mercredi 23 décembre 2020

في بيت آن فرانك… مهـا حسن تقف فوق اللغم، وتدعو القارئ لاختبار إنسانيته

محمد سمير ندا

في روايتها الأحدث “في بيت آن فرانك”، الصادرة عن منشورات المتوسط هذا العام، تضع الروائية السورية مها حسن القراء أمام اختبار حقيقي قوامه سؤال واحد، ولكنه امتحان شديد الصعوبة، أخشى ألا يفلح البعض في تخطّيه بنجاح!

رواية سيرة، أم محض خيال روائي؟

السيرة هنا تتسع كرداء جامع لحيوات المقهورين من كل عرق ولون ودين، سيرة الكاتبة، التي هي مها حسن، وسيرة آن فرانك، الفتاة اليهودية التي تجرعت مرارة العنصرية النازية، حتى توفيت في الرابعة عشر من عمرها، قبل أن تصبح يومياتها ذائعة الصيت فيما بعد، كشهادة تؤرخ اضطهاد هتلر لليهود. الخيال الروائي هنا مضفور بأحداث حقيقية، نسيح واحد طُرز بعناية في قماشة الواقع، بحيث يصعب في الكثير من المواضع الفصل بين الواقعي والمتخيل، اللهم إلا في الفصول التي تعتلي فيها آن فرانك منصة السرد، وحتى هذه الفصول، كثيرًا ما شعرتُ أن الراوية تروي -حرفيًا- ما مرت به، سواء كان حلول الروح حقيقة خابرتها، أو عاشتها كأحد أنواع الهلاوس السمعية والبصرية. في النهاية: نحن أمام نص روائي كتب بالمشاعر الصادقة المترسخة في وجدان الكاتبة، قبل أن يمس القلم أول الأوراق المكتوبة.

عتبة المنزل (المكان)

تخطو الكاتبة عتبة منزل آن فرانك، هناك في “ميرفيديبلين” في أمستردام، حيث عَرفتْ الفتاة آخر فصول حياتها الطبيعية، قبل أن تهرب وتختبئ في عدة أماكن حتى تموت بحمى التيفويد في معسكر الاعتقال في برجن بيلسن. الكاتبة هنا عربية سورية كردية، هربتْ من بلادها قبل تفجر ثورات الربيع العربي إلى فرنسا، عانت الأمرّين حتى صارت لها بطاقة هوية فرنسية، هي وثيقة رسمية تضمن العبور وتحقق أحد درجات الأمان، ولكنها لا تعوضها أبدًا عن الوطن المسلوب، ولا تبث الراحة في وجدانها المضطرب العامر بالقلق، حائرة هي طوال الوقت، بين اكتشاف ماهيتها، ومحاولة غض بصرها عن الوجه البشع للحياة التي يُشكلها الطغاة، واكتشاف المعنى المنطقي للتواجد في هذا العالم، لذلك فهي تنسلخ عن كل شيء، تكفر بمسميات الوطن والدين والعرق والهوية، تحاول أن تركل بعيدًا عن محيطها كل ما هو مفروض أو موروث، هكذا تريد وتعتقد، حتى ينتهي بها الأمر بالتكوّر في وضعية جنين يخلق لنفسه رحمًا من الكلمات، يستقر في حشاياه، ويتصل بالعالم عبر حبل سري يمده بالحبر، فما عاد بحاجة إلى المزيد من الدم ليحيا، فكفاه ما رأى، وحسبه أنه وجد المستراح في مروج الخيال، حيث لا قنابل ولا قصف ولا اضطهاد ولا عنصرية. بهذا التكوين الإنساني تدخل الكاتبة إلى منزل آن فرانك بدعوة لقضاء عام كمنحة تقدمها جهة ثقافية تتفرغ خلالها للكتابة، ولأن التكوين الإنساني الرافض والمقاوم لكل أشكال التمييز هو المكون الرئيسي للكاتبة، تتعاطف مع حكاية الفتاة آن فرانك، وتنخرط في قراءة يومياتها، وتتلمس تدريجيًا أوجه التشابه بين وجوه المقهورين، فالندوب والجروح لا تتباين بين جسد مسلم وآخر يهودي، والدم الذي يلطخ جباه الطغاة له ذات الحمرة.

عتبة الحلول (الزمان)

تأنس روح آن فرانك الحائرة بوجود الكاتبة، تشعر بألفة ورابط قوي يجمع روحيهما، لم لا وقد تناوبت عليهما مصائر الغربة والشتات، وتقاسمتا موروث الاضطهاد والنبذ؟ كلتاهما نبيذة في زمان مغاير، وبحلول روح آن فرانك في جسد الكاتبة، تنصهر الأزمان، وتسيل نهرًا مخضبًا بالخوف، يمضي في إيقاع جنائزي ليصل بين الماضي والحاضر. تتنقل المحطات السردية بين يوميات فتاة مضطهدة مطاردة في الأربعينيات دون ذنب اقترفته سوى مجيئها إلى الدنيا من أبوين يهوديين، ويوميات امرأة عربية شاءت أقدارها أن تولد لعائلة كردية، في أوطان تنبذ المرأة وتقهرها بالسليقة، فما بالنا بامرأة كردية فقدت هويتها الأم منذ مولدها؟ تتلاقى الخيوط وتتشابك حتى تتشابه الوجوه والمرويات، الكتابة عالم رحب يرحب بكلتاهما، ففوق الأسطر وبين والحروف وفوق رؤوس الكلماتـ، لا يميز المكتوب بين كاتب وآخر، مرة أخرى تستخدم مها حسن الكتابة كمرادف للتحرر من العالم المتشابك الذي عرفته، ولكنها هذه المرة تصطحب معها روح فتاة يهودية إلى عالم يقبل الاختلاف ولا تعرف قواميسه مفردات التمييز. تضعنا الكاتبة أمام مرآة تقف هي أمامها فتنعكس فيها صورة أن فرانك! تشتبك الأصوات وتمتزج الوجوه والأزمان، لتضعنا الكاتبة أمام أحجية قديمة: اكتشفوا الفوارق بين الصورتين!

وهو سؤال يضع القارئ في ورطة، فبإجابة هذا السؤال يفصح المُجيب عن درجة الإنسانية التي يتمتع بها!

عتبة الكشف (التقاء الزمان والمكان)

تعقد الكاتبة اتفاقًا مع الروح التي تطنّ في رأسها وتؤرقها، بأن تصحبها إلى فلسطين، لتغادرها هناك للأبد، نعرف أن الكاتبة قد انتقلت من مكان إلى آخر، نلملم أشلاء حكايتها المنثورة هنا وهناك، في ردهات الذاكرة التي تأبي أن تضمحل، على أعتاب المطارات، وفي شرفات الخيال، وفي حبر الأختام على جواز السفر، طيف أب صارم، وأم لم تكن ودودة بما يكفي، إخوة مشتتون، شبح زوج، وتجربة إجهاض يتم تمريرها بين السطور، حكايات الأب والأم تتماس مع ذاكرة آن فرانك القصيرة، وتتطابق الأفكار التحررية مع بذرة التمرد التي غرست في عقل فتاة لم يمنحها القدر فرصة التحليق فوق أسوار الممنوع. تدمج الكاتبة بين هذه التجربة الغرائبية الفانتازية في بعض أجوائها، وتجربة حقيقية عاشتها مها حسن حين سافرت إلى الأردن ثم إلى رام الله لحضور مؤتمر أدبي ترعاه وزارة الثقافة الفلسطينية، تذكر أسماء كتاب حقيقيين رافقوها هناك، ويغلب على بعض المقاطع طابع التوثيق، ولكن آن فرانك تشاهد أرض ميعادها عبر عيون مها، وتغادر جسدها هناك، لتتعرف على الوطن الذي حلم بها جدودها منذ قرون، ولكنها تنكمش وتشعر بالأسى لما تلقاه هناك من انعدام الأمان الذي طالما تاقت له، وهي هنا تجزم بأن الأمان مفتقد لدى الطرفين، من يحمل السلاح، ومن يحمل الحجر أو يجعل من جسده قنبلة تدوي عبرها صرخته المكتومة. تلتم الأزمنة المبعثرة على حافة المكان، رام الله، القطعة النابضة المستأصلة من الجسد العربي عبر جراحة  تمت دون تخدير، تستعيد الكاتبة شعور الطفلة في قرية أبيها، وتستعيد آن فرانك الشعور بالحياة وقد تحررت من موتها في وطن دولة اليهود التي لم تعرف عنهم غير اضطهادهم من هتلر، ولم تسمع بمجازرهم واجتياحهم لديار العرب.

عتبة مجدل شمس (انفصال)

تظن الكاتبة أن الانفصال قد تم بينها وبين قرينتها، غادرتها روح آن فرانك في رام الله، وعادت هي إلى فرنسا ثم ارتحلت إلى القاهرة، لتجد شبح آن فرانك يتجسد من جديد في غرفة فندقها المتاخم للمعبد اليهودي في شارع عدلي.

هنا تتم المواجهة المؤجلة بين الكاتبة والروح المطاردة لها، فبقدر ما تأثرت مها بيوميات آن فرانك، وبقدر ما تأثرت آن فرانك بقراءتها لمخطوطة رواية مها حسن “عمت صباحًا أيتها الحرب”، وبقدر ما تشابكت صور المعاناة وتشابهت، تتباين بينهما الرؤى حول الكتاب الذي بين يدينا الآن، فآن فرانك ترى أن الكتابة غير موضوعية ومنقوصة، وأن مها تنقل نظرة أحادية لوضع ثنائي الأطراف، فهي تصف القهر والذعر الذي يعيش فيه أهل فلسطين، ولا تذكر شيئًا عن الرعب الذي يظلل حياة اليهود في المستوطنات. تراجع كلتاهما مخطوطة روايتنا، وتنخرطان في بحث عن اليهود الأكراد، فتتضح لهما صورة تتسق مع حكاية كل منهما، فاليهودي الكردي غريب في دولة اليهود المغتصبة من الجسد العربي، والكردي العربي غريب في الدولة العربية التي جاءت منها الكاتبة، تصر آن فرانك على أن إنهاء النص بالشكل الأكثر موضوعية يستلزم زيارة أخرى إلى فلسطين المحتلة، حتى تتيقن الكاتبة من عدالة السماء في تفريق أنصبة الذعر وسحب دثر الأمان عن الكافة، ولكن الكاتبة تسقط في حيرة من أمرها، ولا تعدها بشيء، يتحقق الانفصال الأخير بينهما، تحلق روح آن فرانك بعيدًا، وتقرر الكاتبة تأجيل نشر النص، حتى يردها مقطع فيديو يظهر فيه أصدقاؤها فيما يشتلون شجرة تحمل اسمها في قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، عقب تلك الرسالة العفوية الصادقة، تشعر الكاتبة بأن نصها قد اكتمل، على الأقل في وجدانها، وتقرر أن تظهره للنور.

