jeudi 22 décembre 2011

في روايتها «بنات البراري» تمجد الجمال وتجدد الحياة

مها حسن في روايتها «بنات البراري» تمجد الجمال وتجدد الحياة

أسطرة الحب


تاريخ النشر: الخميس 22 ديسمبر 2011

مفيد نجم



بدأت الروائية السورية مها حسن حياتها الأدبية قاصة جريئة عبر مقاربتها للمسكوت عنه في علاقة الفتاة بجسدها في مرحلة المراهقة، كما قدمت نفسها لأول مرة في مجلة “الموقف الأدبي” السورية قبل أكثر من عقدين من الزمن مما لفت الأنظار إليها ككاتبة نسوية تمتلك شجاعة القول والدخول في المناطق البالغة الخصوصية من حياة المرأة، لكنها ظلت تظهر على فترات متباعدة لتعود وتقدِّم نفسها ككاتبة روائية من خلال أربعة أعمال صدر آخرها قبل فترة بعنوان “بنات البراري”.

وإذا كان هذا العنوان يشكل اختزالا وتكثيفا لعالم الرواية، فإن إضافة اسم الجمع الذي هو خبر المبتدأ المحذوف في بنية العنوان (بنات) إلى المضاف إليه (البراري) يجعل هذا الاسم معرَّفا من خلال الإضافة الدالة على علاقة الارتباط القائمة بين الاسمين اللذين يأتيان في صيغة الجمع بهدف إعطاء العلاقة بينهما بعدا جمعيا يقوم على علاقة الارتباط القائمة بين المرأة والحرية والجمال اللذين ترمز لها البراري. إن هذه البنية النحوية والدلالية للعنوان تجعل قراءة العنوان بما ينطوي عليه في بنيته من مقاصد دلالية هامة تجعل منه المحور الذي تدور حوله أحداث الرواية يضع القارئ منذ البداية في عالم الرواية الذي يكشف عن مضمونها ودلالاتها، حيث تنشغل الرواية باستحضار قيمها عبر علاقة الحب وما تحمله هذه العلاقة العاطفية ببعدها الحسي من تجسيد حيٍّ لمعنى وجود الكائن الإنساني وتألقه وفيضه الذي تشترك فيه الطبيعة مع الإنسان في هذه الحالة العميقة من التفتح والخصب والدفء والجمال.

الحب وأفق الكتابة 

تهدي الكاتبة روايتها إلى ضحايا الشرف من النساء ما يجعل الرواية من خلال هذه العتبات تنطلق - بوصفها كتابة مضادة - من أفق يمجِّد الحب ويعطيه قيمة خاصة وثرية في الحياة. وقد ساهمت تلك الرؤية الشعرية إلى موضوع الحب بين المرأة والرجل في بعدها الحسي بوصفه تتويجا لنداء الجسد ورغبته في الفرح والتفتح والتوحد مع الآخر في بروز الموقف الشاعري من خلال تلك الرؤية التي تمنح الحب تلك المعاني الكبيرة التي تتجاوز وجود الإنسان إلى الطبيعة خالقة حالة عالية من التفاعل والتناغم بين الاثنين.

لقد استدعت تلك الرؤية التي عملت على أسطرة فعل الحب إضفاء طابع غرائبي على عالم الرواية وأحداثها من خلال تلك الطاقة السحرية التي يمتلكها فعل الحب، في عالم يتحول فيه الحب إلى لعنة تنتهي بصاحبها إلى القتل الوحشي غسلا للعار ما يجعل الطبيعة تدخل في طقس الحداد والموات كإعلان عن موت الحياة والجمال والخصب.

 
تلعب جملة الاستهلال بما تمثله من دخول مباشر في حدث الرواية القاسي المتجسد في مشهد قتل بطلة الرواية القاسي سلطانة التي تضع مولودها في نفس اللحظة التي يجري فيها فصل رأسها عن جسدها من قبل والدها عقابا على علاقتها بالشاب الذي أحبته وأقامت معه علاقة جسدية. وبغية إضفاء طابع من الحرارة على علاقة الساردة المباشرة بالمتلقي تستخدم الكاتبة السرد بضمير المتكلم في سرد وقائع هذا المشهد لتعود في الأجزاء التالية من الرواية إلى استخدام ضمير الغائب في السرد.
الواقعية السحرية
تحاول الرواية في بنيتها السردية والحكائية أن تضفي طابعا من الواقعية السحرية على أحداثها على الرغم من أنها رواية ذهنية تنشغل بالفكرة وتمثيل أبعادها ودلالاتها ومعانيها دفاعا عن هذه العاطفة ببعدها الحسي الذي يتمرد على الواقع والقتل، إذ يستمد معناه وقيمته من ذاته وأعماقه الحيّة . لايحمل المكان في هذه الرواية أي دلالة يحيل من خلالها على مكان بعينه، سوى أن أحداثه تجري في منطقة ريفية تتميز ببراريها الواسعة التي تشكل فضاء مفتوحا يرمز للحرية والبساطة والجمال والخصب.

تمثل الطبيعة في هذا العالم بعدا آخر حيا للذات العاشقة يجعل وجودهما متكاملا ومتناغما يحيل كل منها على وجود الآخر كما يتجلى في مشهد عشق سلطانه، ومن ثم في مشهد عشق ابنتها ريحانة وموتها “في ذلك الصباح تصرف جميع أهالي القرية بغرابة. لم يرغب أحد بمغادرة السرير.. رائحة الياسمين اقتحمت القرية، لم تكن مجرد رائحة ممتزجة بالرغبة، بالشهوة كان كل شيء “مميسمنا” له رائحة الياسمين وجنات الزوجات شفاههن أذرعهن سيقانهن، بل وكذلك أجساد الرجال”.
وتأتي رمزية الألوان التي تحاول الروائية توظيفها في بعدها الشاعري لتضفي دلالة موحية بطبيعة المشهد وتحولاته، وذلك من خلال طاقتها التعبيرية التي تمتلكها عبر استخدامها كعناوين لمشاهد الرواية للإيحاء بطبيعة المشهد، فالأحمر الدال على القتل يقابله البرتقالي في مرحلة التحول نحو اللون الأخضر الدال على الحب والخصب وتجدد الحياة.
الشخصية الروائية

تمثل سلطانه شخصية متحولة، بفعل علاقة الحب وتأثيره، فبعد أن كانت تكره المدرسة بوصفها ترمز للمكان الضيق وتقييد الحرية تصبح طالبة مجتهدة تقبل على الدراسة والعلم، في حين تظل علاقتها بالبرية علاقة قوية تعبر عن ارتباطها بما تمثله من جمال وحرية. ولا تختلف شخصية ريحانة عن والدتها سلطانة فهي شخصية غير ثابتة بفعل فورة عاطفة العشق التي تعيشها وتدفع ثمنها كما كان حال والدتها. ويحمل الاسم الذي تحمله شخصيتا سلطانة وريحانة دلالة خاصة توحي بحقيقتهما والحالة التي تمثلها كل منهما في الرواية، لاسيما أن ريحانة تتركها الكاتبة دون اسم حتى يطلقه عليها حبيبها أثناء حالة الوصال التي يعيشاها لأول مرة. وإذا كان الواقع يعيد إنتاج ثقافته ومعاييره الأخلاقية، فإن ذلك لا يحول دون ظهور حالات الحب على الرغم مما تمارسه القرية من محاولات منع ظهوره خوفا منه على حياة بناتهم، على الرغم مما تخلقه تلك العلاقة من تحول في حياة السكان وعلاقاتهم ومشاعرهم، الأمر الذي يجعل الرواية تبدأ بعنوان الأحمر كناية عن القتل وتنتهي به للدلالة على سطوة الواقع واللعنة التي يمثلها في ثقافة هذا الواقع عبر طقس القتل المرعب للمرأة بوصفها رمزا للعار “بكت القرية، بكى العالم كل شيء عاد ليصبح أحمر، الأغصان العشب، السماء، الجدران، شجرة الزيزفون.. كله أحمر! إنه الهيجان الأحمر، الغضب الأحمر”.
تضيف الكاتبة إلى المتن السردي ملحقا خاصا بقضايا الشرف للإضاءة على رعب هذا الواقع الماثل وبيان الدوافع التي قادتها لجعل هذا الموضوع مادة لروايتها. تنوس لغة الرواية بين التقريرية والشاعرية ويغلب عليها طابع التعليق والشرح ما شكل تراخيا في حركة السرد وتناميه وجعل الوصف والشرح يغلب على حركة الأحداث التي ظلت في إطار تلك الثنائية التي تحكم عالم الرواية وحكتها، والمتمثلة في ثنائية الحب والقتل.. الأحمر والأخضر، تفجر الحياة وتجددها، مقابل موتها وجدبها، حيث تتحول الطبيعة إلى عنصر مشارك يمنح تلك العلاقة بعدها الأسطوري الجميل.



اقرأ المزيد : المقال كامل - أسطرة الحب - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/details.php?id=118098&y=2011&article=full#ixzz1hFmaGvxq

mardi 8 novembre 2011

Multiple identities not such a bad thing

November 05, 2011 02:04 AM By Mirella Hodeib The Daily Star




Hassan: Women writers as good as men.



BEIRUT: Syrian novelist Maha Hassan says that while Kurdish culture guides her, only the Arabic language can convey her ideas and feelings. “Kurdish is the essence,” she tells The Daily Star, “and Arabic is the means of expression.



”The self-exiled novelist explains that although she suffers from an identity problem, recently she came to realize that having multiple identities is not such a bad thing after all.



“Whenever I’m with an Arab I feel I am a Kurd and whenever I am with a Kurd I feel Arab,” Hassan says. “But only recently have I come to realize that this situation might create a sense of fullness and richness.”



The theme of multiple identities and the eternal rivalry between the East and the West are thoroughly addressed for the first time from a female perspective in Hassan’s 2010 book “Habl Siri” (Umbilical Cord).



The experimental writer’s poignant accounts of women are concerned with depictions of both the Kurdish and Arab communities, and in 2000 Syrian authorities banned her works, citing “lack of morality” as the main cause.



Her 2011 novel “Banat al-Barari” (Girls of the Wilderness) treats the thorny issue of honor crimes in a crude yet subtly poetic manner.



Hassan’s row with the Syrian state reached the point of no return in 2004 when, in the aftermath of a violent crackdown on Kurdish protests, she left for Paris.



“I never thought something so beautiful could happen in my country, that my people are so courageous” she says, referring to the wave of popular protests that have swept Syria since mid-March.



“So much blood has been spilled,” she adds, tears welling in her eyes, “so many people have died for us to live more decently.”



Hassan is in Beirut for the 18th edition of Lebanon’s Francophone book fair, where she is scheduled to comment on events in her country Saturday, at a roundtable on the Arab Spring.



The novelist does not hide the feelings of guilt she experiences whenever she addresses the Syrian revolt. “I cannot but feel guilty talking about it when I am living outside the country,” she says. “I always wonder what role I would play if I were [living] there now.”



Hassan, who received a Hellman-Hammett grant for persecuted writers in 2005, also admits that she does not feel fully ready to write about events in Syria. She says she postponed the publication of her new book “because I felt it’s not up to the standards of the changes happening in my country.



“All the writing [we] intellectuals might do becomes utterly futile in such circumstances,” Hassan adds.



“Something very big is happening in my country … The people have given new meanings to life that no writings can render.”



The Aleppo-born writer hopes that the Arab Spring will bring about change not only on the political and human rights level but also in the Arab cultural sphere.



Normally serene, Hassan is most likely to lose her composure when discussing women’s conditions in the Arab world and Syria, to the extent of shedding tears.



A fierce critic of such labels as “feminist writers,” Hassan argues that male writers imposed such terms in order to discredit their female colleagues. She also derides Arab women writers for their generally “mediocre” output.



“There is no such thing as ‘manly writing’ and ‘feminist writing,’” she says. “A woman is able to yield the same quality of writing as a man, often [many] times better.”



She adds that the innate “sensibility and flair” that women generally exhibit can express itself in novel forms and themes not previously taken up by male authors.



“Men and women,” Hassan opines, “perceive things differently.”



Hassan also slams several Arab women novelists who have set a “bad example” for the generations to come, citing Syrian novelist Samar Yazbeck as one of the few writers who succeeded in making valuable contributions to modern Arabic literature.



“Don’t [try to] convince me that a woman writing about the sorrow she is feeling because her lover dumped her is a feminist,” says Hassan. “Women writers need to deal with realistic issues if they were to be taken seriously.”



Maha Hassan will take part in Saturday’s 6 p.m. roundtable discussion titled “Samir Kassir: a visionary of the Arab Spring,” along with Henry Laurens, Jean-Pierre Filiu, Delphine Minoui and Ziad Majed and moderated by Christophe Ayad, as part of the 18th French book fair in BIEL, Espace Agora.







Read more: http://www.dailystar.com.lb/Culture/Books/2011/Nov-05/153212-maha-hassan-multiple-identities-not-such-a-bad-thing.ashx#ixzz1d6e5JijJ

(The Daily Star :: Lebanon News :: http://www.dailystar.com.lb)

vendredi 7 octobre 2011

'بنات البراري' يُطالبن بإسقاط النظام الذكوري


مايا الحاج

اشتمّت مها حسن رائحة الثورة في بلادها من على بعدٍ زماني وآخر مكاني، فكتبت بإحساس الثوّار قبل أن تراهم يتظاهرون في شوارع مدن الفلّ والياسمين والنارنج. هكذا أتت الرواية من دون تخطيط منسجمة مع هذا التوقيت المفصلي الذي تعيشه بلادها.



انتهت من كتابتها بداية آذار/ مارس 2011. فكانت الرواية كاملة قبيل انفجار الوضع الداخلي في سورية، مع هذا هي لا تبدو بعيدة عن الأجواء التي تعيشها سورية اليوم.

«بنات البراري» للكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن هي أيضاً ثورة. ثورة تُنادي بالحرية والتغيير والتحسين، لا بل بإسقاط النظام. إنما، مع كلّ ما ذكرناه، هي ليست رواية سياسية على الإطلاق.

بل هي تعود إلى الأساس لتنطلق منه، فتثور أولاً على الظلم الإنساني الذي لا يمكن في وجوده أن يصلح نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. تضع مها حسن بين أيدينا في زمن إسقاط الأنظمة عملاً إبداعياً يُطالب هو أيضاً بإسقاط النظام الذكوري قبل المطالبة بإزاحة أي نظام آخر لأنها تُدرك جيداً أنّ تحسّن وتقدّم المجتمعات لا يُقاس إلاّ بوضع المرأة فيه.

من هنا، اختارت في زمن الربيع العربي أن توجّه أنظارنا نحو نظام وحشي قاهر وجائر لا جنسية له ولا هويّة. فجرائم الشرف التي تتحكم في مصائر مجتمعاتنا وفي أقدار بناتنا غالباً ما تجدها مُرفقة بالكثير من المبررات الجاهزة والدوافع الاجتماعية المُعولبة التي يتمسّك بها الغالبية الساحقة من الناس على اختلاف خلفياتهم السياسية والدينية والإجتماعة والثقافية.

والمعارضون المستعدون للموت من أجل الحريّة في بلادهم هم أيضاً يُطالبون بكلّ شيء، إلاّ بقضية المرأة وتحرّرها.



ارتأت الكاتبة السورية- الكردية التي نشأت في بيئة غنية بقصص القتل وجرائم الشرف أن تُناصر المرأة في تحرّرها وأن تُحارب إلى جانبها ضدّ الجرائم المقزّزة التي تتجمّل خلف كلمة «شرف» لتغدو أكثر لُطفاً بل حقاً مشروعاً لا يُسمح بانتقاده أو الطعن به.



كتبت حسن روايتها بنزق ثائرة ولغةٍ حرّة وأملٍ بربيع قريب. فلم تكن الروائية موضوعية وهي تتطرّق إلى قضية أُزهقت في سبيلها أرواح ضحيتها الكثيرات من بنات جنسها اللواتي أُهديت لهنّ الرواية، فكانت تتدخل في الرواية وتُدخل القارئ معها وتُشارك في آراء شخوصها وتُشرك قارئها أيضاً.

وبأسلوب ديدروا في «جاك القدري» الشهير: «الكلام عن تميمة لا ينتهي، بما أنّ هذا المقطع قد قطع السرد، فعلينا الإقتناع بالتوقف، وإلاّ لروينا قصصاً طويلة عن تميمة، ونسينا سلطانة معلقة، خائفة من العقاب، حائرة... أليس علينا أن نضحّي قليلاً بسيرة تميمة، لنعود إلى حكايتنا المركزية هنا، حكاية سلطانة؟» (ص33).

وفي هذا الجمع بين الراوي والقارئ تعميم لشمولية المشكلة التي تطالنا كلّنا وتكريساً لخطورتها.



افتتحت الكاتبة روايتها بمشهد فني قاسٍ من شدّة فتنته: «في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل. مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول عن الرأس، يتدلّى بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين؟ رأس في الأعلى، وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأول، المفصول عن جسده. لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الراس الثاني.

المرأة العجوز الجالسة خلف النافذة، الملتصقة بكرسيها، لا تتحرك كما لو أنها ميتة، إلاّ أننا نعلم بأنها ليست هكذا، فقط عبر دموعها. هو أيضاً الرجل العجوز الجالس خلف النافذة، الملتصق بكرسيه، لا يتحرّك كما لو أنّه ميت، إلاّ أننا نعلم بأنّه ليس هكذا، فقط عبر بريق عينيه.

