samedi 25 août 2018

مها حسن فى «حى الدهشة»


 إيهاب الملاح

أحب كتابة مها حسن السردية، أقدر حساسيتها الفنية العالية وبحثها الدءوب عن صوتها الخاص وإنصاتها المرهف لتجاربها الذاتية الممزوجة بنظرة إنسانية رحبة، عمقتها رحلة الهجرة من سوريا إلى فرنسا وإقامتها الدائمة فى باريس.
منذ قرأت روايتها «حبل سرى» وقعت فى غرام هذه الكتابة ذات النفس الوجودى المحموم الممزوج بهموم المرأة العربية التى تعانى التهميش والإقصاء والوقوع تحت طائلة السطوة الذكورية فى أبشع صورها، وتتالت أعمالها المدهشة: «طبول الحب»، «بنات البرارى»، «الراويات»، مترو حلب».. وهى كلها روايات تقرأها باستمتاع حقيقي؛ تمارس مها حسن هوايتها الأثيرة فى اللعب وتفكيك الواقع وإعادة تخليقه سرديا دون أن تشعر بالتعقيد الملازم لمن يمارس التجريب بغير وعى ولا قدرة! وما أكثرهم!.
وفى روايتها الأخيرة «حى الدهشة» (الصادرة عن دار سرد للنشر ودار ممدوح عدوان، 2018) ستمارس مها حسن ألعابها السردية الممتعة؛ خطوة راسخة تكمل مشروعها الروائى الذى تجاوز الروايات العشر؛ لا يغيب عنها أبدا أن الرواية فى المقام الأول هى فن الإمتاع ولا تكتمل المتعة إلا إذا كان الروائى واعيا بأنه يمارس عملا جماليا فى المقام الأول لا بد أن يشد القارئ ويجذبه للانخراط فى اللعب والقراءة والتأويل.
عن الحب، وذكريات الطفولة، والقتل بالنية، والمشيمة العاطفية، ودور الأدب فى حياتنا، تنسج الروائية السورية القديرة خيوط روايتها من حرير الألم؛ وتسعى ــ فى روايتها الحادية عشرة ــ إلى جلب هذه الدهشة عبر الكتابة والذكريات، لتعيد رسم «حلب» وأحيائها الشعبية القديمة، وطقوس عيشها، وبساطة ناسها، وأحلامهم الصغيرة، قبل أن تأتى الحرب فتدمر فى طريقها كل هذا.
احترافية مها حسن تتبدى فى قدرتها على حشد التفاصيل دون أن تغرق فى ركامها أو تستسلم لغواية جمعها! التفاصيل هنا لا تعنى أكثر من الإثبات الفنى لواقع تعيد مها تفكيكه وتركيبه؛ واقع مدينة سورية عريقة ذات تاريخ وحياة كانا يميزانها ويطبعانها بطابع خاص قبل الحرب، ثم تغير كل شىء؛ المكان والبشر والمشاعر.
باقتدار حولت مها حسن جزعها الإنسانى ووجعها السورى إلى تشكيل جمالى للمكان الذى كان؛ فجاءت «حى الدهشة» رواية جميلة تحكى عن حى حلبى قديم؛ حب وشجار وعنف ورغبة. رجال ونساء، حب وبغض، وفاق وخصام؛ إنها صراعات الناس العادية، وأرشفة للمكان السورى قبل الحرب. كأنها أرادت؛ بل هى أرادت فعلا، أن تثبت المكان الذى لم يعد موجودا اليوم.
سرد مها حسن متدفق؛ سلس، بلا نتوءات ولا مطبات، التخطيط للرواية محكم، والشخوص حاضرة قوية حية؛ نماذج وأنماط بشرية قد تكون قابلتها هنا أو هناك تحمل خصوصية لحظتها وتاريخها ومحنتها الداخلية والخارجية على السواء.
أكثر ما يعجبنى ويدهشنى فى إبداع مها الروائى هو تلك القدرة على إظهار مكامن الاختلاف والتفرد فى شخوص رواياتها؛ بطولتهم الحقيقية أنهم بشر عاديون؛ ليسوا أبطالا خارقين ولا ذوى معجزات ومفارقات خيالية؛ إنهم نساء ورجال حلبيون سوريون يحملون كل ما منحته لهم تلك البقعة الطيبة من أرض الله الواسعة؛ ثم يجابهون بما حدث. تأتى نهاية الرواية مع الحرب، فتنشر الأبطال الحقيقيين فى هذا العالم؛ هؤلاء الذين يواجهون «الموت» و«التهجير» و«المنافي«؛ ويغادرون أرواحهم يعانون بلاء الانتظار وهو لا يرحم لهفتهم ولا يرفق بضعفهم.
وكعادتها أيضا لا تنهى مها حسن روايتها من دون أن تفاجئنا مها وتدهشنا بلعبتها السردية فى صفحاتها الأخيرة؛ سنكتشف سر الحكاية والولع بالرواية!.
لا يفوتنى أن أنوه بالإخراج الفنى الأنيق للرواية وغلافها الجميل الذى صممته الفنانة المدهشة نجاح طاهر؛ فضلا على الدقة التحريرية والصياغية فى زمن عز فيه أن تقرأ رواية متكاملة الأركان من حيث الشكل مع سبق الإصرار والترصد؛ ولهذا فالتحية واجبة لمن لم ينس شرط الجودة والدقة والإتقان فى هذا الزمان!.
«حى الدهشة» ثمرة روائية ناضجة لعقل يعرف معنى الحرية، ولقلب لم ينس أبدا رائحة الأرض.. إنها كتابة تستحق القراءة والاحتفاء بصاحبتها التى لم تتخل أبدا عن دهشتها المعرفية والفنية فى كل ما تكتب.