الوقوف بثبات فوق اللغم

أدبيًا، كتبتُ مسبقًا عن كتابة مها حسن، عن لغتها الناقلة لنبضات قلبها، حد أنني في بعض المواضع كنت أسمع تنهداتها بين سطر وآخر، والزفرات الحارة التي تطلق سراحها في خواتيم الفصول. لمها حسن عوالمها شديدة الخصوصية، حكايتها مروية بشجن الرحيل، وبميراثها الشخصي من القهر والفقد والاغتراب.

ولكنها بهذا النص الإنساني العامر بالمشاعر النبيلة، الرافضة لكل أفكار التفرقة البشرية، المعارضة لكل صنوف التمييز العرقي والديني، تخطو بثبات لتقف فوق اللغم! فهي بذلك تخوض في فضاء غير مسموح تناوله، وربما أكاد أسمع الاتهامات المقولبة التي حتمًا سوف توجه لها، سيقال مثلاً: كاتبة عربية سورية تكتب عن آن فرانك، ولا تُكذب حكايتها التي اختلقها اليهود من ألفها إلى يائها! أو: انظروا؛ كاتبة سورية كردية تعترف بحكاية آن فرانك! ثم: ها هي مها حسن تؤيد التوجه العربي نحو التطبيع برواية عن فتاة يهودية يُعدها اليهود أحد أبطالهم ورموزهم…… إلى آخره من هذه الاتهامات المحضرة سلفًا، ليس لمها على وجه التحديد، ولكن لكل من يدخل إلى تلك المنطقة المحظورة في العقول العربية التي عششت في أركانها عنصرية حربائية الطباع، تطفو على السطح وقت الحاجة، وحسب الهوى.

فهل من العدالة أن يتم اختزال هذه الكتابة الإنسانية البديعة بهذه الطريقة؟ لا أعتقد!

ألا يحق لمها أن توثق تاريخ القهر وتوحد بين ضحايا الطغاة في جسد واحد؟ ألا يتساوى ألم القتل بين البشر جميعًا؟ ألا تتشابه وجوه الجناة، وتتطابق وجوه الضحايا؟ لم تنكر مها مأساة فلسطين، ولا حقوقهم، ولم تعترف لا هي ولا حتى آن فرانك بإسرائيل، ولكن مها أقرت بإنسانية آن فرانك، وخلقت تناصًا أدبيًا بين حكايات الاضطهاد البشري عبر الأزمان، فهل عرف عالمنا البشع بين مخلوقاته كائنًا أقسى وأكثر شرًا من الإنسان؟

عزيزي القارئ،

أنت أمام اختبار لإنسانيتك، هل تشعر بذات الألم والحزن تجاه سائر ضحايا الحروب والمجازر الجماعية عبر تاريخ الإنسان المغمور بالدم؟ هل تتعاطف مع أسرة يهودية أحرقها هتلر، كما تتعاطف مع أسرة فلسطينية بَقرَتْ بطون نسائها عصابات اليهود في النكبة، كما تتعاطف مع أسرة سورية قُذفت بالأسلحة الكيماوية، سواء كان مطلق الصاروخ هو جيش بشار أو جبهه النصرة أو الجيش الحر، أو داعش؟ هل تتألم حين تعرف أن جنديًا مصريًا قد قتل في سيناء سواء كان مسلمًا، أو مسيحيًا؟ هل تتساوى لديك حرمة الدم التي اتفقت عليها الأديان والشرائع السماوية؟ هل تنزعج إذا ما دهست دبابة إسرائيلية طفلًا فلسطينيًا، بذات القدر الذي تنزعج به عند سماعك لأخبار عن أسر داعش للإيزيديات واغتصابهن ثم قتلهن؟ أو حين تسمع عن إبادة وتدمير مدينة كاملة كانت تسمى يومًا كوباني؟ هل أزعجك التاريخ الموثق لحملة صدام “الأنفال” على إقليم كردستان سنة 1988 والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 50 ألف شخص أغلبهم من الأكراد، كما أزعجك التاريخ بشرح مجازر صبرا وشاتيلا، وحادثة مدرسة بحر البقر في مصر؟ هل أحزنك استشهاد النائب العام المصري هشام بركات، بقدر ما حزنت على سحل رجل الدين الشيعي حسن شحاتة حتى الموت في مصر؟

عزيزتي الكاتبة

لقد وقفتِ فوق اللغم بكامل إرادتك، وتلوتِ على الشهود نصًا إنسانيًا تنهار فيه كل الحواجز الفكرية والعقائدية لتضعنا أمام عالم إنساني مسالم يعيش فيه الناس دون حرب واقتتال، نصٌّ يحرم الدم كله، ويدعو لسلام عادل لا تنازل فيه ولا خضوع، أنتِ رفضتِ إقصاء آن فرانك من ذاكرة الإنسانية، كما نرفض جميعًا إقصاء الآلاف من ضحايا العرب خارج صحف التاريخ. ولكن؛ أنتِ تعرفين ما قد ينالك بسبب هذه الجرأة، وإثر هذه الشحنة الإنسانية الصافية الصادقة المستفزة للكثيرين، وأعتقد أنكِ تذكرين ما جرى للكتاب المصريين الذي شاركوكِ حضور ذات المؤتمر الأدبي في رام الله في 2017. ولكنني رغم كل ذلك، أدعوكِ لأن تواصلي حراكك، أعبري فوق اللغم، غني وارقصي وانشري تلك المشاعر، طوفي حول شجرتكِ في مجدل شمس، وراقبيها حتى تكبر وتظلل سماءك، اخلقي المزيد من أوطان الكتابة الآمنة، ولا تخشي ألغامهم، فهي ألغام عربية، واللغم العربي لا يصدر عنه سوى ضوضاء، وربما بعض الدويّ، قصير الأمد.

ربما يكون حلمك بهذا العالم المثالي صعب التحقق، فهو يخالف فطرة قابيل وهابيل، ولكن؛ يكفينا أن يظل بيننا من يؤمن بهذا الحلم، ويصر على توثيقه، ولو في أوطان من ورق.

شكرًا مها

#محمد_سمير_ندا

mercredi 19 août 2020

مها حسن في بيت آن فرانك!

 

تلك الزيارة الواقعية أو المتخيلة للروائية السورية مها حسن، إلى هولندا، وإقامتها المفترضة في بيت آن فرانك، أيقونة الاضطهاد اليهودي على يد النازي، جعلت منهما اثنتين في واحدة، حيث مع الوقت تلبّست الطفلة اليهودية التي كتبت مذكراتها قبل موتها في معسكر الاعتقال النازي بعامين، ونشرها والدها بعد سنوات من رحيلها وشقيقتها، جسد مها.

وليس ذلك فحسب، بل إنهما تحطان الرحال في فلسطين، لتستثمر الروائية السورية مشاركتها في الدورة الأولى لملتقى فلسطين للرواية العربية في رام الله، حيث تنطلق الطفلة اليهودية الألمانية متخفية داخل جسد الثانية، ولكل معاناتها على مستوى التهجير، واللجوء، وحتى البحث عن الهوية.

رحلة العبور إلى فلسطين، وزيارة القدس وغيرها، شكلت مساحة لآن فرانك لتراقب كيف يُمارس المُنتَهك في عصرها انتهاكات بحق شعب آخر، منذ المعبر، فيتملكها الخزي في "أرض الميعاد"، حيث "شعرت بالخجل"، ولكنها أكدت "كنت أود أهمس لها أنني لست مسؤولة عن حماقة اليهود هنا"، وتقصد رفيقتها، ليتأرجح هذا الفصل على الأرض الملتبسة بينهما، ما بين لهفة حسن إلى زيارة فلسطين، ولهفة آن فرانك إلى زيارة إسرائيل، التي اعترفت أنها لن تعيش فيها "دون جسد آخر تحيا فيه"، وليس لموقف مبدئي بالأساس هنا، وإن كان الأمر سيتبدل لاحقاً.

وتنحو حسن في روايتها "في بيت آن فرانك" الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، وعن الدار "الرقمية" في رام الله بطبعة فلسطينية، إلى عوالم أخرى غير تلك المطروقة بكثرة في أعمال سينمائية ودرامية وأدبية غربية.. عوالم لا تخلو من فنتازيا غير مشبعة، ومقتصِدة، ولا تخلو من حوارات متناقضة ما بين السورية الكردية العربية وما بين اليهودية التي شاخت في داخلها، لتحقق لها حلم زيارة فلسطين- إسرائيل، على اختلاف نظرة كل منهما، ودون أن تخلو تلك الرحلة من نقاشات حادّة بعض الأحيان، ولكن دون إقصاء، ما يدفع السورية ذات حوار قبل حتى الزيارة إلى فلسطين، مخاطبة آن "يجب أن تعترف إحدانا بحق الأخرى في البقاء"، والحديث الذي هو عن المنزل هنا ينسحب على فلسطين المنزل الأكبر، والحياة التي تبثها مها روائياً في جسد آن فرانك، صاحبة واحدة من أشهر المذكرات تاريخياً.

وفي رحلة مها لاستعادة آن فرانك ليس فقط من التاريخ وحيث دفنت، بل من داخل أروقة المنزل حيث عاشت وكتبت مذكراتها الشهيرة، يتنقل السرد ككرة التنس ما بين الاثنتين، وفي تسارع تربكه اللحظة، والحالة التي تعيشها كل منهما.. تقول آن فرانك في الرواية "ولدتُ سنة 1929، وتوفيتُ سنة 1945، ثم حدث أمر غريب، حيث جلبتني هذه المرأة من الموت في سنة 2007. حيث متّ في آذار 1945، اعتقدتُ أن موتي كباقي البشر، نهائي. إلا أنه، وفي العام 2007، وبعد مضي 62 عاماً على وفاتي، تمكنتُ من العودة إلى الحياة بقوّة الكتابة. لم أتخيّل أن للكتابة تلك المقدرة، أنها تستطيع إعادتي إلى الحياة. حصل هذا في لحظة قوية استثنائية، حين قفزت روحي من صورتي المعلقة على جدار بيتي المهجور في ميرفيديبلين، الذي وصلت إليه هاربة من ألمانيا في الرابع من كانون الثاني 1934".

أما حسن فتقول "إن وجودي في منزل يهودي يحمّلني شعوراً مسبقاً بالذنب، أو بالاتهام، وبضرورة الدفاع عن نفسي، لأثبت أن تواجدي في هذا المنزل لا يقع تحت أي تسميات سياسية، وانّي أتمتع بحريّتي الفكرية، وأستطيع أن أعادي إسرائيل من هذا المنزل. ومن ناحية أخرى، فإن هذا المنزل، منزل قديم، أي منزل يهودي في الداخل. بالإضافة إلى معاناتي الحالية عليّ أن أعود أيضاً إلى التاريخ، كلما أغلقت أبواب الشقة لأدخل أيضاً في صراع غير عادل بين الطرفين. أنا الضحية القادمة من بلاد تذبح أبناءها لو تعاطفوا مع اليهود، هل عليّ أن أُنصف في التاريخ؟ وأن أنصف آن فرانك مثلاً التي تستضيفني في بيتها، وهذا حق لها، وواجب عليّ، لأن آن لم تختر يهوديتها كما أنا لم أختر كرديتي أو عروبتي؟".

