاوي، أو على لسان أمين، وتارة على لسان عايدة، أو خالدة، أو أيّة شخصيّة أخرى، وأحياناً كثيرة يكون هناك خلط بين متحدّثين، فيكون كريم متحدّثاً مع نفسه، وعايدة أو خالدة أيضاً متحدّثة مع نفسها مناجية وحدتها، مبدّدة الاستيحاش من حولها، «كان كريم الحاوي/ الذي هو أنا على ما يبدو أنا/ لم يندمج مع شقّه الثاني، لأنّه ـ بعيداً عنه ـ لا زال يبحث عن تفسيرات لتلك الأحاسيس المختلفة والمتناقضة..». ص68. ثمّ تصعّد من الحديث عن ذلك عندما تمارس نوعاً من الإيهام مبلبلة بعض اليقينيّان المترسّخة حول الذكورة والأنوثة، ناقلة الأنوثة من حالة إلى أخرى، «الأنوثة حالة داخليّة توحي للرجل بالسلوك الخارجيّ، نحن الرجال أغبياء، تستعمرنا النساء من الداخل، وتوحي إلينا بأنّنا الفاعلون، نحن أداة تنفيذ فقط، والمرأة هي المقرّرة الحقيقيّة…». ص72. ولا تغيب ثنائيّة الحاضر والماضي، والمعلوم والمجهول، المألوف واللامألوف، المرئيّ واللامرئيّ، الظاهر والخفيّ، يظهر ذلك بوضوح المقطع التالي المرفق كنموذج استشهاديّ: «كأنّ شخصاً يختبئ بداخلي، وجوده غير مرئيّ، ولا محسوس، له حياة كاملة تجري داخل حياتي، فكأنّ لي حياتين، واحدة معروفة، وهي التي أحملها وأعرفها، وأقدّمها للآخرين، ولي، وهي المألوفة، كونها ظاهريّة ومباشرة، وواحدة مطمورة تحيا في البعيد، تنتمي لعصور سابقة جدّاً، أو لاحقة..». ص81. وتكثر الكاتبة من ذكر الثنائيّات والمتقابلات، وتسهب في التعليق عليها، معتمدة تفلسفاً لا ينقطع على طول الرواية، من ألفها إلى يائها، حيث يكون علم النفس حاضراً، ولكن بمناقشات روائيّة مستفيضة، تقّدم من خلالها رؤى انقلابيّة ثوريّة باحثة عن إجابات لا تروي ظمأها، وفضولها الروائيّين، من خلال الأسئلة التي تصوغها وتعرضها على ألسنة شخصيّاتها، مستنكرة، صاخبة، ساخطة، متمرّدة، مستجنّة، تبحث في الوجود وغاياته، تظهر من خلالها مأخوذة بالعبث الوجوديّ، مناقشة الجدوى واللاجدوى من الحيَوات، متفائلة ومتشائمة، هادئة وثائرة.. كأنّها تكتب شيئاً من كلّ شيء، تطرح رؤوس أفكارها، لتكون ألغاماً في حقل الكتابة الروائيّة، التي تجتهد فيها الكاتبة، محاولة تقديم إبداعها، مبتدئة بالثورة على المفاهيم التجنيسيّة للأدب، تلك التي تصنّفه وفق ذكورة أو أنوثة، ومستهجنة أن يكون هناك إبداع مختلف، بل داعية إلى توحيد المصطلح والاكتفاء بمناقشة المطروح من دون أن يكون هناك انسياق وراء ضباب الرائج أو سراب المتجذّر على كره.. تقول في مقدّمتها حول ذلك: «فإذا راج اصطلاح الكتابة عبر النوعيّة، الذي يأخذ بالاعتبار نوعيّة الجنس الأدبيّ ووحدته في العمل، من قصّة أو رواية أو سيرة، فإنّ كريم يطمح إلى تكريس اصطلاح آخر هو الكتابة عبر الجنسيّة، فلا يأخذ النقّاد والقرّاء الاعتبار بجنس الكاتب، من ذكر أو أنثى، لأنّ الإبداع ليس ذكوريّاً فحسب، أو أنثويّاً فحسب، وإذا كان كريم قد كتب هذا العمل بقلم مها حسن، فلا فرق إن كان المؤلّف مها أو كريم أو أدهم..». ص4.
لعبة التعاريف:تعيد الكاتبة تعريف بعض المفاهيم وفق رؤاها الخاصّة، وتنظيراتها الروائيّة، تذكّر في ذلك بسليم بركات في تعريفاته، ولكن بلغة أكثر سلاسة، وأقرب إلى القارئ، فنراها تعرّف الصمت على أنّه صوت مكثّف، صوت مضغوط، يتحوّل إلى لا مسموع. ص29. لكنّ هذا الصمت يتحوّل في القسم الأخير من الرواية إلى حالة مخيفة، إلى موتٍ محتّم، «أنا أيضاً أهاب الصمت وأخافه، كما يهاب كلّ إنسان الموت، الصمت يشبه الموت بالنسبة لي، فكما أنّ الموت يخفي بعده حقائق بعد الموت، لأنّ أيّاً من الموتى لم يعد إلى الحياة لينقل لنا ما تمّ معه، وكذلك الصمت يخفي بعد، بُعده..». 306. وعندما تتحدّث عن العزلة، تختلف في ذلك عن عزلة باشلار الفلسفيّة، رغم لأنّ العزلة التي تقول بها هي فلسفيّة أيضاً، ولكنّ من جانب روائيّ فيه بعض الشطط، حيث تكون العزلة مكتوبة كقدر للإنسان لا فكاك منه، «العزلة قدر الإنسان» ص46، كأنّها بذلك تضعه في موازاة ومساواة مع الموت الذي هو أيضاً قدر لا مفرّ منه. وعندما تتحدّث عن التاريخ، تكون لشخصيّاتها تنظيرات مختلفة حوله، حيث التشاؤم سمة بادية بجلاء، تتّفق مع سارتر عندما تستعير مقولته حول التاريخ لتدعم رأيها، أو كأنّها تشرح وتفصّل في مقولته: «إنّ تاريخنا هو تاريخ إخفاق..»، عندما تكتب: «إنّ التاريخ العام للإنسان، تاريخ فاشل، السعادة فيه حالات استثنائيّة، الولادة أصلاً هي حالة إخفاق، صدمة الوجود.». ص52. ويكون لها/ لشخصيّاتها رأي مختلف عن الكسل والغناء والموسيقى والفنّ والحداثة، فنجدها تعرّف الكسل على لسان شخصيّتها: «الكسل حالة فكريّة وليس رفاهيّة..». ص86. مُضفية أبعاداً أخرى على حالات الكسل المعروفة. كما نجد كريم الحاوي يعرّف الغناء الذي تقوم به بأنّه انشغال أو تهرّب من الوحدة والوحشة، أي يتكفّل بتبديد وحشة الذات، ويؤمّن الاجتماعيّة التي هي نقيض السجن الداخليّ، أو الانعزال، على اعتبار أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ: «الغناء الذي تقومين به في وحدتك، هو حالة انشغال قصديّة عن التفكير… الغناء مثل الآخرين، ليست له مزايا جماليّة بقدر ما له ميزة إشغال الإنسان ليسلّيه في علاقته مع ذاته فيسلو عنها ويسهو، الغناء حالة جماهيريّة، تستدعي وجود الآخر، أي تستدعي الاحتكاك بالآخر».ص86. أمّا الموسيقى، فيكون لها مفعول آخر، مختلف عن الغناء، يكون لها تأثير بنّاء: «الموسيقا ترمّم انهيارات الذات، وتساعد على الوحدة مع الذات، والتسلسل في بنائها..». ص87. وعن الحداثة يكون هناك خروج عن المألوف أيضاً، فتكون الحداثة حالة شخصيّة داخليّة: «الحداثة يا أمينو هي الحداثة الداخليّة، التحرّر من عقد الموروث..». ص110. ثمّ تتبعه بتعريف آخر: «الحداثة هي الطعم الذي لا يفسد، بل يظلّ طازجاً على الدوام، وليست الحداثة مرتبطة بزمن معيّن، الحداثة ليست حالة زمنيّة، بل حداثة داخليّة، والداخل ليس له زمن كما تعرف..». ص111. وتتوالى التعريفات التي تتناول جوانب من الحداثة، أو تشمل المفهوم بشكل عام، تجعلها معنى، «الحداثة هي المعنى..». ص114. وتجعلها الأنا: «الحداثة هي الأنا..». ص115. هكذا تتوارد التعاريف المتباينة المتعدّدة، حتّى تصل إلى الخيبة، التي هي المدماك الذي تقوم عليها «لوحة الغلاف»، فجدران الخيبة تعلو وتعلو، غامرة الشخصيّات التي تنأسر لها، بل تصل إلى مرحلة قد تنشغف بها، ونجد الكاتبة تثبت تعاريف الخيبة، بطريقة مدرسيّة، عدا تعريفاتها الأخرى التي توزّعت هنا وهناك، وبنوع من المباشرة، على عكس التعاريف والتنظيرات الأخرى التي تخلّلت الحوارات والنقاشات التي كانت تديرها، فالخيبة تعرَّف على أنّها: «.. هي الوقوف على حافّة تفصل بين عالمين، اليأس والأمل، وهي تعني انتهاء الأمل ومغادرته تماماً، ولكنّها قبل الوقوع في اليأس.. – الخيبة هي إرث فكريّ مستمرّ، يتوالد في الأجيال. – الخيبة حالة فكريّة. – الخيبة صدمة انفعاليّة. – الخيبة صدمة فكريّة.». ص123. وكما بدأت بالخيبة فإنّها تختم بها أيضاً، وذلك عندما تثبت في الهوامش ما يدعم اشتغالها على الخيبة، وتفرّعاتها وتنوّعاتها، عندما تكتشف أنّ هناك فعلاً في اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة يعني التعذيب بالخيبة، ثمّ يكون هناك استشهاد بأسطورة يونانيّة، تدعم اجتهاداتها الروائيّة المشتغلة على الخيبة، محيطة بها إحاطة ثلاثيّة الأبعاد، مُرقّية الخيبة إلى تخييب، من دون أن تخيّب ظنّ القارئ في رواية تحقّق الآمال المعقودة منها: «إنّ أسطورة تاتنالوس من أساطير الشمس والفجر، إنّ تاتنالوس رمز للشمس، وقيل إنّ مثلاً قديماً قال: إنّ تاتنالوس يذبح ابنه ويشويه، ليدلّ القائل عن اليوم الذي تشتدّ فيه حرارة الشمس، فتذبل فيه الأشجار وتجفّ الفاكهة..! فكيف يصبح لفعل التعذيب بالتخييب أسطورة شمسيّة..! ألأنّ الشمس حالة خيبة، أم أنّ للخيبة جذوراً ضوئيّة، لم أعثر عليها بعد..؟!». ص 3535 -354.
إنّ «لوحة الغلاف» لـ مها حسن، تتّسم بالمناجَياتيّة، تركّز على لغة الدواخل، وما يعتمل فيها، كما تؤمن بدور الفرد في التغيير المنشود، وتختار الفردانيّة سبيلاً إلى التفرّد الذي يقود عملية التغيير الجذريّ، يؤكّد ذلك إهداؤها روايتها إلى «ذلك الفرد» وهي عبارة «كيركجور».. كما تعتني بالأبعاد وانطلاقتها في الأمداء والجهات، وتثير كثيراً من الأسئلة الفلسفيّة، بطريقة تبدو أن لا إجابة عليها، أو تحتاج إجابات كثيرة لتقترب منها، وذلك من خلال الشخصيّات التي تبدو وجوهاً ومرايا بعضها، سواء كانت ذكوريّة أو أنثويّة، من خلال حالات التقمّص والتماهي والتنكّر.. ومن تلك الشخصيّات: «كريم الحاوي/ أمين دالي، إبراهيم استانبولي، عايدة، خالدة،…إلخ». هي رواية مسكونة ومهجوسة ومأخوذة بهموم وجوديّة وعبثيّة، تجسّد الخيبة لتبدّدها، تمجّدها لتلعنها، تلهج بها في مسعى للقضاء عليها.. تحطّم جدران الخيبة، تلاينها، تسايرها، حتّى تتمّكن من تطويعها، وحَرْفها عن مسارها، قبل أن يكون لها وقعها أو أثرها في التخيّب، أو التخييب.. وأجزم أنّها لم تلقَ بعد حظّها من القراءة والنقد، كون النسخ المطبوعة منها قليلة، ووزّعت في إطار ضيّق..
الأوان تاريخ النشر الثلاثاء 7-4-2009