«حى الدهشة».. رواية فى حب الرواية!


 محمود عبد الشكور

يتدفق السرد سلسًا وبسيطًا، كل جزء يحمل عنوان رواية عربية أو أجنبية، يحضر المكان قويًا بكل تفاصيله، أحد أحياء حلب الشعبية، حى الهلك، لا نخرج منه إلا لمزرعة نائية، أو إلى بيروت أو لندن، لكن الحى يمتلك ناصية الحكاية، تحضر الشخوص بكل نبض الحياة الواقعية، وبكل تقلبات العواطف، وكأنك أمام مسلسل مشوق مكتوب!
عندما نقترب من النهاية نكتشف اللعبة السردية الماكرة، نعرف السارد، فندرك أننا أمام تحية ذكية لفن الرواية، ونعلم أنه الفن الذى يتحدى الحرب والموت والعدم والزمن، لأنه الحكاية والبشر أحياء على الورق.
مها حسن، الكاتبة السورية المقيمة فى باريس، تبنى من جديد فى روايتها «حى الدهشة» الصادرة عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، معالم زمن لم يعد موجودًا، ساردة الحكاية تأخذ معها حلب إلى لندن، مثلما أخذت مها حسن حلب إلى باريس فى روايتها «مترو حلب»، الساردة كانت تحلم دومًا بأن تكون روائية، فكتبت حكاية أسرتها وحيّها وناسها والمرأة التى غيّرت حياتها، ولم تنسَ أن تقدم التحية لفن الرواية، فاستحضرت أسماء الروايات فى العناوين، تذكرنا التحية عموما بتحية سابقة من مها حسن لفن السرد فى رواية «الروايات».
لكن «حى الدهشة» كنصّ يتجاوز فكرة التحية إلى الغوص بالعمق فى شخصياته الرجالية أو النسائية، وإلى تحليل العواطف الإنسانية المتقلبة، وإلى اكتشاف الفوارق الطبقية، بل إن حكاية عمل طبيبة أمراض النساء هند، القادمة من أسرة ثرية، فى حى الهلك الشعبى، تكتسب حيويتها الكبيرة بهذا التنوع المدهش للشخصيات، وبهذا التحليل البارع للعلاقات بين الرجال والنساء، من دون الوقوع فى فخ التنميط أو «الكليشيهات».
ليست كل النساء طيبات، ولا كل الرجال، شخصيات مثل مديحة أو سعاد أو مجيدة تفتقد حكمة الجدة درية أو وعى هند أو طموح درية الحفيدة، وشخصيات مثل شريف وممدوح وإدريس وعبدالغنى تفتقد التوازن، وتسبب الفوضى والمأساة، إنهم يخذلون النساء خذلانًا مبينًا، بينما توجد شخصيات ذكورية مختلفة مثل حامد، رفيق طفولة هند، وإبراهيم، سائق عائلتها، وحسين، الذى جعل من نفسه سيفا مدافعًا عن النساء، رغم تعقد شخصيته، واضطرابها النفسى.
ذكاء المعالجة فى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: اختبار العواطف الإنسانية فى أضعف مكان، وهو الحى الفقير، ومن خلال أضعف حلقات السلسلة فى المجتمع الشرقى، وهى النساء، وفى أكثر لحظاتهن شغفًا، وهى لحظة التحقق الأدبى أو العلمى أو التحقق بالأمومة، وفى أكثر اللحظات الفاصلة فى عمر حلب وسوريا، وهى السنوات القليلة السابقة على الحرب، ومن خلال أكثر العلاقات حساسية، وهى العلاقة بين الرجل والمرأة، ورغم صعوبة التحدى، تنجح مها حسن من خلف قناع درية الساردة، فى أن تقول الكثير عن حال المرأة، وحال المجتمع، قبل وبعد الحرب.