وفيما سبق يتضح أن مها حسن تفرّق جيداً ما بين كرهها لإسرائيل كقوة احتلال، وتعاطفها مكمن التساؤل مع يهودية تعرضت كغيرها من اليهود لاضطهادات بشعة على يد النازي في أوروبا، ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، هي التي تستعيد فصولاً من مذكرات آن فرانك، وتسقطها على ذكرياتها هي، على الصعيدين العائلي والاجتماعي بالدرجة الأولى، كما على صعيد الإبداع الكتابي، فعلاقة فرانك الملتبسة بأمها، والتي ينقشع ضبابها لاحقاً، أحالت الروائية السورية إلى علاقتها الشخصية بوالدتها، كما كانت هناك حالة من المقارنة ما بين حضور الأب لدى كلتيهما، فلم يجمعهما المنزل فحسب، وفعل الكتابة أيضاً، بل تلك المعاناة المشتركة لاثنتين بينهما عقود في الولادة والمأساة، لكنهما عايشتا الحرب، واللجوء، والتشرد الداخلي وفي المنافي، ورائحة الدم والجثث الطازجة والمتعفنة.

"قفز ذلك العالم القديم الذي غادرته توأمي منذ سنوات، وحُرمت من بلد الأجداد والجدّات حصراً، لتعيش في فرنسا(الحديث هنا عن مها حسن بلسان آن فرانك)، كما حُرمتُ أنا من أرض مولدي، فارّة إلى هولندا. جمعنا المنفى بعد الكتابة، جمعنا، أي توأمي وأنا. كنتُ سعيدة لسعادتها، مزاجها الرائق ذاته منحني الحرّية للتجوال في رأسها، والخروج من نافذة الباص للطيران في تلك المساحات بحرّية، لم أذقها منذ سنوات بعيدة، منذ كنت أقود عجلتي الهوائية في ميرفيدبلين عائدة من المدرسة. امتلأت روحي بهواء الحرية على مشارف رام الله. لكنّي عدتُ سريعاً إلى رأس توأمي حين أحسست بالخوف يداهمها".

وكما تنقل السرد بين الاثنتين في عدة اتجاهات، نحا في فصل "هذا كتاب ناقص" إلى تناص أدبي ما، عبر استحضار شيء من مذكرات آن فرانك التي تاهت في القدس، حيث لم يمض أكثر من ثلاثة أيام على إحساسها بالسلام ليقع تفجير "إرهابي" في بار يهودي، وما بين "مذكرات" مها حسن، التي ارتحلت إليها فرانك لعلها تسكنها مرّة أخرى، حيث كانت في غرفة منزلها بمورليه، وهي تدوّن حكاية أمها التي ماتت بسبب قصف بيتها في حلب.. "لكنها الآن تكتب، وأنا أقرأ كتابها، وأرتعش من شدّة التقارب مع ما عشته في أمستردام، قبل خمس وسبعين سنة تقريباً".

وعلى لسان آن فرانك، تُختصر الحكاية، بعد أن أصبحت حياة توأمها مها، مثلها قبل سبعين عاماً، مليئة بالجثث وأخبار الموت والخوف.. "الحرب هي الحرب في كل مكان وزمان، قاسية وشرسة وغير عادلة، ولا جدوى لها. الأقسى، وما أحياه الآن، هو أنه حين تحدث الحرب في مكان وزمان جديدين، تحرّك ذاكرة الحرب السابقة. نعم كنت أعيش آلام الحربين: حرب 1944 وحرب 2014. العام الأقسى الذي مرّ على توأمي منذ بداية الاقتتال في حلب".

وتطير الرواية، إلى ألمانيا الحلم وتوأمها قبل سبعين سنة، ألمانيا الألم.. "ها أنا أتابع القراءة في كتاب مها، لتقول أمها بأنها تحلم في الذهب إلى ألمانيا، حيث تتواجد أخواتها وأخوتها الذين فرّوا أثناء الحرب، هكذا تتحدث الأم عن ألمانيا بوصفها بلاد الأحلام (...) يا توأمي أمّك الآن ترى الأمان في ألمانيا، بينما ما حصل معي كان مختلفاً تماماً، وها أنا أذكر ما كتبته يوم الجمعة 9 تشرين الأول: شعب لامع هؤلاء الألمان، أنا التي أقول بأنني أنتمي إليهم! ثم إنّ هتلر جعل منّا، منذ فترة طويلة، أناساً بدون جنسية، وعلى كلّ لا توجد أشدّ عداوة في العالم من التي توجد ما بين اليهود والألمان".

وفي مسيرة مها حسن التي حملت آن فرانك داخلها، منذ أن حلّت في بيتها بأمستردام، مروراً برحلة فلسطين، إلى فرنسا حيث استرقت آن قراءة كتاب مها، الذي وصفته في آخر الرحلة بأنها "ناقص وغير موضوعي"، وكادت بذلك تتبدد علاقة طويلة تكونت بينهما، فعادتا إلى لحظة البداية غريبتين، وهي العبارة التي هدمت جسور التواصل الكتابية والإنسانية والشعورية فيما بينهما، قبل أن تعودا إلى نقاش حول صورة الإنسان الفلسطيني في رحلة رام الله والمدن الأخرى والعسكري الإسرائيلي المُدان والمُنتقَد حتى من آن نفسها، مع تجاهل مها للمدنيّ الإسرائيلي، لتتهمها آن بأنها كتبتْ عن آلام جهة وتجاهلت الثانية، مع أنها، أي آن، أكدت أنها لم تكن فخورة بتأسيس هذه الإسرائيل، فهي المقتولة في معسكرات النازية لا يمكن لها أن تتماهى مع الجلّاد.. وهنا يدور نقاش حاد وساخن، حول ضرورة اكتمال الرواية بزيارة لبيوت المستوطنين، تطلبها آن، وترفضها مها التي تتحدث عن اغتصاب الأرض، بينما تحدثها آن عن إمكانية الحل عبر المفاوضات!

ومع ذلك، وبعد نقاشات جديدة، تخلص الرواية إلى أنه "لم يعد لدينا ما نكتبه بعد الآن. ربّما عليّ الذهاب مجدداً إلى فلسطين، لأتمّم هذا الكتاب ذات يوم، لكن هذا ما استطعتُ كتابته حتى اليوم".. قبل أن تخلص مها حسن بأمنية مشتركة لها ولتوأمها آن فرانك "حين يُشفى العالم من داء الحرب، سأعود إليكِ، تقرئين كتابتي بالعربية على جمهور عربي وغربي، وأقرأ كتبكِ بلغات أخرى، على الجمهور ذاته.. تعالِ نضفّر خصلات شعرنا، لنصنع جديلة واحدة ضد هذا العالم الخانق للحريّات"
جريدة الأيام الفلسطينية ـ بديعة زيدان .