الرأس الجديد الواصل للتوّ إلى الحياة ، لا يصرخ، لا يُعلن ميلاده، كما لو أنّه عرف وأحسّ بأنّ وجوده مرفوض، منبوذ» (ص12، 13). في هذه الإفتتاحية تُصوّر الكاتبة جريمة شرف لامرأة ولدت فتاة أخرى في اللحظة التي أُعدمت فيها.

المرأة التي ماتت هي سلطانة التي دفعت حياتها ثمن حبّها لإبراهيم، والفتاة التي ولدت هي تلك التي نبذها المجتمع فأخذها والدها وعاشا معاً في البراري حيث لا عادات ولا تقاليد ولا حتى مُغريات لخرقهما أيضاً، وهي التي ظلّت بدون إسم إلى أن اكتشفت الحبّ صدفة وسماها حبيبها «ريحانة» قبل أن يقتلها والدها ابراهيم الذي لم يستطع أن يحفظ وعده لحبيبته المقتولة المغدورة بصون ابنتهما ومنحها حريتها باختيار حبيبها والتمتّع بحبّها كما تحب وتحلم.



اختارت الكاتبة لعبة الألوان في عنونة فصول روايتها: «الأحمر» (لون الدم)، «الأصفر» (لون الخوف)، «البرتقالي» (بداية الأمل)...، إلاّ أنّه كان بالإمكان الإستغناء عنها لتبديد هذا الجوّ الغرائبي الذي يُرافقك طوال الرواية من دون أي تأثير أو إضافة في المُنجز.

كما أنّ الأسلوب الروائي الذي تنتهي فيه الرواية عبر الفصول الأخيرة لا تُشبه الإنطلاقة المدهشة التي بدأتها الكاتبة، ما يُشعرك بأنّ ثمة مزاجين مختلفين سيطرا على كتابة تلك الرواية.



«بنات البراري» هي رواية أنثوية بامتياز. كُتبت بصدق يجعلك تحسّ بأنّ الكاتبة هذه تحمل ثقل كلّ تلك الجرائم البشعة التي تُرتكب تحت شعار غسل العار. هي رواية شابة ثائرة في زمن الشباب الثائر، فهل يُمكن أن تصل إليهم لينظروا إلى قضايا المرأة كمطلب أساسي لا يقلّ أهمية عن مطالبهم السياسية والحياتية والمعيشية؟

lundi 5 septembre 2011

«بنات البراري» لا يخرجن اليوم للتنزّه

بنات البراري  لا يخرجن اليوم للتنزّه

الإثنين, 05 سبتمبر 2011

ماري القصيفي



كيف نقرأ الروايات العربيّة المكتوبة أو الصادرة عشيّة الثورات العربيّة؟ هل ننظر إليها على أنّها من عصر بائد لا يصحّ ما فيها على الواقع المستجدّ، أم نفتّش بين كلماتها عن ملامح ثورة لم يصدّق الأدباء والمفكّرون أنفسهم، وهم أكثر الحالمين بها، أنّها قد تتحقّق ليكونوا هم أوّلَ المتفاجئين بها؟ وكيف نفهم أن يخرج إلى الشارع ثوّارٌ يريدون إسقاط الأنظمة الديكتاتوريّة وبينهم رجال لا تزال أيديهم ملوّثة بدماء نساء لا يسلم الشرف الرفيع من دون إراقة دمائهنّ؟ وبماذا تختلف النساء اللواتي استُشهِدن في سورية خلال التظاهرات الأخيرة (أكثر من خمسين شهيدة) عن آلاف النساء اللواتي قتلن ولو بشبهة الحبّ؟ تساؤلات فرضتها رواية «بنات البراري» للكاتبة السوريّة الكرديّة المقيمة في فرنسا مها حسن (دار الكوكب–رياض الريّس)، ولن نجد الأجوبة عليها قبل أن تتبلور صورة المجتمع الجديد ويتوضّح دور المرأة فيه مع وضع حدّ لمرحلة سوداء عنوانها: جرائم الشرف.



وإن كان من موضوع يستحقّ الكتابة عنه بمزيج من الشعر والغرائبيّة والواقعيّة التقريريّة، فهو جرائم الشرف التي هي مزيج من الحبّ والجنس والجريمة، وفيها يختلط الخاصّ بالعام، والقيم الاجتماعيّة بالظلم. وهذا ما بنت عليه الروائيّة هيكل روايتها. ومع ذلك، فالمعلومات الموثّقة عن هذه الجرائم أساءت في أكثر الأحيان إلى العمل، حين أسقطت اللغة من قمم الفانتازيا إلى حضيض الخبر النثريّ الجافّ واللهجة الخطابيّة الواعظة، كما في قولها «اخترع الرجال الأفكار، قسّموا العالم ونظّروا فيه وأفسدوه وحلّلوه (...). يجب أن تأتي امرأة لتقلب الفكر العالميّ...» (ص 98).



فهل كانت الكاتبة تتعب من ثقل هذه الجرائم على ضمير البشريّة فترزح بها ومعها، وتتخلّى عن ترف الصورة الشعريّة لتفاجئ القارئ بتدخّلها مصلِحةً اجتماعيّة ثائرة غاضبة، ثمّ تجبره على الانضمام إليها ولو شاهداً سلبيّاً؟ في الصفحة الأولى من الرواية، نقع على انطلاقة فنيّة رائعة تصوّر جريمة الشرف التي ترافقت مع ولادة الطفل الآتي من خارج شرعيّة الزواج: «في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل. مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول الرأس، يتدلّى من بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين، رأساً في الأعلى وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأوّل، المفصول عن جسده، لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الرأس الثاني». ثمّ تأتي العبارة التي تجعلنا فيها الكاتبة شركاء معها في رؤية ما يجري وفي عدم التحرّك لمنعه: «المرأة العجوز الجالسة خلف النافذة، الملتصقة بكرسيها، لا تتحرّك كما لو أنّها ميتة، إلاّ أننا نعلم بأنها ليست هكذا، فقط عبر دموعها». «إننا نعلم» تقول، ومع ذلك نكتفي بالبكاء، كهذه المرأة العجوز. ولكن الرجل العجوز الذي تبرق عيناه ابتهاجاً بتحقيق العدالة والانتقام للشرف، والجالس كما تجلس المرأة، يفسّر عجز المجتمع عن محاربة هذا النوع من الجرائم، وحين يتحوّل حبيبُ المرأة المفصولة الرأس ووالدُ الطفلة مرتكبَ جريمة شرف يغسل فيها العار، نفهم أنّ الرجل العجوز في بداية الرواية كان مطمئنّاً في سرّه إلى تواصل مسلسل القتل.



تتوزّع الرواية على فصول لها ألوان، كما في رواية «شرائط ملوّنة من حياتي» للكاتبة اللبنانيّة ليلى عسيران (1994): فالفصل الأوّل عنوانه «أحمر»، وهو لون الدم الذي صبغ القرية التي قتلت فيها «سلطانة» بسبب علاقتها بـ «إبراهيم» وحمْلها منه. عنوان الفصل الثاني «أصفر»، وهو لون الخوف كما تشرح الكاتبة، التي تتدخّل في الصفحة 51 قائلة: «لماذا سمّي هذا الفصل بالأصفر؟ جميع شخوص هذه الرواية يشعرون بالخوف. الخوف الذي يمتقع بسببه لون الوجه. يهرب منه الدم الأحمر». الفصل الثالث يحمل عنوان «بنات البريّة»، وفيه نرى أنّ الفتيات لا يشعرن بالأمان إلاّ متى تركن بيوتهن وقراهنّ واعتزلن في البريّة، في اتّهام مباشر للحياة الاجتماعيّة التي تغتصب المرأة وتقتلها بدل أن تحميها. الفصول الأخرى تحمل على التوالي عناوين: أحمر قانٍ، برتقالي، أزرق عابر، أسود، أخضر، وفيها دلالات واضحة على القسوة في الأحمر القاني حين ينتشر الخوف من الحبّ الذي بات الجميع يرى فيه طريقاً للموت، ثمّ يلوح احتمال خلاص في البرتقالي، حين كبرت ابنة «سلطانة» وبلغت، وغسلت بدم حيضها لعنة أمّها على القرية وبدأ الأحمر بالاختفاء تدريجاً. يليه أمل عابر في الأزرق، حين عرفت ابنة «سلطانة» الحبّ فمنحها حبيبها اسم «ريحانة» بعدما كانت بلا اسم، قبل أن يقتلها والدها غسلاً للعار. هنا تنتهي الرواية، غير أنّ الكاتبة تأخذنا تحت عنوان اللون الأسود إلى باريس، حيث تقيم، لتعرّفنا على رجل «حقوقيّ، حاصل على شهادة عليا في الحقوق، ومعارض سياسيّ اعتقل لسنوات، وتعرّض للضرب والتعذيب، إلاّ أنّه قال لي (للكاتبة)، ولم أفاجأ كثيراً، فهو أبي، أو يشبه أبي ومعظم الآباء الشرقيّين: «تعرفين، لو أنّ ابنتي خرجت عن الشرف لقتلتها» (ص 140). غير أنّ الروائيّة في الفصل الأخير الذي تصفه بأنه متخيّل، تعبّر عن رجائها بمجيء غد أفضل أعطته اللون الأخضر، ولن يتمّ ذلك ما لم تتحدّ البنات، بنات الحريّة، ويستحممن على آثار دماء سلطانة وريحانة (ص150).



لم يكن في إمكان مها حسن أن تبقى روائيّة محايدة مختبئة خلف شخوصها وهي ترى النساء يذهبن ضحايا الحبّ والرجال يَقتلون بسبب الجهل ولو ادّعوا أنّهم يشجّعون بناتهم على الدراسة، ففي مشهد من الرواية تحذّر «تميمة» نبيّة القرية، المتنسّكة في البريّة، والد «سلطانة» من إرسال ابنته إلى المدرسة من دون أن تبوح له بالسبب. فهي بحكم قدرتها على رؤية المستقبل عرفت أنّ المأساة ستقع لا محالة حين تتعرّف «سلطانة» على حبيبها في المدرسة. يرفض الوالد النصيحة قائلاً بحزم: أريدها أن تخرج، أن تملأ وقتها بعوالم مختلفة، أن تتعلّم، أن تفكّر، أن تتساءل، أريد لذهنها أن يتفتّح، ويخرج من حدوده الضيّقة. العلم مهمّ يا أمّاه، العلم يمنحها المعرفة، والمعرفة بصيرة ونور، العلم يفتح طاقاتها الداخليّة، يفتح أمامها أبواباً جديدة، ينقذها من مصير ضيّق محدود. هكذا فقط أستطيع حمايتها، لا بعزلها في المنزل كقطّة بيتيّة، أو كعصفور، في قفص، بل عبر تعليمها ومنحها صوراً جديدة واحتمالات مختلفة» (ص44). لم يأت «شريف» والد «سلطانة» على ذكر الحبّ كاحتمال شعور قد ترغب ابنته في اختباره، لذلك كان عليه أن يكون «اليد» التي تحمل السكّين نيابة عن المجتمع ويقطع عنق ابنته التي أراد لها، ربّما، أن تتعلّم كي تحصل على وظيفة وتساعده في تحمّل أعباء الحياة، لا أن تعرف جسدها وجسد الرجل وتكتشف رغباتها ورغباته. والمفارقة هي أنّ كلّ رجل يقنع نفسه بأنّه يؤدّي مهمّة مقدّسة يحميها القانون وتشرّعها التقاليد ويباركها المجتمع، فيجيب «إبراهيم» ابنته «ريحانة» حين تسأله عمّا سيفعله بها حين علم بخرقها التقاليد: ليس أنا...إنّه القدر.



«بنات البراري» لا يخرجن اليوم للتنزّه، ويرجعن بباقات من ورد الربيع، شقائق النعمان، الأقحوان، الورود الصغيرة الملوّنة التي لا يعرفن أسماءها، النرجس الأصفر (ص 65). إنّهن مساهمات في زراعة الربيع العربيّ في ساحات المدن، فهل تنصفهنّ أزمنة ما بعد الثورات، وتحمي حريّتهن ورغبتهنّ في العلم والحبّ والحياة؟



vendredi 2 septembre 2011

مكتبتي

الروائية السورية مها حسن...

مكتبتي

31 أغسطس 2011

مايا الحاج





عندما يقع الإنسان في عشق الورق تُصبح العلاقة بينهما ملتبسة ولا يُمكن أن يفكّ لغزها إلاّ الإنسان العاشق نفسه الذي يرى في كتبه ثروته الحقيقية... ولأنّ المكتبة هي الركن الذي يُخبّئ فيه القارئ النهم ثرواته الورقية الثمينة، قمنا بزيارة استكشافية لمكتبة إحدى عاشقات الكتب الخاصّة وجئنا بالاعترافات الآتية...


علاقتي بمكتبتي هي

الأشخاص الذين تعرفت إليهم عبر الورق.. أحببتهم، عاشرتهم، وصاروا جزءاً من عائلتي المختارة وأصدقائي الأقرب.. حياتهم مندمجة في حياتي، وذاكرتهم تشكل بعض ذاكرتي.



أزور مكتبتي مرّة كلّ

ما من قاعدة ثابتة، قد أزورها في اليوم أكثر من مرة، وقد أزورها مرة في الأسبوع، بحسب حاجتي لمراجعة ما، أو معلومة ما.



أنواع الكتب المفضلّة لديّ

الرواية والنقد الأدبي، بالإضافة إلى الدراسات والأبحاث الفكرية.



كتاب أُعيد قراءته

«الكاتب وكوابيسه» لأرنستو ساباتو.



كتاب لا أعيره

لا أحب إعارة كتبي في العموم.. حين أفعل أكون في حالة قبول بعدم استعادة الكتاب. الكتاب القريب والغالي عليّ، يبقى معي، ولا يفارقني.



كاتب قرأت له أكثر من غيره

سارتر.. أعتقد أنني لم أفوّت له أي عنوان.



آخر كتاب ضممته إلى مكتبتي

رواية «الاحتلال» لآني إرنو.



كتاب أنصح بقراءته

«نساء يركضن مع الذئاب» لكلاريسا بنكولا، أنصح به وخاصة للنساء، فهو برأيي يُساعد كثيراً في كشف المناطق القوية الخفية لدى المرأة، كما يساعدها في التعرف على مناطق ضعفها أيضاً.



كتاب لا أنساه أبداً

«الإخوة كارامازوف» لديستويفسكي و«المسخ» لكافكا.



بين المكتبة والإنترنت أختار

المكتبة... للورقي حميمية مختلفة.. أعشق أخذ الكتاب معي في أمكنة مختلفة، في المترو، في الحديقة، في السرير.. يزعجني الكمبيوتر والقراءة التي تسبب ألماً في الظهر والعينين، بينما للورق حنان مختلف.. يتسلل بسهولة إليّ، أحب ملمس الورق ورائحته.















mercredi 3 août 2011

في حوار حول كينونة الرواية

بعد صدور روايتها <بنات البراري>

الروائية السورية مها حسن في حوار حول كينونة الرواية

رواياتي لا تدع القارئ بسلام

الروائية السورية مها حسن



لمع إسم الروائية السورية مها حسن،المقيمة في باريس، من خلال رواياتها الخمس:<لوحة الغلاف اللامتناهي> <تراتيل العدم> <حبل سري> و<بنات البراري> التي صدرت حديثا عن <دار الكواكب> التابعة> لشركة رياض الريس للكتب والنشر> في بيروت·

···من هي مها في كينونة الكتابة؟ ما أسلوبها، وما قلقها؟· نقارب جوهر الأجوبة، في هذا الحوار الذي أجريناه مع مها حسن في بيروت، في زيارتها الأولى لعاصمة الأدب والحرب، والفن والسلام·هنا تفاصيله:



{ رواياتك تشكّل أعمالاً روائية خارجة عن السياق السردي المتشابه مع الآخر، وتخوض في إشكالات عدّة منها إشكالية الغربة والتعددية والهوية والمغايرة والإلغاء ·ما هي مقومات الخلطة السرية التي مكّنتك من دخول بوابة هذا العالم الشائك بمفتاح الكتابة؟ - سؤال كبير،لا يمكن تحديد الإجابة عليه بكلمات آنية، أو بإطار مجتزأ· خاصة، أنه يتعلق بمسألة البحث عن الجذور· ولكن يمكن القول إنني ولدت في بيئة مشرقية حكاّءة·بمعنى أنني أنتمي إلى الشرق الحكّاء بامتياز·أمي كانت هي المنبع الذي زودني في البداية بملكة الحكي، وذلك من خلال ولعها بقراءة الفنجان·لكن والدتي - وفق نظرتي للأمر- لم تكن تهدف إلى مشاهدة الرموز والإشارات التي تظهر في مدار فنجان القهوة، بقدر ما كانت ترغب بالحكي وبقصّ الأخبار على الأخريات· فاللغة كانت وسيلة لتواصلها مع المحيط الخاص بها، والفنجان كان البديل عن القلم أو عن فعل الكتابة·كان هو أداة الحكاية· شخصياً، استمديت المقدرة على الحكي من أمي· كما استمديت من أبي خصوصية ابتكار الحكاية،فهو كان بارعا بتأليف الحكايات الشفهية غير المعروفة·الشرقيون مهجوسون بالحكايات·وكوني شرقية فقد أصابني هذا الهاجس، لكنني إشتغلت عليه من خلال تطوير أدواتي القرائية والفكرية واللغوية والإنسانية والفنية معا، وتمكنت من تشكيل خلطتي المجبولة بكل ما اختبرته، وبكل ما ورثته في الجينات المشرقية·· كأن في المسألة أشياء بيولوجية قائمة بحد ذاتها· ولكن تبقى الرواية هي المعادل الجديد لهويتي·