mardi 20 octobre 2009

شهادة على الفعل الدرامي

تستمهل مها حسن في بداية روايتها "تراتيل العدم" صورة الاحتراق. هذه المشهدية الموغلة بأدق دقائق استملاك لهبالنيران للجسد تلي ببضع صفحات، اقتباسا من "اوديب ملكا" لسوفوكليس. والحال ان التأرجح بين الشحنة الدرامية والرجوع الى الإرث التراجيدي الإغريقي، يجد مطرحه الرحب في المنطق الروائي. ذلك ان مبرراته مطبوعة في نثر يعرّج على التكثيف الوصفي في حين يكرّم الشغف بعالم التأويل. انه سرد ينقضي جلّه في مراكمة اصداء متواترة، وفي التمحور على الألم والمعاناة المتأتيين من معاندة المرء للإملاءات على انواعها. في رواية الكاتبة السورية الصادرة لدى "رياض الريس للكتب والنشر - منشورات الكوكب" والتي تريد ان تصير تراجيديا محلية بشخصيات تتحدث بلسان عربي ولها من الميثولوجيا والاسطورة والتأريخ الكثير، تتظهر من دون خفر محاولة تجري على اكثر من صعيد لتلبس فضيلة المسرح الاغريقي. ذلك انه وفي موازاة الاستعانة باللغز والمقدس والتورية، وفي غواية الترميز والاسقاطات، تخرج الرواية منذ السطر الاستهلالي على مناخ الصيغ الكلاسيكية المتداولة. ثمة طواعية بنيوية من طريق مخطط بياني يجعل المقدمة تتصل بالفصل الأول الذي يتولى التعريف بالشخصيات، وبالفصل الثاني الموكل بالحوادث، فضلا عن فصل ثالث يؤذن ببداية الرواية على نحو رسمي، ناهيك بفصل إضافي وملحق اول وملحق ثان. اما الراوية، فتتعمد ان تكسر الجدار العازل بين الحقيقة التخييلية وتخييل الحقيقة، فتظهر من خلف ضمير المتكلم مبرِّرةً لماذا تلوذ القصة بقلمها في المحصلة، كتركة ورثتها من شخصيتي جدار وجوزفين. هذا الاقحام لشبكة امان الرواية في هيئتها الامتثالية، يسهّل الدخول في حال من التفلت الزمني ويجعل تقبل الاستدعاءات النصية الروحانية التي لا تبخل بها "تراتيل العدم"، واردا في كل لحظة. ليتحول عندئذ الحلم صنو اليقظة بل الممر الملحّ اليها، وتمسي الحياة نسخة عن حياة اخرى. نقع في الرواية على لازمتين. تبدأ اولاها بقول "تجري حوادث هذه الرواية بأزمنتها المتعددة على خلفية مشهد احتراقه"، في حين يذكر مطلع ثانيها "حذرتك الا ترتل هذا النشيد فيسكن في ذاكرتك". تم ايراد هذين المقطعين الاعتراضيين عمدا بخط طباعي عريض، ليسعهما على هذا المنوال، اعادة بعث ايقاع السرد الموزع في اكثر من حقبة. في تقليد أدب الاغريق دائما، تحمل هاتان اللازمتان في باطنهما قدرة ابتهالية ايضا. كأنهما من طريق التكرار، تلعبان دور الكورس المؤلف من مؤدّين يصيرون جسما واحدا، ولا دور لهم سوى ان يشهدوا على الفعل الدرامي. اما في رواية مها حسن، فيبدو هذان الاعتراضان النصيان في الظاهر على هامش السياق العام، غير انهما يتفاعلان مع النماذج الرئيسية ويوفران التعليقات المناسبة في شأن الحوادث. في الوقت عينه تستبقي الرواية التكرار في تراكيب الجمل وتستنفد التعابير ذات الجذر الواحد، على نسق "كانت اغماء تتم اغماءتها"، فضلاً عن سعيها الدؤوب الى مدّ الجمل بما يشبه بطاقة التعريف الاضافية، او لنقل الشرح الاستكمالي من قبيل "ما دار بين عناد وحرز - الحوار الذي جرى بينهما!" أو "تعليقات من إحداهن على احداهن". هذا التغييب للفاعل تمارسه مها حسن مواربة، على مد الحكاية. تجيء المرأة على هذا النحو في حوّاءات مختلفة وتتمثل ايضا في الأفعى الناطقة الشيطانية في موروثنا، والحاضرة ها هنا. في مناخ من وشوشات كائنات لامرئية مجهولة النوع والهوية، لكأنها عفاريت تخرج من سلسلة "نزوات" الرسام غويا، الخارجة من قمقم سفلي، يسود بحث المرأة على تعريف لذاتها، وثمة تشديد على ذلك من خلال اعتبارها صانعة الرواية، وفي الحد الادنى "احدى صانعات الرواية". هذا اللعب الذي يغزر في "تراتيل العدم"، يلازم انتهاك صيغة النص الاحادية. تظهر الراوية، في لحظة، هي التي لا تني تتوارى، لتعبّر جهارا عن تفضيلها ثالثة الصيغ التي ترتئيها لحكايتها لأنها الوحيدة في وسعها أن تمنحها الخلاص، على ما تعلن. أما الصائب فلا انقطاع فعلياً بين الاشكال المقترحة. ذلك ان اساءة تفسير أحدها يؤدي الى اساءة فهم ثانيها واساءة الحكم على ثالثها. اما العمّ الذي يمثل بالنسبة الى شخصية حرز الرجل - الرجال وصورة الاب المضاد، فيلعب دور الارادة الالهية او السلطة الزمنية الموقتة التي يرغب في الانقضاض عليها. يجرّب حرز التحدي ونبذ الاستسلام لمشيئة القدر والظروف كسبيل يوصل الى الاصغاء الى حاجة باطنية تقود الى تجلّ مميت. تلاحق "تراتيل العدم" تنحّينا المتواصل وعلاقاتنا المهشّمة بالطبيعة والتاريخ وأنفسنا
رلى راشد
عن النهار