الكتابة عملية سحرية تختلط فيها عقلانية الكبار بمغامرة الصغار


حاورها: كه يلان محمد


يقول الفيلسوف الألماني نيتشة نحن لانتحرر إلا من خلال التذكر وربما يكون فعل التذكر أمراً ملحاً في الأزمنة القاتمة عندما تضيع ملامح المستقبل وتطبع حاضرك صور محملة بالبؤس والدمار آنذاك يتحول التنقيب في الذاكرة إلى خيار وحيد هروباً من عدمية الحرب إذا كانت تقنية التقابل بين زمنين قائماً زمن الحرب وماقبلها في معظم الأعمال الروائية المكتوبة على إيقاع الحدث السوري «المحتشد بالآلام» فإن الكاتبة والروائية السورية مها حسن، تروم في روايتها «حي الدهشة» الصادرة مؤخراً عن دار ممدوح عدوان بالاشتراك مع دار سرد الخروج من إطار سرديات الحرب ولاتَذكر وقائع ما بعد الربيع العربي إلا لماماً بدلاً من ذلك تركزُ على أنماط الحياة في مساحة جغرافية (حي الهلك) في مدينة حلب إذ تعيدُ في مادتها الروائية بناء هذه البقعة المكانية مع إظهار دفء وحميمية المكان والاهتمام بترتيب وتمصيم محتويات العمل طبقاً لبرنامج سردي محُكم. وكان لـ «القدس العربي» حوار مع صاحبة «مترو حلب» حول عملها الجديد:
■ سبق وأن قررت التوقف عن كتابة الرواية بعد نشر عملك «عمت صباحاً أيتها الحرب» ولكن صدرت لك مؤخراً «حي الدهشة» هل جاء مشروع هذه الرواية إدراكاً منك بضرورة تقديم عمل مغاير لما أنجزته سابقا؟
□ بعد روايتي الأخيرة «عمت صباحاً أيتها الحرب» أحسست بحالة من العدمية. في هذه الرواية قلت الكثير عن الخراب الذي طالني وطال من حولي، وأحسستُ بعدم جدوى الكتابة وأنني لن أتمكن من إضافة أي شيء بعد ذلك السرد المحتشد بالألم، لكن مشروع «حي الدهشة» أطل علي وحده. حقيقة لا يعرف أحدنا كيف تتسلل إليه الكتابة، يحدث هذا بطريقة ساحرة، كما حين تكون في غرفة تجلب لك نافذتها نسائم تعبق بالذكريات، فتشعر كأن شخوصاً وأمكنة دخلوا غرفتك عبر ذلك النسيم. هكذا دخلت إلي شخوص الرواية، كنت مستلقية على أريكة مكتبي حين أحسستُ بمكان يتسرب من ذاكرتي، مكان بعيد أمضيت فيه بعض سنوات طفولتي الأولى، حيث كان منزل جدي لأمي في حي الهلك. شممت رائحة الحارة ورأيت وجوهاً قديمة. وهكذا رحت أصنع روايتي وأبنيها خارجة من بين أنقاض روايتي السابقة عن الحرب، كأن الطفلة التي كانت في سن الخمس سنوات تقريباً، تسحبني من يدي، لأخرج من تحت القصف، وأتابع الكتابة من مكان آخر، مكان هو الآخر لم يعد موجوداً اليوم إلا في ذاكرتي، لأن ذلك الحي أيضاً تعرض للقصف والتدمير، ولكن الطفولة لا تريد الاعتراف بالحرب، يبدو أن هذا ما جعلني أدخل لعبة الكتابة من جديد : سحر الطفولة.
■ يتفاعل نصك الروائي مع الأعمال العالمية والعربية من خلال تصدر عناوين الروايات والمسرحيات المؤثرة في المشهد الأدبي . ما الدافع وراء هذا الانفتاح المُباشر على نصوص أُخرى؟
□ سأكمل جوابي هنا، عبر آخر عبارة وردت في إجابتي السابقة (سحر الطفولة)، أعتقد أن الكتابة عملية سحرية، تختلط فيها عقلانية الكبار بمغامرة وجرأة الصغار. لجوئي إلى العناوين الروائية الشهيرة، هو لعبة للاستمتاع وكسر إيقاع السرد الذي قد يصيب القارئ بالملل أحياناً، وفي الوقت نفسه، هو تخطيط عقلاني يهدف إلى تقدير أهمية الرواية في حياة البشر، وخاصة في زمن الحروب والكوارث، وهذا ما حصل لبطلتي الشابة الصغيرة دريّة التي ساعدتها قراءة الروايات للعيش في عالم موازٍ في مخيلتها، عالم أنقذها إلى حد كبير من اليأس والخوف والموت.