{ تحطين في <بنات البراري> رحالك على مرسى التحرر ومجرى القصاص،وتكشفين دواهي النفوس التي ترتكب جرائم بإسم الشرف،في جو يخالطه النفس الأسطوري مع التراثي مع الإجتماعي في الوقت نفسه· إلى أي مدى قد تكشف أعمالك الوجه المتشظي للذات،وهل يمكن القول إن الوجه المرمّم لهذه الذات لن يجد موقعا له في رواياتك؟



- دائما الفن يبحث عن النقائص·فما من كمال في الأفعال· الكمال هو الشيء المطلق· دور الكاتب هو السير باتجاه النقيصة·عليه الذهاب إلى الأماكن المؤلمة، وإلى الأماكن <القذرة>· حتى وإن أراد الذهاب إلى الوجه الآخر لهذه الأمكنة، فهو يظل معنياً بالألم أكثر من السعادة· من هنا أنا معنية دائما بالبحث عن كل ما هو ناقص،لأستكشف الحياة· فالحياة ألم زائد· هي أشبه ببرميل من المرارة، مزوّد بملعقة من العسل· لذلك أكتب عن كل ما هو مفقود، ويلازمني قلق الوجود وقلق الذات و قلق الموت و قلق ما بعد الموت·



{ كتاباتك الروائية مفكّرة، تستدعي الفكر والميتافيزيقيا ومغاور النفس· هل انت روائية تحمل الفكر وتكتب تحت ثقله،أم أنت مفكّرة تحمل الروي الفني والإنساني وتتخذه تمائم سرية لطقوسها وأسرارها وتمثلاتها معا؟



- أود بداية أن أشير إلى أن الرواية هي غير الحكاية· ولي تعريف للرواية أعمل عليه في رواياتي، بعيداً عن أي إدعاء· العمل الروائي يحتمل علوماً متعددة، مثل علم الاناسة· فعالم الأنتربولوجيا الكبير كلود ليفي شتراوس له كتاب أحبه كثيرا،هو <المداران الحزينان> وثمة من قال- يستحق هذا الكتاب أن يكون رواية وأن يفوز بجائزة> غونكور> الأدبية الفرنسية-· لذلك ترين أنني في كتابتي لا أفصل الفكر عن الرواية، ولا أحب أن أقدم لقارئي عملا روائيا سهلا·نرجسيتي تأبى علي إلا أن أقدّم له العمل الذي لا يدعه ينعم براحة البال أو يخلد بعد قراءته إلى النوم بسلام·



{ تزورين لبنان للمرة الأولى·ماهي أوجه التقاطع التي رصدتها في هذه الزيارة على خط سوريا- باريس-بيروت؟ - أسبوعان قضيتهما في بيروت، لكنهما كانا كافيين بالنسبة إلي، حتى أرى أنها تستحق كتابات كثيرةعنها· وجدت في بيروت ملامح شرقية وملامح غربية تحت سماء واحدة·وجدت فيها شيئا من حلب، وشيئاً من باريس· إلا أن الأمر الذي ميزها من وجهة نظري عن هاتين المدينتين هو الأمان·شعرت بأمان غريب لم أشعره في كل من حلب وباريس· كنت أمشي في شوارع بيروت كإمرأة وككاتبة دون أي خوف من أحد· الناس هنا يشعرون الضيف بالأمان·لم آخذ الحيطة والحذر من أهل بيروت·لقد عاملتني هذه العاصمة الجميلة كإبنة لها، واحتضنتني بحنو، رغم التناقضات التي تتنازعها في ميادين السياسة، ورغم مخاطر الصدامات والحروب التي تتوالى عليها وتتهددها بين آونة وأخرى·وهنا باعتقادي يكمن السر الذي تحمله بيروت ·



حوار:غادة علي كلش تصوير: سمير المصري

mardi 19 juillet 2011

أصدرت بنات البراري مها حسن: أعتبر نفسي كاتبة تجريبيّة

كتب: محمد الحجيري

بعد «حبل سري» و{تراتيل العدم»، أصدرت الروائية السورية المقيمة في باريس مها حسن رواية جديدة بعنوان «بنات البراري» (منشورات الكوكب، رياض الريس للكتب والنشر)، وفيها تتطرّق إلى موضوع «صارخ» هو قضيّة «جرائم الشرف» التي تتعرّض لها فتيات عربيات وتركيات وكرديات  كثيرات، ذلك عبر قصة حب تنحو قليلاً إلى اللعبة الفانتازية.


في روايتها الجديدة اختارت مها نمطاً مختلفاً عن رواياتها السابقة، فهي إذ اعتمدت «الثقافة» إذا جاز التعبير في رواية «تراتيل العدم» والسرد في رواية «حبل سري»، تأتي اليوم لتكتب بأسلوب التكثيف والفانتازيا ومسرحة المشاهد بل وإدخال بعض نصوص شعرية.

تكتب مها عن جريمة الشرف بلغة النشيد وكأنها صرخة لأجل الحرية، وتهدي روايتها الى «جميع النساء اللواتي أزهقت أرواحهن باسم الشرف». تتحدّث عن قتل النساء باسم الشرف عبر سرد حكاية صبية اسـمها سلطانة، تعشق الحياة والبرية. تقع في قصة حب، لتكون بعدها ضحية شرف. فتحلّ لعنة دم سلطانة على القرية فيُصبغ كلّ ما فيها باللون الأحمر.

بعد سنوات، تبدأ القرية بالتخلّص من لعنة اللون الأحمر، وتتدرّج ألوانها، وفق فصـول الرواية المسماة بها، من الأصفر إلى البرتقالي ثم الأزرق قبل الوصول إلى الأخضر عندما تسترجع القرية لونها الأصلي، وتحظى البرية الحمراء بلونها الأخضر مجدداً…

تكتب مها بأسلوب الواقعية السحرية بطريقتها وتستنتج في الختام أن هذه الظاهرة الاجتماعية لم تنتهِ فصولها، تقول: «نشأت في بيئة غنية بقصص الشرف والقتل بسبب الشرف، منها الخيالي ومنها الواقعي، إلا أنني أحطت دوماً بمجموعة تعاليم وتحذيرات من الوقوع في خطيئة الشرف». بمعنى آخر، تكتب الروائية جانباً من سيرة الطفولة ومجتمع الشقاء وسيرة الجسد المقيّد بألف «تابو وتابو» في مجتمع شرقي ورث القوانين والأعراف من عصور غابرة وما زال يوظّفها حتى في المجتمعات الأوروبية.

مها التي زارت بيروت قبل أيام، تحدّثت الى «الجريدة» في لقاء خاص حول نظرة بعض العرب العنصرية إلى أصولها الكردية، إلى حدّ أن أحد الكتاب استغرب كيف توضع روايتها «حبل سري»، لمجرد أن كاتبتها من أصل كردي، على لائحة «بوكر» الطويلة. هي في هذا الإطار عاشت المنفى مراراً، تارة في مجتمعها الكردي بسبب خياراتها الثقافية، وتارة ثانية في محيطها العربي بسبب الأفكار العنصرية التي تتحكّم بالبعض، وطوراً في فرنسا حيث تعيش منفى اللغة والثقافة، وصولاً الى منفى التواصل… ولا تخفي الروائية أنها متحمّسة بقوة للرواية الغربية المترجمة، وتعتبر أنها في بدايتها كانت تميل الى التمثيل والمسرح، لكن لا مكان لهذا الاختبار في مجتمعها المحافظ لذا لجأت إلى الكتابة للتعبير عن ذاتها المنفية ولتبيان الشعور بالاغتراب.

تنفي مها حسن أن تكون اختارت عنوان «بنات البراري» كصيحة على نحو ما عرفنا في رواية «بنات الرياض» و{بنات إيران» و{نساء بيروت»، وتقول إنه ربما وردت في ذاكرتها رواية «ذئب البراري» للروائي الألماني هرمان هسه (ثمة من يترجمها «ذئب السهوب»)، وتضيف بأنها أرسلت نسخة من الرواية بعنوانين الى الناشر، الأول «بنات البراري» والثاني «الأرض المطرّزة بالدم»، وفي النهاية اختارت العنوان الأول لأنها وجدت الثاني طويلاً وغير مناسب لرواية.

هنا أسئلة طرحناها على مها حسن…

هل تبحثين عن نمط محدّد في كتابة الرواية، خصوصاً أنك ذكرت لي أن ثمة تفاوتاً في أسلوب رواياتك؟

أعتبر نفسي كاتبة تجريبية… ربما لدي بعض رواسب الوجودية، لكنني لا أحاول التأطر ضمن نمط محدد.

هل بدأت تتأثرين بالمناخ الفرنسي في كتابة الرواية؟

حتى الآن لم يحدث ذلك، ولا تزال روايتي رهينة تفكيري ومخيّلتي العربية.

هل أنصفك النقد حتى الآن؟

في الفترة الأخيرة نعم، بعد وصول روايتي إلى اللائحة الطويلة لجائزة «بوكر»، وأتساءل أحياناً، لو لم تكن روايتي على تلك اللائحة، أتراها كانت لتهمّش كأعمالي السابقة؟

كيف تجدين الفرق بين الشرق والغرب لناحية التعاطي معك باعتبار أنك من أصول كردية؟

الغرب لا يقف كثيراً أمام مسألة الإثنيات بسبب تنوّع مجتمعه، وكوني كردية فلا يحمل ذلك ميزة ولا عيباً في ذلك المجتمع. بالنسبة إلى المجتمع العربي، أتحدث ثقافياً طبعاً، وعلى رغم العراقيل التي واجهتها كثيراً في بداية مشواري الكتابي وتعرّضي لكثير من التمييز، إلا أنني اليوم، إما بسبب كتابتي ذاتها، أو بسبب تغيّر ظروف المنطقة، ومنها السياسية، لا سيما بعد تحقّق الحكم الذاتي في العراق وحصول الأكراد على كثير من الاعتراف، باتت كرديتي اليوم مرحّباً بها في الأوساط الثقافية التي تتفهّم التنوّع. أما بالنسبة إلى الفكر القومي العروبي، فثمة مضايقات واستفزازات يعاني منها أمثالي، المتحدرون من قومية أخرى، لكننا نكتب بالعربية.

عندما تقرئين روايتك الأخيرة، كيف تقدّمين ملاحظات عليها كقارئة؟

لا يمكنني التعامل مع نصّ كتبته بحيادية القارئ.

ما هو انعكاس لغة البراري على لغة الرواية؟

أعتقد أن هذا السؤال موجّه إلى الناقد وليس لي، ومع هذا أعتبر أن وجود تفاصيل البرية من نباتات وطقوس وألوان له علاقة بلغة الرواية.

هل تكتبين عن جرائم الشرف كجزء من سيرة الجسد؟

لا أميل إلى تفصيل العلاقة بين الشرف والجسد هكذا، لكني من دعاة تحرير الإنسان، امرأة أو رجل، من دون التركيز على الحرية الجسدية، وليس هذا تهرباً من مواجهتي حقوق الإنسان الجسدية أو الجنسية سواء أكان رجلاً أو امرأة، إلا أنني لا أميل إلى التركيز أو الاقتصار على الحق الجنسي أكثر من حق التعبير مثلاً أو الاعتقاد، لكن خصوصية المجتمعات الشرقية تجعل من قضية المرأة وحريتها وحقوقها حالة محورية، حيث غالباً النساء هن الضحايا حتى لدى الطبقات الثقافية.

كيف تقارنين واقع الجسد بين مجتمعك الشرقي الأسطوري ومجتمعك الآخر الغربي؟

هذا سؤال تطول الإجابة عنه. في روايتي «حبل سري» تحدثت كثيراً عن هذا الاختلاف الحاد… خذ مثلاً صغيراً، حين تجلس امرأة في المترو بطريقة ما من دون أن تبالي أو تركّز على طبيعة جلستها، لتظهر أجزاء معينة من جسدها، فإن أحداً لا يلتفت إليها، وحين يحصل، فإن المتلصّص يفعل بسرية لأنه سيدان إن ضبط مختلساً النظر. فالمرأة ليست عورة وليس جسدها فخاً لاستدراج الرجل والحصول على بعض الميزات… ثمة «دمقرطة» لجسد المرأة والرجل، إذ يتم الفصل بين الجسد الحميمي والجسد في العلاقة العادية الرسمية… حيث الاحترام وعدم التركيز على دلالة الجسد الجنسية… أما «الاغتصاب» مثلاً، فحالة لا يتم التساهل معها على عكس مجتمعاتنا.

العيش في الأحمر

مها حسن في بنات البراري


العيش في الأحمر

رواية "بنات البراري" للروائية السورية المقيمة في فرنسا، مها حسن، تقاطع أنماط متعددة من الروي السردي والتكويني والأطري في آن. الرواية بموضوعها الرئيس الذي يصطرع مع جرائم الشرف في بلادنا العربية، تخط امارات الحكاية بأسلوب خيالي يجاوز السوريالية، وبتقنية شفافة تواكب الواقعية. أما بنائية السرد، فيخالطها النفس الأسطوري مع مزيج من الانطباع التراثي، والاكتناه الحداثوي، والغلاف الشرقي، ضمن صيغة لغوية يغدو فيها الايقاع الشعري رافداً من روافد العمل الروائي، الذي يؤدي الى تظهير الهوية الروائية، بعيداً عن النص التقريري، أو التوثيقي والبارد.



مؤثرات عديدة تحملها بداية الرواية، وفيها تتوافر صورة متكاملة الصدم العيني، والمباغتة السردية والتوليف الفني، الذي يستقطع من مركبات الرعب التخييلي ـ وربما السينمائي كتجربة هيتشكوك ـ طيف الوحش القابع في حنايا الانسان ـ هذا الوحش الذي يطل برأسه وأصابعه قاطعاً الأعناق، فاصلاً الرؤوس عن الأكتاف، مدحرجاً العيون على أرض الحياة، مخلفاً الرؤية "الفوبياوية" الفاصلة بين غيمتي البقاء والرحيل داخل جزئيات الألياف البصرية لدى الضحية.

بداية الرواية تصل الى القارئ خارجة من مختبر اللون الأحمر. هو ليس مختبراً للعلوم الطبية، يمارس فيه الأطباء فحوصهم وابحاثهم التشخيصية، وليس مختبراً للفنون يمارس فيه الرسامون لوحاتهم التشكيلية. انه مختبر "الجريمة والعقاب" و"الضحية والجلاد" و"درب الآلام" و"المعذبون في الأرض". لذا يتوالد منه الأحمر ليتدفق بعد مقتل "سلطانة" (البطلة والقتيلة) لون الدم على مظاهر الحياة والطبيعة والأشياء والسماء في القرية، ويطوف بعد ذلك كاشطاً ألوان الثمار والثياب والأشجار والبيوت والأدوات من اصولها الضوئية المتعددة الاخضرار والاصفرار والزرقة والبياض والسواد، فارضاً وجوده "الاحمراري" برمزيته التي تؤشر الى منظومة الدماء المسفوكة البريئة، والى نقمة السكينة والصفاء والعدل في مواجهة كل أنواع الظلم. أليس القتل بغير حق ظلماً؟ أليس الخروج على أحكام الشريعة فسوقاً؟

نقرأ في بداية "الأحمر" (ص 11): "في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل.

مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول الرأس، يتدلى من بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين؟ رأس في الأعلى، وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأول، المفصول عن جسده. لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الرأس الثاني".

عند هذه الواقعة اختارت مها حسن أن تمرحل المرثية الروائية للحب والقتل، بأسلوب الروي الذي يعود من النهاية الى البداية، (فلاش باك) لكنه يبقى اسلوباً غريباً غير تقليدي، يدخل فيه الراوي والقارئ أيضاً مع ابطال القرية، ومع وقائع الأحداث الى متن الكتاب، كأن الجميع حاضرون في ساحة المحاكمة الرمزية التي تتخذ لها موقعا في عوالم الادب ومناخاته، من دون أن تخرج عن جذور الواقع وآفاته. لذلك كان للتوصيف الفني المصقول بالشعر وبترانيم الموسيقى وهسيس البرية، وأفراح الغرام، مسار مرادف لمسار التوصيف الحدثي المجبول بالجهل وسواطير الدماء وصراخ الروح، فيما استندت الكاتبة بعد القبض باحكام الى هذين المسارين المتوازيين في الرواية، الى منظومة الروي الأسطوري، الى الروي الذي يدلف الى مغاور السحر والتعاويذ والتمائم للربط بين الشخصية الذكورية، الذي يمثلها (الأب القاتل) من جهة، والحبيب ـ الذي يصبح فيما بعد هو ايضاً أباً قاتلاً. من جهة ثانية، وذلك ضمن مروحة من الحبكة السردية الممسرحة في بعض الاحيان، والمرصودة تحت مجهر الألوان... بدءاً بالأحمر، مروراً بالأصفر، والأحمر القاني والبرتقالي، وصولاً الى الأزرق العابر والاسود والأخضر. ونرى في ذلك اشارات ورموزاً انكشافية تحاول بها الكاتبة أن تعطي الأفعال ألوانها، والأفكار ألوانها، والأسباب والعلل ألوانها، وذلك عبر منظومة انقلابية على مفاهيمية اللون ودوره، كأن مها تعطي اللون قدرته الرمزية على القصاص وعلى الرضا، على البهجة وعلى العذاب، على الامل وعلى الخيال في آن.