تراتيل العدم ـ الصيغة الأبدية



خالد سليمان
تراتيل العدم، عنوان رواية جديدة صدرت للروائية الكردية السورية مها حسن عن دار الكوكب التابعة لشركة «رياض الريس للكتب والنشر» ـ بيروت. وهذه الرواية التي تبدأ بترتيلة تتكرر في السرد الروائي وتنبني عليها مصائر شخصياتها، هي العمل الثالث للكاتبة بعد الأول «سيرة الآخر اللامتناهي» ١٩٩٥ والثاني «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى»٢٠٠٢. كما عُرفت الكاتبة مها حسن كناشطة في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات العامة وحصلت على جائزة (هيلمان – هاميت) التي تمنحها منظمة (هيومان رايتس ووتش) لعام ٢٠٠٥. تبدأ الكاتبة السرد الروائي بترتيلة تقول: «حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تمون وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». وتتكرر هذه الترتيلة في مجمل خارطة النص الذي تدور فكرته حول الخلق والعدم، كما تحاول الروائية جعلها صيغة ترسم من خلالها طبيعة الرواية وأبطالها المتخيلة بأسمائها وسماتها وعلاقاتها ومجيئها إلى الكون. ففي المستوى البياني الأول تتنوع أسماء الشخصيات بين حرز، أرض، طُهر، سماء، سيماء، عناد، شمس، إغماء، حرث، وهناك كائنات خرافية تدخل في نسق الرواية على هيئة الإنسان مثل الأفاعي والكلاب وتؤدي أدواراً نلاحظها ونسمعها غالباً في قصص الخلق والنصوص الدينية كما في الحكايات الشعبية والقصص المتخيلة في ذاكرة الشعوب. حرز، الذي هو البطل الغائب والدائم الحضور في تراتيل العدم، تدور عنه الروايات والأحاديث والشكوك، في حين تبدأ الكاتبة الحكاية بالحديث عن رماد جثته التي احترقت فوق كومة من القش بفعل ذاتي محض. حرز، هو سليل امرأة اسمها أرض تتحكم بأمور قلعة تتوزع سمات سكانها بين الخرافة والأسطورة والدين، ذاك ان الولادات والأعمار والعلاقات والحياة والموت فيها، تتكون بمقتضى نص أو صيغة تسميها الروائية بــ«تلك الصيغة»؛ وهي في جوهرها عقد داخلي بين سكان القلعة ويكمن سرّه ومفتاحه في أي شيء تبوح به الجدة الأكبر «أرض». تالياً، يمكن اعتبار ترتيلة البداية والتي تتكرر في النص مثل تلك الأشعار والمناجاة التي تقولها الجوقة في المسرحيات اليونانية القديمة، عقداً ورابطاً بين ما يمكن وصفها بالواقع المتمثل بسلطة الكاتبة وكيفية رسمها لمصائر الشخصيات، وبين ما يمكن اعتباره بعالم تتشكل ملامحه من الأساطير والأديان والحكايات الخرافية. وهناك تداخل افتراضي في سرد «العقد» هذا، تلتجئ فيه الروائية إلى إيجاد ساردتين أُخريين تشاركانها في لملمة الحكايات وإدراجها ضمن نقاشات يمكن وصفها بالهوامش الروائية، وهما (جوزفين وجدار). تتضح هذه الصورة بعد قراءة صفحات كثيرة من الرواية حيث صور شخصية حرز المتحولة بين القهر الطفولي والفحولة وبين الشك في أُصوله المتسمة بشيء من العدمية، فهو قبل أن يصبح رجلاً ويتحرر من سخريات عمه «طهر» وقسوة أُمه «إغماء» ومحاولاته المتكررة للتخلص من عضوه الذكري وإستهباله من قبل غالبية سكان القلعة، يبدو كشخص دون أصول بشرية. يعترف له والده بأنه ليس منه ولا يستبعد أن يكون من بذرة علاقة أُمه مع كائن بدا على هيئة كلب وكان يتحول كما رآه مرة إلى إنسان مثلنا، وقد لاحظ قدميه في غرفة زوجته «إغماء» قبل ذلك التحول حيث كانتا مثل أقدام بط، حيث الأغشية بدل الأصابع. ومذ ذاك لم يعتبر «عناد» الأب حرز ابناً له بعدما اكتشف علاقة إغماء بذلك الكائن «المتحول» بين الإنسان والبط والكلب. ولكن الأُم تعتبره إبناً حقيقياً لأبيه الذي كلما مارس الحب معها شعرت بألم غشاء بكارتها بذات القوة التي شعرت بها للمرة الأولى، ولذلك كانت تقسو عليه كلما حممّته ورأت عضوه الذكري، ذاك ان عضو الصغير كان يذكرها بذلك الألم الذي أدخله عناد مراراً إلى أحشائها. أناشيد زرادشتيه هناك بعد آخر في هذه العلاقة الشائكة التي تضع شخصيات الرواية أمام فكرة الاستبداد بالجسد وحيواته وغرائزه، وهو حضور «الجنين المسيحي » في أحشاء نساء القلعة، فمنهن ينتفخ بطنها دون الحاجة إلى الرجال وألم غشاء البكارة، وكأن هناك إلهة تنفخ في بطونهن وتزرع فيها بذور الخصوبة دون الحاجة إلى عنصر الفحولة. ولا تبدو الكاتبة هنا متأثرة بقصة «العذراء» بقدر تأثرها بقصة روح المياه المتمثلة بالإلهة «آناهيد» في الديانة الزرادشتية. ومن بين التراتيل الزرادشتية هناك ترتيلة تسمى بــ«ابان نيايبشن» تتلى في النهار قرب الأنهار والينابيع وعند مشاهد جريان المياه، إذ تجري فيها الإشارة إلى الإلهة «أرديفيزور» تقوم بتطهير البذور من عنصر الفحولة وتطهير الأرحام لدى جميع الإناث لتجعلها قادرة على الإنجاب، كما انها تقوم بجعل الحليب يتدفق لدى الإناث بما يلزم وكما يلزم. فحين تضع «حداد» زوجة حرز مولودها، يُعتقد بأنها حين كانت تستحم في البحيرة مع صبايا أُخريات ودون ان تعرف، تسرّبت إلى أحشائها كائنات لامرئية وانتفخ بطنها. ولئن بدا حرز كائناً واعياً لغموض هذه العلاقة التي تجرّد الذكور من ذكوريتهم وتضعهم أمام سلطة حكايات النسوة، ومدركاً في ذات الوقت لحيوات جسده بعدما كان مشروعاً لسادية أنثوية مجسدة في سلوك الأُم، تحول إلى رماد يهابه الجميع. فهو إذ ذاق مأسآة الواقع والحلم، المنام واليقظة، أحداث وقعت ونسيها، أحداث بقي ملكاً للغموض، أم لم تقع أساساً، بقي كائناً لا تحتمله ذاته في النهاية. وهو فوق ذلك إبن فكرة خرافية يُمعنن وجوده فيها من خلال زرع الأبناء في الأرحام المشاعة، أنه تالياً، خليط من أبوين مختلفي التكوين، من امرأة نصف حاضرة، وأكثر من نصف غائبة، وأب مسافر ومبتعد وفي شبه غياب تام، امرأة يشك بأصلها ومنشئها، وجدة سحرية وشبه أسطورية. وهذه الأخيرة، إنما هي صاحبة فكّ جميع الرموز و«تلك الصيغة» المتمثلة بإنسان مطلوب وطالب. تعالج مها حسن في هذه الرواية معادلة مستعصية في ما خص موضوع الخلق والعدم، وهي؛ هل نحن من صنع النص أم النص هو الذي صنعنا وأجاد لنا العالم؟ انه سؤال ظل يعرّضنا للأخطار ويضعنا في قلب قصص الخلق والأساطير والأديان. فنحن دون إدراك منطقي للأشياء نعيد إنتاج النصوص الدينية والأسطورية في حياتنا، وتتشكل منها رؤيتنا للكون والعلاقات والمحرّمات والنجاسة والطهر، كما اننا نختبر كل لحظة من وجودنا في تلك اللحظة النفسية القلقة، والتي يسمي سيغموند فرويد ضحاياها بــ«عصاب الصدمة». ذاك ان الفرق بين الواقع والمتخيل يتلاشى في «النص القدسي» الذي طالما افتقد الإسنان فيه قدرة الطلاق معه. ففي هذا الثاني إذ يلوح الإنشاء فيه إلى تقارب نصوص جميع الأديان والأساطير في ما خص عدمية الإنسان أمام «الصيغة الأبدية»، يبدو الحلم وسماتها «اللازمنية» السائلة في الرغبة والعقاب شيئاً مشابهاً للواقع، بل بديل له. من يقرأ رواية تراتيل العدم، يشعر انه أمام نص يرجع تاريخ كتابته إلى زمن إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس، وذلك من خلال تكرار تلك اللحظة التي تبدأ فيها تراجيديا البطل زمناً وكتابةً وسياقاً. ففي المسرحيات اليونانية القديمة تظهر الجوقة كلما مرّت فترة على ولادة المأساة وتعيد المتلقي إلى بدايات القصة أو تذكّره به، وفي جوهر هذا الطقس المسرحي عقاب وتطهير فرضه التفكير الإغريقي في الفنون والفلسفة والمعارف العامة. وفي النص الديني أيضاً، يبدو التذكير بالعقاب والتطهير كحضور مطلق في حياة الأفراد، فثمة إثم دائم ينتظر الإنسان، أو خطيئة يليها عقاب. انه تالياً نص عن عالم تصنع فيه التراتيل الدينية والأسطورية مجتمع غير قادر على اختراق الوجود المرسوم له، ومن يبحث عن أسرار الأشياء فيتحول إلى الرماد. ذاك ان الصيغة الأبدية التي يحاط بها الأفراد، هي ليست نصاًَ مكتوباً فحسب، بل جزء من كينونة الأفراد ورؤيـــتهم لذواتــهم دون الاقتراب من لحظة تسمــيها الروائية بلحظة (الزلزال الأعظم). وهي كما تشير في هامش صفحة من الرواية تقتبس هذا التعبير من الفيلسوف الدنماركي «كير كيغارد» لتصف بها تلك اللحظة التي يكتشف فيها حرز اللذة الجنسية. تدخل مها حسن في عالم تتشكل معالمه من أسماء وأحداث وأقدار ومصائر متخيلة، إنما هي في الوقت ذاته مصائر تؤسس لوجود الشخصيات معاني في حكايات أصبحت من الذاكرة والثقافات الشفاهية للشعوب. فجميع شخصيات الرواية اسطورية كما تمت الإشارة وليست لها علاقة ما بالواقع المعاش، وهي شخصيات ذات ممارسات واقعية مثل الغرائز والغيرة والطموح والشك واليقين والسيطرة والخضوع أيضاً. (كاتب عراقي مقيم في كندا)
عن السفير الثقافي