■ يبدو اهتمامك بالمستوى البنائي واضحاً في «حي الدهشة» هل تعتقدين بأنَّ تصميم المادة الروائية وترتيب محتوياتها وفقاً لخطة سردية مُحكمة أصبح جزءاً أساسياً من عناصر التشويق؟
□ أظن أنه في زمن انتشار الكتابة، واتساع خريطة الكتّاب، صار على كل كاتب أن يبتدع أسلوبه ليحافظ على استقلاليته، وليشرعن ـ إن صح الوصف ـ حلمه الروائي. ومن هنا يأتي التكنيك الروائي بالنسبة لي، كأحد أهم ركائز النص المختلف. كما أنه من حق القارئ أيضاً أن يدخل في زمن القراءة مستمتعاً. أظن أن هذا التكنيك الذي هو بمثابة لعبة بين الكاتب والقارئ، يخلق نوعاً من الانسجام والارتياح بين اللاعبين، للذهاب بعدها إلى مرحلة تفكيك النص، والوصول إلى المعاني الكامنة خلف التقنيات الشكلية.
■ بخلاف ما يتابعه القارئ في (مترو حلب) و(عمت صباحاً أيتها الحرب) حيث تتراوح الأحداث بين الأمكنة فإنَّ مدينة حلب وبالتحديد حي الهلك يتحول في روايتك الأخيرة إلى مسرح لحركة الشخصيات وتعاقب الأجيال هل يعزى ذلك إلى إدراكك بأنّ تحويل مساحة جغرافية محددة إلى ركيزة أساسية في برنامجك السردي يخدمُ تماسك العمل أكثر؟
□ علاقتي بالمكان هي استجابة لصوت الطفولة بداخلي. كما أن هناك رغبة واعية لدي، تتعلق بشخصيتي البالغة الآن، بضرورة وضع هذا العالم المهمش تحت الضوء. هذا العالم ارتبط وجوده اليوم بالحرب والخراب. إذا ذهب أحدنا إلى محركات البحث في الانترنت وكتب أسماء حارات حلب القديمة، وحي الهلك منها، لقرأ مئات الأخبار وشاهد مئات الصور والأفلام، حول الحرب والاشتباكات. لا أحد يعرف هذه الأحياء بمعزل عن الحرب، لهذا كانت ثمة استجابة آنية عاقلة لدي، لصوت الطفلة القديمة البريئة والبسيطة، لإعادة تقديم هذا النمط من الحارات والأشخاص، ولكن قبل أن يقع عليهم هذا الخراب.
■ من يقرأُ «حي الدهشة» يتخيلها في إطار الأعمال الدرامية والسينمائية كون النص ضاماً لمقومات تَمده بالحركة والتشويق هذا إضافة إلى ما يشعر به المتلقي من حميمية ودفء المكان المُؤَطر للأحداث. هل كان هذا الأمرُ يهمك؟ أي تحويل النص إلى الشاشة عندما شرعت بكتابة عملك؟
□ كنت أكتب روايتي هذه محاولة أن أستمتع أنا بها. كنت ألعب مع ماضيي وذاكرتي، ومع أسماء الروائيين والروايات التي أحببتها وتأثرت بها. لم أفكر أبداً في مستقبل النص، وعلاقته بالشاشة. هذا السؤال دقيق يجرّني أيضاً إلى الماضي: حين كنت في ذلك السن، ورغم صغري، كنت أتقاسم مع نساء العائلة والجيران، مشاهدة المسلسلات التلفزيونية المأخوذة عن روايات : مثلا مسلسل اللص والكلاب، أو شجرة اللبلاب. أظن أن ذاكرتي اختزنت شكلاً سردياً تدفق في روايتي هذه بطريقة غير واعية، جلبتها لي تلك الطفلة التي كنتُها ذات يوم في ذلك الحي. دعني أشكرك على هذا السؤال الذي ساعدني لفهم المزيد من (سحر الطفولة) ودعني أقول لك كما يقول المثل: من فمك لباب السماء. لم لا.