نقرأ (ص 81): "ظلت القرية دوماً غارقة في الأحمر، بمرور الزمن اعتاد الناس ذلك العيش، العيش الأحمر. كانوا يعيشون في الأحمر، يفكرون في الأحمر، لا لون آخر تراه العيون سوى الأحمر. اللون الوحيد، المتسلط... نحن في القرية الحمراء. لا، لنكن أكثر دقة، نحن في الأحمر. نحن في الظاهرة الحمراء... ظاهرة التفاح. إلا أنه ليس من الطبيعي أن يكون الخيار والخس والبقلة والبقدونس والنعنع والقرنبيط والكوسا... كله أحمر! من غير المعتاد أن تكون اجنحة العصافير حمراء، وأن يكون وبر القطط أحمر، وكذلك وبر الأرانب. حتى ريش الطيور، كله أحمر! الأفاعي، الحرباء، العقارب، كله أحمر!". بين لعنة الأحمر، ورؤيوية الأزرق والأخضر، تتوالى فصول الرواية ساردة قصة سلطانة ابنة البرية التي فصل أبوها رأسها عن جسدها لأنها وقعت في الحرام وحملت في الحرام. وتتشابك الشخصيات الروائية في المسار التراجيدي لحياة الأنثى وشرفها وسمعتها. (لكن من قال ان الشرع يأمر بذبح الزانية وبقتل العزباء التي زنت؟ في هذا المسار ـ لست مع العلاقة التي تنشأ في الحرام، كما لست مع القتل الذي يخرج على أحكام الشريعة الاسلامية ولا يلتزم بها ـ). وتتوالى المشهديات وأقاصيص الزهد والدراسة والسحر والحب والياسمين والفضيحة و"الذبيحة" لتشكل مفارقات تتمحور مآثرها حول العفة والعهر، وجريمة الشرف والخنوع، والقاتل والقتيل، والشعر والكوابيس. فيما يلتقي خط الابنة (التي سماها حبيبها ريحانة) والتي ادلت برأيها يوم مقتل امها خارجة الى ضوء التجربة، والى ساحة الجريمة، ليلتقي بعد مرور عقد ونصف العقد، بخط الأم سلطانة... الحدث اياه يتكرر القتل اياه يتكرر، الساطور يقطع العنق الأنثوي فاصلاً بين الرأس والجسد، بين الأبيض والابيض. هنا تستوقف الكاتبة ابطالها وقراءها، تدخل اليهم بفصل تحت عنوان "اسود" تخاطب الجميع عن جرائم الشرف في بلادنا العربية، من خلال روي سردي يتوخى الاطلاع على عدد الجرائم التي ترتكب تحت اسم الشرف. ومن ثم تختم روايتها بالفصل "الأخضر"، هو فصل روائي متخيل لم يحدث بعد، يعكس نظرة الكاتبة المتحررة الى "يوتوبيا" الجسد، وفن العري في براري الحب.

"بنات البراري" تمثل تجربة روائية غريبة، ذات أبعاد تطويرية في النسيج التقني الروائي، وذات اصوات توليفية لمقومات الفن والفكر واللغة والاحساس... قد تكون رواية متقدمة عن خط الحاضر، تفتش عن مثيلاتها، إلا أنها ستفتح بوابة المحطة أمام الرواية العربية لبلوغ ما يتضمنه الفن الروائي الحديث من عوالم ومناخات وأمزجة وأخيلة وأصوات وأسواط غير منسوخة من الغير، أو غير مروية بأساليب الآخر المختلف في قضايا الفكر والعيش، وفي نتاجات الحضارة الغربية الحديثة. ويبقى أن هذه الرواية تختلف عن رواية مها حسن السابقة "حبل سري" لتؤكد باختلافها، أن الكاتبة تتميز بذهنية روائية كبيرة، متجددة، تتوخى الفكر والحس الجمالي والتثويري معاً ـ رغم اختلاف وجهات النظر بيننا على أكثر من صعيد ـ وتتقدم في اتجاه الوصول الى مصاف عليا في فن الرواية.

-صادر عن دار "الكوكب ـ رياض الريس للكتب والنشر".

- الطبعة الأولى: حزيران (يونيو) 2011.

- عدد الصفحات: 151 صفحة من القطع الوسط.



غادة علي كلش

jeudi 5 mai 2011

خرقتُ المسميات.. عبر الابتكار في الكتابة

حوار منشور في مجلة نزوى الفصلية ـ العدد 66

تعتبر الروائية السورية المقيمة حاليا في فرنسا مها حسن من الأصوات الروائية التي انتحت بالسرد منعطفات جديدة وملتوية تراهن على المسافات الطويلة من النبش في التاريخ المنسي للذات عبر تحريك طاقاتها الطبيعية والدفع بها إلى الإفصاح بكل حرية ولو عبر المتخيل، لذلك فكتاباتها حبلى بالحكاية والتجريب وطقوس الأسطورة وأنين العمق الإنساني...




وهكذا أمكننا القول من خلال تتبع أعمالها الروائية اللا منتهية: سيرة الآخر، لوحة الغلاف، تراتيل العدم، حبل سري... أنها – بدون مبالغة- قطب من أقطاب صنع الحساسية الجديدة في السرد الروائي، تلك التي تقوم على المزاوجة بين الحفاظ على الحكاية كنواة صلبة للعمل الروائي والتجريب الفني الواعي بأشكال الكتابة وتحولاتها، الشيء الذي جعل لمحكيها الروائي طعما خاصا سواء على مستوى الصوغ أو اللغة أو التجربة أو المتخيل أو المحكي. تكتب عوالمها المسبوكة من الواقع والخيال وأناملها موصولة بفكرها المشغول بأسئلة الإنسان القلقة. تمشي وتعيش وتتحرك بين الناس بتلقائيتها المعهودة ومشاعرها الفياضة غارفة من أمانيهم وحياتهم اليومية متونها وموادها المثيرة دون أن يعوا أنها كتلة سردية كلما غاصت في القاع، كانت روايتها تفيض بالمتعة التي لا تنفي الفائدة، وبالوضوح المشوب بالملغز، وبالمتخيل المقرون بكل تفاصيل الشهوة والألم. عن كل هذه الأسئلة كان مدار هذا الحوار مع مها:



[[ كيف انبثق اختيارك للكتابة في جنس السرد الطويل؟ هل مارست الكتابة في أنماط أخرى أم أن موهبتك تفتقت منذ البدء في عالم الرواية؟

بدأت الكتابة دون علم مني بقصة الأجناس. منذ نشأتي وأنا ضد التصنيف. علمت لاحقا أن ما أكتبه يندرج تحت مسمى القصة القصيرة، ولأنني أفرق بين الأدب والحكي، منذ وقت مبكر، فقد سئمت تلك التسميات، ووجدت ضالتي حين وقعت على مسمى الكتابة عبر النوعية، الذي طرحه إدوار الخراط. في أول عمل منشور لي في كتاب، بعد نصوص هنا وهناك في الصحف والمجلات، وفي كتابي الصغير الذي لم يتجاوز المائة وثمان وعشرين صفحة، وهو الكتاب الأقرب إلي دوما، حاولت خرق حالة المسميات هذه، عبر ابتكار «ربما بدت فذلكة آنذاك» كتابة مختلفة، أسميتها «سيرة الآخر»، هاجرة السيرة الذاتية، أو الرواية، أو رواية السرد الذاتي. أكثر ما يزعجني في الحياة الأدبية والحياة العامة حتى، موضوع التصنيفات، وأظن أن هذه من خصائص العلم، حيث يدرس الظواهر المشتركة، أما في عالم الأفكار والفنون، فأنا أرفض الكسل الذهني واللجوء إلى التصنيفات التي تضع مجموعة أفكار أو محاولات أو أشكال ذهنية داخل سلة واحدة، نزوعا نحو دمج المختلف. في النهاية، لا يهمني الشكل الذي يطلقه الآخر على كتابتي، إلا أنني في هذه المرحلة الأكثر جدية في كتابتي، أعتبر نفسي الآن، روائية فقط.



[[ عرفت المرأة عموما برهافة المشاعر، لذلك فهي تميل إلى الموضوعات الرومانسية الرقيقة التي تباعد نوعا ما العنف ضد الذات والعالم، عكس ما ذهبت إليه أنت، حيث العالم مقيت، جاف وقاس... من أين لك بهذه العوالم؟

هذا السؤال أيضا يحيلنا إلى موضوع التصنيف، لست أبدا مع فكرة كتابة ذات خصائص ما للرجل، وأخرى مختلفة الخصائص للمرأة. الكتابة فعل إبداعي فردي، لا يشترك كائنان في طريقة أدائه. قد تجد كاتبا ما من قارة ما، يتقارب مع طروحات أو شكل تعبير لغوي، مع كاتب آخر، أو كاتبة، من قارة أخرى... لهذا فالكتابة عمل كوني، لا علاقة له لا بالجغرافية ولا بجنس الكاتب. أما عن عوالمي التي تذكرها في سؤالك، فهي نتاج ثقافتي الشخصية وتجربتي الحياتية. أنا ولدت ونشأت في مجتمع ذكوري، الرجال هم أصدقائي، وهم أيضا مُثلي العليا، سواء في الكتابة أو في الحياة، وكذلك هم قامعيّ، أو مواضيع تحرري من سلطاتهم، أنا أعتقد بأنني محظوظة في العيش في بيئة شديدة التناقض، هذه البيئة مهدت لي أرضا خصبة للتعلم والاكتشاف، رغم الألم الذي، وللأسف، يعتبر مقدمة لا بد منها، نحو التعلم، إلا أن هذه التجارب القاسية، أنضجت عوالمي الانفعالية، وأفكاري .



[[ تميزت روايتك بالمتانة على مستويي الخطاب واللغة والدلالة. هل أفدت من تراكم معرفتك بالتوجهات النقدية والأكاديمية أم أن هذه العوالم الروائية كانت مشروعا ألهمتك إياه التجربة الحياتية وإحساسك المرهف تجاه ما يعج به العالم من قيم مزيفة؟

التجربة الحياتية وحدها لا تكفي. والموهبة وحدها لا تكفي. والثقافة والإطلاع على المدارس النقدية وأدب الآخر أيضا لا يكفي. الكتابة وصفة سحرية، لا أزال شخصيا أعجز عن شرحها. هذا لا يعني بأنني مؤمنة بأنني ساحرة، أبدا، على العكس، إن هذا الشعور الداخلي بالقلق، والخوف من الفراغ، أو عدم الإتيان بجديد، هو المؤلم والمحرض أيضا على الابتكار. أكثر ما أفادني في حياتي الكتابية هو الابتكار، أخاف من التشابه، وأكره التقليد. كتابتي في النهاية هي نتاجي الفردي، أنا مؤمنة بأن أي رواية، لا يمكن أن يكتبها إلا صاحبها. إن « المسخ» مثلا، كانت موجودة في العالم الافتراضي للغة والفكر، جاء كافكا فأنجزها، أو « الغثيان» التي دونها سارتر، أو « اللامنتمي» لكولن ولسون ... ربما تكون فكرة مجنونة قليلا، بأن كتبنا موجودة معنا، تُخلق إلى الحياة معنا، أو قبلنا، أو بعد ولادتنا، لا قاعدة في هذا. ولكن شخص واحد فقط، مُهيأ لكتابة رواية ما، أو رسم لوحة ما.. هذا يندرج على بقية الفنون، المهم ألا نتشابه وألا نتناسل أنفسنا أو بعضنا الأخر.



[[ عرف المشهد الروائي العربي مؤخرا غزو نوع جديد من الكتابة تروج له كاتبات جريئات أقمن الدنيا وشغلن الناس. وهو الكتابة عن الجسد الذي كان قد تناوله كتاب رجال فيما سبق لكن بطريقة مختلفة. ترى ما الذي أضفته المرأة الكاتبة على هذا النوع من الموضوعات الساخنة في المحكي الروائي؟

لا أفهم هكذا أسئلة، لأنها تدخل في موضوع الكليشيهات الذي لا أنخرط فيه. ماذا يعني «كاتبات جريئات» ؟، هذه تصنيفات يشتغل عليها علم الاجتماع، هو علم كما أجبت عن السؤال الأول، وليس من هاجس الفن، أنا ككاتبة، ما يهمني معرفته، درجة الفنية والإبداع في عمل ما، أما آثاره الاجتماعية، فهذا لا يهمني. ربما يزعج هذا الموقف المثقفين العضويين، وأنا بصراحة أعاني من هذه المسألة، الثقافة العضوية. قد ترى بعض الكاتبات، وهذا من حقهن دون شك، بأن الكتابة هي نوع من التحرر الاجتماعي، أو ثورة على عالم القهر على المرأة، أنا لست كاتبة معزولة عن همّ المجتمع، ولكنني لا أسمح بأن توظف كتابتي من أجل قضايا اجتماعية. ماذا يعني أن تكتب امرأة عن الجسد؟ هذا السؤال الكبير فقط في العالم العربي، هو «نكتة» في الغرب. مع فهمي طبعا لخصوصية مجتمعاتنا، كمجتمعات محافظة، ذات تابوهات دينية وسياسية واجتماعية، إلا أنني أفصل بين الفن والوظيفة الاجتماعية، أو على الأقل، فهذا هو موقفي حتى الآن، فأنا مثلا لا أستطيع قراءة عمل لمجرد أنه يتهجم على المجتمع الذكوري، أقبل كل شيء ضمن الشرط الفني، أما أن يكون الموضوع «الأكشن» هو المهم، بعيدا عن السوية الفنية، فلا يهمني الكتاب، مهما كانت أهمية الموضوع الذي يطرحه.



[[ هل تعتقدين أن كتابة الجسد رهان جديد للارتقاء بشكل الروائي وتحميله هما إنسانيا طالما بات يحجبه الستر والعيب؟

لم لا، شريطة الإتيان بجديد إبداعي. شريطة ألا يكون هاجس الجسد، بتسطيح الهاجس، هو الأساس، أي باقترانه مع الهاجس الفني. أنا أرى في هذا النوع من الكتابة، بعد تجريدها من شروطها الاجتماعية، عاملا في تحرير الكاتب أيضا، أو الكاتبة. فالكتابة خلق، تحتاج في أبسط قوانينها الداخلية إلى الحرية، فإن كان «تابوه الجسد» مانعا أمام الكاتب من التعبير عن داخله، فإن هكذا كتابة هي تحرير له. خذ مثلا تجربة الأدب الإيروتيكي في الغرب، أعتقد أنها ساهمت بكشف حقيقة الإنسان. أنا أؤمن بحق الفنان المطلق في الكتابة عن أي موضوع يشغله، والجسد ضمن هذه الرهانات، شريطة ألا يقع الفن في فخ الاستعراض والإدعاء لإرضاء الآخر وكسبه، وألا يدخل في حسابات البيست سيلر. أحب في هذا السياق، التعرض لتجربة الكاتب المصري إبراهيم فرغلي في نص غير منتهٍ بعد بعنوان «خارطة الجسد»، حيث الإيروتيكا المحمّلة بالمعرفة واكتشاف الذات، مما يمكنني وصفة بإيروتيكية وجودية، هذه كتابة راقية وتحتاج إلى خبرة ووعي وثقافة وموهبة... هكذا كتابة أرحّب بها بالتأكيد، لأنها مقترنة بالفن والمعرفة، وليست مجانية للفت نظر الآخر، والانخراط في ضجيج إعلامي سطحي.



[[ كيف تقيمين وضع الرواية العربية الآن في ظل السياقات الثقافية المتداخلة؟ خاصة لما دخلت المرأة حلبة الكتابة الجسدية من بابها الواسع؟ ما هي العلاقة بين وضع الرواية العربية والكتابة الجسدية لدى المرأة؟

هذا سؤال ملغوم، كأنه يراد به، بأن الكتابة الجسدية لدى المرأة هي فقط من أثرى التجربة الروائية العربية. هذا السؤال، برأيي، يحمل رؤية غربية لأدبنا. للأسف، لأن نظرة الغرب لنا، هي نظرة متعالية، فهو لا يهتم و«يطنطن» إلا لكتابة متصدية لتابوهات، وهذا ما أوقع الكثير من الكتاب والكاتبات بفخ « النظرة الغربية» . الغرب «لا أعمم طبعا» يهتم بكاتبة سعودية مثلا، تتحدث عن قضايا تابوهية محرم عليها الحديث في السعودية، ولا يهتم بكاتب «لنقل مسيحي مثلا» لديه تجربة أدبية إبداعية خالصة، فهو لا يبحث لدينا «الغرب» عن سارتر أو هيرمان هيسه، بل يأخذ من عندنا ما يرى فيه إجابات عن تخلف العالم العربي. مع إيماني بوجود قدر كبير من التخلف، والجهل في مجتمعاتنا، ولكن اعتراضي هو حين يكتب أحدنا لإرضاء النظرة «البحثية» المتعالية لدى الغرب، لا من أجل شهوة الكتابة. الغرب يورطنا أحيانا بالكتابة الملغومة، حيث المهم هو التفجير السطحي، وليس الاشتغال الجدي على الموضوع. لقد شاعت أعمال رديئة أدبيا، احتفى بها الغرب وترجمها، لنساء كتبن عملا واحدا ثم توقفن، هذا أضر كثيرا بالسيرة الإبداعية العربية، صار هاجس الكاتب أو الكاتبة - وهذا من حقه- أن يكون مشهورا ومُترجما، فقام البعض بالتنازلات لتحقيق رغبته في الشهرة والترجمة.