«تراتيل العدم»: لـ: مها حسن



هيثم حسين
يبدو انهمام الروائيّة السوريّة مها حسن بالتجديد في الصيغ التي تقدّم بها رواياتها، يتبدّى تمرّدها على القوالب الجاهزة التي باتت مقيّدة في الرواية، كأنّها تبحث عن لغز تسعى إلى حلّ شيفراته مع القرّاء الذين لا تبقيهم متلقّين فقط، بل تُشركهم في عمليّة البحث عن الدلالات والأبعاد المتضمّنة، لا ترتكن إلى تلك الطرق التي تُكتَب بها الروايات عادة، سواء من ناحية تقسيمها على فصول متسلسلة، أو سردها على لسان رواة بعينهم.
أو من ناحية الالتزام بالعناصر المتعارَف عليها في كتابة الرواية، إذ تخرج عن ذاك التسلسل المختصَر في: المقدَّمة، الحبكة، الحلّ. فقد تبدأ بحبكة ثمّ تبدأ بالبحث عن خيوطها، وتنتهي إلى مقدّمة متأخّرة، أو لا يهمّها أن تثبت مقدّمة أو انفراجاً للحوادث والمجريات التي لا تصل إلى ذروة التأزيم عندها، هذا لا يعني غياب التشويق، ذلك أنّ التشويق والإثارة والغرائبيّة تكون مبثوثة على مدار صفحات الرواية.. تحضر ثورتها الزمنيّة الاجتهاديّة في رواياتها، التي لا يكون الزمن فيها محدّداً ولا واضحاً، لا يقبض على الزمن فيها، إنّما تكون هناك خيوطا تكفل للمتابع بعض المتابعة والتقصّي، ثمّ تحرّضه على البحث عن مفاتيح للدخول إلى بوّابة الزمن الذي لا يكون نسبيّاً عندها، بل يكون دائريّاً التفافيّاً، أو لولبيّاً، يقود الحدث الأخير فيه إلى الأوّل ويحيل عليه، لتتكامل الأحداث متمّمة نسيج الرواية، التي تسير وفق خطوط متعدّدة منذ البداية، التي قد تكون نهاية الرواية الفعليّة، والبداية المفترضة لها.. هذا ما تطوّره في روايتها «تراتيل العدم» الصادرة حديثاً عن دار الكوكب/ الريّس، والتي تقع في 298 صفحة من القطع الوسط. ط1/نيسان 2009م.
تبتدئ الكاتبة في روايتها بمقولة لسوفوكليس: «مَن حلّ اللغز ذائع الصيت وكان أشدّ الرجال اقتداراً»، هي عبارة عن بيت من تراجيديا «أوديب ملكاً» حيث كانت منقوشة على ميداليّة، أهديت الميداليّة إلى فرويد من أحد تلامذته في أحد أعياد ميلاده. لا يقتصر الأمر على استشهاد وحيد، بل يتصاعد الأمر، لتكون ظلال فرويد حاضرة، مع كثيرين من المفكّرين والفلاسفة الآخرين، وذلك من خلال الاستشهادات الكثيرة التي تستشهد بها الكاتبة، وتثبتها كمراجع أو تذييلات، وهذا بدوره قد يثقل كاهل الرواية، من حيث تقريبها من الدراسة، بتثبيت الهوامش، التي بلغت أكثر من ثلاثين هامشاً وإشارة. كما أنّه، في الوقت نفسه، خروج وتمرّد على الطريقة الكلاسيكيّة في كتابة الرواية، بإجراء دمج بين الأجناس الأدبيّة والتنظيرات والاجتهادات الفكريّة والفلسفيّة..
قد تحيل مفردة «تراتيل» إلى جوانب دينيّة، لاسيّما أنّ الترتيل معروف في النصوص والأناشيد الدينيّة، كما قد تحيل عند إضافتها إلى العدم، أنّها تنشد العدم، أو تجعل منه أغاني يمكن إنشادها وترتيلها، أو أنّها مراثي الموت، حيث يكون الترتيل على الموتى نوعاً من التقدير لذكراهم مع إضفاء الأجواء الكنسيّة، أو العويل الصاخب.. وقد يكون ذلك نوعاً من التحايل على المعنى بقلبه، حيث ينقلب العدم إلى الضدّ عندما يغدو مضافاً إليه، لغة، يعرّفه معنىً، فيكون العدم فاعلاً عكس فعله المعروف عنه، أي يصبح وجوداً باللغة والرواية، وإن كان إلغاء لهذا الوجود مفرداً. وتكون التراتيل المعاد ترتيلها على مدار صفحات الرواية، كاملة حيناً ومُجتزأة أحياناً أخرى، منها هذا الترتيل الرئيس المتكرّر: «حذّرتك ألاّ ترتّل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تموت وتشمّ رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلاّ عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». ص10. كما يكون الحضّ على الترتيل يكون التحذير أيضاً مرافقاً له، ثمّ يتكرّر هذا الترتيل كثيراً، إمّا كاملاً أو مجتزأ، فقد ترِد منه جملة أو بضع جمل، وقد يرد كاملاً، ويغدو لازمة ترتّلها الشخصيّات التي يتباين تنغيمها، ويختلف إيقاع إنشادها وغنائها. من الصفحات التي يرد فيها الترتيل منقوصاً: «24، 60، 78، 134، 152، 275...».
منذ البداية يظهر حرص الكاتبة على إكمال ما بدأته في روايتيها السابقتين «سيرة الآخر، اللامنتهي»، «لوحة الغلاف، جدران الخيبة أعلى»، كأنّما تستكمل ثلاثيّة فكريّة، من خلال إكمال مشروعها الروائيّ، خاصّة في المقدَّمة التي تتشابه فيما بينها، من جهة مشاركة الشخصيّات الروائيّة للكاتبة في إنجاز روايتها، وحيرتها المثبتة في تذييل الرواية باسمها، تكتب في مقدَّمة «تراتيل العدم»: «في البدء كانت هذه الرواية لـ جدار، ثمّ انتقلت كتابتها إلى جوزفين، ولأسباب محض فنّيّة، أنجزت العمل باسمي أنا....». كأنّما الشخصيّات هي تسميات مؤنّثة أو مطوّرة لشخصيّاتها السابقة: «أدهم بن ورقة – يرقة، أو كريم الحاوي، أمين دالي»، وذلك مع إبقاء قارئها متأرجحاً بين الشكّ واليقين، بين بحث عن راوياتها في الفصول، وفي الواقع، وفي كلّ المَظانّ المحتملة، وانشغالا بالقراءة عنهنّ، فهي تُبقي الشكّ فاعلاً ومؤثّراً، عندما لا تنفي إمكانيّة العثور على الشخصيّات، كما لا تنفي خياليّتها، لتكون بالنتيجة، شخصيّات روائيّة، مركّبة من مزيج واقعيّ وآخر متخيَّل، تشارك في صنع الأحداث وكتابتها. «تتحوّل أزمنة القصّ، وتتعدّد مستويات القصّ، وتتبختر روايات العمل، وتختلط ضمائر الرواة بين حِرز، وإغماء، وسماء، ولا يستقرّ فعل القصّ على الثلاثة فقط بل يتدخّل كلّ مَن له باع في الرواية...». ص43.
تبقى الكاتبة وفيّة لفكرة تعدّد الرواة في العمل، عندما تسلّم مقاليد السرد من جوزفين إلى جدار أو إلى نفسها، لكنّ الأسلوب يبقى نفسه بين الراويات الثلاث حيث لا تنوّع في الأسلوب، ما يرسَّخ الظنّ بأنّهنّ وجوه متعدّدة في مرآتها الذاتيّة ذات الأبعاد الكثيرة، التي تعكس غنى الشخصيّة، القادرة على الإفصاح عن مكنونات النفس، وهي تعاود أكثر من مرّة ذكر الراويات الثلاث، سواء عند مبادلة السرد بينهنّ أو عند الحديث عنهنّ، ولا تخفي ظنّها بأنّ الاشتراك قد يكون مضرّاً، لكنّها تبرّر ذلك بالضرورة الفنّيّة والفكريّة، «وأنا أرى أنّه كما سار المثل «إذا تعدّدت الأيادي في الطبخة، احترقت!»، وأرى أيضاً أنّ الضرورة الفنّيّة والفكريّة تلزمني باعتماد مستويات القصّ الثلاثة ومراحله الثلاث، والاعتراف بكلّ ما جاء في المرحلتين السابقتين للقصّ». ص81- 82.
كما أنّها توجّه نقداً استباقيّاً إلى نفسها، على ألسنة الرواة، وهو أنّها تُنتقد على ولعها واهتمامها بتقديم الجانب الفكريّ في رواياتها على الفنّيّ، وهي بذلك تبرّر تصرّفها، وتردّ على نقّادها، ساحبة بساط الملاحظة منهم، متّخذة دور الكاتب والناقد معاً، لكنّها وهي تؤكّد ذلك، تعتمده ولا تبتعد عنه، يؤكّد ذلك دأبها على الاستشهاد بالمفكّرين والفلاسفة الذين تأثّرت بهم في كتابتها وتأويلها، حيث تكون الميثولوجيّات والتأويلات الفلسفيّة حاضرة، للتعليق على بعض السلوكيّات والتصرّفات، أو ربطها بأسطورة ما، أو وضعها في سياقها التاريخيّ، مع شرح لبعض تداعياتها، وذلك كلّه في سياق الرواية، تلميحاً وتصريحاً..

-الأسماء ودلالاتها:
كون هناك تركيزا، يكاد يكون مبالغاً، على استحضار الأسماء، يبلغ عددها حوالي مِائة اسم، تثبت دليلاً بها في نهاية الرواية، كملحق أوّل وثانٍ، تكون كلّها متحدّرة من الأم «أرض» ابنة أرضى ويرضى، والأب: «حِرث»، كأنّما يختصران حوّاء وآدم، ينجبان التوائم، اثني عشر توْأَماً، في حين يأتي المولود الثالث عشر ذكراً مفرداً «طُهر»، وكأنّه بتسميته بهذه التسمية قد يشكّل سبيل الخلاص للعائلة التي تحيا في قلعة واحدة، ولأجيال متعاقبة، حيث ينفرد بمسكن مستقلّ، ويفكّر بطريقة عقلانيّة، يكون العلمانيّ الوحيد الذي لا ينساق إلى استيهامات العائلة والآخرين حول قدرات أمّه الخارقة «أرض» التي تغدو محجّاً للزوّار يتبرّكون بها.
ترد الأسماء بشكل مدروس، حيث يكون الاسم دالاً على صاحبه، معنىً ومبنىً، فنجدها تبرّر سبب تسمية هذا أو ذاك، أو تعلّق عليها، فيكون الاسم صفة صاحبه، يكون وبَالاً على صاحبه إذا لم يكن مستحقّاً للاسم، أو مقدّراً ومُدركاً لأهمّيّة وثقل ما حُمّله: «حين وُلِد حِرز، ظلّ لعدّة أسابيع دون اسم، إذ لم تكن اسمه تستطيع إدراك أهمّيّة الاسم في حياة الإنسان، ولم يكن أبوه مهتمّاً بتسميته، لأنّه بإدراكه لأهمّيّة الاسم، لم يشأ المساهمة في تحديد هذا الكائن الذي لم يعرف مصدره، فهو إن أطلق عليه اسماً سيّئاً، حبس الولد فيه، وقد يكون ابنه، أمّا لو أطلق عليه اسماً هامّاً، فقد يسبغ عليه صفات لا يستحقّها مَن هو ليس بابنه....».. «فهمست في أذنه: أسمّيك حرز، لأحميك باسمك، من الوقع في أسر ما أسِرّ لي، إلى أنّه سيقع عليك، سوف تنسى ما قلته لك، وتتذكّر فقط أنّ اسمك هو حِرز..». ص31. كما قد يكون الاسم حامياً لا لصاحبه فقط، بل متعدّي ومتعدّد الحماية، فنجد أنّ نجمة تتحصّن بحرز، يحميها اسمه.
قد تكون الألقاب مستحضرة بالموازاة مع الأسماء: «وظهرت أفعوانة (وهذا لقبها الذي كانت تناديه بها أرض قبل أن تعرف اسمها)، فينقلب المعنى الذي تحمله حسب الشخصيّة التي تتّسم بها المسمّاة، وهي هنا، لا تظهر دوماً على أنّها شكل واحد أو أداء واحد، بل هي خليط من أفعال مندمجة، وشخصيّات مندمجة ورغبات وتكوينات». ص 52. وهي مع إيرادها لهذا الكمّ الكبير من الأسماء، تعترف بصعوبة الإحاطة بها كلّها، وتؤكّد أنّ الأبوين كانا يفشلان دوماً في تذكّر أسماء أبنائهم حسب تسلسل ولاداتهم، وكانا يخطئان في مناداتهم بأسمائهم في كثير من الأحيان، ولم يكن الفشل حال الأبوين فحسب، بل كان من نصيب الإخوة كذلك، حيث كانوا يحتاجون إلى دليل بالأسماء مع الصور، كي يتمكّنوا من مناداة الشخص المطلوب باسمه الصحيح. وتنتقل عدوى الفشل إلى القرّاء الذين يعاودون الرجوع إلى دليل الأسماء كي يربطوا بينها، ويستخرجوا العلاقات التي تتطوّر على إثرها.. فقد يتغيّر الاسم تبعاً للحالة، وقد يحوّل أحدهم اسمه أو يتلاعب به، «حوّلت اسمها من سيما إلى سيمياء..». ص205. تنتقل الدلالة إلى الترميز والتلغيز، فلا تعود الأسماء دالّة بل مرمزة ومتشظّية في آن.. تصبح هناك أسماء سرّيّة وأخرى معلنة..
لا يخفى الضجيج الذي تخلقه كثرة الأسماء للقارئ، ولا تبدو الكاتبة لا مبالية إزاء القارئ، بل تأخذ نفسيّته بعين الاعتبار، تعلن أنّها بصدد إراحته، وتخفيف العبء عنه، تتكلّم إليه مباشرة، مزيحة الستار بينها وبينه، غير متخفّية خلف راوياتها، تلخّص له بإيجاز مُجملَ ما مرّ وما سيمرّ معه، كي يكون على اطّلاع في إبحاره في عوالمها الروائيّة: «يستطيع القارئ الآن، الاسترخاء، من ضجيج الأسماء والأحداث، قبل أن يدخل إلى الفصل الثالث، لأنّه بعد أن كان الفصل الأوّل، هو التعريف بالأسماء/ أو الأشخاص، وجاء الفصل الثاني للتعريف بالأحداث، سنبدأ في الفصل الثالث بالرواية، وكلّ ما سبق كان تمهيداً للرواية، التي تبدأ الآن، شدّوا الأحزمة سنقلع في الصفحة التالية». ص210.
كما يكون هناك استحضار التأويل والحلم، الفكر والوهم، الدين والعلم، وكلّها في سياقات روائيّة، وعلى ألسنة الرواة والشخصيّات، كأنّما تقدّم الكاتبة شيئاً من كلّ شيء، في محاكاة روائيّة لرائعة ماركيز «مِائة عام من العزلة»، حيث الأجواء الغرائبيّة السحريّة والساحرة، وحيث التناسل والانئِسار لسلطات خارجة عن المألوف، ما يؤدّي إلى فناء واندثار الشخصيّات، فلا تعود القلعة التي تجمع الجميع وحيدة وشامخة، بل تتثنّى وتتثلّث، تخرج عن المسار المحدّد لها، يكون ذلك إنذاراً بالكارثة الوشيكة الوقوع، كما يكون تمهيداً للعدم كنتيجة حتميّة. يكون كلّ ما سبق من الألغاز مقدّمات للفناء.. يكون قائد الأوركسترا الذي تجري أحداث الرواية على خلفيّة مشهد احتراقه، ضحيّة الضحايا، يقود عشرات الشخصيّات ويملي الأحداث التي كانت مصدر الآلام لهم جميعاً..
أجيال متعدّدة تتكاثر، تنقل العدوى من جيل إلى آخر، لكنّ جينة الجنون والتخبّط تكون الأكثر فاعليّة.. فحِرز حفيد حِرث الذي يرث منه ثلثي اسمه، يتعرّض لتغيّرات مفاجئة تجتاحه، تقلبه رأساً على عقب، تحوّله من شخص إلى آخر، يقبع الجنس خلفيّة لتلك التغيّرات التي تبدو مفاجئة، لينتقل من خوّاف من كلّ شيء، من ناقم على «ذاكه»، عضوه الصغير الذي أشبه ما يكون بزائدة لحميّة أو دودة ملتصقة به، إلى عاشق للجنس، فاتح الفتوحات فيه، منتقل من واحدة إلى أخرى، في لعبة الأنوثة والذكورة، التي تتحوّل إلى فحولة، حيث يكون خوافه مَرضيّاً، يغدو تعويضه أكثر مرضيّة.. كما أنّ هناك الكثير الكثير من الأحداث والوقائع والحكم والعبر تقدّمها الكاتبة في روايتها، عبر الأسماء والأحداث تارة، وبشكل مباشر من دون تورية أو مواربة تارة أخرى..
«تراتيل العدم» لمها حسن، روايةٌ لتواريخ نمَتْ في الظلّ، وألقت بظلالها على كثيرين.. رواية الأسماء؛ الدوالّ والمداليل، محاولة لاختصار سير ومراحل عديدة.. تسرد التطوّر المفترض المهمّش، عبر التغلغل في قلب الصراعات والخرافات والأساطير، عبر وصف حالات متباينة، تتكامل لتنتج عالماً روائيّاً سحريّاً ثريّاً.. عن جريدة الاتحاد