مها حسن تنسج حكاياتها في حيّ الدهشة



 جريدة الحياة كه يلان محمد
أشارت القراءات التي تناولت الأعمال الروائية العربية الصادرة بعد أحداث 2011 المحورية، إلى تماثل واضح في ثيمات تلك النصوص وتأثير ذلك الحدث في تركيبتها. وبدا أنَّ معظم الروائيين يمتحون من منجم ذكرياتهم ومشاهداتهم، وهذا ما أضفى طابعاً ذاتياً على يقدمونه. ولعلَّ هذه السمة تبرز أكثر في الروايات التي قاربت الواقع السوري، بحيث يتوخى مؤلفوها إستعادة صورة مدينتهم قبل وقوع الدمار والكوارث، فكان التقابل بين زمنين قائماً في بنية تلك الروايات: زمن الحرب وما قبلها. وهذا ما يتقاطع مع ما قدمته الكاتبة والروائية مها حسن، بحيث تفاعلت مع مصير مدينتها في ظل الحرب بحساسية شديدة وتنعكسُ مأساةُ الدمار في حيثيات سردياتها الروائية مدونة مطبوعة بخصائص المرحلة.

لقد تحولتْ الكتابة لدى صاحبة «الروايات» إلى طقس للتذكر كأنها مُقتنعة بما قاله نيتشة إن الإنسان لا يتحرر من دون التذَكُر. فعلاً هي تريدُ التحرر من بؤس ما تعيشه مدينتها وتَبَرُح آلام الفقدان من خلال فعل الكتابة، فتتراوح أحداث روايتها «مترو حلب» بين باريس ومدينة المنشأ مع إيراد تفاصيل الظروف التي غادرت فيها البطلة سارة- وهي وجه آخر للذات الكاتبة- بلدها لتقيم عند خالتها في باريس. ثم تبعتها «عمتِ صباحا أيتها الحرب»، العنوان السابق مع مزيد من التوغل في الذاتية والدفع بتداعيات الحرب على الأسرة إلى الواجهة حيث تبعثر أفرادها في الشتات، ومن يبقى مِنْهُم لا يكونُ مصيره إلا الموت أو الإختطاف ما يعني أنَّ النص الروائي مندمج في تفاصيل واقعية مع الإحالة إلى المواد الخبرية المتداولة في وسائط مُتعددة. أما في عملها الأحدث «حي الدهشة» (دار ممدوح عدوان ودار سرد)، فإنها ترسم إستراتجية مُغايرة بحيث تعيدُ بناء جغرافية مكان واقع في مدينة حلب (حي الهلك). ويطالعك في مُقَدِمة الرواية مقتبسُ يُحيلك إلى الجذور التأريخية لتسمية الحي، علماً أن المكان الروائي مهما كان مُطابقاً لصورة الواقع فهو يخضعُ لخصائص الكلمة التصويرية، وما يجعلُ الزمان والمكان واضحين ويمكن معاينتهما في حالة حركية هو الإهتمام بالشخصية والحدث وذكر عبدالله إبراهيم هذا الترابط بين تلك العناصر في كتابه «المتخيل السردي».

مناورة سردية

لا تتابع الوحدات السردية في رواية «حي الدهشة» خطّاً مستوياً تنبسطُ عليه المادة دون الإلتواءات الزمنية، بل تفضل الكاتبة مناورة القارئ بإرجاء نهايات القصص التي تتوالد في سياق العمل، فإنَّ ما تضمه الوحدة الأولى من قصة عبدالغني وسميرة قد يتوهمُ القارئ أنَّ مع موت الزوجة تُقفل وتنسحبُ عنها الأضواء، ولكن هناك شخصية الإبن الذي شهد ما عاشته سميرة من الإحباط والخيبة عندما شكَّ الزوج بصدق حبها. فإنَّ وجودهُ يشدُ مفاصلُ الرواية بعضها إلى بعض ويجعل البنية أكثر تماسكاً، وذلك حين يغادر دوره البسيط، فلا يعودَ هامشاً لصاحب عمله شريف الحداد وانما يصبحُ حسينُ في المقاطع الأخيرة مُحركاً رئيساً في المنظومة السردية. ثم يتورطُ في قتل شريف متواطئاً مع سعاد التي أغرم بها منذ كان طفلاً. إذاً يستمدُ النصُ تشويقه من هذه التنقلات ما يعني تحويل إنتباه المتلقي على إمتداد زمن القراءة من شخصية إلى أخرى. ومع توالى الأحداث يتضحُ أن شخصية مديحة التي تستبطن الساردة ما تعتمل في أعماقها من الغيرة والحقد على الدكتورة هند العائدة من لندن، لأنَّ الأخيرة تستأثر بإهتمام زوجها شريف، وتتحين الفرصة للإنتقام منها وقعت في شرك التمويه لأنَّ غريمتها لم تكن إلا سعاد التي وقع شريف في أحابيل مكرها وفتنتها. إضافة إلى ذلك كله، تتواردُ قصص أخرى تعودُ إلى خارج زمن الرواية ويتمُ توظيف تقنية الإسترجاع لحياكتها في متن النص، يُسندُ دور الراوية إلى هند في فقرات ذات طابع مونولوجي تستعيدُ جانباً ظروفها الحياتية قبل إنفصال والديها، كما أنَّ طيف شخصية ميمد يحوم في طيات أيامها وما حجبته تجربتها مع قصي ولا الأيام التي مضتها برفقة وليام وعندما يخذلها شريف ويضاعف مرارتها تتوسل بصديق الطفولة وتستعيده من جديد، إضافة إلى ذلك فإن شخصية زلوخ المرأة التي تعرفت هند من خلالها على حي الهلك تكتسبُ وظيفة مُساندة في الإبانة عن طبيعة الحياة في المكان الذي يؤطر الشخصيات التي يحفلُ بها النصُ، ويتحول إلى حاضنة لأحداث مثيرة بدءاً من فتح الدكتورة هند لعيادتها، مروراً بمقتل شريف في مشهد درامي، وليس إنتهاءً بهروب حسين بصحبة سعاد بعدما يتقلُ والده في بيروت.