[[ في قمة الحصار، كتبت المرأة الخليجية روايات رائعات. هل ضروري من الحصار والمنع والرقابة كي نكتب أدبا جيدا؟

الأدب نتاج تجربة فردية. لا يعني هذا الكلام بأننا نحترم الرقابة والحصار والقهر والمنع، لإنتاج أدب حقيقي، حار، صادق، بل العكس، على الأدب ذاته، التحرر إلى أقصى طاقات التحرر ذاته من جميع القيود التي يفرضها الآخر، أو الأنا، أو ما يسمى بالرقيب الداخلي، على الكتابة. انظر مثلا أدب السجون، أليس ناتجا عن تجارب متميزة وفردية، فهل هذا يعني بأن نكرس السجن، حتى نحصل على تجربة مهمة، وكتابة مختلفة؟ سأعود مجددا للحديث عن الغرب . إن امرأة غربية ما، من أصول إسلامية، أو امرأة عربية بغضّ النظر عن جنسيتها، تكتب عن تجربتها عن الحجاب، أو أي موضوع يتعلق بالتابو، ويأتي كتابها دون أي قيمة فنية، ولا يمكن تصنيف صاحبته ككاتبة حتى، فالكتاب يحظى بالانتشار والترجمة «في حال كتب بالعربية»، هل يمكن اعتبار هكذا كتاب مهما من الناحية الفنية، فقط لأنه خرج من دوائر المنع والرقابة؟



[[ لم يعد النقد قادرا على متابعة ما ينشر من إنجازات روائية، ولا قادرا على توجيه وتقويم المنتوج الإبداعي. إلام يعود ذلك في نظرك؟

وهل أخذت أعمالك الروائية نصيبها من الدرس والتشريح؟ وما مساهمة النقد في تنمية اختياراتك الفنية في صوغ العالم الروائي؟ الكاتب في العالم العربي شخص أحمق أو حالم أو مغامر من نوع ما. إن نحن وضعنا جانبا الأسماء اللامعة في الكتابة، فإن الكاتب يعيش ازدواجية وجودية. هو كاتب حين يبدع نصه وحيدا، وهو كائن لديه متطلبات حياتية. لا النقد ينصف الكاتب، ولا المؤسسات الثقافية الخاضعة دوما لشروط سياسية أو مزاجية. النقد في العالم العربي لا يتمتع بالنزاهة والموضوعية، ولا بالمهنية. بل هو حالات عشوائية، تخضع للعلاقات العامة. فيما يخص تجربتي مع النقد، أنا أكتب رسميا، أي منذ نشر أول كتاب لي، منذ خمس عشرة سنة. المقالات النقدية التي تناولت تجربتي، بدأت بعد كتابي الثالث الصادر منذ سنتين فقط، أي أمضيت أكثر من ثلاث عشرة سنة، دون أن يعرف أحد بي، سوى ككاتبة مقالات، أما تجربتي الروائية، فلم يسمع بها أحد، ولم يهتم بها أحد، حتى ممن يعرفونني عن قرب. لأن ثمة عقدة في العالم العربي، هي «التقدير»، لا أتحدث هكذا لأنني أفترض أنني كاتبة مهمة ويجب تقديري، فأنا لا أزال «مجرّبة»، بل أقول لأنه، وما أن ظهر اسمي في لائحة البوكر، حتى بدأ الحراك يدور حول تجربتي، وكأن المثقف العربي يحتاج ضمنيا إلى وصاية ما، رأي أول، ليقول كلمته. حين كنا نحضر مهرجانات سينمائية ومسرحية، ثم يأتي دور الجمهور للنقاش، كان الجميع ينتظرون أول رأي، إن مدح، صبت الآراء التالية في خانة المدح، أو العكس. المثقف العربي ليست لديه ثقة بذائقته، يحتاج تأكيدا من الآخر، إنه تبعي، والمعضلة الأكبر، أن التبعية ذاتها، قائمة أو تابعة، لأشخاص لا يستحقون أن نثق بذائقتهم، لأنها محكومة بالعلاقات والمزاجية. أستثني من هؤلاء الذين اهتموا بتجربتي، المثقفين الجادين، من المغرب العربي، الذين أحمل لهم ثقة خاصة، وكذلك المبدعين القادرين على التحرر من رأي الآخر، وجرأة كونهم «رأي أول» أو «أول رأي».



[[ يُحتفى اليوم كثيرا بالرواية والقصة على مستوى الجوائز والمنتديات والندوات والحملات الإعلامية على حساب الشعر الذي تسلطن لقرون من الزمن. هل يمكن القول بأننا في زمن الرواية؟

أعتقد أن هذه التسميات هي من ابتكار النقاد ومن اختصاصهم، أطلق جابر عصفور اصطلاح زمن الرواية منذ سنوات، ثم جاء منذ فترة قريبة، وأعاد النظر فيه. ليس للإبداع زمن، ولكن ربما التجربة السردية أكثر قربا من القارئ. الشعر بوصفه مجازا وتكثيفا وتجريدا، قد لا يغري أي قارئ، ولكن للشعر قراءه أيضا ومهرجاناته وجوائزه واحتفاءاته، إلا أنه ربما أكثر «نخبوية»، بسبب حاجته إلى فهم ومخيلة وجهد من القارئ للتواصل مع النص، أظن أن الرواية أكثر»شعبية» وأكثر فهما، ولا سيما حين ينظر البعض، وهذا خطأ برأيي، إلى الرواية، على أنها «كتاب قبل النوم»، أي القراءة فقط للمتعة، من هنا سادت سلطة الرواية «الموهومة»، لأنها أسهل، وهذا مفهوم سطحي وغير صحيح، يكرسه كتاب غير موهوبين، يحوّلون الرواية إلى «حكاية» خالية من الجهد والجدية.



[[ كيف تجدين الرواية المشرقية مقارنة مع مثيلاتها في العالم العربي؟ وأين تكمن مواطن القوة فيها بوصفك متتبعة ومبدعة؟

لا أستطيع التحدث عن موضوع ليست لدي فيه الكثير من المعلومات، ولكنني في العموم أعتقد أن الرواية المشرقية تحتفي بالكثير من التفاصيل السياسية التي تعاني منها المنطقة الشرقية من العالم العربي. في المغرب، ثمة حريات أكثر ـأرجو ألا أكون مخطئةـ إضافة إلى الهمّ الفرانكفوني، هذان الأمران خلقا للمغرب العربي خصوصية ثقافية، في الرواية أيضا. في بداياتي، قرأت لبعض المغاربة، لرشيد بوجدرة مثلا، كنت أشعر وكأنني أقرأ لشخص يعيش في عالم آخر. وكنت ولا أزال طبعا، أحب كتابته. نحن المشارقة أكثر همّا من المغاربة، سياسيا واجتماعيا، ربما من هنا تكمن الفوارق، ولكنني لا أرى بأن الرواية المشرقية أقوى من المغربية. أعود لمسألة التصنيفات التي لا أؤمن بها، أنا لا أرى أن ثمة رواية مشرقية ورواية مغربية، اعتراضي ذاته على أدب المرأة وأدب الرجل، أنا لا أؤمن إلا بالأدب ذاته، أما موضوع «المحاصصة» الجغرافية أو الجنسوية أو الإثنية... فهذا من شأن المنظرين وعلماء الاجتماع والنقاد...



[[ مع الفجوة الرقمية، اختلط الحابل بالنابل، وتهدمت سلطة المؤلف الرمزية، وانهارت أبراج الرقابة، وفاضت الشاشة بالمنتوج الأدبي غثه وسمينه. كيف تقيمين هذا الوضع؟ وما آفاق الوضع الأدبي في ما يستشرف من الزمن؟

علينا أن نتقبّل هذا، هذه هي الديمقراطية الحقة. الكل يمارس دوره، الزمن يفصل والقارئ أيضا يفصل، أنا مؤمنة- كما ذكرت أنت في مقالك عن روايتي- بأهمية القارئ الشريك. القارئ يستطيع أن ينحاز للنص الجيد، ومن المهم برأيي استبعاد سلطة النقاد. انظر سارتر «أعتذر عن أمثلتي الغربية دوما، للأسف ليست لدينا تجربة عربية مشابهة»، الذي رفض جائزة نوبل، لا لكونه ضد الجائزة، بل حتى لا يؤثر هذا في ذائقة القارئ. لهذا فإن هذه التجارب، حتى الرديئة منها، ورغم فوضويتها، تكرس لسلطة جديدة، هي سلطة الشارع المتذوق، بدلا من الناقد المتعجرف المزاجي، وهنا أكرر ما قلته في حوار سابق بأن التغيير قادم بسبب هذه الفوضى بالذات. ولن يكون ثمة مكان أو أهمية لناقد مهيمن على ذائقة القارئ.



[[ هل أحدثت الثورة الرقمية تحولا على مستوى الكتابة الروائية- في نظرك- أم أن آثارها تظل حبيسة بعض الرتوشات التي لا تمس الجوهر والعمق السرديين؟

ليس بعد، في الغرب نعم، ثمة روايات تأثرت بالتجربة الرقمية، أما في العالم العربي فلا تزال هذه التجربة حديثة، والسبب برأيي يعود إلى حجم المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يعج بها المجتمع العربي، إلى حد تظهر فيه الكتابة الروائية المحاكية للتجربة الرقمية بمثابة «ترف» . للأسف، الكاتب في عالمنا يجد نفسه أحيانا أو غالبا منخرطا في هموم مغايرة تماما، متنازلا عن أحلامه الروائية. أمام حالة ارتفاع نسبة الأمية مثلا، لا يمكننا التحدث عن أهمية الفن التشكيلي، أو أمام «جرائم الشرف» لا نستطيع التحدث عن كتابة بعد الحداثة... إن هذا الانزياح بين ما نحياه واقعيا من فساد وجهل وتجهيل وقمع، وما نحلم بكتابته بوصفنا كتابا لا ننتمي إلى تصنيف، يجعلنا نتنازل عن الكثير من أدواتنا السردية لصالح هم الآخر، وهذه المعضلة التي ذكرتها في بداية الحوار عن إشكالية المثقف العضوي.

[[ تحظى رواياتك بانتشار واسع بين القراء العرب نظرا لعوالمها التخييلية المتاهية التي تعكس هواجس الإنسان المعاصر ومخاوفه وطموحاته، الشيء الذي أهلك للفوز بجائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة Human Rights Watch الأمريكية في عام 2005م، ورشحك بقوة للفوز برتب متقدمة في جائزة البوكر. فكيف تقيمين وضع الجوائز العربية؟ وما مدى مساهمتها في النهوض بمستوى الإبداع والمبدع اعتباريا وثقافيا؟

لا أعتقد بأن كتابتي تحظى بهذا الانتشار، دعني أشكرك على هذا الرأي. أما الجوائز يا صديقي فأنت تعرف كل ما قيل ويقال يوميا حول هذا. لا أنكر بأنني كنت محظوظة بورود روايتي في اللائحة الطويلة، وأنا لا أحب «النق» والظهور بمظهر الضحية، أتمنى فقط أن تكون الروايات المرشحة للجوائز، أي جائزة، مستحقة لهذا، ألا يكون اسم الكاتب/ـة، أو علاقاته أو «هباته»، هي السبب الحقيقي خلف الفوز. للأسف، الثقافة العربية لا تعرف الكثير من النزاهة، بحيث يقدم شخص على فعل ما دون انتظار حصته من الفعل. ليست لدينا الكثير من النماذج «الطوعية» التي تعمل فقط لخدمة الثقافة «أعتذر عن كلمة خدمة»، والسبب ليس هذه النماذج فقط، بل الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي يحيا فيها الجميع. من هنا أرغب بتوجيه تحية احترام لكل من كتب عن رواياتي، أو كتب لي، دون أن تربطه بي أي علاقة، من هنا أيضا أصرّ على اختلاف المثقف المغربي ـضمن حدود تجربتي معه ـ، وكذلك الشخصيات النزيهة النادرة التي تعطي دون انتظار الأخذ، لأنها مؤمنة بما تقدمه. أشكر كل من كتب عني، وكل من كتب عني، من خارج أبناء المؤسسة والعقلية القائمة على «خذ وهات»، من حسن حظي ربما، أو لأننا تربطنا ثقافة واحدة، هي المجاهرة بالرأي دون دوافع شخصية أو مزاجيات. أما عن مساهمة الجوائز في النهوض بمستوى الإبداع والمبدع، ووفق الظروف الراهنة، فلا أعتقد بهذا، لأنها لا تحظى بالمصداقية الكافية، هذا لا يعني بأنني أعمم، لا شك بأن ثمة نزاهة لا نعدمها، ولكنها نادرة، وهذا موضوع طويل ويحتاج لأبحاث طويلة، لتخليص الفكر والثقافة من المصلحة.



[[ هل تتابعين ما ينشر على مستوى الأدب المغربي؟ وكيف تُجسّد صورة الثقافة المغربية في المشرق العربي؟

بسبب تواجدي الجغرافي البعيد، فإنني لا أستطيع مواكبة كل ما يُنشر، قراءاتي بالعربية مقتصرة على الكتب التي تصل باريس أو تلك التي يخصّني بها الأصدقاء الكتاب. لهذا فإن تجربتي غير مكتملة لأبدي رأيي في النتاج الثقافي. أما صورة الثقافة المغربية في المشرق العربي، ومن خلال تجربتي الشخصية، فهي تمر بمرحلتين، مرحلة الجهل بها، في بلاد مقصّرة في الإطلاع على أدب الآخر، وهذه المرحلة التي عشتها حين كنت في سورية، أما في فرنسا، وهذا أمر متناقض، فقد اكتشفت الثقافة المغربية، وأحببت الكتابة المغاربية، فرنسا ـ وقلت هذا في إحدى لقاءاتي مع الأصدقاء المغاربةـ هي التي عرفتني على المغرب العربي، قراءة وعوالم شفهية وأصدقاء، صورة المغربي لدي الآن، ربما صورة مبالغة قليلا، متعارضة بشكل حاد، مع صورته البدئية في رأسي، حيث كانوا «أبناء ثقافة التخويف والتجهيل» يحذروننا من المغربي، إلى أن أصبح أي مثقف مغربي اليوم، يحمل جواز عبور إلى رأسي دون أي حسابات أو تردد.... المثقف المغربي اليوم حالة موثوق في جديتها ونزاهتها وإخلاصها، ربما بسبب تلك المسافة الطويلة، التي جعلت من المغربي مجهولا لدينا أو غريبا، راح المغربي، مبادرا للذهاب إلى المشرق وتعريفه به. أظن اليوم صارت هذه المسافة شبه معدومة، وصار أحدنا يعرف الآخر.



[[ اتخذت من فضاءات المغرب جسدا لمحكي روايتك الأخيرة «حبل سري». لماذا اتجه اختيارك نحوه؟ وكيف وجدت عوالمه الجغرافية والطقوسية؟

كما ذكرت في جوابي السابق، فرنسا هي التي قرّبتني من المغرب. كانت لدي صديقة فرنسية مهووسة برجل مغربي عرَفته في الصويرة. كانت تتحدث عنه وكأنه إله هابط من سماوات باخوس، تتحدث عنه بشكل خرافي جعلني أتوق لاكتشاف هذا العالم. لم أذهب إلى المغرب واقعيا، ولكنني تعرفت على رجال ونساء من المغرب، بهروني... أعرف أن صورتي عن المغرب سحرية قليلا وغير واقعية، ولكن لم لا إن كانت تغذّي عوالمي الجمالية... كل مغربي تعرفت إليه، أضاف لي أمرا مختلفا عن غيره، المغرب يضج بتفاصيل تسحرني كمشرقية، لا يزال أرضا بكر تحتمل الكثير من الفانتازيا ولذة الاكتشاف.