حليمة في كريتيي

حليمة هي جدتي التي ماتت، كما أظن، منذ عشرة سنوات على الأقل، وهي إحدى جداتي الثلاث وأقربهن إلي، حيث اعتدنا، نحن أحفادهن، على مناداتهن بأصولهن، فنقول عن حليمة، جدتي الكردية، وعن سامية، جدتي العربية، وعن زينب، جدتي التركية. إذن، إن حليمة هي جدتي التي يفترض أنها ماتت منذ سنوات.
أما كريتيي فهو اسم مدينة صغيرة مجاورة لمدينة باريس الرحبة، حيث تسكن جانين، وحيث أزورها من وقت لآخر. و جانين، هي الجدة المفترضة، لطفل ما لم أنجبه بعد وقد لا يأتي.
كان من المفترض أن تستسلم حليمة للموت الذي رحلت معه منذ سنوات، إلا أنها، كما يبدو لي، لم تقتنع بموتها، الذي وهبت إياه، لترتاح وتسكن بعيدا عن ضجيج مشاكل عائلتنا الكثيرة.
فهي تصر ومنذ موتها، على زيارتي من وقت لآخر، وكنت بقدر ما أستمتع باعتنائها بي، حتى بعد موتها، أتضايق لأنها لم ترتح من بلاوينا، وأن الموت لم ينقذها منا.
كنت أعتبر الموت استقالة لأحدنا من الواقع ومصائبه، للتفرغ إلى التأمل الساكن الهادئ الذي لا تشوبه رغبات الدنيا التافهة، وهمومها الصغيرة، ولكن جدتي ترفض الاستقالة.
لقد تحررت، هنا في فرنسا، من زياراتها المباغتة لي، في أوقات أفضّل فيها أن أكون وحدي، إلا أن هذا على ما يبدو ليس صحيحا.
كنت أجلس في منزل جانين، وهي تحيك شالا صغيرا من الصوف لحفيدها أو حفيدتها، الذين سأحمل بأحدهما ذات ليلة. ومع أن لا شيء يدل على إمارات الحمل، حيث يداعبني ابنها في كل مرة : قد تكونين حاملا منذ الليلة الفائتة... إلا أنها تحاول تمثيل دور الجدة الفاضلة منذ الآن، وهاهي تجلس أمامي على الأريكة، ممسكة بسنارتيها وكرة الصوف التقليدية، ذات اللون الرمادي الخاص بالجدات، وتستمع لألفس بريسلي.
لا أعرف تماما فيما لو كانت جانين معجبة ببريسلي، إلا أنها اعتادت سماعه، لكثرة ما سمعته حفيدتها الصغرى مرارا وتكرارا معها.
تقول لي من وقت لآخر : أنت واثقة أني لا أزعجك، أستطيع وضع السماعات ؟ فأكرر لها، لا أبدا، أنا أستمتع بكل أصناف الموسيقا.
أجيبها دون أن أرفع رأسي عن جهاز الكمبيوتر الذي ينقذني منها، وها نحن كلتانا، كل منا تلعب دورها، هي، بصنارتيها وكرة الصوف، ونظارتيها، وجلستها على الأريكة... تؤدي دور الجدة المستقبلية لطفل قد أحمل به، وأنا، بجلستي الرصينة خلف جهاز الكمبيوتر، وفنجان قهوتي الساخن جواري، أؤدي دور الكاتبة الجدية.
كما تنقذها صنارتيها من اتهام ما بلامبالاتها تجاه أحفادها، ينقذني الانترنت بالعربي من ثرثرتها المجانية، فكلما أردت التهرب من حوار غير مرغوب به، أفتح النت العربي، الذي لا يفهم ماحولي ما تحتويه الصفحات، وأدخل في جو " أني أشتغل ".
كان المشهد مكتملا وراقيا، إلا أن حليمة ظهرت بغتة.
لا أعرف كيف يستطيع الموتى تجاوز الحدود، فإن الحكومة الفرنسية صارمة في منح تأشيرات الدخول للأحياء، وللشباب، فكيف تدخل جدتي الميتة والعجوز إلى شقة جانين في كريتيي.
دخلت جدتي ساحبة مسبحتها الطويلة خلفها، ومع أن كلبي كاترين سارعا للترحيب بها، إلا أن ذلك لم يصدمها، ولم تنهرهما، كما لو كانت فعلت أي واحدة أخرى من جداتي المفترضات أو أمي مثلا ، في التعامل مع الكلاب ككائنات نجسة. ربتت جدتي على رأس كل من الكلبين، فاسترخيا كل في فراشه جوار الأريكة، وتربعت حليمة هناك، جوار جانين.
وضعت جانين كرة الصوف والصنارتين، بل ونظارتيها، جانبا، متخلية عن دور الجدة القادمة، محبذة دور المرأة الباحثة عن ألق الثرثرة، ودون أن تطرح على جدتي أسئلة شخصية للتعرف عليها، رمقتها بنظرة متهكمة، وهي ترى ثوبها الغريب يلامس الأرض وقالت : ماذا يعني أن يكون أحد ما مسلما ؟
ابتسمت جدتي، التي لم أرها تبتسم في الحياة، فهي من التوازن والحكمة، بحيث لم يكن لديها الوقت للتعبير عن انفعالاتها، فهي لا تبتسم، ولا تعبس... بل منشغلة دوما بالتفكير. ولكن ربما خفف الموت من أعبائها، فابتسمت لجانين، وقالت وهي تسحب حبات المسبحة وتقرأ " قل هو الله أحد " على كل حبة : الإسلام عملية بسيطة جدا، تشبه علاقتك بعصفور الصباح، أو هبة نسيم تذكرك بشخص أو مكان ما، أن تكون مسلما، هو أن تحب الله والناس والحياة.
لا أعرف من أين جاءت جدتي بتلك الفلسفة المباغتة، فهي لا تجيب على الأسئلة، ولا تطرحها، بل تسعى إلى حل الخلافات بين البشر، وهذا كان دورها الكبير في حياتها.
قلّبت جانين نظرها قلقة بيني وبين جدتي، مستفسرة بينها وبين ذاتها عن سر انحراطي في الانترنت، دون أن يرف لي جفن، كما لو أن جدتي، لم تقطع تلك المسافات الطويلة، من قبرها في حلب إلى كريتيي في فرنسا، من أجلي.
لم أستغرب سؤال جانين الذي ينم عن تناقض في تصريحاتها السابقة أمامي، كلما اجتمعنا، هي وأنا، أمام حشد من الآخرين: كلتانا لا تهتم بالدين، وتعتبره أمرا شخصيا، المهم هو علاقتنا مع البشر وليس مع السماء. كانت تكرر جانين ذلك، ناظرة إلي، منتظرة أن أؤكد كلامها. وبما أني لا أحب أن أوافقها على ماتقول، حتى لا أخلق لديها انطباعا بإمكانية سحبي نحوها فكريا، كنت أضيف أي جملة، لأعبر عن عدم اتفاقي كليا مع ما تقول، مع عدم نسفه، كأن أقول : إلا أني لا أهتم أبدا بتفسير الدين وتحليله، وفيما إذا كنت أنتمي لديانة ما...
أعتقد أن جانين كانت تنتقم من عدم مسايرتي لأقوالها، ومحاولة الاختلاف عنها، أمام الآخرين، فانتهزت الفرصة، للتأكيد على اختلافنا، من حيث وجود جدتي، ذات الانتماء الإسلامي الواضح للرب، عبر مسبحتها، وشاشيتها البيضاء النظيفة كثلج الأماكن العالية، حيث لم يعبث به أحد. حيث توحي بطهارتها وجاهزيتها للصلاة في أي لحظة.
نهضت جانين بخطوات متثاقلة، وأحضرت ثلاثة أكواب، وزجاجتين، إحداهما من النبيذ الأحمر والثانية، من " كريم دو كاسيس ". قدمت لي كأسي أولا، ثم اتجهت نحو الكنبة، وقدمت لجدتي كأسها قائلة: هذا يخفف عنا هذا البرد الباريسي القارس... صحتك!
أخذت حليمة رشفة من كأسها، ونظرت بإعجاب إلى جانين قائلة: إنه شاي لذيذ الطعم، أقدر أن الشاي الفرنسي يختلف عن السوري. فضحكت جانين بشماتة مباغتة وصححت لجدتي: إنه نبيذ ! إلا أن جدتي لم تهتم، إذ قالت: المهم أنه لذيذ... صمتت قليلا لتأخذ رشفة جديدة وأضافت، وأنه يشعر بالدفء، فالموتى يعانون من البرد أ أكثر من الأحياء.
شعرت بالدفء يسري بغتة في أوصالي، وأظن أنها كانت حالة كل من جانين وحليمة، إذ تورد وجه الجدتين معا، إلى أن شاشية الصلاة التي أحكمتها حليمة فوق رأسها، بدت كهالة من ضوء تحيط بوجهها المتورد... إلى أن بدأت حليمة تتحول تدريجيا إلى ضوء، حتى صارت شعاعا غادر من النافذة. بينما كنت أفتح جهاز الكمبيوتر أمامي، مدونة العنوان التالي " حليمة أ كريتيي "، بالفرنسية، لأمكّن جانين من قراءة ما أكتب.