الحب والحنين

للوهلة الأولى تبدو محتويات هذه الرواية بسيطةً بثيماتها التي لا تخلو منها الأعمال الروائية الأخرى، مثل الحُب بين أبناء ديانتين والخيانة والغيرة والحنين. ولكن ما يعطي مستويات جديدة لهذه الثيمات، هو طريقة المُعالجة طبقاً لخريطة سردية مُتماسكة، فضلاً عن الشخصيات الفاعلة في التعبير عن حالتها الوجدانية والإنفعالات الداخلية. هذا الأمر نراه أكثر وضوحاً في شخصية مديحة التي لا تكف عن تخيل سيناريوات غرامية بين هند وشريف فتنهشها الغيرة من المرأة الدخيلة على حياتها. بين هند وشريف وحسين، تتشابك الأحداث في لوحة الرواية وتتباين أدوار الشخصيات في تفعيل حركة السرد.

ولا تنتهي الرواية قبل إيراد التمليحات إلى الأزمة السورية ومغادرة درية الحفيدة برفقة الدكتورة هند إلى بريطانيا. كأنَّ الكاتبة أرادت بذلك أن يكون النص أقل ذاتيةً بخلاف بطلة رواياتها الأخرى التي تنتهي بها الرحلة إلى باريس. يُذكر أن الكاتبة وفقت في إستخدام المحكية السورية من دون الإسراف، فكان مناخ الرواية مُطعماً بخصوصيات الحي الشعبي وحميميته. بقي أنْ نشير إلى أن «حي الدهشة» تتفاعل مع الأعمال الروائية العالمية والعربية، وتتصدر عناوينُ تلك الأعمال إستهلاليةَ وحداتها مع الأخذ بالإعتبار تناسق كل عنوان مع مضمون الوحدة.