dimanche 12 juillet 2020

ما لا يُقال –عادةً– في الحروب أو السيرة المُتخيّلة لحرب حقيقية



 لونيس بن علي
في السنوات الأخيرة، وبعد نشوب الحرب في سوريا، تحوّلت الروائية السورية مها حسن إلى الكتابة عنها، لتوثّق فنيًا لهذه المأساة الإنسانية. مها حسن روائية سورية، وُلدت في مدينة حلب عام 1966، درست الحقوق قبل أن تتفرغ للكتابة؛ من أعمالها الروائية: «اللامتناهي: سيرة الآخر» 1995، «جدران الخيبة أعلى» 2002، «حبل سري» 2010، «الراويات» 2014، «حي الدهشة».
في رواية «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» التي صدرت عن دار المتوسط، كتبت مها عن قصة عائلة سورية (كردية) شتتها الحرب، فالأم تقضي نحبها تحت القصف، أمّا أبناؤها فهاجروا وتشتت شملهم في بقاع عِدة من العالم. جاءت الرواية لتطرح أسئلة عديدة، لا تتعلق بالحرب فقط، بل بآثارها على السوريين، وبعلاقتها بالكتابة. وزعت الروائية سردها على عدة أصوات: الساردة مها التي هاجرت إلى أوروبا واستقرت بباريس وهي كاتبة روائية قررت كتابة سيرة عائلتها. حسام أخوها الّذي استقر في السويد، بعد أن عاش تجربة سقوط الأوهام التي حملتها رياح الربيع العربي، قبل أن يتحوّل إلى حرب عمياء، يتقاتل فيها الجميع ضدّ الجميع. ثمّ شخصية الأم، التي نعتبرها أهم شخصية في هذه الرواية، والتي عادت إلى الحياة بفضل الكتابة.
الحرب والفاعلية الأدبية:
تقول يمنى العيد: «فالدمار الّذي يعيشه الواقع يطول أيضا الثقافي، بمحو معانيه، ويدمّر قيمه ويهدم بناءه. وبذلك تعيش الكتابة، جذريًا، صراع القيم التي تشمل الفكر والفن والسياسة والإبداع»(01).
هل تدفع التحوّلات التاريخية الكُبرى بالكتابة إلى ولادة جديدة؟ «ولادة قادرة على اِستنطاق التاريخ وحقيقته في لحظة دماره، وتمزقه، واِحتمال تحوّل هذه الحقيقة في أكثر اِتجاه (...) وذلك كي تتمكن الكتابة من صوغ قولها، وممارسة فاعليتها في الثقافة»(02).
تتحدث يمنى العيد عن «الفاعلية الأدبية» كأحد تمظهرات تحوّل الكتابة زمن الحروب، والتي تتجلى على صعيد اللّغة، ومدى قدرتها على ممارسة تفكيك البنيات السابقة. «بنية الواقع، بنية الكتابة». فالمقصود بالواقع المرجعي هو الحرب في سوريا، في حين أنّ المرجعية الأدبية: هي الخطاب الأدبي عن الحرب في سوريا. «السجل الأدبي عن هذه الحرب».
لم تقدم مها حسن سرداً تقريريًا، فقد قالت في حوار لها بأنّ روايتها قائمة على مجموعة من الثيمات النفسية والفردية التي على القارئ تفكيكها لأجل فهم أبعادها العميقة. «أنا أدعو إلى تفكيك العمل الروائي عبر ثيمات الكاتب النفسية والفردية، أكثر من الذهاب لقوانين عامة. أي أنّه برأيي، لم أستجب في هذه الرواية لنداءات جماعية ولأصوات ضحايا الحرب، بل انسحبت نحو عالم صغير ومغلق، أتكوّر فيه لأحمي نفسي وذاكرتي وكتاباتي من رعب الحرب».( 03)
إذ نفهم بأنّ الحرب هي شأن شخصي أيضا، قبل أن تكون حدثًا جماعياً؛ فكلٌّ يعيش مأساته الخاصة، التي ليست بالضرورة تتقاطع مع مآسي الآخرين.
حملت الرواية الكثير من العناصر السيرية؛ خاصة وأنّ شخصية الساردة مها، تتقاطع في عناصر كثيرة مع الروائية نفسها، بدءاً من تشابه الأسماء، وتعلقهما بالكتابة، ونشرهما لروايات تحمل العناوين نفسها. لكن على الرغم من كلّ هذه التشابهات، فالرواية اِشتغلت على عناصر تخييلية كثيرة، ولعلّ أهمها على الإطلاق، هي شخصية الأم التي قتلت في الرواية، قبل أن تستعيد روحها من خلال الكتابة، فتروي ألمها واغترابها. يتجلى المتخيل في الرواية، إذاً، في سرد الأحداث من العالم الآخر (شخصية الأم) فالروائية لجأت إلى التخييل الغرائبي لأجل إعادة بناء فني للواقع المرجعي المُتمثل في الحرب في سوريا. لهذا فإنّ الحرب عند مها حسن ليست حدثًا تاريخيًا عنيفًا، بل هي مجموع الآثار التي تخلفها في الإنسان، في شكل دمار نفسي وروحي واجتماعي. وعن سؤالها: ما الحرب؟ تجيب عبر إبراز علاقة الحرب بالكثير من الدواليل: البيت، العائلة، الوطن، المنفى، الكتابة... إلخ. لا تبدو مها مُكترثة بالحرب كحدث تأويلي، يدفع القارئ إلى البحث عن المعاني الخفيّة في حكايات شخصياتها، بل رسمت لنا لوحات شخصانية عن تجربة الموت والفقدان والتهجير والمنفى، وإذا كان لابدّ للقارئ أن يكون طرفاً في الرواية، فأكبر الظن أنّه سيكون حضوره هو حضور المعايشة وليس حضور التأويل. فالحرب لا تمنح وقتًا لتأويل علاماتها.
أقنعة الأحلام:
عادت مها حسن إلى بدايات الحرب في سوريا منذ 2011، عبر شخصية حسام –أخ مها الساردة– الّذي عاش الثورة في شكل حلم جميل، فقد «بدأ الأمر ما يشبه اللعب»(04). أليست الحروب في آخر المطاف هي «لعب» بعد أن فقد قواعده فأصبح الذين كانوا يلعبون يبيدون بعضهم البعض؟ لم يكن أحد يدري أنّ تلك المظاهرات التي رفعت شعارات السلمية، والتي كثيرا ما تتخللها مناوشات مع قوات حفظ الأمن، ستتحوّل إلى شرارات لاِندلاع أعمال عنف، قبل أن تتخذ شكل حرب ضارية أتت على الأخضر واليابس. لكن كانت الأيّام الأولى حالمة، بحيث «سيبدأ الشباب بتذوق نكهة الحرية».(05). حيث عاش حسام الأيّام الأولى من الاِنتفاضة الشعبية كلحظة فرح، واستعادة روح الفرد داخل الجماعة. من خلال العمل الجمعي، وتعزيز المشاعر والروابط الجماعية. فـ»هرمون الجماعة يفرز اِنتصارات، تشترط التواجد داخل الجماعة ذاتها، يضخم التفوّق، ويُقلل من الخسارة والخوف، ويمنح بعض التهور».(06). لكن سرعان ما تحوّل هذا الشعور إلى كابوس حقيقي. بسبب ردة فعل النظام من المتظاهرين، ثمّ ظهور الحركات الجهادية والتكفيرية التي لم تكن أقل سوءا من النظام نفسه. في هذه الحرب، يموت الناس بالصدفة، دون أن يروا حتّى وجه قاتلهم، فقط لأنّ أحدهم خرج إلى الشارع فتلقفته رصاصة قناص. الحرب عمياء، ومجنونة، لا تفرق بين ضحاياها، عندما يتحوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام فقط. صُدم حسام أمام هول التحوّلات التي أصابت الثورة، فظهرت جماعات معارضة اِتخذت من الإسلام هوية لها، فتشددت، فجعلوا للثورة مرجعيات دينية، يحتكمون إليها: «اِنصدمتُ بفقدان الثورة، هذه الثورة التي خرجتُ فيها، واشتغلت بإنسانية ومبادئ راقية، فقدتها»(07).
كان حسام شاهداً على تحوّلات الثورة من لحظة ميلادها كحلم مشروع بالحرية حرّك قطاعًا من الشعب يُطالب بإسقاط النظام، إلى أن صارت حربًا أهلية ودينية عبثية، أصابت الجميع بالجنون. فالذين كانوا رفاق المدرسة والحارة تحوّلوا إلى آلات باردة للقتل. فقدت الثورة هويتها، فأصبحت مزيجًا من النهب والثأر والاِنتقام.
سيرة البيت زمن الحرب:
يكتسي فضاء البيت موقعاً مركزيًا في هذه الرواية، فهو الفضاء الّذي يحمل دلالات الحميمية والألفة والدفء والطمأنينة والسعادة...إلخ لكنّه أيضا المكان الّذي يكون هدفًا سهلاً لصواريخ المقاتلين، لقتل الحياة التي تزخر بها هذه البيوت. فليس البشر من يموت فقط في الحروب، فبيوتهم أيضا تموت، لما تتحوّل إلى كتلة من الأنقاض غير المنسجمة، والمتناثرة، التي تطمس كلّ أثر لحياة سابقة.
ما هي الحرب؟ سؤالٌ يتكرّر كثيرا في رواية صاحبة «ميترو حلب»، لكنّها لا تحشو عقل القارئ بالتعريفات التي تزخر بها كُتب التاريخ والسياسة العسكرية؛ فالحرب بكلّ بساطة هي أن تفقد بيتك، بسبب قذيفة تأتي من مكان ما، ألقاها مقاتل مبرمج على القتل، فتحوّله إلى حطام. وفي تعريفٍ آخر، فالحرب هي المنفى، بِمَا هي الهروب الاِضطراري من البيت. أو هو فقدان البيت إمَّا مُؤقتًا أو إلى الأبد.
يحضر فضاء البيت في هذه الرواية على نحو لافت، وحضوره تجاوز وظيفته كعنصر في التأثيث للفضاء السردي، بل هو حضور مشحون بالدلالات، بل يدفع القارئ إلى تأويل البيت كمعادل موضوعي للوطن، وللهوية. ومن بين الدلالات التي سيستشفها القارئ هي دلالة الأمان: «ولكن ظل إحساسي بالأمان قائمًا، حين أغلقُ باب البيت، كأّنني أغلق على الخوف والخطر اللذين يبقيان خارج الباب، وأبقى داخل البيت محمية من أشباح الحرب».(08).
تظهر قيمة البيت في كونه فضاءً مغلقًا على حميميات من يقطن فيه، فجوهره هو أنّه يفصل الإنسان عن العالم الخارجي، ويحميه منه فيشعر بالأمان حتّى لو أنّ الخطر يتهدّده في أي لحظة. يوم بدأت الحرب في سوريا، اتخذت الأم قراراً صعبًا بمغادرة بيتها، فالإحساس بألم الفراق لا يختلف عن الإحساس بمرارة الحرب. لأنّ منزلها يمثل جزءاً كبيراً من حياتها، وخزانة أسرارها وذكرياتها. فالبيوت تنتمي إلى الجزء الحميمي في الإنسان، لذا فإنّ تدمير «بيت» هو تدمير لذاكرته. إنّ ما يمنح الألفة لفضاء مثل البيت هي ذكرياتنا. نحتاج هنا إلى قراءة ظاهراتية مثل تلك التي قدمها غاستون باشلار لأجل أن نتجاوز وظيفة وصف البيت إلى ما هو أهم منه، وهو إبراز البيت بوصفه مكانًا حميميًا، أو «قوقعة أصلية». يقول باشلار: «يجب أن أُبيّن أنّ البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية».(9). ويضيف: «الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت».(10).