[[ تكتبين ملاحم روائية ضخمة تحتفي بعوالم مسحورة من الأساطير والأحداث المتشعبة والمثيرة. وهذا يتطلب منك تركيزا عاليا واطلاعا واسعا على التراث الإنساني ومعايشة حقيقية للناس واقتراب يومي من همومهم وأسئلتهم... فأي طقوس تفضلين للكتابة؟ وكيف توفقين بين هذه الإجراءات والمهام كلها دفعة واحدة؟

هذا أصعب سؤال يصادفني، ليس من الناحية النظرية، وإنما من ناحية التكيف العملي وتطبيقه واقعيا. أنت تعرف أن الكاتب المتفرغ أمر نادر في ثقافتنا، مُتاح لكتّاب كبار، مشاهير... لهذا فأن يُخلص أحدنا لكتابته التي ينهمّ بها ـ من الانهمام ـ، وفي الوقت ذاته يكون شخصا واقعيا يلبي طلباته العادية اليومية، لهي معادلة معقدة. أتحدث غالبا عن تعدد الأنوات، لهذا فأنا أحيا على مستويين، مستوى إبداعي ذاتي، أنغمس فيه وحدي، أنفصل فيه عن العالم، وآخر واقعي، حياتي، أكون فيه أنا أقلّ من الأول، إلا أنه ضروري أيضا لأنه يرفد عالمي الذي أحب، أي كتابتي... أشعر أحيانا أنني داخل صالة عرض تحوي فيلمين يعرضان معا، أنتقل من فيلم لآخر وفق ضرورة التضحية بالمشهد للذهاب إلى مشهد آخر، هذه مهارة متعبة ومؤذية ومضيعة أيضا لكثير من الطاقات، وتفويت مشاهد .. أما طقوسي الكتابية، فهي ليست معقدة كثيرا، أو ربما أدعوها بالسهل الممتنع، تقوم على تفصيل رئيسي هو العزلة. حين أكتب أنسى العالم، واستغرق في كتابتي التي تمحوني أنا أيضا. الكتابة هي الركن الوحيد في العالم الذي أسمح لها بإلغائي للإصغاء لها... حتى نكتب، علينا أن نتخلص أحيانا منا... أن نصغي إلى العوالم التي تسكننا... ربما يسمى البعض هذا باللاشعور... إن «لاشعور» الكاتب هو كتابة تسكنه، تحتاج إلى تحرير حواسه من العالم الخارجي، ليتخفف من وطأة الواقع وشخوصه وأحداثه، ليسمح لها بالشعور بالطمأنينة والانسياب على الورق. أنا أكتب كثيرا، بشكل خرافي... أكتب شفهيا، في رأسي... هذا مضحك. كأنني مسكونة بجنيات وشياطين وملائكة وآلهة ومدن وأنهار وأطفال... يثرثرون في رأسي، يتشاجرون، يلعبون... حيوات كاملة متداخلة، متناقضة... تتحرك معي، تنشط في وحدتي حين أمشي، حين آخذ المترو، حين أسمع الموسيقى، حين أنام... نعم أنا أكتب في النوم أيضا، وكثيرة هي المرات التي أصحو من نوم عميق أو سطحي، لأدون عبارة أو فكرة... طقوس طويلة ومعقدة، تحتاج كتابا خاصا لوصف جماليتها وألمها.



حوار: ابراهيم الحجري

قاص وشاعر من المغرب

samedi 16 avril 2011

مها حسن تستعين بالقارئ لنسج حكاياتها

في روايتها «تراتيل العدم»

مها حسن تستعين بالقارئ لنسج حكاياتها



2011-01-01

إبراهيم الحجري ❍

تتعاقد الروائية مها حسن منذ بدء الرواية «تراتيل العدم» مع قارئها على أنها لن تقدم متنا حكائيا جاهزا، بل ستفتح أمامه ورشا معقد التركيبة تحتاج إلى اجتهاد كبير على مستوى التلقي، إذ فضلا عن تطلبها لعملية القراءة التأملية المتكررة على مستوى الخطاب، تقتضي وعيا كبيرا من القارئ على مستوى البناء الخطابي وتشكل بنيات السرد داخل الرواية. فقد نسجت مها حسن محكيها، انطلاقا من مماحكات أسلوبية، اشتغلت من خلال المتن على تسريد النص، وتعميق مستوى تشييد أنسجته. مما يتطلب معه قارئا مجتهدا من نوع خاص يستطيع، فضلا عن البحث في مستويات الدلالة والحكاية، تأمل طريقة الترصيص والبناء. وتتمثل رهانات التجريب في النص عبر المستويات والتجليات التالية:



تفتيت النص:

لا يتبنى النص أسلوبا كرونولوجيا تراتبيا جاهزا كما اعتدنا في البنية السردية التقليدية، بل خلخل بنية النص، عبر مراحل. وقد عبرت الروائية عن ذلك من خلال التعاقد الذي أبرمته مع القارئ، عبر البيان التمهيدي الذي يشكل ميثاقا للقراءة، توجه بموجبه عملية القراءة التي تصبح لعبة وظيفية تندرج ضمن عملية الكتابة نفسها؛ تقول فيه: «في البدء، كانت هذه الرواية لجدار، ثم انتقلت كتابتها إلى جوزفين، ولأسباب محض فنية، أنجزت العمل باسمي أنا، مع عدم اضطراري لتأكيد واقعية شخصية جدار، وجوزفين، وغيرهما، إلا أنه وقع الاختيار علي لخروج العمل مذيلا باسمي، لكوني الكائن الأكثر واقعية من بين مجموعة الشخصيات في هذه الرواية» ص 11. وما هذا الإعلان سوى تعبير عن الوعي بكواليس التشكل الخطابي للمادة الحكائية وترهيناتها، من أجل التدليل على المختبر السردي التي أنتجت في الطبخة السردية، بين الراوي والكاتب الضمني والكاتب الفعلي.

- تشغيل القارئ على المتن والصوغ الخطابي، إذ إن الروائية تستعين بقدرات القارئ على تحويل المتن وعجن الحكاية من أجل خلق منطق لها. فالمادة تقدم للمتلقي مشوشة مع سبق الإصرار والترصد، وكأن الرواي يمتحن قراءه، ويختبر مدى حنكتهم وانتباههم أثناء القراءة. حيث إن الفصول غير مرتبة وفق البعد الكرونولوجي التتابعي، مما يخلخل البنية الخطية للقراءة التي تصبح متوترة، تستلزم إعادة ترتيبها لتتم عملية استيعاب الحكاية. إذ لا تبدأ الرواية إلا بعد مرور نصف عدد الصفحات على الحكي، وحيث تنتهي الرواية بآخر حدث وهو تفحم جثة حرز، تعلن الروائية أنها قبيل أن تكتب كلمة انتهت طلبن إحدى الراويات- الشخصيات منها الرغبة في سرد ما رأته لتضيء الأحدث، ولتترك نهاية الرواية مفتوحة على الآفاق البعيدة... تقول بعد نهاية الفصل الثاني مخاطبة المتلقي: «يستطيع القارئ الآن، الاسترخاء، من ضجيج الأسماء والأحداث، قبل أن يدخل إلى الفصل الثالث، لأنه بعد أن كان الفصل الأول، هو التعريف بالأسماء أو الأشخاص، وجاء الفصل الثاني للتعريف بالأحداث، سنبدأ في الفصل الثالث بالرواية، وكل ما سبق كان تمهيدا للرواية، التي تبدأ الآن، شدوا الأحزمة، سنقلع في الصفحة التالية» ص 210.

- تضمين المتن إشارات نقدية وملاحظات حول أسلوب الرواية وبنائها وكواليس تشكلها. ولم يكن هذا على هامش الحكي، بل كان صميميا فيه وداخلا في بؤرته، إذ يوازي النقد الحكي في خطين غير متباعدين، ويتم التفكير في تشكل الصياغة الفنية للمتن موازاة مع تطور الأحداث وتناميها وتدفق حبكاتها. وهذا هو ما يدعى في الأدبيات السردية الجديدة بـ«الميتاروائي»، أي أن الروائي يستعرض داخل المتن الحكائي طقوس الكتابة وما يصاحبها من أسباب النزول وحيرة الرواة وما كان يفكر فيه الراوي أثناء عرض مادته السردية، وما حدث له من سوء التوافق مع الراوي. كل هذا متخللا للعمل، مكسرا بنيته، وكأنه نوع من النقد الذاتي للروائي الممارس على تجربته في الكتابة. ويتطلب هذا التوجه من الكاتب خبرة كبيرة وإلماما بمجال السرديات، إذ يفترض فيه أن يكون ناقدا قبل أن يبدع عمله، كما أن العمل الروائي، يصبح في هذه الحال حقلا للتجريب.

بالرغم من كون شخصية حرز أول ما ابتدأت بها الرواية، وهي تلاقي مصيرا دراماتيكيا مؤلما، حيث احترقت جثتها تماما بفعل اشتعال عقب السيجارة في القش، فإنه يُمكن القول إن “أرض” هي الشخصية الأساسية في النص. وتقابلها في الجانب الآخر شخصية “إغماء”. فأرض، التي أنجبت خمساً وعشرين ابناً في ثلاثة عشر ولادة ضمت في كل ولادة طفلين، وفي المرة الأخيرة طفلاً واحداً، كانت قابلتها أثناء الولادة أفعى لديها شعر يغطي غرفة كبيرة، تملك صفات وقدرات خارقة فوق العادة، في شفاء المرضى ومعرفة المصائر وإحياء الأموات ومحادثة الحيوانات. وتبرز في الجانب المعاكس لإغماء، زوجة ابنها “عناد”، التي استخلصها “جنيّ” لنفسه زوجة وأنجب منها ابنها الوحيد “حرز”، ولا وظيفة لها غير ذلك ما عدا أن تغني أغاني تأسر جميع الناس والحيوانات وتوقفهم عن أعمالهم وحياتهم. وعند انتهائها من الغناء تدخل في حالة الإغماء في الصمت والخروج من الحياة العادية لتعود الحياة والنشاط للكائنات الأخرى. لذلك تبدو هذه الشخصية، شأنها شأن باقي الشخوص، معادلة للعالم السفليّ المضاد لأعمال “أرض» وكائناتها العلويّة.

تبتدئ الرواية بتمدّد القائد الموسيقيّ “حرز” على سرير من القش واحتراقه. ويبقى طوال الرواية مشهد الاحتراق بارزاً. بينما تقوم الروائيّة بنسج حكاياتها في قصّ الحكايات والمصائر للشخصيات بتدخل فني ذكيّ في تقليب زمن الحكايات والشخصيات بين الحاضر أو الماضي أو المستقبل.

وفضلت مها حسن أن تجزئ روايتها إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول يضم التعريف بالأشخاص والثاني يضم التعريف بالأحداث والثالث سمته بداية الرواية، ثم أضافت فصلاً إضافيّاً وملحقين كدليلٍ لأسماء الشخصيات وأبنائها. وهذا كلّه مجرد خداع للقارئ ومكر في التعامل مع لحظة الكتابة. فالرواية تبدأ، بحسب ما رُسم لها في الكتاب، بعد مائتي صفحة!. وما وضعُ ملاحقٍ للأسماء، أو فصول كاملة للحديث عن الشخصيات والأحداث، إلا لعبة من الروائيّة كي ندخل في حالة التسجيل للأحداث كي تبدو حقيقيّة وغير متخيّلة. والكاتبة لم تتوقف عند ذلك. بل أكّدتْ داخل المتن الروائيّ على مسألة غريبة وهي تدخل كاتبتين، هما جدار وجوزفين، في كتابة المخطوطة الأصليّة للرواية، التي اعتمدت في بعض فصولها على دفتر يوميّات لحرز، ثم قامت جوزفين بتسليم المخطوطة ل”مها”، التي يرد اسمها هكذا ككاتبة للنص، كي تشيدها تشييدا أدبيّاً وتختلق لمحكيها حلولاً فنيّة تمكنه من نشر المخطوطة كرواية!! ليس هذا فقط، بل إنها تورد، من حين لحين، تعليقات لجدار وجوزفين، عن حدث ما أو شخصيّة ما، وتضعها بين قوسين دلالة على أنها اجتهاد من الراويين الأولين جدار أو جوزفين، بمعنى أنها لم تتدخل ككاتبة إلا نادرا كي تبرز تدخلات الرواة الآخرين ومدى وظيفية ما يروونه من مسرود على الكتابة.



الرغبة والمكتوب:

داخليا، تبدو الأمور مؤسسة على ذلك الصراع بين الرغبة والمكتوب، هذا التوجه تمثله أرض، وبين معاكسة الأقدار بتدخل الإرادة أو العقل أو العالم السريّ المضاد لها تظل طاحونة السرد تلوي الأحداث وتراكمها مستغلة هذا الصراع الدرامي الرمزي الذي كان وما يزال مستمرا كسؤال فلسفي إلى نهاية العالم... وتمثله إغماء ومَن استغلها من الجان الذين تعاهدوا مع حرز لتغييّر قدره المنحوس. فالصيغة القدرية الأولى التي تهمس بها أرض في أذني أبنائها، وأبنائهم في ما بعد، كما حدث مع حرز، “حذرتك ألا ترتّل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسركَ ويلعنك، يُفتّتكَ فيستحوذ عليك، ولا يكون لكَ منه فرار، فيعدمكَ، وحيداً تموتُ وتشمُّ رائحة رحيلك الأرضُ، ولن ينقذكَ من عذابكَ إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك”. كانت تلك صيغة لتليين المكتوب رغم أنها متيقنة من أنه سيلقى لا محالة، كما والده عناد، مصيراً مرعبا ، ولكنها دأبت على تذكيره بصيغتها الأولى، كما تردد في الرواية مثل موال حزين أو لازمة درامية وببنط غليظ دلالة على استراتيجية المقول فيها وبؤريته، كي ترأف به الأقدار. إذ كان الخوف ملازما لحرز في صغره، بسبب أمه إغماء من جهة، التي كانت تريده أن يكون أنثى.

ثم يأتي الخداع السردي مجدداً، بمقترح ثالث من المؤلفة نفسها وذلك في الصفحة 213: في أن تكون الصيغة الثالثة، الرواية بصيغتها النهائيّة، أكثر قدرة على منحه خلاصاً لم تقدّمه الصيغتان السابقتان.

تستفتح مها حسن متنها الروائي بترتيلة تقول: «حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تموت وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». وهي المقولة التي ستتكرر الترتيلة على مدار المتن الذي تدور فكرته حول الخلق والعدم، كما تحاول الروائية جعل هذه المقولة صيغة ترسم من خلالها طبيعة الرواية وأبطالها المتخيلة بأسمائها وسماتها وعلاقاتها ومجيئها إلى الكون. إذ نلحظ منذ البدء، تتنوع أسماء الشخصيات بين حرز، أرض، طُهر، سماء، سيماء، عناد، شمس، إغماء، حرث، وهناك كائنات أخرى تمارس وظيفتها في عالم الحكي على شاكلة الشخوص الآدمية مثل الأفاعي والكلاب، وتسند لهذه الفواعل غير الآدمية أدوار لا تليق بتكوينها، مما يدل على أن الكاتبة تستلهم أسلوب الحكي الفانطاستيكي والغرائبي، وتصر على أن تمنح لشخصياتها رمزيات ودلالات ترقى بها عن العوامل المعروفة. ومن الأسماء نلحظ هذه السمة، إذ تبدو مقولاتها الاسمية حاملة لدلالات مترادفة أو متنافرة مكرسة بذلك انسجامها مع الطابع الأسطوري للخلق الذي تتأسس عليه فلسفة النص بصفة عامة.



البطل- الضحية:

حرز، الذي هو البطل- الضحية الغائب على مستوى الفعل؛ والدائم الحضور في تراتيل العدم عبر مذكرات الشخوص الأخرى، تدور عليه المرويات والأحاديث والسرود، في حين تبدأ الكاتبة الحكاية بالحديث عن رماد جثته التي احترقت فوق كومة من القش بناء على فعل ذاتي صرف. حرز، هو سليل امرأة اسمها أرض تهيمن على قلعة تغلب على سكانها سمات تتوزع بين الخرافة والأسطورة والدين، ذاك أن الولادات والأعمار والعلاقات والحياة والموت فيها، تتأسس بناء على مقولة أو صيغة تسميها الروائية بــ«تلك الصيغة»؛ وهي في جوهرها عقد داخلي يتواطأ عليه سكان القلعة وتتجسد شيفرته في ما تهمس به الجدة الأولى «أرض». ويمكن اعتبار ترتيلة البداية والتي تتكرر في المتن مثل تلك اللازمة التي تتكرر في الأناشيد والأغاني مُشكلَة، بذلك، جسرا واصلا بين ما يمكن وسمه بالقدر المتمظهر في سلطة الكاتبة الرمزية على عالمها الروائي، وكيفية تحكمها في مصائر الشخوص، وبين ما يمكن اعتباره كونا متخيلا يتأسس على الأساطير والأديان والحكايات الخرافية. ولكي تضمن الروائية الانسجام، في عالمها الروائي، بين ما تتدخل به من هوامش نقدية وتوجيهية للقراءة ولاختياراتها الفنية والخطابية؛ وبين ما يتكفل به الرواة الآخرون، ابتكرت مؤلفين مفترضين لهما تدخلاتهما على هامش النص الأصلي، وهما (جوزفين وجدار).

وتتضح صورة التسلط القدري للرواة على الشخوص من أجل رسم مآسيهم المخزية، بعد قراءة صفحات كثيرة من الرواية حيث تصور الرواية شخصية حرز المتأرجحة بين ضنك الطفولة المقدر والفحولة المكروهة وبين الشك في هويته المهجنة بين الجن والإنس. فهو قبل أن يصبح رجلاً ويتحرر من سخريات عمه «طهر» وقسوة أُمه «إغماء» ومحاولاته المتكررة للتخلص منه والاستخفاف به من قبل غالبية سكان القلعة، يبدو كشخصية مرفوضة نظرا لأصلها غير البشري.