رواية السورية مها حسن «عمت صباحاً أيتها الحرب»: ليلة سعيدة أيتها الثورة




المثنى الشيخ عطية


في قراءتنا لرواية الكاتبة السورية مها حسن «عمت صباحاً أيتها الحرب»، سوف نقر من دون شك أنها كانت رواية متعبة، ليس للقارئ الذي استمتع مثلي بمتابعة الأجزاء المعروضة من حياة أبطالها تحت نار الحرب التي أشعلها النظام السوري ليحرق بها بلد وأهل سوريا الذين ثاروا على استبداده، وبمتابعة أبعاد وحلول تعقيدات البنية الظاهرة والعميقة التي تسرح الرواية في أرجائهما، وإنما كانت متعبة حد الإرهاق والتفكير بالتوقف عن الكتابة لدراسة هذه التجربة الغنية بعد إنجازها. مها حسن كاتبة أرادت خوض مغامرة بناء ملحمة للعائلة السورية، في حياتها ومعاناتها قبل وخلال الثورة، وخلال الحرب، وخلال التهجير والتشرد في مدن ودول العالم الظالمة للسوريين؛ في اللحظة/ البؤرة/ الحرب، التي يتحول شرها المطلق إلى إله أعمى يأكل الأجساد، ويمسخ الأرواح، وتُطلب مرضاته لاتقاء شرور غضبه. الأم الميتة/ شهرزاد الرواية، تختتمها هكذا: «الحرب، يا ابنتي. الأفعى المخيفة، لهذا رويت لك هذا الكتاب، ولا أزال أروي، طالما الحرب قائمة، أدللها، أجلسها في حضني، حتى إنني أكاد أقول لها متقية شرها: «بلغني أيتها الحرب السعيدة». لا، بل يفيق أغلبنا، نحن المدفونون في هذه الحديقة، في كل صباح، على الخوف الأعظم بعد الموت، لنهمس لها متصنعين الفرح: صباح الخير، أيتها الحرب الحبيبة»…
ومن الواضح لقراء هذه الرواية أن تصريح الكاتبة في مقابلة معها، بهذا التعب الذي استغرق أربع سنوات، لم يكن البتة إعلاناً لترويج الرواية. ففي شغلها المضني على إنتاج ملحمة للعائلة السورية، مؤثرة ومميزة وفق منظورها لفن الرواية، خاضت مها حسن تعب تحديات وقوعها في تكرار أسلوب غابرييل غارسيا ماركيز الذي تحاول مقاربته كما تصرح في شغلها على إيصال روايتها للواقعية السحرية؛ وذلك بالقفز فوق السرد البسيط الذي يقوم به كما تفعل الجدات، وعدم لمس نول نسجه الخفي لأبعاد بنيته العميقة الفانتازية ضمن هذا السرد، واللجوء بدلاً عن ذلك إلى التسجيل الواقعي لفظاعات وتشويهات ما جرى ويجري في سورية بما يفوق الخيال. هذا إلى جانب إضافة «كتابتها» كبطلٍ من أبطال الرواية، مع شرح أسلوبها بالتداخل مع الشخصيات العائلية التي انحدرت منها: «أمي العملاقة، الشتراوسية، النيئة، الماركيزية، المسكونة، خلقت عالمي السردي، حيث تقاسمتْ هذا الخلق مع جدتي، تلك المرأة المناقضة تماماً لأمي، جدتي لأبي، الرصينة، الحكيمة، حلالة المصائب، كأنها قاضٍ تلجأ إليها القرى والعشائر، وإن جلست في مجلس وقالت كلمة، تحولت كلمتها إلى حكم، لا يمكن دحضه. جدتي كانت النموذج المناقض لأمي. هي ملأت عقلي بالمنطق والرصانة والحكمة، وحررت أمي مخيلتي بالجنون والجن والرؤيا واستشراف البعيد».
وفي شغلها المضني على رواية تُدخل نفسها الصريحة مع كتاباتها السابقة بطلاً فيها (كمغامرة حساسة وراقصة على صراط النجاح/ الإخفاق، لكنها جسورة وباعثة على الاحترام مهما كان الخلاف حول الطريقة التي اتبعتها في هذا الإدخال)؛ تقوم الكاتبة بإحلال البيت مكان الأم الراوية ومفسرة الكتابة، وفقاً لتحليل غاستون باشلار، حول البيت والأم، وبربط بطلتها «الكتابة» بالبيت «كوطن دائم للكتابة والتخيل واكتشاف الذات والعالم، وإيجاد الحلول لأزماتها الحياتية والكتابية»، وفقاً لمارسيل بروست وزمنه الضائع؛ حيث: «أكتب كثيراً عن البيوت العديدة التي نمت فيها، وعن البيوت التي فقدتها… كأنني أعاني عقدة بروست ذاته وهو يجبر على مغادرة الزمن الجميل الذي صار بالنسبة إليه زمناً ضائعاً». وتخوض الكاتبة، بتصريحاتها المُدخلة المفسرة تلك لتكوينها النفسي ككاتبة بيتوتية، تحديات وضع إدخالاتها تحت مبضع دراسة الابتكار في آفاق الرواية الحديثة.