وإذا عدنا إلى الرواية، تتضح لنا مكانة البيت عند شخصية الأم، فيوم عادت إلى بيتها، بعد هروبها من القصف، كانت كمن يدخل الجنة: «ما إن دفعت باب البيت، ولمحت أريكتي هذه حتّى أحسستُ بأنّ الدنيا تدور بي، كأنّني أدخل الجنة».(11).
لقد وفّر لها البيت الشعور بالسلام الداخلي، على الرغم من أنّها أصبحت وحيدة بعد هجرة كلّ أبنائها، فالشوق إلى المكان الّذي يحمل ذكريات الماضي، أعلى من الشوق إلى البشر. وبتعبيرها فإنّ البيت مُخلّص من الضجر الّذي يُحدثه البشر. ومن جهة أخرى، فقد اِنتبهت الساردة مها إلى وجود علاقة بين الكتابة والبيت؛ فقد اِكتشفت أنّها اِكتسبت ثقافة كبيرة عن البيوت في حارتها، ما أهّلها للكتابة عنها؛ فالبيوت عامرة بالقصص والحكايات والأحداث: «اِكتشفتُ أنّني أكتبُ طويلاً عن البيوت. حتّى إنّني أملك المشاريع العديدة عن لوائح بيوت صديقاتي الكاتبات، وعلاقة الكتابة بالبيت، وبيوت أخرى ألهمتني الكتابة، وبيوت منحتني الحلم».(12).
الكتابة والحرب:
قدمتْ مها حسن نوعين من الخطاب: خطاب عن الحرب وعن آثارها، وخطاب عن الكتابة وعلاقتها بالحرب. فهذا الخطاب الأخير، ينتمي إلى ما يُسمى بالخطاب الواصف، ويدرج بعض منظري الرواية هذا النوع من الخطاب في دائرة رواية ما بعد الحداثة. في سياق تحليلنا لا يهمنا هذا النوع من التصنيفات، بقدر ما يهمنا الكشف عن الوعي الفني داخل الرواية بالكتابة ودورها، وبأهمية الحكاية في زمن الحروب.
تقول يمنى العيد: «غير أنّ رواية الحرب الموضوعة أمام واقع قوام حكايته التفكك والدمار، وأمام بناء شخصية لشخص مرجعي يمارس القتل ويغرق في ضياع الهوية الواضحة، أو في الاِختلاف عليها، رافضًا الاِنتماء القومي الشمولي... مثل هذه الروايات بدت، ومن حيث علاقتها بحكاية الحرب، مدعوة لتجاوز الرواية السابقة، أو الخطاب الّذي ينبني بمنظور البطولة الشمولية، أو الشخصية النامية بإيقاع الزمن في التيه، أو الزمن المولد، بخطيته وبإطراده، لدلالات التمسك البطولي، ووضوحه».(13).
لقد تجاوز دور الكتابة وظيفته التقليدية المتمثلة في التوثيق للحرب، إلى دور أكبر، وهو بعث الحياة في الأشخاص الذين قُتلوا في هذه الحرب؛ وقوّة بعث الحياة، تكسي الكتابة القوة على تجاوز القوانين الطبيعية، وبذلك تمنحها سلطة اِختراق الواقع المرجعي.
وتضيف يمنى العيد: «تبدو مشكلة الكتابة في زمن الحرب مشكلة شائكة، لأنّها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المتخيل».(14).
لقد تمكنت مها (الشخصية في الرواية) من بعث أمها من عالم الموتى، فعالم الحكايات هو أقوى مضاد للخوف من العالم المجنون الّذي تُمزقه القنابل خارجًا، ثمّ بالكتابة كانت مها تُقرِّب المسافات بين منفاها الباريسي وموطنها الأم الّذي يحترق تحت نيران الحرب، ليُخفِّف داخلها آلام الفراق والفقدان والغربة والاِغتراب. لقد مارست مها الكتابة في عز الحرب، فكانت تُواجه أسئلتها الكبيرة، سواء التي لها علاقة بالحرب أو بالاِنتماء، أو بالدين أو بالهوية بشكلٍ عام. فكانت تُفكك هذه المقولات بشجاعة، حتّى تصفي حسابها معها: «عبر الكتابة رحتِ تُفككين اِنتماءاتك، وتحللينها، وتقتربين مني خطوة إثر خطوة».(15). لكنّها في الوقت نفسه، اِكتشفت إلى أي مدى كانت الكتابة شاقة. ففي زمن الحرب، تفتح الكتابة صندوق باندورا الأسطوري.
صورة الأم في الرواية:
ما يُثير في حضور الأم هو الطابع الغرائبي لهذه الشخصية، إذ بعثتها الساردة من قبرها، حتّى تروي يومياتها عن الحرب: «منذ بداية الكتاب وأنا أروي لكِ من قبري».(16).
لا تنتمي الأم، إذاً إلى الشخصيات المرجعية التي تنتمي للواقع (وإن كانت تجربتها تتقاطع مع تجربة أي أم في الحرب)، بل هي شخصية غرائبية، لأنّها لم تعد تنتمي لعالم الأحياء. يُمكن أن نُشبهها بشخصية أنكيدو في ملحمة غلغامش الّذي عاد من عالم الموتى. فكيف يكون العالم بعيون شخصية فارقت الحياة؟
لقد قدمت الأم سرداً حميميًا ومُوجعًا، يترك في القارئ مرارة –على الأقل هذا ما حدث لي– إذ ننصت إلى صوت قادم من عالم آخر، عاد إلى الحياة عبر السرد، لأنّ ثمّة ما يجب قوله، فالحرب لا تمنح الوقت الكافي لسرد الحقيقة، لهذا يموت البشر وفي قلوبهم غصّة كبيرة، وهي: أنّ لديهم ما يمكن لهم قوله. نتـتبع يوميّات هذه الأم، قصتها مع الحرب، وتعلقها الشديد ببيتها الّذي هو جنتها، لكن ما يهم هو ذلك الموقف من الحرب. كيف يعقل لميت أن يخاف من الموت مرةّ ثانية؟
«نعم، نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا».(17). لقد بلغ السرد في الرواية مستويات عالية من التراجيديا في هذه الجملة «نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا). إنّ الحرب التي تُخيف الموتى هي حرب قاسية، ولا مثيل لها. لذا فإنّ خطاب الأم يضعنا أمام الصورة العبثية للحرب في سوريا، حيث حتّى الموتى يموتون أكثر من مرّة، ويتعرّضون للقصف، فتقذف جُثثهم من تحت الأرض. «حين نسمع القصف، نخاف على أماكننا، نخاف أن تنبش القذائفُ التربةَ، وتقلبَ قبورنا صوب السطح، فتتعرى أجسادنا وأكفاننا».(18).
الآخر الّذي لا يشبه ذاته المتخيلة:
حين وصل حسام (أخ مها) إلى السويد، كان يحمل صورة إنسانية عن أوروبا التي تحترم حقوق الإنسان وتدافع عنها، لكن بمجرّد وصوله إلى دائرة الهجرة اِكتشف الحقيقة، وسقطت تلك الصورة المثالية التي طالما صدّقها. ما حدث لحسام، أنّ «لا شيء يشبه ما تخيله».(19). أمّا تينا السويدية، التي كانت هناك لاِستقبال الهاربين من الحرب، فلم تعد ذلك الملاك الحارس الّذي سينتشله من محنته، بل كانت أقرب إلى صورة مديرة سجن. «فهي غير مبالية باللاجئين، وتنظر إليهم على أنّهم كائنات بحاجة إلى الطعام والسكن فقط، وعليهم أن يأكلوا ويناموا بصمت».(20).
قد ينجو اللاجئ من الموت تحت أنقاض بيته، لكنّه لن ينجو من برودة المنافي، ومن قسوة المحتشدات التي تُذكّره أنّه مجرّد ذلك الغريب المنبوذ الّذي يبحث عن الشفقة. لم تعد أوروبا التي رآها حسام تشبه تلك التي كان يحلم بها، أو تلك التي كان يحمل عنها صوراً جميلة وإنسانية عن الأوروبي الإنساني الّذي يفتح ذراعيه للأجانب. لم يجد أي شيء من تلك الصورة الوهمية، بقدر ما كانت الحقيقة قاسية. لقد كان اللجوء مجرّد شكل مخفف من الاِعتقال: «سيبقى اللاجئ محكومًا بالاِعتقال داخل حياة ضيقة، لا أحلام ولا إذن بالعيش خارج مجتمع صغير، مجتمع له قوانينه التي لا تشبه قوانين السويديين. هنا لستَ في أوربا، ولا في اليونان، ولا في تركيا».(21).
تتحدث الساردة عن تجربة أخيها حسام، الّذي وصل إلى السويد، لكنّه وجد نفسه في ملجأ، مُنع من الاِتصال بالعالم الخارجي. فقد أُستقبل حسام في منطقة عزل، لا هو في السويد ولا هو في موطنه الأصلي. يعيش حالة اللامكان، واللاتحديد. هل يستطيع الأجنبي الاِندماج بسهولة في المجتمع المستقبل؟ الطريف في قصة حسام أنّه وجد نفسه في ملجأ كان يرى في الآخر صورة الأجنبي. الأجنبي بالنسبة للسويدي هو «تقويم أدنى من المواطن».(22). والعكس يحدث في الأوطان العربية بحيث يرفع من شأن الأجانب حد التقديس: «نحن محكومون بالترتيب الأدنى، سواء كنا في بلادنا، أو في بلاد الآخرين».(23).
خاتمة
حرصت مها حسن في روايتها «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» على تقديم شكل روائي يتوزع بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، من خلال سرد تتناوب فيه شخصيات مختلفة، غير أنّه كان يتقطّع بسبب قذيفة أو غارة جوية أو اِنفجار مدوّ. كان السرد قلقا، متشظيًا، معبّرا من خلال توتره عن تجربة الحرب؛ فالشكل الّذي جاءت عليه الرواية كان مناسبًا للتعبير عن الحالات النفسية والاِنفعالية التي صاحبت عملية التذكّر. فالرواية، وإن كانت عملاً تخييليًا، فهي بنت متخيلها السردي على ذاكرة الحرب بِمَا هي ذاكرة الإنسان وذاكرة المكان. وكما قال باشلار، فالمكان يمثل لحظة تكثيف زمني للتجربة الإنسانية، لذا حضر البيت بكلّ حمولته الدلالية في الرواية.
إحالات:
1)–يمني العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي بيروت، ط01، 2011، ص32.
2)-المرجع نفسه، ص32.
3)–حوار أجراه مصطفى ديب في موقع ألترا صوت.
4)-مها حسن، عمت صباحا أيتها الحرب، منشورات المتوسط ميلانو،ط01،ص105.
5)-الرواية،ص105. -6)-الرواية،ص106. -7)-الرواية،ص183. -8)-الرواية،ص21.
9)-غاستون باشلار، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984، ص38 .
10)–المصدر نفسه،ص39.
11)-الرواية، ص22. -12)-الرواية، ص26.
13)- يمنى العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، مرجع سابق، ص39. - 14)-المرجع نفسه،ص32.
15)-الرواية، ص142.- 16)-الرواية، ص137. - 17)– الرواية، ص 80، 81. -18)-الرواية، ص120.- 19)-الرواية، ص56.- 20)-الرواية، ص56. -21)-الرواية،ص68. -22)-الرواية، ص77.- 23)-الرواية، ص77.