الرغبة الأخيرة لصوفي بيران


“ستقلتلك هذه السرعة ذات يوم”، تذكرت عبارته الدائمة التي يكررها تعليقا على سرعة قيادتها ، ”إلا أنني سأموت وحيدة، لأنك لن تكون معي آنذاك“، كانت ترد وهي تخفف من سرعتها ، شاعرة بشكل غامض، أن هذا سيحدث ذات يوم، أن تنقلب بها السيارة ، ولكنها ستكون وحيدة .

“تمهلي في مضغ الطعام ، هذه السرعة ستضيع عليك الكثير”أما تلك فهي عبارة أمها.
أما عمتها فكانت تؤكد لها”أنت كالحصان الهائج ، لا يعرف من أين يأكل، يتنقل في جميع المرابض”

ورغم انتقاد الجميع لسرعة حركتها، وتنقلها، وقيادتها، فهي تصر على القيادة بأعلى سرعة ، مسابقة الريح ، وكأنها حصان سيطير بالسيارة إلى سماوات أخرى.
كانت صوفي بيران، تقود سيارتها البيجو الكحلية اللون، وهي تمضغ شطيرة الجامبون، وتستمع إلى موسيقى جوان حاجو، وتهتز خلف المقود، بحركات رجل أرعن.

ولكن ما علاقة صوفي بيران بجوان حاجو ، أو برواية آلان بيران”الرغبة الأخيرة”الملقاة على المقعد المجاور، تقرأ فيها مقاطع عشوائية، حين تتوقف عن القيادة لترتاح قليلا .
أتبحث صوفي في رواية آلان عن مصيرها الذي تجهله!؟، كما تجهل الكثير عن ذاتها ، رغباتها المفاجئة ، حزنها المباغت ، كآبتها الملاصقة لها ، هوسها بالقيادة المتأصل فيها منذ سنوات ، كحالة انتقام من الثبات ، أم أنها تسخر من عالم آلان بيران، الذي تحمل اسمه . ولكن كل هذا لم يعطِ الجواب على سؤال العلاقة بين صوفي بيران ، والرواية الملقاة على مقعد سيارة البيجو ، الصادرة عن دار جوزيه كورتي ، وصوت جوان حاجو . فما العلاقة بين هؤلاء ، وبين صوفي بيران .
إذا عرفنا العلاقة بين صوفي وآلان تسهل معرفة العلاقة مع الرواية ، لأن آلان هو مؤلفها ، ولكن سيبقى جواب الموسيقا الكردية عالقا في الصفحات التالية للرواية الأخرى .

يرن هاتفها المحمول ، تنظر إلى الاسم ، هو آلان إذن ، يتتبعها كيفما تنقلت ، يدرك أنها ذاهبة إلى حتفها ، لا بوصفه روائيا فحسب ، بل بإدراكه العميق لسوء طواياها ضد ذاتها .
يرن الهاتف ، لا ترد ، يرن مجددا ، يترك لها رسالة صوتية ، إلا أنها لا ترد ، ، وتحت إصرار اتصاله ، وشعوره بالقلق ، ترد لتقول له عبارة سريعة”أنا في السيارة ، ذاهبة إلى لي فوج ، سأتصل بك فور وصولي ، باي”تغلق الخط ، وترمي الهاتف بنزق ، وتتابع القيادة .
اتجهت إلى الفندق ذاته الذي نزلت فيه منذ خمس سنوات ، إيتاب أوتيل ، وأصرت على رقم الغرفة ذاته ، وكأنها تعود لسنوات خمس نحو الوراء .

لم تكن تحمل سوى حقيبة الظهر الصغيرة ، التي تتنقل بها من مدينة لأخرى ، وترافقها مع محتوياتها ذاتها في جميع الفنادق ، حتى أنها غالبا لا تبدل محتويات الحقيبة : بعض الكاسيتات الموسيقية”سيرج غوسبرغ ، برتراند كونتا ، تري يان ، جوان حاجو ، فيروز”، كتاب آلان ، كتاب كونديرا”فن الرواية”بالنسخة الفرنسية ، مسبحة خضراء لا يعرف أحد من أين جاءت بها ، ولماذا تحملها ، بعض أدوات الزينة ، وعطرها المفضل شانيل ، ودواء الصداع ، فرشاة أسنانها ، وبالتأكيد مع حقيبة المحمول ، حيث لا تتحرك دون حاسوبها .

ألقت بالحقيبة على السرير ، ثم اتجهت فورا لأخذ حمامها الساخن ، تلك العادة المرافقة لها ، مع أنها امرأة غير نمطية ، لكن الحمام الساخن أحد أشكال بهجتها المؤقتة ، تظل تحت الدوش ، حتى يتورد جلدها وتتفتح أزهاره .
عادت تلتف بالمنشفة ، وفتحت النافذة المغلقة ، بدلا من أن يغلق أحدهم عادة نوافذ مفتوحة ، تنسمت الهواء بعمق ، ولوحت بيدها دون أن يكون ثمة أحد ، لهيلين وكولييت اللتين دعيتاها منذ خمس سنوات للتحدث عن تجربتها في الكتابة مع طلاب ثانوية أندرية مارلو في راميرمونت ، في لي فوج . البعيدة قليلا عن نانسي .

كلما ابتعدت عن باريس ، شعرت بالهدوء ، وكلما زاد ابتعادها ، عاودها الشعور بالقلق .
تكره ذلك الالتزام الأجوف ، عليها أن تعود في لحظة ما ، من دونما سبب منطقي ، حتى حين لا يكون آلان في باريس ، تشعر أنها في لحظة ما يجب أن تكون هناك ، في باريسها ، وهي تعود إلى هُناكها ، سرعان ما تضجر، وتشعر أن باريس لا تعني لها شيئا ، هو شيء من المراهقة العاطفية ربما ، تلك المراهقة الملازمة لكل أنماطها السلوكية والعاطفية ، ترغب ولا ترغب في الوقت ذاته ، تفرح ثم تحزن ، للأمر ذاته ، تحب وتنفر . ياه لو أنها تنتقي إحدى الحالات .

قالت لدومنيك ، محللتها النفسية : في كل دورة زمنية ما ، أشعر أني أبدأ من الصفر ، تصبح ذاكرتي خالية تماما ، أتفرغ من عالمي ، أتجوف ، وأشعر أن علي الامتلاء مجددا ، بالدوافع والرغبات والأفكار ، والبحث عن المحرك الأساسي لماذا أنا هنا ، وماذا أفعل ؟ ثمة تجويف كبير بداخلي ، هوة سحيقة مخيفة ، تشدني إلى العدم ، إلى الرغبة الملحة في الموت ، والخوف من الموت في آن معا .

كانت تستلقي على السرير ، دون أن تفرغ حقيبتها ، وقد بدأ جسدها ينشف ويتعرض لهواء مؤذ ، حين رن الهاتف ، فرأت مجددا اسم آلان ، لم ترد ، بل نهضت وأغلقت النافذة ، ثم أقفلت جهاز الهاتف .

***

ترك آلان هاتفه على حافة حوض المغسلة في الحمام ، حيث كان يأخذ حمامه متوقعا اتصالا من صوفي ، وحين أنهى حمامه دون أن تتصل ، نظر إلى الجهاز بشيء من الامتعاض قائلا”لتذهب إلى الجحيم”، وغادر الحمام تاركا جهاز الهاتف على حافة الحوض عن قصد ، ثم أخذ يجفف جسده وهو يدندن أغنية لجون براسان، وتوقف قائلا لنفسه بصوت ساخر”هي ذاهبة إلى الجحيم بكل حال”.
يشعر آلان دوما ، وبغرابة لا يفقه مصدرها ، يردها دوما إلى حدسه الروائي ، إذ يعتقد أن الروائي راءٍ دون ريب ، لا كما قال رامبو ، الشاعر راءِ ، إذن بحدسه الرائي ، يرى صوفي معلقة على شجرة في قلب الجحيم ، صورة مرتبطة في مخيلته بشخصية جان دارك.
قالت له صوفي غاضبة ولأكثر من مرة ، حررني من أوراقك ، لا تعاملني كبطلة في روايتك ، تطبّق علي مصائرك وقراراتك ، أنا كائن من لحم ودم . وحين ابتسم آلان ذات مرة عند جملتها الأخيرة ، مؤكدة وجودها المادي ، ردت غاضبة ، ولكن بلهجة هادئة وأقرب إلى الاستسلام”يبدو أني فعلا موجودة”.
ارتدى آلان ملابسه الأنيقة ، وهو على النقيض منها ، يهتم بأناقته الأرستقراطية الموروثة رغما عنه من والدته ، بينما كانت صوفي لا تهتم بشكلها ، مؤمنة أن المرأة الحديثة ، لا تهتم بالشكل ، على عكس الرجل الحديث .
حان موعد جولته المسائية ، في تمام السابعة ، كانت تعلق عليه كلما رأته يستعد للخروج في الساعة ذاتها”لا افهم كيف تكون روائيا حداثيا ، ولا تتخلى عن عاداتك ، كرجل كلاسيكي”وكان يرد عليها ليغيظها ، إذ لا يوفر فرصة لاستفزازها عن حب ، كما نستفز صغارنا ، حتى يتشاجروا معنا ، أو يضربونا ، أو حتى يشتمونا”لولا دقّتي وتنظيمي، لما تابعت رواياتي ، ولكنت مثلك قائد سيارة أهوج”، ترد عليه صوفي بنبرة الاستفزاز ذاتها المختلطة بالحب”أن تكون قائد سيارة أهوج وحداثي خيرٌ من أن تصطحب كلبتك كعادة الفلاسفة الرصينين ، لتتمشى على ضفاف السين في تمام الساعة السابعة مساء من كل يوم ، كعادة مقدسة”، يقترب منها آلان ، يحتضنها ، ويقبلها بدفء وشهوة ، كما لا يكف عن حبها واشتهائها”ولكن لا تنسي سيدتي أنني روائي حديث”، تعبث بخصلات شعره معلقة بخبث”ولا تنسَ أني إحدى قارئاتك المفتونات بك”.