ومع  إدراجها للمعلومات والرسائل والمكالمات والرسائل الهاتفية والوثائق المجمعة من الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، كشغلٍ مضنٍ، في بنية روائية مثلى لتوليد التأثير، ومنح الحياة الدائمة لتجميعاتها، إضافة إلى هم وقاية الرواية من فخاخ إصدار الأحكام، في موضوع حساس ومعقد تشابكت فيه الصراعات الاجتماعية، مع المذهبية، مع القومية؛ تختار الكاتبة أسلوب سرد الشخصيات المتعارضة لذاتها وتبرير مواقفها وسلوكياتها بذاتها، ضمن ثلاثة عشر فصلاً تضم مائة وسبعة عشر عنواناً تنبض تحت خفق أجنحتها الحكايات التي تتقطع وتتواصل لتشكل الرواية. وتتضح مماهاة هذه الطريقة بأسلوب ألف ليلة وليلة، وبتصريح واضح من الكاتبة، مع سردية شخصية الأم التي تلعب دور شهرزاد الروي، في سردها لمعاناتها ومعاناة أهالي حلب المدنيين تحت قصف صواريخ وبراميل النظام المتفجرة، مع استعادات لحياتها تعكس تفاصيل الحياة الاجتماعية المشتركة لتعايش السوريين مع بعضهم، على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم قبل وبعد تمزيقها من قبل حرب النظام عليهم. ذلك كله بالإضافة إلى إغناء هذا المحكي بسرد آرائها في حكاياتها، وبأسلوب ابنتها في الكتابة، بما يوفر إضاءات في بلورة شخصيتيهما، وبلورة أسلوب الكاتبة في رواياتها، والأهم: تحميل شخصية هذه الراوية الحرة ضوء نقل الرواية من التسجيل إلى الواقعية السحرية. وسواء أن يُلحظ هذا من خلال شخصيتها الطليقة إلى حد الجنون، أو من خلال جعلها تروي وهي ميتة مدفونة في حديقة، ولا يقطع كلامها المباح، صياح ديك الفجر، وإنما أصوات القذائف والانفجارات التي تصيب برعبها الأموات.
مع فتح آفاق التشويق في هذه البنية، وفي مقابل السرد الشهرزادي على لسان الأم الميتة التي تروي لتعيش، ما يجري من قتل وتهجير في الداخل؛ تسجل الكاتبة معاناة السوريين على دروب التهجير واللجوء التي تكمن فيها أنياب الموت في كل تقاطع ومنعطف وموجة، في المناطق الأخرى من سوريا، وفي تركيا، واليونان والسويد، من خلال سرد الأخ الأصغر لها حسام، الشاب السوري الكردي الذي التحق بثورة الحرية والكرامة منذ بداياتها، وشارك في مظاهراتها السلمية، وكان أحد المؤثرين فيها داخل حارته في حلب التي يسودها منطق تكافل وصداقة الحارة، دون سؤال عن الدين أو المذهب أو القومية. كما تسجل (من خلال تجربة معاناته في الهرب خشية اعتقال النظام له، ومروره بتجربة تمييزه من قبل الجيش الحر، والفصائل المسلحة ككردي عليه أن يسجن أو يموت، في صراعها مع فصائل الـ»بي كيه كيه»، والـ»بي واي دي» الكردية المساندة للنظام)، أحداث وتفاصيل سرقة الثورة الديمقراطية السلمية برعاية النظام من قبل الفصائل الإسلامية المسلحة، وتصفية الديمقراطيين الذين قامت على مظاهراتهم الثورة. كذلك تسجل، على لسان الأم والأخ، خذلان العالم للسوريين، وإطلاقها نبوءة معاناة العالم نتيجة مساهمته في إجهاض ثورتهم.
وتكمل الكاتبة صورة ملحمتها السردية بتصوير أبعاد التمزق الاجتماعي، المذهبي، القومي، السوري الذي اصطنعه ورعاه النظام بخلقه للفصائل المسلحة كي يقوض الثورة، من خلال سرد شخصيات الموالين والمعارضين للنظام: بنات الأخت وزوجة الأخ الموالي، والصديقة المعارضة، في ظل الحرب التي سقطت فيها حلب بيد النظام، وتشفى فيها الأهل الموالون بالأهل المعارضين، وأعدوها تحريراً وإن فوق أنقاض المباني والجثث.
في روايتها «عمت صباحاً أيتها الحرب» خاضت مها حسن كما يبدو تحديات كبيرة متعبة، ليس أقلها قرارها بإنتاج رواية ملحمية عن العائلة السورية في لحظة مهولة هي الحرب التي لم يشهد العالم مثيلاً لفظاعاتها. ولقد كانت جسورة في خوض تحديات البنية وحلول تكوينها، مع تحديات التسجيل والارتقاء به إلى فضاء الرواية، وتحديات الواقعية والارتقاء بها إلى فضاء السحرية، مع تحديات التفاصيل في الأسماء والأحداث، مع تحديات اللغة، وتحويل لغة أمها الدارجة إلى أسلوبها في الفصحى، وتحديات ربط الأم بالبيت والكتابة وتحديات مقارباتها لأساليب روائيين عظام مثل ماركيز، وبروست، وغيرها من التحديات التي تثري روايتها ولا تخلي وفاضها من الدراسات النقدية المهتمة باكتشاف ابتكارات الآفاق الجديدة للرواية الحديثة.
مها حسن روائية سورية متميزة بتجريبها الفني، مقيمة في فرنسا، وكانت روايتها الأولى «اللامتناهي ـ سيرة الآخر» قد صدرت سنة 1995. رواياتها اللاحقة تضم «لوحة الغلاف»، 2000، مع طبعة ثانية في القاهرة عام 2016 بعنوان «ذيول الخيبة»، تراتيل العدم»، «حبل سري»، «نفق الوجود»، «بنات البراري»، «الراويات»، «مترو حلب»، و»حي الدهشة» مؤخراً.