samedi 13 juin 2020

أسباب الدهشة في رواية (حي الدهشة)


محمد رشيد السعيدي

مدخل
هذه هي الرواية(1 ) الأخيرة للروائية السورية (مها حسن)، التي صدرت لها منذ عام 1995 (12) رواية، وصدرت الأخيرة عام 2018 عن دار ممدوح عدوان، وتقوم على محور – يبدو مركزيا في روايات المؤلفة – المرأة، لذا يمكن أن تصنف هذه الرواية بالنسوية، وتحتوي الرواية على كمٍّ من الدهشة متناسب مع استخدام هذه اللفظة في العنوان، وفيها بعض التناقضات الفنية، التي قد تكون متأتية من القراءة، فضلا عن وجود بعض الألعاب، بقصدية التأليف، حسب ما ورد في الرواية.
عتبات (حي الدهشة)ومن وظائف العتبات: الجمالية، وهي التي ستؤدي الى الترغيب في القراءة، وفي التسويق، وربما ستكشف عن بعض ما في النص، وترتبط مع النص بعلاقات متعددة، ومختلفة، قد تكون علاقة الانقطاع واحدة منها أحيانا، ومن أهم عتبات الكتاب: العنوان، وصورة الغلاف، والنص المقتبس إن وجد، فضلا عن الغلاف الأخير، وهذه قراءة في بعضها.
أولا: العنوان
ويقوم على الوضوح والمباشرة مرة، وعلى التناقض والانزياح مرة أخرى، باستخدام مفردة دالة على أحد أصناف المكان: حي، وما شخوص المكان في العنوان إلا واحد من الدروس الأساسية في المدرسة الروائية العربية الكبرى: مدرسة نجيب محفوظ، منذ رواياته المبكرة: القاهرة الجديدة، وخان الخليلي، التي استفادت من مفردة دالة على أحد أصناف المكان، مثل زقاق المدق، وصولا الى الاستغناء عن تلك المفردة والاكتفاء باسم المكان مجردا، في الثلاثية الشهيرة: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، لإعطاء نسبة أعلى من التقدير والإشهار للمكان، عند اكتفائه بذاته، وقد لا يتسبب الانزياح – الذي استندت عليه المفردة الثانية في العنوان – بإبعاد الدلالة عن ذهنه، بل ربما ستؤدي دورها في التشجيع على القراءة، متأملا أن يجد في الرواية ما يدهشه، والدهشة أحد أهم ما تمتلكه الرواية من طاقات جمالية.
إن عنوان هذه الرواية ليس ثريا نص تماما، بل هو اقتباس حرفي وموضوعي من النص، إذ تدهش الطفلة هند، التي تنتمي الى الطبقة الارستقراطية، وتعيش في حيٍّ من أحيائها، سوف تدهش بـ (حي الهلك)، حي الفقراء – عندما زارته بدون قصد مع مربيتها – وترى فيه ما يرسخ في ذاكرتها ومشاعرها، الى حدّ تعاطفها مع الساكنين فيه، وقرارها أن تعيش معهم، ولو في وقت العمل فقط.
هند أدهشها (حي الهلك)، واستعارت درية شريف – الكاتبة الافتراضية للروايةكلمة الدهشة، لتجعلها في عنوان روايتها، بديلا عن الاسم الحقيقي للحي السكني، وسيبقى الموضوع مسيطرا حتى على “أخطط لكتابي القادم، عن المنفى والدهشة”، إذ ستتكرر هذه الكلمة حوالي خمس مرات في الأسطر الأخيرة للرواية، لتوكيد التجانس بين الحقيقي والخيالي.
ثانيا: صورة الغلاف
وقد صنعت بطريقة التشكيل، ولصق صورة جنب أخرى، وحشد عدد من الرموز والإشارات الى محتويات الرواية، فكانت صورة الباب القديم، ربما هو باب من مدينة حلب العريقة، أو المدن التي تشاركها ثقافتها، وقد يعود زمنه الى بدايات القرن العشرين، يتدلى منه فانوس كبير، وتظهر خلفه باب وشباك من طراز قديم، هذه الصورة متعلقة بمفردة حي، ربما هذه باب الحي، وبجنبها صورة أخرى، مصنعة، تحتوي على أكثر من لقطة، لبنات، إشارة الى اهتمام هذه الرواية وكثير من روايات (مها حسن) – بالمرأة، وربما سيكون نموذج المرأة في هذه الرواية فريدا، أو/ ومستفيدا من نماذج بطلات الروايات السابقة، وتتزين صورة البنات بالورد، نساء وورد: جمال مضاعف، وحب واهتمام، ودلالات أخرى تشير الى العلاقات الإنسانية الحميمية، ثم تؤطَّر صورة الغلاف بعناوين روايات، لتؤدي الى حشد مبالغ فيه، وزيادة في الإشارات تؤدي الى كشف النقاب عن أسرار الرواية وألعابها، وقد يستعين عنوان إحدى الروايات برمز دال على متنها، وهذه مبالغة مضاعفة، فضلا عن بشاعة ذلك الرمز، وقد تكون له علاقة بحدث ما في الرواية، صورة المشنقة المتدلية فوق عنوان (الجريمة والعقاب).
ثالثا: النص المقتبس
هذه الرواية تعطي مدينة حلب الاهتمام الذي يليق بها، لتنافس – في مضمار الرواية – القاهرة وبيروت والقدس ودمشق وبغداد وغيرها من المدن التي نالت قسطا من حب أبنائها المبدعين الروائيين، وسيبدأ ذلك من عتبة: النص المقتبس، وهو كلام منقول من كتاب آخر، موثق اسمه واسم مؤلفه، فضلا عن رقم الصفحة، وهو نص تاريخي عن أصل المكان الذي هو مسرح هذه الرواية، والنص يشير الى انه حي عشوائي، قام على مقبرة قديمة، وصار الآن حارة، أو محلة، صار حيا سكنيا يصله الماء والنور والباص، التي هي من أولويات النهضة المدنية، هكذا سيتأكد القارئ بأن هذه الرواية مهتمة بمسرح أحداثها، بل إنها تستند على فكرة حب هذا المكان، وحب الناس الذين يعيشون فيه، إذ هو حي شعبي، يسكنه الفقراء من الناس، والمهاجرين من المناطق المجاورة لحلب، ويطلق عليها حسب المصطلح السوري ريف، الرواية لاحقا – في المتن – ستشير الى قصدية اختيار البطلة هند الطبيبة – وهي من الطبقة الارستقراطية التي تسكن في الأحياء الراقية من مدينة حلب – لهذا الحي السكني مكانا لعيادتها، والسبب هو الاهتمام بأهله.
الإحساس بالمكان
يمكن تعليل الاهتمام بالمكان في الرواية – وفي الشعر أيضا – بمشاعر المؤلف تجاه المكان، فيبدو أن هذا الاحتفاء والوصف الدقيق، الذي يجعل القارئ ساكنا في ذلك المكان، والذي هو أحد أعمدة المدرسة الروائية العربية الكبرى، مدرسة نجيب محفوظ، الذي تمتلئ رواياته بأوصاف المكان، حتى يمكن أن يشعر القارئ بزيارته لتلك الأحياء عبر وصف نجيب محفوظ، إن الاحتفاء الذي يتوج وصف المكان في هذه الرواية نابع من مشاعر المؤلفة تجاه مدينتها، من حبها واعتزازها، وتعلقها بها( 2)، ومثل لوحات الدلالة التي توضع على الطريق بين المدن والأحياء السكنية، فإن فصول الرواية تكللت بعناوين مكانية: “كفر حمرا ريف حلب”، ثم: “حي الهلك – حلب”، ويتكرر هذا العنوان لعدد من الفصول بوساطة اختلافات في التواريخ المضافة اليه، التواريخ التي لا تحتاج اليها الرواية.
وقبل مغادرة بطلة الرواية الدكتورة هند، والطبيبة والروائية المستقبلية درية شريف، وعدد من أفراد العائلة، قبل مغادرتهم حلب، ستنتهي الرواية انتهت الرواية، درية شريف، لندن – أيلول 2015″، قبل دخول مكان آخر فيها(3)، أو في عناوينها، فالدخول الأول هو السابق، ثم يأتي العنوان “لندنخريف 2015” في ملحق توضيحي عن شؤون كتابة الرواية؛ لتبقَ الرواية مخصصة بحلب، وحي الهلك!
قد لا تكون نسبة وصف المكان في (حي الدهشة) عالية، وقد لا تكون بدقة الوصف المحفوظي، لكنه – على الرغم من تلك الملاحظة – ظاهر “كان للحارة شارعان، واحد رئيسي يمر أمام الساحة التي يقع محل الحدادة في طرفها الشمالي مقابل الباب الأول لمحل أبي فؤاد، والشارع الآخر يتفرع عن الأول من الطرف الأيمن للمحل”، ويستمر الوصف، في المشهد عينه، ربما لدرء تهمة نسبته القليلة، وفيه باب فرعي، وفيه أيضا مدخل البناء الذي تسكن فيه عائلة فؤاد. تحيط بالساحة من الجانب الأيمن بناية اشترت الدكتورة هند إحدى شققها، أما من الجانب الأيسر فهناك طريق ملتوٍ يبدأ من أمام بيت عماد كعك جي، ويمر من أمام بناية شريف وأهله، ثم يلف الى الحارة الخلفية التي يقع فيها محل عماد”.
وهذه الحارة هي المكان الرئيس للرواية، بوجود حركات لشخصيات الرواية وانتقالات، الى “سوق العزيزية”، والى أحياء سكنية أخرى، بعضها في لبنان، وفي هذه الحركة وهذا الانتقال ثمة مشاعر معينة تربط الشخصية بهذا المكان تمنت لو أن الطريق الى بيتها في حي الشهباء لا ينتهي”( 4).
وتمر الرواية قليلا بمناطق ريف حلب، لتصف الطبيعة، لكنها ستمر عبر المكان الذي تمركز في ذهن هند، وجعلها تتخذ قرارا سيؤثر في كثير من تفاصيل حياتها، ستمر بحي الهلك، وتصف البيت الذي تسكن فيه مربيتها، وبدقة أكثر تسكن المربية في واحدة من غرفه، لأن البيت يؤجر كغرف على فقراء الناس “كان البيت الغرفة جميلا… بتحمم هون.. أشارت زلوخ الى العتبة… المرحاض المشترك، كان بابه خشبيا نصف مغلق”، هذه الغرفة – ومربيتها والمكان الذي تسكن فيه – هي التي جعلتها تهتم بالناس الذين يعيشون هنا “في ذلك اليوم دخلت حي الهلك، لأول مرة في حياتي، ووقعت في غرام الحارة”، لتتخذه موقعا لعيادتها وممارسة اختصاصها الطبي.
شعرية اللغة.. وشاعريتها
لا يمكن تجاهل العلاقة بين اللغة والمكان أبدا، فلكل مجموعة بشرية تسكن في مكان ما لغتها الخاصة، حتى لو كانت من لغة واحدة، فسكان مدينة القاهرةمثلا – يختلفون في حكيهم عن سكان الاسندرية أو الصعيد، والإحساس بهذه اللغة التي تسمى لهجة – مجاور للإحساس بالمكان، وقد عملت رؤية ما على إقصاء اللغات المحلية من الرواية العربية لمدة طويلة وعدد كبير من الروايات، إلا أنها بقيت متواجدة بشكل أو آخر، أو بكم محدود، وهنا، في (حي الدهشة) تتسلل المفردات عبر أسماء بعض الشخصيات، بخصوصية المحلية أو التحبيب، وبعض المأكولات “علكة الشكلش”، أو أسماء لأشياء أخرى، منها: “امتحانات البروفيه”، أو “خيال الزرقا” التي هي أغنية لسميرة توفيق، وأحيانا في حوارات بعض الشخصيات “قلبي بيعضني لما بتغيب، والدنيا بتضيق بوجهي”، أو في حوار يكشف عن مصطلح محلي “كندرتي.. وقعت كندرتي”، وربما كانت له النسبة الأكبر في حكي الشخصيات.