ارتدى ملابسه، ووضع عطره المفضل، فأخذت روزيت تزعق إلى جواره، متمسحة به ، لاعقة يديه، فقال لها مؤنبا”لماذا تصرين أن تبقي كلبة ذليلة، هذا موعدنا اليومي للخروج، فلماذا لا تتعاملين مع نفسك بأناقة”نظرت إليه روزيت بعيون ملتمعة، فشعر بكآبة غامضة وهو يعلق السلسة في عنقها، ثم يغادر ويضغط على زر المصعد ، كان يشعر بالاستياء من نفسه، فقد التبس عليه الأمر في لحظة ، وأدرك في جزء صغير من البرهة، أنه يتحدث إلى كلبته كما لو أنه يتحدث إلى صوفي، هل هو الافتقاد إذن، أم عدم الشعور بالأمان حين تغادره؟ لقد قالت له حين تشاجرا آخر مرة، على عادة جميع الأزواج، ”مم تخشى!؟، سأعود، مهما طال غيابي، سأعود إلى هنا”، فقال محبطا وكان قد أسرف في الشرب، وهو لا يتنازل ويعبر عن مشاعره، كرجل بروتوني متحفّظ عاطفيا، إلا حين يغلبه المشروب”من يدري صوفي؟ ربما تذهبين ذات مرة ، وتكون الأخيرة”، قالت”أتعني أني سأموت؟ ، ”قال”أعني، أن تكتشفي مكانك بعيدا عني”ثم صمتا.
أنهى جولته مع روزيت حول السين ، ثم عاد بصحبة روزيت ، إلى مقهاه القريب من المنزل ، مقهى رينوار، في شارع رينوار، حيث اعتاد، خاصة حين لا تكون صوفي معه، أن يأخذ كوب بيرتة المسائية، قبل أن يعود ليتناول عشاءه الخاص في المنزل، وحيدا ، كرجل أعزب، كان الجو يقترب من البرودة ، حين بدأت روزيت تعطس، وتهز ذيلها رغبة في العودة ، لشعورها بالجوع .

***

ولكني أحب آلان ... كتبت في دفترها الصغير ، فلماذا أخشى كما يخشى هو ، أنه ربما أغادر ذات مرة ولا أعود ، ماهذه الفجوة الغامضة بيننا!؟.
إنها التاسعة مساء ، وليس الوقت مناسبا للتنزه في جبال لي فوج ، إلا أنها لا تعبأ بالزمن ، بل تكرهه ، وتحاربه ، استقلت سيارتها ورفعت وتيرة الموسيقى حتى أقصاها .
تجولت في سيارتها لأكثر من ساعة ، في عتمة لي فوج ، باحثة عن ذلك الكائن الخرافي الذي يدمر استقرارها وهدوئها ، يشدها نحو البعيد ، يرميها خلف المقود ، تقطع المسافات باحثة عنه بعيون محملقة ورأس خدر ، هذا الذي سرقها من بيوتها ، من رجالها ، من أهلها ، من دراستها ، من فنها ، من ذاتها ، ذلك الذي لم تتذوقه يوما ، ولم تعرفه ساعة”الأمان”.

حين وضعت رأسها على كتف فاضل وقد أسرفت في الشرب ، قالت له بصوت متكسر وهما يسمعان الفيس بريسلي”أحتاج إلى الشعور بالأمان”، فسألها”وما هو الأمان بالنسبة لك”، صمتت صوفي ، ثم رمت رأسها بين كفيها وأجهشت بالبكاء ، صرخ فيها فاضل ، كعادته كلما رآها منكسرة ، أراد إسنادها وتقوية عزيمتها “كفي عن معاملة نفسك كامرأة مهزومة ، هل أنت في حرب لتبحثي عن الأمان”، توقفت عن البكاء باستعلاء ، نهضت ، نظرت إليه مطولا دون أن تنبس بكلمة ، ثم حملت حقيبتها وغادرت ساخطة .

أشعل سيجارته مدركا أنها ستعود بعد قليل ، تقود دراجته النارية ، كمجنونة ، ثم تعود ، لم تكن آنذاك في فرنسا ، ولم تكن تملك سيارة ، بل تسرق دراجة فاضل ، حيث تحتفظ بنسخة من مفاتيحه ، كما كانت تحلم دوما بقيادة دراجة والدها الـ”ياماها”، ولم يكن يسمح لها على الإطلاق ، فتسرقها ، ثم تتعرض للعقاب .

هي الآن في سيارتها ، تقود ، تسمع الموسيقا ، وتبكي ... هذه الأفعال الرئيسية التي تمارسها في حياتها كأحد أشكال أدائها لتلك الحياة ، وتُعرّف صوفي بيران نفسها من خلال تلك الأفعال الثلاثة”أنا صوفي بيران ، الموازية للقيادة والإصغاء إلى الموسيقا والبكاء”، وفي توقفها عند كل من هذه الأداءات تحلّل ، وهي تلفّ ساقا على ساق ، وتدخن ، وتتفلسف أمام آلان ، مستغلة حبه ، واحتماله لثرثرتها :
الموسيقى والقيادة متشابهان ، شكلان من أشكال رفض الثبات ، السيارة تحركني ، تتحرك بي ، تقتل المكان ، وكذلك الموسيقا ، تقتل الثبات ، ولكن البكاء ، تُرى آلان ، ما سبب ميلي للبكاء”!؟ ، فيسألها بضجر وقد ملّ ميلها الدائم لطرح أسئلة سرعان ما تغير من إجاباتها ، بل وحالاتها ، إذ ستقول له غدا مثلا ، أن الضحك بصوت عالٍ هو فعاليتها الجديدة لقبول الانكسار ، إذن سألها بضجر”أتتمتعين بالبكاء”تقول وبلهجة من يكتشف”أحس باحترام لذاتي حين أبكي ، وكلما بكيت ، شعرت وأنا ابكي ، أني يجب أن أزيد من حالة البكاء، لأزداد احتراما ، ترى ما هو السبب الذي يجعل البكاء قيمة بالنسبة لي”ويقول آلان وهو يشرب نبيذ البوجولي”الماء”، ”نعم ؟؟؟؟”، الدموع هي المياه الداخلية التي تنظّف خطاياك ، كلما احتجت للبكاء أكثر ، دلّ ذلك على كثرة الوسخ الذي يحتاج لإزالة”، تدهس سيجارتها ، وتقفز عليه بصخب ، ترتمي فوقه وتقلبه على الأريكة”سأخنقك ، أتسخر مني”فيقول بحبه النادر الممزوج بالسخرية”أنا من سيخنقك”، يطبق على شفتيها ، ليخنقها من الحب .

ولكن حقا ما هو الأمان ؟
من أجل معرفة أمانها الخاص ، تركت صوفي دراسة الطب ، لتتجه نحو السينما ، ومن ثم هجرت السينما في السنة الثانية لتدرس العلوم النفسية ، ثم وبعد سنة تقريبا ، تركت كل شيء ، ووهبت نفسها للقيادة والترحال.
منذ ثلاث سنوات لم تكف صوفي عن القيادة بمعدل ثماني ساعات يوميا ، ولم تتجاوز مدة الليالي التي قضتها في المنزل ، منذ السنوات الثلاث أكثر من ثلاثة أشهر ، أي أنها ومنذ ارتباطها رسميا بآلان ، قضت معه تسعين ليلة ، بينما قضت في الخارج أكثر من ألف ليلة ، بداية راح يسايرها في التجوال معها ، ولكن باعتباره رجلاً ذا مواصفات مختلفة ، يكره التغيير ، يكره التحرك ، يميل إلى الاستقرار والثبات ، أو يتمتع بالأمان الداخلي كما تصفه صوفي ، فقد وجد في قيادتها المجنونة ضربا من الانتحار ، وكانا لا يكفان عن الشجار كلما جلس إلى جوارها وراحت تقود وكأنها ذاهبة إلى الموت .
وصوفي أيضا شعرت بدورها أنها تحررت منه حين كف عن ملازمتها في السيارة ، وكأنها تستعيد طقوسها الخاصة اللصيقة بها : قيادة ، موسيقا ، بكاء بدلا من أن تكون معه بـ قيادة ، موسيقا ، شجار أو حوار .

“لو كان الحزن رجلا لقتلته”كان يكرر آلان ، محبطا من إمكانية إخراجها من حزنها ، ربما يكون هذا الحزن ، أحد أسباب ارتباطه بها ، أحبها بجنون نادر ، والبروتوني لا يعبّر عادة ، ولكن ميلها المفرط في تدمير ذاتها ، جعله يقرر أن يكون معها ، وتكون معه ، أملا في إدماجها في الحياة ، لتكف عن الشعور أنها معلقة في الحياة ، دون جذور قوية ، أو دوافع أو أسباب ، تربطها بالعيش .
كان يعتقد أنها بمجرد أن تحمل وتنجب ، سوف تتخلص من حالة التيه والضيعان أو التضييع الرغبوي التي تحياها ، إلا أن الطبيعة لم تمنحها الأمومة ، كأنها لم تشأ إخراجها من تيهها ، أو ربما لم يكن ذلك هو الجواب .
كانت تكرر أمامه”إذا مت ، ادفنوني في مقبرة مونبرناس ، هذا سيمنحني الأمان بعد موتي”، ولا يستغرب إذن أن تكون مقبرة مونبرناس إحدى أماكنها المفضلة التي تزورها كلما شعرت بالكآبة والخوف . فكأنها تلاقي هناك مصيرها القادم ، فتعود ممتلئة بالصمت والقناعة .

كانت القيادة هي الشيء الوحيد الذي يحميها من الخوف ، فكأنها تفرّ ، عبر التحرك ، من شبح الموت ، كلما توغلت في الطريق ، ابتعدت وضللت الموت عنها .
ما هذا البريق الملتهب في عينيها ، يؤكد لها آلان”أنا كروائي وراءٍ لا أصدق أن الموت يجرؤ على الاقتراب من شعلة عينيك ، ستعيشين ثمانين سنة”.
لكن لم يكن الموت ما يزعجها ، بل الافتقاد إلى الأمان ، الخوف الدائم ، تلك الرجفة الأبدية في الداخل ، كأن ثمة تجويف عميق سيلتهمها ، تلك الحفرة التي يصعب ردمها .
كل ذلك لا يمكن التحايل عليه إلا عبر القيادة ، تلك الحركية الدائمة ، الاهتزاز الأزلي ، يدمر احتمالية انتصار الهوة ، فيرجّها باستمرار ....
توقفت بها السيارة على مشارف راميرمونت ، هبطت باحثة عن حل ، رغم جهلها بالميكانيكا ، ما من سبب لتوقفها سوى نفاذ الوقود ، وهذا هو السبب فعلا ، لا وقود ، كانت منشغلة ومنهمّة بذاتها ، فلم تنتبه إلى مؤشر الوقود .
تركت السيارة سابحة في الظلام ، ولو كان الوقت نهارا ، لسبحت في الأزهار والخضرة وجمال جبال لي فوج ، ولكنه المساء ، أقفلت السيارة وعادت سيرا على الأقدام .