رمزية الأسماء:

يحبل المتن الروائي، بشكل يكاد يكون مفكرا فيه بعناية مبالغ فيها، على الأسماء التي يبلغ عددها حوالي مِائة اسم، بل وتجنح الروائية إلى رصد ملحق لها في نهاية الرواية، وكلّ هذه الشخوص المسماة في الرواية تنحدر من الأم «أرض» ابنة أرضى ويرضى، والأب: «حِرث»، استلهاما لقصة حوّاء وآدم، وينجب هذا الثنائي الأول اثني عشر توْأَماً، في حين يأتي المولود الثالث عشر ذكراً مفرداً «طُهر»، وكأنّه بانفراده بهذه التسمية قد يشكّل ملجأ الخلاص بالنسبة للعائلة التي تحيا في قلعة واحدة. حيث ينفرد بمسكن مستقلّ، ويفكّر بطريقة مغايرة، فيكون بالتالي الولد العاق الوحيد الذي لا يذعن لاستيهامات العائلة حول قدرات أمّه الخارقة «أرض» التي تغدو محجّاً للزوّار كي يتبرّكون بها، ويتبعون أهواءها ورغباتها.

ترد الأسماء بشكل مفكر فيه، حيث يكون الاسم دالاً على مسمى، من حيث المعنى المحال عليه ذهنيا، من خلال بنيته اللسانية فنجد أن دلالة الاسم تبرّر سبب تسمية هذا أو ذاك، أو تعلّق عليها، فيكون الاسم سمة لصاحبه، أو يكون وبَالاً عليه إذا لم يكن مستحقّاً له «حين وُلِد حِرز، ظلّ لعدّة أسابيع دون اسم، إذ لم تكن اسمه تستطيع إدراك أهمّيّة الاسم في حياة الإنسان، ولم يكن أبوه مهتمّاً بتسميته، لأنّه بإدراكه لأهمّيّة الاسم، لم يشأ المساهمة في تحديد هذا الكائن الذي لم يعرف مصدره، فهو إن أطلق عليه اسماً سيّئاً، حبس الولد فيه، وقد يكون ابنه، أمّا لو أطلق عليه اسماً هامّاً، فقد يسبغ عليه صفات لا يستحقّها مَن هو ليس بابنه....».. «فهمست في أذنه: أسمّيك حرز، لأحميك باسمك، من الوقع في أسر ما أسِرّ لي، إلى أنّه سيقع عليك، سوف تنسى ما قلته لك، وتتذكّر فقط أنّ اسمك هو حِرز..». ص31.

فلكل اسم دلالة ملازمة في شقها اللسني المبثوث بعناية، ولكل منها دلالته الرمزية في علاقته التوافقية أو التنافرية مع باقي الأسماء الأخرى. فحرز هو ذاك المحروس والمحمي من طرف جني يفترض أن يكون والده، وحرث هو الزوج لدلالة مذكورة في النص القرآني «نساؤكم حرث لكم» وأرض امرأة خلقت لتكون حرثا لرجل ذكر يدعى حرث. والأرض هنا أيضا تحمل رمزية الخصوبة والعطاء، وفيها سيزرع حرث بذوره لتتشكل السلالة القادمة. أما طهر فرمز للطهارة بناء على تفكيك شفراته اللغوية وبالعودة إلى القواميس التي اشتغلت، بدون شك، عليها الروائية. في حين أن ذاكرة سميت بذلك لقوة ذاكرتها، لذلك فوحدها تكفلت بحفظ الصيغة السر التي تهيكل ؟أقدار الناس في القلعة. وهكذا دواليك، فكل اسم شخصية، فضلا عن كون بنيته اللسنية القاموسية والمعجمية تدعم قضية الدلالة فيه، تجد، في المتن الروائي، تبريرا لها، وكأن الراوية منحت لكل شخصية اسمها انطلاقا من الوظيفة التي تتكفل بها في المحكي الروائي. وبما أن الرواية اتكأت كثيرا على السند الأسطوري، إذ هي تبني الأسطورة ولا تستلهمها تامة من المرجعيات القديمة، فللشخوص امتداد في بنية هذه الأساطير، حيث إنه ليس هناك آمر اعتباطي في العالم الروائي.



❍ ناقد وقاص من المغرب

التغير قادم ولن يبقي سدنة الهيكل الثقافي!

الكاتبة السورية مها حسن: التغير قادم ولن يبقي سدنة الهيكل الثقافي!


عناية جابر

2010-12-14

مها حسن روائية سورية تقيم في فرنسا وتنشر أعمالها في بعض الصحف والمواقع العربية. صدر لحسن رواية جديدة عن دار 'رياض نجيب الرّيس' تحت عنوان:'حبل سرّي' أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة الـ'بوكر' العربية، كما لحسن أعمال من قبل منعت في سورية منذ سنة 2000. ' حبل سريّ تحكي تناقضات الحياة في سورية وفرنسا من خلال قصة أم وابنتها ، وعنها كان هذا الحديث:

* متى بدايات تعرّفك بالقراءة ثم الكتابة، كيف دخلت عالم الأدب وما هي الظروف التي قادتك اليه؟

* نشأت في بيئة شفهية، ليس للكتاب فيها أي حضور. باعتباري الولد البكر، كنت أول من يذهب إلى المدرسة، ويُدخل الكتاب 'المدرسي' إلى المنزل. بعد كتب المدرسة، أصبحت المناشير السياسية هي أول وجود مدون.

دخلت الكتابة من باب السياسة. نشأتي في بيئة سياسية، قادتني باكرا إلى قراءات عالمية، ولو أنها انحصرت في كتيبات سياسية صغيرة، قادتني إلى التعرف على جذور الفكر اليساري، فرحت أقرأ ماركس وإنغلز، وبعض الكتب والروايات المنبثقة من الخط ذاته. بدايات قراءتي كانت مع الأدب الروسي. قرأت مكسيم غوركي باكرا، وإيتماتوف، وليرمنتوف وغيرهم. كان حلم والدي الذي رسمه لي، دراسة الاقتصاد السياسي في روسيا، ولم أفهم آنذاك، الرابط بين الاقتصاد والسياسة. إلا أنني أشعر دوما بالامتنان للسياسة التي فتحت لي أبواب الثقافة، لأن نشأتي وسيرتي، لولا الصُدف السياسية، تؤهلني، مثل بقية بنات العائلة، للذهاب إلى منزل الزوجية التقليدي أو الانخراط في نضال سياسي طوباوي. السياسة فتحت أبواب القراءة أمامي، حيث اكتشفت متعتي أمام الفكر، الذي راح يشدني بالتدريج نحو عالمه، فرحت أقرأ خارج الإطار المفترض، أي خارج الدائرة الماركسية أو الروسية. اكتشفت نيتشه باكرا، ثم رحت إلى هيغل، مرجعية ماركس، وجاء سارتر كفيلسوف أولا، وككاتب تاليا، ليُحدث انقلابا في مساري الذهني.

اكتشافي للوجودية كان أهم ما وقع لي، اكتشاف لم يقترحه عليّ أحد، لم يتدخل به أحد، اكتشاف خاص بي، حقيقي وجوهري. ومن هنا كان انفصالي السياسي، رغم الهجوم الحاد، الذي كنت أضعف من تحمله، في سن الطفولة تقريبا 'خمس عشرة أو ست عشرة سنة' حيث اتهمت بالعمالة لليمين البورجوازي، كان اليسار يعتبر سارتر مفكرا بورجوازيا معاديا للشعب!... وهكذا رحت نحو الفكر والأدب وابتعدت عن السياسة كإطار حزبي تقليدي، دون أن أهجر الهمّ السياسي الذي لا يمكن لأي مواطن في العالم العربي، وفي الغرب أيضا، العيش بمعزل عنه.

* ثمة خط من الإلتزام السياسي واضح في روايتك، ألا يُعيق هذا حرية الرواية؟

* هذا الجواب مرتبط بالسابق، لأنني ولدت في بيئة سياسية. مع أنني لست مع أدلجة الأدب، ولا أؤمن بالوظيفة الاجتماعية له، ولكن كل قراءاتي المبكرة ركّزت على الإنسان، لا بل على المكانة المثالية التي يستحقها الإنسان في الطبيعة، وفي العلاقة مع الإله ...من الطبيعي أن أنحاز إلى هذا الإنسان، وإلى المرأة خصوصا، لأنني فوجئت باكرا، أو صُدمت بالازدواجية الاجتماعية، حيث المرأة رفيقة وشريكة في السياسة، إلا أنها تتحول إلى 'دمية' أو 'جارية' أو'محظية' في المنزل. أعتقد أن جذوة غضبي المستمرة من الأوضاع المهينة التي تحياها المرأة في الشرق، عبر جرائم الشرف أولا، وانتهاءً بكل ممارسات العنف اليومية التي تمارس على المرأة، أجبرتني، بشكل غير مقصود ربما، على الانحياز الحقوقي، أكثر منه سياسيا، نحو الطرف الأضعف، الإنسان المهمش والغائب، والمرأة خاصة.



* هل من تأثرات في قراءاتك وكتابتك بكتّاب أجانب، انت التي تعيشين في باريس كما هو معروف، ومفتوحة قراءاتك على عوالم شاسعة ورحبة؟

* لم يمضِ على إقامتي الفرنسية زمن كاف لنتحدث عن التأثر، أنا أقرأ بالعربية، وأتذوق القراءة بهذه اللغة، ولم أصل بعد إلى متعة القراءة بالفرنسية. لهذا فأنا لم أتأثر بأي كاتب فرنسي بسبب عيشي في فرنسا، ولكن يمكن القول بأنني تأثرت بطريقة التفكير الغربية باكرا. تعرفين أن الغرب يمجّد الحريات عبر الكتابة والأدب، من يقرأ الأدب الغربي باكرا، أو حتى الدراسات الفكرية، دون قصد منه ـ لا أحب كلمة لاوعي ـ يتشبّع بمواقف وأفكار الحريات. لقد قرأت كولن ولسون مثلا في سن العشرينيات، كتابه الذي التف حوله المثقفين العرب في فترة الستينيات والسبعينيات، وتأثروا بنموذج المثقف اللامنتمي، وكذلك الأفكار البوهيمية التي جاءتنا من الغرب... كل هذا أثر فيّ باكرا، وخلق بداخلي مساحات من الرفض والبحث المحموم عن الحرية، لهذا فأنا لست متأثرة على صعيد الشكل، ولكنني على صعيد البناء الفكري، أنتمي لهذه الأفكار، التي تعرفت عليها من الغرب، أفكار الحريات وحقوق الإنسان، الرفض والانتماء أو اللاانتماء.

* هل من طقوس معينة لكتابتك، وما هو المعمار الفني الذي اعتمدته لتظهير عملك على سويته من وجهة نظرك؟

* أشبه الروائي بأنثى الكنغر ـ كنت ولا زلت معجبة جدا بهذا الكائن ـ حيث تضع أطفالها في جرابها. تذهلني هذه العلاقة المحتشدة بالحب والحنان والاحتواء، إلى درجة الالتصاق وفقدان الاستقلالية، كذلك يفعل الروائي بشخوصه وأحداث رواياته. ربما تنولد فكرة الرواية الرئيسية مثل الشعر، كحالة ومضة، أما بناؤها فيتم وفق حالة 'كنغرية' بحيث لا يكف الروائي عن الكتابة، في جميع مراحل يومه، الفرح، الحزن، المشاهدات ... مثلا، كلما نظرت إلى وجوه الناس حولي، أولئك الذين أعرفهم، وعلى الأخص الذين لا أعرفهم، أتخيلهم شخوصا قادمة، أو مشاريع مؤجلة في رواياتي. هكذا أعيش الكتابة، أضع العالم الذي أحياه، بكل تفاصيله، نشرات الأخبار، علاقاتي الاجتماعية، صداقاتي المتميزة، إحباطاتي، قراءاتي، أحلام اليقظة التي تغذي كثيرا كتابتي، كوابيسي الليلية التي ترافقني كثيرا إلى درجة الاحتلال لوعيي، رغباتي، أمزجتي، مخاوفي .. أختزن كل شيء في جرابي الروائي، وحين تأتي الومضة الأولى، أكتشف وكأن الرواية موجودة سابقا بداخلي، كانت تحتاج فقط إلى الخيط الأول، الومضة، ثم تنسل لوحدها المخزون المخبأ في الجراب... لوحدها تأتي الشخوص والأحداث ... تكاد تكون مكتوبة، وما عليّ سوى إعارتها أصابعي، لأحولها من وجود مختبئ بداخلي، إلى وجود مادي، مرئي على الشاشة، للأسف أكتب عبر الكمبيوتر...

'حبل سري'، ولدت هكذا، هي أول عمل أكتبه من فرنسا، ويتعلق بالجانب الفرنسي من حياتي. صوفي بيران، تشبهني إلى حد ما، تشبهني ربما كما أحلم لنفسي، حريتها تشبه لهاثي خلف الحرية، لا انتماءها يمثل كثيرا حيرتي في الانتماء، كما لو أنني احتجت لخلق صوفي بيران، لأتحدث عن قلقي من الهوية، ولا انتمائي الذي يربكني، ما بين الأرض الأولى، لا مسقط الرأس، كما يقال، بل موقع السُرة، وبين الأرض الجديدة، أرض الاختيار الناضج. صوفي بارتباكاتها وتقلباتها العاطفية والفكرية وتأرجحها هي أنا. أما باولا، فهي الحلم ربما. الطفل الذي لم أنجبه، وتخيلت وجوده، الطفل الأعقل مني. باولا أنضج من صوفي، هكذا أعتقد ، أنا أؤمن بجيل الأبناء أكثر، لهذا احتجت لباولا، لتحسم قلقي، قلق صوفي، قلق جيلي، نحن الذين اخترنا الضفة الأخرى، ولا تزال مشاعرنا عالقة هناك.

كتبت هذه الرواية بشغف حقيقي. أحببت كل من فيها، سيريل البوهيمي، الذي تعرفت على سيريل يشبهه كثيرا في باريس، آلان الذي أحببته وقسوت عليه، حنيفة الرائعة، التي مزجت فيها عدة نساء أحبهن، هؤلاء أشخاص ينامون في جيبي الروائي، وينهضون ليساعدونني في الكتابة، إنهم مثلي، لديهم رغبة في الاحتجاج والبكاء، معزولون وهامشيون ويخافون، لهذا نحن نكتب، أنا وشخوصي التي ترافقني.

الطقس المهم والرئيسي بالنسبة لنا، أنا شخوصي، هو الوحدة. إنهم يحتاجون إليّ وحدي، ليخرجوا إلى الورق، أو إلى الكيبوورد، لديهم هلع من العالم الخارجي، لا يمكنهم الظهور أمام الآخرين، عليّ أن أستقبلهم بمفردي، حتى نكتب معا، إنها علاقة ممتعة، تماما، كما أنثى الكنغر، أحيا، بحب، باحتواء، بحنان، لا تنحسر أناي ولا تختفي، إلا أمامهم، يلتصقون بي، ويحق لهم إلغائي.

أحب باريس، وأحب بروتانيا، لهذا فالمكان حاضر بقوة في روايتي، من شدة شغفي بالمكان، أكاد أمسك بيد القارئ لأدله على أسماء الشوارع والمقاهي وأسماء الأطباق، هذا ربما أثقل الرواية من وجهة نظر نقدية، لكنني كنت أحاول تعريف القارئ العربي، الذي أبحث عنه، والذي يشبهني، ولا يعرف باريس، أحاول العبور به إلى باريس، عبر روايتي، وبالعكس، كنت راغبة في تعريف الفرنسي، الذي أعيش معه، بالمكان الذي وقعت فيه سُرتي. لكنني لم أتمكن من خيانته، عبر تقديم أرض نشأتي على أنها بلاد الحب والشمس، كنت بحاجة لأصدق معه، فلا أزوّر، وجدتني أحدثه عن الفساد السياسي، عن قمع النساء، عن مداهنة المثقفين... ليس الأمر بيدي، وليس خيارا قصديا، إنها معاناة الناس الذين يعيشون بداخلي، الذين أرتطم بهم كيفما تحركت، هم الذين يكتبون، إنهم يستعملونني للظهور، هذا جنون ربما، ولكن من قال إن الكتابة الإبداعية ممارسة عاقلة!

* ما رأيك بالمشهد الثقافي العام في العالم العربي، وهل تتابعين إصدارات الشباب ومن يعجبك؟

* أكره النق كثيرا، مع أن المشهد الحالي لا يدعو إلى الكثير من التفاؤل، إلا أنني مؤمنة بالتغيير، ثمة ديالكتيك منطقي يقود حركة الكون، لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، ثمة جهود تُبذل، وثمة أشخاص يعترضون على سيرورة المشهد الحالي، وثمة انقلابات لا بد منها. نحن في زمن العولمة، أصبح من السهل الإطلاع على تجارب الآخرين أينما كانت، هذا الانفتاح الهائل على العالم، والثورات التكنولوجية، تخلق فضاءات أمام المثقفين المبعدين. الزمن القادم سينصف هؤلاء، لن يبقى الكبار وأرباب الكتابة سدنة الهيكل الثقافي، نحن مجبرون على التغيير وقبول الآخر، ولكنها قضية وقت، وقت ليس طويل. المشهد العام تحبكه العلاقات والمصالح، ثمة استثناءات طبعا، إن خليت خربت. مشكلة الثقافة هي تبعيتها السياسية، لولا أدلجة الثقافة، وربطها بمنابر ومصالح شخصيات وأحزاب، لكنا بخير، أظن أن عملية التغيير متساوية، بين السياسي والثقافي، فالاستبداد السياسي يخلق استبدادا ثقافيا، وبالعكس، التغيير السياسي والتوجهات الديمقراطية، تخلق أنماطا إبداعية متطورة ومتحررة ومغايرة.