قصص الحب الجميلة
هذا عنوان إحدى أغاني الفنانة المتميزة نجاة الصغيرة، صوت الحب، حلبية الأصل، وهذه صفة لبعض التفاصيل في روايات (مها حسن)، التي يمكن اعتبارها تحتوي على قصص حب، ويمكن اعتبار (مها حسن) واحدة من الروائيات اللاتي يتمكن من كتابة قصص حب جميلة ومدهشة، بغض النظر عن التفاصيل التي قد يكمن الشيطان فيها.
كان مستهل الرواية قصة، قصة حب غريبة، نادرة، يصعب على العقل تصديقها، لكنها يمكن أن تحدث، فضلا عن مدى تأثيرها على مشاعر المتلقي، الذي قد لا يكتفي بوصف الرواية بأنها مدهشة، بل يضيف: إنها تقطع القلب، قصة الحب التي افتتحت الرواية مقطوعة عن كثير من تفاصيل الرواية، لكنها ليست منقطعة تماما، إذ بوساطة صلات القرابة بين شخصيات الرواية سيتمكن القارئ من اكتشاف العلاقة بين قصة مستهل الرواية، وبين تفاصلي ستأتي ربما بعد أكثر من مائة صفحة.
ستبدأ القصة بالمرأة، بالأنثى، العاشقة، وبغرامها بالماء واهتمامها بسقي الحدائق، لترسم لوحة من وجه حسن وماء وخضراء، اسم المرأة سميرة، وهي زوجة ابن عمها عبد الغني، الذي عشقته طيلة حياته، وماتت بسبب عشقه!!
وفي تفاصيل الحكاية سيعرف القارئ أن سميرة تسمع صوت محرك سيارة زوجها، السائق على طريق حلب – بيروت، تسمع صوت محرك السيارة قبل وصولها الى مدخل الحارة، وفي مرة لم تسمع، وفاجأها زوجها وهي تهتم بسقي مزروعاتها وتغني يا خيال الزرقا، فسألها لاحقا “مين خيال الزرقا”، متهما إياها، ومكررا شكه أكثر من مرة “حسيت في حدا براسك، حدا تاني غيري”، فلم تحتمل هذا الشك.. لتنام ولن تستيقظ.
وستترك الرواية زوج سميرة وابنها حسين، لتنتقل مهتمةً بالطبيبة النسائية هند، اهتماما صنع من هذه الشخصية الروائية نموذجا مثاليا للمرأة، أو للإنسان، ربما تشوبه بعض المبالغة، فهي فراشة، وهي تشبه هند رستم، بل أجمل منها، وهي مصنوعة من ندف الثلج الأبيض، فتتمتع نساء (حي الهلك) بالنظر اليها، هي الملاك الذي أنقذ أم شريف، وهي أكثر من ذلك، فقد رأتها إحدى جاراتها مغرورة وترى نفسها ملاكا أو نبية، معبرة عن كرهها لها ولنموذجها، هذا الكره قد يحسب لصالح بناء الشخصية، إذ لا يمكن أن ينال واحد من الناس رضا الناس كلهم.
ستعيش الدكتور قصة حب فريدة مع شريف، جارها الحداد، المتزوج، ولديه ولد وبنت، الطرفان يشعران بالحب تجاه بعضهما، ويعيشان علاقة قوية، لا هي بالصداقة ولا الأخوة ولا الحب، علاقة تجمع الأصناف الثلاثة، على مرأى ومسمع أمه وأخواته وأهل الحارة، مما يثير غيرة زوجته، ولن تنتهي هذه القصة إلا بنهاية مأساوية، إذ إن شريف يعيش قصة حب أخرى، ومن نوع آخر، هو حب عبثي، على الرغم من عمره وزواجه وأولاده، مع فتاة لعوب اسمها سعاد، المخطوبة لابن عمها ادريس، الذي سيقتل شريف بعد ضبطه مع سعاد، إثر وشاية حسين.
وفي الرواية قصة حب أخرى – أو أكثر – فيها بعض التفاصيل المرضية، ولم تهتم الرواية كثيرا بحكي مشاهدها، هي قصة حب فؤاد، أخي سعاد، لنجوى أخت شريف، التي ستهجر زوجها، أو تتطلق منه؛ بحجة انه ابن عم قاتل زوجها(5 ).
إشكاليات شخصية حسين
انقطع الحكي( 6) عن قصة سميرة وابن عمها وحبيبها وزوجها عبد الغني وابنها حسين، بعد استهلالها للرواية عبر صفحات سبع، انتهت بالصفحة (11) من الرواية، حسب عداد برنامج (بي دي اف)؛ إذ خلت الرواية من أرقام صفحات، ثم تمر بالقارئ شخصية حسين، الذي عمل في ورشة شريف للحدادة، في الصفحة (30)، وإشارة الى كون “أبو فؤاد زوج عمة حسين”، مؤكدة بأنه – الذي سيتناقض مع الأمر الأكثر صدمة في الرواية – وقف مع معلمه شريف في الشجار الذي وقع بينه وبين زوج عمة حسين، مما زاد في ثقة شريف به، وكان حسين يشعر صوب عائلة شريف بالانتماء والولاء، حسب الرواية، لتغيب هذه الشخصية – مرة أخرى – أكثر من مائة صفحة، وتظهر بصورة أخرى، من خلال سعاد، التي ذهبت لحضور إجراءات دفن خالها عبد الغني، وبعد تفاصيل تزيد في درامية الرواية، وتقوي حبكتها، وبعد الانقطاع الذي استغرق حوالي (140) صفحة، قد لا يتذكر القارئ أن عبد الغني هو والد حسين، ولم تشر الرواية عبر هذه الصفحات كلها بوضوح( 7) الى أن حسين الذي يعمل في ورشة شريف، هو ابن عبد الغني الذي هو خال فؤاد وسعاد، التي سترتبط بعلاقة حب مع ابن خالها حسين الذي يصغرها بعشر سنين، أو انه هو الذي سيحبها، وسيصرح – وهو في السادسة من عمره – بأن سعاد هي زوجته حين يكبر، ويصارحها بالحب، ويطلب منها أن تعده بالزواج وهو تلميذ في الابتدائية، وقد لا تمكن هذه الخطوط الضعيفة القارئ من رسم صورة دقيقة لشخصية حسين وانتسابه، فضلا عن أن لحسين، وقصة حبه أيضا، تكملات مهمة، مهمة جدا، الى حدّ قد يثير حكم بعض القراء بأن شخصية حسين هي الأنذل في الرواية، لأنها المخالفة لوصية دوستويفسكي، أهم روائي في العالم: حذارِ حذارِ فإن قتل الأب أكبر جريمة في التاريخ، الجريمة التي حصلت في رواية (الإخوة كارامازوف) لا في رواية (الجريمة والعقاب)، الموجود عنوانها على غلاف الرواية والإشارة الى بطلها وقتله للمرأة العجوز في متن الرواية، فحسين سيقتل أباه، حاكما عليه بذلك الحكم لأنه تسبب في موت أمه، حسب رأيه، واتهمه بما سبق لكي يتزوج من أخرى، ثم سيرتكب جريمة أخرى، تتميز بالنذالة والخسة والخيانة، خيانة الأمانة والعهد، وخيانة الخبز والملح، إذ سيشي بشريف ليقتله ادريس، طمعا في سعاد، ولمبرر آخر واه، هو: “كانت دوافعه نبيلة”، والغريب أن يأتي المبرر من بنت المقتول بوشاية حسين، وهي ستنتبه لهذا وستبرره بأشياء أخرى ضعيفة، لن تتخلص من التناقض مع رؤية دوستويفسكي في تأليف الرواية، فضلا عن رؤيته العظيمة لجريمة قتل الأب، قد يرى بعض القراء أن الإنسانية هنا ليست كذلك، فالإنسانية التي تقوم على الرحمة والتسامح لا تلغي القانون، ولا يمكن أن تسمح بالقتل، أو لا تعتبره جريمة، فضلا عن جريمة قتل الأب!! إن هذا التناقض سيشفع بتعاطف الرواية، التي ستسمح لقاتل أبيه برعاية أخيه من زوجة أبيه، ورعايتها هي أيضا! قد يكون هذا تناقضا غير مقنع، على الرغم من احتواء الحياة على نماذج إنسانية وحالات كثيرة متناقضة، لكن تعاطف الرواية معه غير قابل للاختفاء( 8)، إذ تصفه مرة بـ “أشرق وجهه بطفولة مليئة بالبراءة”، وهو الذي قتل أباه، وربّ عمله، بدون أن يرتكبا أي ذنب بحقه!! هل القاتل بريء؟
وحسين لا يشبه( 9) راسكولينكوف – الذي قتل المرأة العجوز صاحبة النزل والمرابية – في تفصيلة القتل المهمة هذه، فالتمثيل برواية (الجريمة والعقاب) وبشخصية بطلها أعلاه، بعيد عن حادثة قتل حسين لأبيه، المشابهة للجريمة التي حصلت في رواية (الإخوة كارامازوف) إذ قتل سميردياكوف أباه، بغض النظر عن الأسباب المتفاوتة في الروايتين، إلا في مبرر المشاعر المختلفة بين حسين وراسكولينكوف، الاختلاف في أن الأول يعذبه ضميره لعدم قتله لأبيه وشريف، والثاني يعذبه ضميره لأنه قتل أباه!!
حي الدهشة وعناوين الروايات
القارئ لهذه الرواية، والمطلع سابقا على روايات أخرى، أو المتخصص في قراءة الروايات، سيجد ما يمكن أن يعتبر تدخلا مباشرا للمؤلفة في متن روايتها، سيكتشف تأثيرها المباشر، ببث اهتماماتها في الرواية، عبر وجود عناوين لكثير من الروايات العربية – ليس فيها عراقية – والعالمية، استخدمت عناوين جانبية في الفصول الرئيسة، لتشكل ثريا نص، بوساطة علاقة العنوان – المقتبس- بالنص، هكذا سيشمت بعض القراء إذ يقولون لا تستطيع المؤلفة أن تخفي ذاتها، فهي روائية وتعشق قراءة الروايات، وربما سيفكر أحد قراء الرواية بوضع ببلوغرافيا للروايات وأسماء مؤلفيها في ما سيكتبه عن الرواية، لكنه سيفاجأ بوجود ثبت بعناوين الروايات “المستخدمة عناوين فرعية وأسماء مؤلفيها” في نهاية الرواية، وستثبت المؤلفة أنها أذكى من الوقوع في مطب لا يليق إلا بروائيين مبتدئين، إذ ستخلق شخصية فتاة تحب الكتابة والقراءة، وستستعين بالدكتورة هند للذهاب الى المكتبات العامة والخاصة، والى إرشادها الى الكتب والروايات، بل إنها ستقدم لها دفترا يحتوي على مذكراتها، التي كتبتها متأثرة بكتاب (أوراق حياتي) لنوال السعداوي، وستخلق لعبة فنية، لها أكثر من دلالة، واستعانت بها المؤلفة وقاية من اعتراضات على الرواية(10 )، هي لعبة الدهشة، وقد تكون اللعبة الأم في الرواية، أو هي واحدة من: .. .
اللعبات في الرواية