يا للعتمة ، يا للوحدة ، يا للعزلة ، ... يا للضياع ...
تضع يديها في جيوبها ، تدندن لحنا ، تصفر ، كأنها محاولة لطرد كل ذلك ، الذي يهجم عليها ليمزق كل ما قد يدفئها ، يا للبرد ... ماذا تغفل في هذه الحقول الفارغة ، وسط العتمة ، ولماذا تترك شقتها الفاخرة في باريس ، وحضن زوجها الذي يحبها ، بل حتى ووفاء روزيت ، ودفء النبيذ وأفلام العطل في التلفزيون ، لترتمي هنا ، وحيدة ، تشعر بالبرد ، بل وخائفة .

من أين نأتي بالقوة لاحتمال كل هذا الفراغ، كأنها أضاعت الطريق نحو الفندق ، تمشي على غير هدى ، وكأنها حين تترجل ، تفقد الاتجاهات ، وكأن آليتها الوحيدة للتنقل داخل الحياة ، هي السيارة .
حتى أنها لا تحمل مصباح جيب ، أشعلت سيجارة وحاولت السير على ضوء الـ قداحة ، وهي تتعثر بين الأعشاب وكتل التراب ، وفضلات الكلاب .
شعرت بغتة برعب لا يمكنها احتماله ، توقفت عاجزة عن معرفة ما ستفعله ، إما عليها الاستمرار في السير على غير هدى ، دون أن تصل إلى مكان محدد ، أو عليها أن تجلس منتظرة ضوء الصباح ، وباعتبارها كائنا مرتبطا بالحركة ، آثرت متابعة السير ، منخرطة في موجة بكاء عارمة .
من بعيد تلمح ضوء سيارة يقترب ، تؤمن أن دموعها جلبت لها الرأفة من مكان ما ، لا تزال ثمة بذور ميتافيزيقية تقود سلوكها ، تلوح صوفي بيديها وهي تشعل وتطفئ قداحتها مرارا لتلفت نظر الشخص خلف المقود .
تصل السيارة قريبا منها ، تتوقف ، يا لنسائنا الضالات في العتمة والبرد !
سيدة خمسينية تفتح لها الباب ، فتقتحم رائحة الخمرة أنفاسها
- نفذ وقود سيارتي

- البيجو المتوقفة في الطريق ؟

- نعم ، لم أنتبه إلى خزان الوقود ، ولا أعرف المنطقة لأتصل بأحد

- ليست مشكلة ، تفضلي لأوصلك ، أين تسكنين ؟
- في الفندق
- حسنا ، سأوصلك ، وتأتين في الصباح مع أحد للاعتناء بأمر السيارة
- نعم ، فالوقت متأخر كما أعتقد
تثرثران في الطريق ، فاليري تقود بطريقة أسوأ من صوفي ، تتذكر صوفي آلان ، لو كان معهما ، لفضّل أن يترجل وسط العتمة ، على أن لا ينتحر في هذا السيارة ، تستمع فاليري إلى جاك بيرل ، تثرثر وتهذي عن زوجها الذي هجرها مع أغلى صاحباتها ، تشتم عالم الرجال ، وفجأة تتوقف أمام منزل متطرف قليلا عن المنطقة قائلة”اسمعي عزيزتي ، أنا متعبة ، وهذا منزلي ، إما أن تدخلي وتمضي الليلة هنا ، أو خذي السيارة ، وأعيديها في الصباح”تتفاجأ صوفي بلامبالاة فاليري التي أنهكها المشروب والخيانة ، تلحق بها مؤمنة أن امرأة حزينة إلى هذا الحد ، ربما أكثر منها ، لا يجب أن تُترك وحدها ، حتى و ليلة واحدة ، ما دامت صوفي هنا .

تتابع المرأتان الشرب ، وكأنهما تبدآن سهرتهما من جديد ، موسيقى ، تدخين ، ثرثرة ، بعض الأطباق الخفيفة ، وأخيرا لا بد من إتمام طقوس النساء الوحيدات ، الهاجرات أو المهجورات : البكاء !

حين تصحو صوفي ، تجد نفسها على الأريكة ، مرتمية متهالكة ، وتجد فاليري أمامها مستلقية على فراش صغير على الأرض ، بينما مدفأة الحطب تقرقر مانحة دفئا لا يزال الوقت مبكرا لاستهلاكه .
تنهض وألم عنيف يعبث برأسها ، لقد خلطت أنواعا من المشروب ، واستمعت إلى من تفوقها ثرثرة ، اتجهت إلى المطبخ باحثة عن ما تشربه ليوقظ رأسها المرتبك ، جهزت الكثير من القهوة ، وجلست في المطبخ المطل على حديقة المنزل الرائعة ، أمام شجرة مشمش متفتحة الزهور، تدخن وتعبث بمخيلتها ،
تكتب ورقة صغيرة لفاليري وتغادر ، لن تفيق فاليري قبل العصر ، هي متحطمة من الشرب ، تتجه إلى محطة الوقود ، تشتري بعض الوقود ، وتتجه بسيارة تاكسي نحو المزارع البعيدة ، مستعيدة بيجوها الكحلي التي أمضت ليلتها وحيدة ، مع الموسيقا التي لم تتوقف طيلة الليل ، لأن صوفي نسيت إطفاء جهاز التسجيل .

***

كما أنها نسيت إطفاء جهاز التسجيل في السيارة ، فقد نست ، أو تناست هاتفها المقفل في الفندق ، وحين أخذت حمامها وعادت تشرب المزيد من القهوة قبل أن تغادر راميرمانت ، دون أن تفقه سبب مجيئها ، لماذا جاءت ، ولماذا ستغادر ، كأن ثمة سراً مدفوناً في أرض ما ، ستكتشف وجوده ، وحين لا تعثر عليه ، تركب سيارتها وتمضي .
انتبهت بغتة إلى الهاتف ، فتحته ووجدت العديد من الرسائل .
علقت حقيبة ظهرها على كتفيها ، وحملت حقيبة الكمبيوتر ، وهبطت السلالم ، فهي تكره المصاعد ، وتفضل التحرك الأسرع ، المصعد حالة حركة لا تشعر بها ، طاقتها الداخلية تحتاج دوما للارتجاج ، ولكي ترتج ، يجب تسلق وهبوط السلالم بالأقدام .
رمت الحقيبة في المقعد الخلفي ، واسترخت خلف المقعد ، أشعلت سيجارة أولا ، ثم شغلت جهاز التسجيل ، وبعد لحظات قررت التوجه صوب فاليري ، ربما تكون قد أفاقت ، يجب أن تقول لها شكرا على الليلة الماضية .

عندما فتحت فاليري الباب ، لم تعرفها”أنا صوفي ، عدت الليلة السابقة معك ، بعد أن توقفت سيارتي ....”، وقبل أن تتم كلامها قالت فاليري بغضب”سيدتي ، أنا أقابل يوميا عشرات الأشخاص الذين تتعطل بهم سياراتهم ، ويعودون معي ، اعذريني فأنا لا أذكرك”، تفاجأت صوفي قليلا ، ثم انتبهت أنه ربما انفصام المشروب ، أو السجائر التي تتعاطاها هذه السيدة ، فتختلط لديها الأحداث .... كم كان حديثا حميميا ودافئا ، ياه ، إن فاليري إذن تتحدث إلى عشرات الأشخاص بالطريقة ذاتها .
عادت صوفي لتقبع خلف مقعدها ، ولتقود مجددا ممتلئة بإحباط اعتادته طويلا .
هل عليها العودة إلى نانسي ، أم باريس ، ربما الذهاب إلى ستراسبورغ القريبة هو الأفضل ، تشعر بقليل من الجوع ، لم تأكل شيئا منذ ليلة البارحة مع فاليري ، تغيّر الموسيقا ، تسمع الراديو ، تتمتع بالاستماع إلى أغنية بربارة”زمن الليلك”، تقود دون أن تقرر بعد إلى أين ستتجه .
تتوقف في ستراسبورغ ، أمام مطعم وجبات سريعة ، تأخذ وجبتها مستندة إلى سيارتها ، مستمعة إلى رسائل هاتفها :
- أيتها المجنونة ، اتصلي بي ، لن أعتاد جنونك طويلا ، أحبك ... آلان
- صوفي ، لماذا تغلقين هاتفك دوما !؟، سأصل باريس في الأسبوع القادم .... فاضل
- صوفي ، اتصلي بي ، مشتاقة إليك جدا ، لقد عاد ريكس مجددا .... كاترين
- صوفي ، معك روبير ، آن في المشفى ، ستلد قريبا ، سأتصل بك لاحقا ، أقبّلك
- هاي صوفي ، أنا فاليري ... هل تذكرينني ، لقد كانت سهرة جميلة
- السيدة صوفي بيران ، يرجى مروركم على بلدية باريس الدائرة السادسة عشر ، للاتفاق على موعد يناسبكم حول محاضرة جمعية النساء المعاصرات ، سارة بانتر

تتصل بآلان :
- أين أنت ؟
- في ستراسبورغ
- ستعودين إلى باريس؟
- لا أظن
- إذن؟
- سأتابع إلى بون
- حسنا صوفي ، لن أقول المزيد ، لقد سئمت عباراتي ، اتصلي بي حين تصلين هناك
- شكرا آلان ، أعرف أنك أكثر من يفهمني في هذا العالم
- أحبك صوفي
- وأنا أيضا آلان ، أحبك ، ولكنني بحاجة لأبتعد قليلا
- حسنا صوفي ، أعرفك جيدا ، افعلي ما يريحك ، وأنا هنا دوما
- أحبك آلان ، احبك كثيرا ، ولكن ....
- حسنا حبيبتي ، لا تقولي شيئا ، لست ملزمة بالتفسير ، المهم أن تكوني هادئة ، وأرجوك قودي بتمهل ، أرجوك !
- حسنا ، سأحاول ، سأتصل بك من ألمانيا ، أقبّلك

لماذا أنت ذاهبة إلى ألمانيا ، لا أعرف ، ماذا ستفعلين هناك ، لا أعرف ، لماذا أنت أساسا في ستراسبورغ ، ولماذا جئت إلى راميرمونت ، ولماذا غادرتها .... لا أعرف ! بل تعرفين ، تعرفين أيتها الهاربة ، التائهة ، تبحثين عنه ، ولن تجديه يوما ، ولأنك لن تلتقي به ، ستظلين في تيه أبدي ، هيا ، تابعي توهانك .
تشعل سيجارة جديدة ، وتنطلق بسرعة أكبر ، قاطعة الطريق الدولي من حدود فرنسا ، إلى الأراضي الألمانية ، بشجاعة لا تليق بامرأة ، بل تليق برجل أهوج ، تبحث عنه ، فتحاول أن تكونه .