أتابع كل ما يصدر، وفق إمكانياتي المكانية. للأسف، إن مصدري الوحيد لمتابعة الإصدارات هو الصحافة العربية. لأنني لا أعيش في مدينة عربية، أستطيع فيها اللقاء بالمثقفين والكتاب والإطلاع على الحركة الثقافية اليومية. أحتاج لوسيط، هو الصحافة. أنا معجبة جدا بالحراك الثقافي، الذي اكتشفته في وقت متأخر، في المغرب العربي. أكاد أكون مبهورة بجدية المثقف المغربي. لا أعرف أن كان النظام الملكي، يهيئ لخلق ثقافة غير مأسورة أو خائفة أو مبددة بسبب الاهتزاز السياسي. معجبة جدا بالصحافة اللبنانية، رغم عدم الاستقرار السياسي، لكن ثمة 'حريات' وإن كانت نسبية، لكنها تكاد تكون مطلقة لو قارناها بباقي أرجاء العالم العربي.

معجبة أيضا بالتجريب الروائي المصري، التجارب الجديدة للكتاب الجُدد. ثمة في مصر شباب متمردون، مع أني لا أحب اللفظة، ولكنهم قادرون على قلب الطاولة. لا أستطيع تسمية تجربة بعينها، لأنها لا تزال تجارب في بدايات الطريق، نحتاج، كما أعتقد، إلى بعض الزمن، لتأكيد جدية هذه التجارب، أو ربما آنيتها، وابتعادها، وهذا طبعا ما لا أرجوه. إضافة إلى عدم إلمامي بجميع تفاصيل المشهد الإبداعي، خاصة بتجارب المغرب العربي والخليج العربي، وهذا ما يجعل أحكامي ناقصة.

'حبل سري' لمها حسن:الذات وآخرها..

عبد المنعم الشنتوف


2011-01-11




تفترض رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن 'حبل سري' الانفتاح على عوالم ممكنة تتعالق بشكل عضوي بمقصدية سردية تسعى إلى الاحتفاء بالذات وبحثها عن الآخر. ولعل ما يحفزنا على الاحتجاج لهذا الافتراض الحضور القوي لهاته الذات داخل فضاء يتسم بتعدد لافت من حيث تمثيلاته الجغرافية والتاريخية والثقافية.

ويمكننا أن نؤكد ذلك من خلال قراءتنا العميقة للرواية وتأملنا في منطقها السردي ودينامية شخوصها وانتقالها الفيزيقي والثقافي بين الأمكنة والتوظيف الدال للحوار. وسوف نتمثل من خلال الركون إلى القراءة التأويلية أن رهان الكتابة الروائية في هذا النص ينهض على إرادة تأسيس وعي سردي بالمغايرة ينهض على أساس استثمار التجربة الحياتية الخاصة للكاتبة وإبداع مسارات سردية تتقاطع بكيفية دالة مع محطات دالة من هذه التجربة. يبدو جليا من خلال النفاذ إلى العوالم التي تتيحها الرواية إن الكاتبة سعت إلى تكثيف تجربتها الخاصة في الانتقال إلى فضاء الآخر واستبطان عوالمه ورؤاه إلى العالم وتجريب فكرة الاختلاف والتعدد على محك المعاش والعلاقات الفيزيقية وليس على أساس الاستيهام.

راهنت الرواية من خلال التنويع الهائل من الشخصيات والفضاءات التي تتوزع بين حلب وقرية عفرين وباريس ومختلف فضاءاتها على رسم مسارات سردية تتوازى وتتقاطع عند رهان أساسي يتمثل في المغايرة واستلزاماتها. بدا واضحا من خلال متابعتنا لهاته المسارات أنها تتأسس على رغبة الذات القادمة من مدينة عربية إلى باريس في تجاوز حالات الهشاشة والتشظي وامحاء الانتماء إلى هوية متسمة بتماسكها وحضورها الإيجابي في التاريخ والجغرافيا. وفي غمرة هذا السعي المحموم تتنفس الذات عبق التعدد الذي يسم باريس وفيض التواريخ والرموز الذي ترشح به فضاءاتها. ثمة في هذا السياق تقابل ضدي بين الأنا والآخر تتضافر قرائن نصية داخل الرواية من أجل تثبيته. بيد أن القارئ سرعان ما سوف يحاط علما مع اطراد قراءته للرواية بأن هذا التضاد المطلق سوف يتوارى مفسحا المجال لما يمكن أن نصفه بأنه تهجين مقصود يستهدف تخصيصا تفكيك مفهوم الهوية المغلقة المتعالية على تأثيرات التاريخ واختلاف الجغرافيات. تتقدم صوفي بيران والحالة هاته باعتبارها شخصية محورية في الرواية وتمثيلا رئيسيا لهذا البحث عن هوية منفلتة ومتشظية. تتحدد السمات المميزة لهذه الشخصية في رفضها الاستقرار في مكان قار وعشقها لقيادة السيارة بسرعة مهولة وعلاقتها الملتبسة بآلان بيران الكاتب الروائي الذي لم يتمكن رغم تفانيه في التسامح والتفهم من أن يحول بينها وبين النهاية المحتومة والمتمثلة في الموت إثر حادثة سير.

يشكل هذا الانتهاء السردي المقصود مفتتح السيرة الصاخبة لشخصية باولا بيران وهي ابنة صوفي بيران من علاقة جنسية عابرة أشبه بالنزوة بسيريل المغامر والأفاق السكير. سوف تقنع صوفي آلان قبيل رحيلها الفاجع بتبني الابنة رسميا، وذلك كي تدفع بفكرة التطابق بينها وبين ابنتها إلى الحدود القصوى. سوف نحاط علما بأن باولا استمرارية لشخصية صوفي وتمثيل آخر لشخصيتها الجانحة نحو المغامرة والبحث الدؤوب عن الهوية. سوف يكون التشديد السردي على شخصيتي حنيفة وشيرين والفروق الحادة بينهما والتقلبات الحياتية والعاطفية التي سوف تعيشانها محفزا للإحاطة علما بدلالات انتقال حنيفة إلى باريس واختيارها اسم صوفي بعد ارتباطها بآلان. تتناسل الشخصيات والأحداث في هذه الرواية المثيرة مفسحة المجال لدينامية سردية آسرة تشي بقدرة الكاتبة على تخصيب متخيلها بتأثير قوة المعاش واللقاء بالآخر.

تتقدم صوفي باعتبارها امتدادا لحنيفة المتمردة والشأن نفسه بالنسبة لباولا التي تمثل كما سبقت الإشارة استمرارية لصوفي. يمكننا أن نفترض والحالة هاته أن الكاتبة تعيد الوصل بما أثبتته على لسان أحد شخوصها من أن السرد فعل نسائي أو أنثوي بامتياز، وهي بهذا الصنيع تذكرنا بشهرزاد ومغامرتها الألفية مع شهريار:

'.. كانت تتنبأ بأن مستقبل الرواية هو للمرأة القادمة من الشرق، لأن الرواية مهارة نسوية. هكذا فكرت صوفي، إن كتابة الرواية تحتاج لمهارة امرأة تجيد التفاصيل... الرواية دقة وبناء وصبر ومتعة سرد. كل هذا تجيده المرأة، وتجيده المرأة الشرقية أكثر من غيرها، فهي موغلة في ثنايا الروح. الرواية روح' (الرواية. ص، 173- 174).

يمكننا أن نتمثل في تطور الأحداث ودينامية الشخصيات وتوظيف الحوار تلكم القدرة على إضفاء البعد الحسي على السرد والاقتراب به من الحياة. يلفي القارئ ذاته أمام تنويع من الروائح وصنوف الطعام والشراب والتعبير الشهوي المتعدد عن الرغبة الجنسية ومختلف لغاتها؛ وهو ما يؤشر بطريقة دالة على تلكم الرغبة في الاحتفاء بالاختلاف والتعدد. تمثل باولا بيران التي تعشق التمثيل المسرحي تجسيدا قويا لهذا البحث اللحوح عن الهوية الذي يرافقه ذلك التوق إلى تجذير قيمة التعدد. والأسئلة التي أرقت صوفي سوف تستمر على امتداد التطور الملحمي لهذه الرواية:

' محكوم عليكم بالتيه أيها الأكراد. إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل، ولا من الخارج. أشعر بقوة دفع في داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي. وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما، ولا أدري خيانة لمن' (الرواية، ص 139).

اختارت الكاتبة الركون إلى منطق الصدفة كي تتيح تبريرا سرديا لعودة باولا إلى سورية بحثا عن أصول أمها صوفي. سوف تلتقي في أحد مقاهي ساحة الباستيل بامرأة يصاحبها شاب وسيم، ولن تتأخر في الإحاطة علما بعد شعور قوي بالانجذاب بأن المرأة كردية واسمها حنيفة جاءت من حلب إلى باريس بغرض الاستشفاء من داء السرطان. كان الشبه القوي بين المرأة وصورة صوفي الراحلة مفتتح علاقة قوية سوف نحاط علما خلالها بأن حنيفة ليست سوى عمة صوفي التي تعهدت بتربيتها بعد طلاق أمها من أبيها. وسوف تستشرف هذه العلاقة ذروتها في الرغبة المحمومة التي سوف تصلها بجوليان الطبيب ذي الأصول الكردية المرافق للعمة، والتي سوف تحملها على اتخاذ قرار السفر إلى سورية سعيا وراء ظلال أمها الراحلة.

سوف تشكل هذه الرحلة الاستكشافية المعكوسة مفتتح عالم ممكن يتجذر داخله التقابل الضدي المشار إليه آنفا بين الذات والآخر. تستقر 'الغرابة' حين تحل باولا بين ظهراني أهل أمها، وتتبدى الفروق الحادة بين عوائد الفتاة القادمة من بلد الحرية وعوائد الأسرة التي تنهل من قيم القدامة وسطوة الذكورة. يمكن للقارئ أن يتلمس في هذا الصدد التناقض الجذري بين الشرق والغرب أو بين الاستبداد والقمع والرؤية الأحادية والوثوقية للأشياء والظواهر والغرب بما هو رديف للحرية والتعدد والاختلاف. تكون هذه العودة إلى جذور الأم مفتتح عالم تتقاطع داخله الذوات والروائح والأحاسيس والصور واللغات المحيلة على الهوية الكردية، بالإضافة إلى قرائن قوية تؤشر على الهجنة وانعدام الصفاء.

لم يشكل شعور 'الغرابة' الذي رافق باولا منذ وصولها إلى سورية عائقا بينها وبين استشراف الألفة بتنويع الفضاءات والثراء اللافت الذي يسم حركة الذوات. سوف تشكل عودتها إلى باريس والرسالة التي توصلت بها من روني والصبوة التي تخلقت من جراء ذلك مدعاة للعودة من جديد إلى سورية والإقامة بها بعد قرارها الارتباط بروني. غير أن شعورها بوطأة الاستبداد الذي يحصي الأنفاس ويذيب الاختلاف في التطابق سوف يحملها على الشعور بالحاجة الملحة إلى الحرية بما هي قيمة:

' تعرضت باولا للكثير من المضايقات، خاصة أثناء التسوق، وهي تستمتع كثيرا بالذهاب إلى سوق الخضرة والفاكهة واللحوم، ولكن ما إن يسمع أحدهم لكنتها، وهي تجيد بعض الكلمات العربية أسماء الخضار على الأقل، حتى تبدأ المضايقات اللفظية، أو التلميحات أو النظرات المشبعة بالرغبة والاشتهاء...لقد كانت سعيدة في بداية حياتها هنا ولكن الضيافة انتهت، وعلى باولا التعامل مع هذا البلد كبلدها... الحياة تختلف حين نكون ضيوفا في مكان ما، عما هي عليه، حين نصبح أبناء المكان. بدأت باولا تشعر بالخوف، وهذا ما لم تعرفه يوما' (الرواية، ص، 458 -459).

يمكن لنا باعتبارنا ذوات ٍ متلقية أن نرى في الشعور بالخوف قرينة دالة على بداية القطيعة مع الشرق باعتباره فضاء يسوده الاستبداد والقتل الدائم للحرية والحق في الاختلاف. تتحول باولا والحالة هاته إلى صورة للغرب بما هو متخيل يقترن بكيفية عضوية بالحرية وتقديس الاختلاف والتعدد. قررت باولا بيران القطيعة مع روني رغم حملها منه واختارت العودة إلى فرنسا. هل يسعنا النظر إلى هذا الاختيار باعتباره اعترافا بفشل رهان المغايرة بما هو إقرار بالحق في الاختلاف والحضور بمعزل عن أي إكراه على التماهي والركون القسري إلى التطابق؟ تمثل العودة النهائية إلى باريس بعد إعلان القطيعة مع روني أو الشرق المستبد اعترافا ضمنيا بافتراض مؤداه إن الغرب فضاء مطلق للحرية والحق في المغايرة الإيجابية. في هذا السياق، إذن، نلمس دلالة هذا المقطع القوي الذي أنهت به الساردة مغامرة باولا في سورية:

'.. صعدت الطائرة وحدها، أحست بقوة يتمها ووحدتها. ما من يد لوحت لها من بعيد. إلا أنها أحست كما لو أن حملا ثقيلا نزل عن كتفيها، فشعرت بتحرر مباغت، وسعادة خفية، رغم مرارة الفراق، حتى إن طفلتها ركلتها من بطنها، فضحكت وقالت لنفسها: الصغيرة تؤنبني على شيء ما.. أو لعلها تشكرني' (الرواية، ص، 477).

لن يعجز القارئ في هذا الخصوص أن يحاط علما بأن الجنين الأنثى الذي اختارت له اسم إلزا وهي امتداد آخر للذات الكردية الباحثة عن الهوية والمغايرة الإيجابية تؤنب أمها باولا على فكرة العودة إلى الشرق المظلم والمستبد أو تشكرها على القطيعة والعودة إلى باريس الأنوار. غير أنني أختلف جذريا مع هذه الرؤية إلى الغرب المتسمة بمثاليتها وإطلاقيتها وتعاليها على تأثيرات وإكراهات التاريخ. ولن أذكر الكاتبة في هذا المعرض بفرنسا التي كانت تتغنى بمبادئ الثورة الفرنسية في الوقت الذي كانت تنشر فيه أطماعها الإمبريالية في المغرب العربي وبقاع أخرى من المعمورة وترغم المواطنين الأصليين على القبول بوضع 'الأهالي'. ويمكنني أن أستدعي في السياق ذاته طروحات فرانز فانون ونظرية إدوارد سعيد عن الشرق الذي أبدعه الغرب والذي يتأسس على الاستيهام وسلطة الأحكام المسبقة الجاهزة، علاوة على إسهامات منظري تيار ما بعد الاستعمار من قبيل هومي بهابها وغاياتري سبيفاك في خصوص هيمنة المركز الأوروبي واستراتيجياته في إرغام الهوامش على الرضا بوضع التابع. لا يمكن على سبيل الختام لباريس أن تشكل فضاء مطلقا للحرية وحماية الحق في الاختلاف ما دامت تلوذ بمنطق الكيل بمكيالين في التعاطي مع حق التعبير عن 'الحضور' وتعلن على سبيل التمثيل الحرب الشاملة على الفنان الفرنسي الخلاسي ديودوني بسبب جرأته في التشكيك في 'المحرقة' والاستغلال المنتظم للوبي الصهيوني في فرنسا من أجل تثبيت انتشاره السرطاني في المجتمع الفرنسي وأجهزة ومؤسسات الدولة. ولن يفوتني أن أذكر بمئات الجزائريين الذين قذفت بهم شرطة باريس في نهر السين، علاوة على ضلوع الدولة الفرنسية على امتداد تاريخها الحديث والمعاصر في حماية الأنظمة المستبدة في المشرق والمغرب العربيين وبعض الأقطار الإفريقية.

أعترف بداهة بحق الذات الكاتبة في التعبير السردي عن رؤيتها الخاصة لمعضلة الهوية الكردية في السياق العربي والعلاقة بالآخر الغربي على وجه التخصيص. ويهمني أن أشدد من جديد على طلاوة السرد والقدرة على إدهاش المتلقي وجعله مشدودا بقوة إلى التطور الملحمي للأحداث علاوة على براعتها في التوظيف الإيجابي لمكونات النوع الروائي وفق دينامية تبتعد عن الركاكة والإسفاف والتمحل، وأثير انتباه المتلقي في هذا الخصوص إلى الحضور النوعي للحوار ودينامية الشخصيات. ولن يسعني رغم هذه المسافة النقدية الضرورية إلا أن أعبر عن إعجابي بالقيمة 'الجمالية' لهذه التجربة السردية الواعدة والمنزلة التي تحظى بها في خارطة السرد العربي.