الدخول المتجزئ لحسين في الرواية هو إحدى لعباتها، وبوساطة حسين ستقدم الرواية الجزء الأخير من أحد مشاهدها: “تابع حسين الدكتورة بعينيه، ورأى تلك الدمعة تنزل رغما عنها” (ص223)، إذ تبدو كلمة (تلك) أداة تعريف، أي إن حسين يعرف دمعة الدكتورة هند، من أين يعرفها؟ قد تكون ذاكرة القارئ قوية لتعود الى أكثر من (200) صفحة، ليقرأ “رأى نظرة الحزن والدمعة الممنوعة من الخروج” (ص10)، وفاعل رأى هو حسين نفسه، لكن الدمعة – المعرّفة بتلك – لا تبدو نفسها – إلا في اللغة – لأنها هنا ممنوعة من الخروج، وهناك نزلت!
مسار الرواية غالبا ما اتخذ التسلسل الزمني المنطقي، منذ طفولة حسين، ودراسة هند لتخصصها، لكن المعلومات، أو أجزاء الصورة ستحضر غالبا بطريقة التقسيط، والتوزيع عبر فصول متعددة، وقد تحتوي الفصول على بعض الاسترجاعات، التي قد لا تلفت الانتباه، لأن الرواية لم تركّز عليها فنيا، وقد يكون أحد الفصول أقدم زمنيا من الفصل السابق، أو متأخرا مثل الجزء المعنون بـ (المحاكمة) من الفصل المعنون بـ (حي بطينا وطى المصيطبه – بيروت أعوام 2006- 2009)، وهي حالات قليلة، فقد اعتمدت الرواية مسار الساعة، بمحور رئيس هو حياة هند، إذ يمكن اعتبار (حي الدهشة) رواية هند، البعيدة عن المؤلفة، حتى لا تستمر الاتهامات لها بأنها تكتب سيرتها الذاتية، وبمحور – بوجود محاور أخرى، طبعا – مساعد، موازٍ، لكنه صغير، لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بالمحور الرئيس، هو محور حسين، الذي بدأت الرواية بفصل قصة الحب بين أمه وأبيه، والوفاة التراجيدية لأمه.
لكن اللعبة الأهم في الرواية هي ما تم الكشف عنها في نهايتها، بطريقتين، الأولى هي: التذييل التوضيحي الذي أعلن انتهاء( 11) الرواية: “انتهت الرواية”، متبوعا باسم: درية شريف، وذلك يعني أنها هي مؤلفة الرواية، ودرية هي ابنة شريف الحداد، وهي شخصية في الرواية، كانت تهوى القراءة والكتابة وتحلم بأن تكون طبيبة وكاتبة مثل الدكتورة نوال السعداوي، فضلا عن مكان وتاريخ “لندن – أيلول 2015” كتابة الرواية، ولكن الرواية لم تنتهِ بالفعل، فثمة فصل قصير آخر معنون بـ: “رسالة الناشر: هذه ليست رواية”، وهو عنوان مركب من جزأين، يمكن إحالتهما الى شخص واحد، هو المؤلفة درية شريف، التي لا تمتلك الأسباب المقنعة لإضافة هذه الرسالة الى الرواية، حسب ما جاء في الرواية، ويمكن إحالتهما الى شخصين، فـ (رسالة الناشر) هو عنوان المؤلفة درية شريف، ثم جملة: هذه ليست رواية، المستلة من متن الرسالة، هي رأي لجنة القراءة في دار النشر، التي ربما كانت عنوان رسالة الناشر.
الفصل الأخير في الرواية سيؤدي دور كشف أسرار هذه اللعبة، مقللا من أهميتها، ومحاولا هدم أسسها، وإعادة الرواية الى مؤلفتها الحقيقة؛ للأسباب:
1. عنوان الفصل من نسق عنوانات الفصول السابقة كلها.
2. الحكي بصيغة ضمير الغائب عن المؤلفة المزعومة درية شريف.
3. يكشف هذا الفصل عن آليات تأليف الرواية، وعن الأفكار التي راودت المؤلفة، والتخطيط للتأليف.
4. وسيكشف أيضا عن علاقة الرواية بالمؤلفة المفترضة في ظروف الحرب، ودور الرواية الايجابي في حياة المؤلفة.
5. فضلا عن أسماء الروائيين الذين ذكرتهم، ستشير الى أن فرانسواز ساغان هي التي دفعتها الى فكرة كتابة هذه الرواية، فقد نشرت أولى رواياتها في سن درية الأخيرة.
6. مثل الفصول الأخرى، سيحتوي هذا الفصل على عنوان جانبي، فيه قصة أو توضيح، مكتوب بضمير المتكلم، ومعنون بإسم حميمي “ملف شخصي: انفعالات”، وسبق أن احتوى الفصل الأم على توضيح لهذا الجزء: “عادت درية الى ملف روايتها، وراحت تدون لنفسها الفصل الذي لن تنشره، والذي سيبقى في مذكراتها”، لكنهاكانسان متناقض، ومتقلب، يغير رأيه متى يشاء – ستضيف: “إمكانية نشره كملحق للرواية”.
فاذا اقتنع القارئ بأن الرواية كتبتها إحدى شخصياتها، والتي هي شخصية حقيقية دخلت الى الرواية من باب المذكرات، التي تسببت بوجود التواريخ، لتجعل من الرواية رواية مذكرات، واذا اعتبر وجود رسالة الناشر ملحقا متفقا عليه بين المؤلفة – المفترضة – والناشر، فما هو سبب وجود الفصل التوضيحي المكتوب بضمير الغائب؟؟!! بل من كتبه؟؟! فضلا عن احتوائه على تتمات بعض قصص الرواية، هذا الفصل سيعيد الرواية الى الرحم الذي أنجبها، وسيمنحها بطاقة هوية دقيقة.
وبغض النظر عن مدى الإقناع، والاقتناع الذي سيختلف من قارئ الى آخر، ستبقى تلك الإحالة لعبة، لن تنتهي الرواية بها، إذ ستنوجد فصول أخرى، أو أجزاء من فصول، ليست منفصلة عن سياق متن الرواية، وحتى الجزء المعنون بـ “ملف شخصي: انفعالات” هو كذلك، لاحتوائه على تتمات لقصص الرواية، قصة حسين مثلا، ويأتي جزء آخر، معنون بعنوان رواية سابقة، فيه تتمة للرواية.
هذه لعبات، قد يختلف القارئ مع المؤلفة في موقعها على خارطة الرواية، أو أساليب تقديمها، وبغض النظر عن اختلاف القارئ مع المؤلفة باعتبار ما ورد بعد جملة (انتهت الرواية) جزء منها، فإنها ألعاب أولا، وثانيا تضفي جماليات أخرى على الرواية.
وفي الفصل الملصق بالرواية والمعنون بـ (رسالة الناشر) لمحة بسيطة من حكي الرواية عن نفسها، من جنس الرواية داخل رواية(12 )، والفصل الذي يليه والمعنون بـ (لندن – خريف عام 2015) هو فصل تشكيلي، أي يحتوي على أكثر من جنس سردي، بوجود راوٍ الخارجي، وآخر داخلي، في أجزاء معنونة بعناوين روايات، وفي الفصل توضيحات عن الرواية ومؤلفتها درية، وتوضيح بأن ما جاء بعد إشارة النهاية هو ملحق بالرواية، يحتوي على نهايات بعض القصص التي تركت بدون نهاية، أهمها قصة درية شريف، التي ذهبت الى بريطانيا للدراسة، مع الدكتورة هند، ولحقت بهما بعد الحصول على اللجوء عمتها نجوى وابنها شريف وجدتها، فعاشت “الجميلات النائمات” في بيت واحد، وظلت هند متعلقة ببلدها فصارت تنتقل بين لندن وغازي عنتاب، إذ تشتغل طبيبة متطوعة لمعالجة النساء السوريات النازحات في المخيمات”، وقصة أمها، التي حققت حلمها بالزواج من رجل ثري، فتغيرت أخلاقها حتى مع ابنتها درية “كانت تتحدث كأنها امرأة أخرى لا أعرفها، كأنها ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب، ناسية أنها تربت يتيمة في بيت خالتها”، فضلا عن حسين، الذي أخذ سعاد وذهب الى لبنان ليعيش مع أخيه وزوجة أبيه.
قد تحتاج الرواية المقسمة الى فصول معنونة، وتتقسم فصولها الى أجزاء معنونة أيضا، قد تحتاج الى فهرست( 13)، وهو ما تم تجاهله في (حي الدهشة)، في الوقت عينه وضعت ثبتا بعناوين الروايات التي استخدمت في المتن عناوين لأجزاء الفصول، شيء آخر يضاف الى الدهشة، ثبت بالمراجع، موجود في متن الرواية، ولا فهرست لرواية بتقسيمات أولية وثانوية!
التواريخ المرفقة بعناوين الفصول
قد تكون عملية وضع تواريخ للفصول محاولة لتجنيس هذه الرواية رواية مذكرات، لتوكيد هوية كاتبة الرواية: درية شريف، التي هي إحدى الشخصيات الثانوية في الرواية، بذريعة كونها مبتدئة في كتابة الرواية، وفي القراءة أيضا، ولأنها سبق وتأثرت بكتاب الدكتورة (نوال السعداوي) ذي العنوان: (أوراق حياتي)، وهو كتاب مذكرات، لتكتب درية شريف مذكراتها، تحكي فيها عن أهلها وعن معارفها، وعن الدكتورة هند ذات الدور الكبير في حياتها، وستضع تواريخ لتلك الفصول، يفترض أن تكون تواريخ كتابتها، وهي تواريخ حصول الأحداث، في الوقت عينه، وقد تكون التواريخ عاملا مساعدا في قراءة خارطة النص، ويمكن اعتبارها زائدة، لكنها سبب كاف لاعتبار (حي الدهشة) رواية مذكرات.
حي الدهشة والحرب
سيثير تاريخ انتهاء الرواية وموقعه سؤالا جديدا، عن سهو أو قصد؟ فالفصل الأخير للرواية – والذي جاء تاريخ انتهاء الرواية في ذيله – يحمل عنوان “حي الهلك – حلب – عام 2011″، المؤرخ، بتاريخ مختلف عن الموجود في ذيل الفصل لندن – أيلول – 2015″، بعد الإشارة التوضيحية “انتهت الرواية”، المعرفة بـ درية شريف”، ولأن الفصل الأخير للرواية يحمل عنوان “لندن – خريف عام 2015″، الذي يشبه الإشارة التوضيحية بالمكان والزمان.
يمكن اعتبار ذلك جزء من اللعبة التي حاولت أن تقوم بها الرواية، ويبدو أنها لم تكن مقنعة تماما، فقد أدى التاريخ الموضوع في عناوين الفصول دور الإطاحة بهذه اللعبة، التي ربما سيكون لها دور – عفوي – إضافة محور مهم الى الرواية، فاذا تم رفع الإشارة التوضيحية من هنا، والاعتماد على التاريخ الموضوع في عنوان الفصل قبل الأخير، ستكون أحداث الرواية السابقة كلها قد حصلت قبل بدء الأحداث وتطوراتها، مما يعطي زخما مهما للفصل الأخير، بسبب توظيف الحرب، وهي المهيمنة(14 ) الثانية من حيث الأهمية والتواجد في روايات (مها حسن)، عبر عنوان جزء منه: “الحرب والسلام”، ستدخل الحرب في الرواية من خلال نسق استخدام عناوين روايات سابقة عناوين لأجزاء الفصول، وبوساطة واحدة من أهم روايات الحرب في العالم، والتي تكشف هويتها منذ عنوانها: الحرب والسلام، ليكون هذا العنوان كاشفا عن متن الفصل، الذي سيكشف لا عن العلاقة الوطيدة بين درية شريف والروايات، ودور الروايات التي قرأتها في عملها وتأليفها لهذه الرواية، بل عن دور الرواية في إنقاذها من الخوف واليأس، ودور الكتابة في تلمس درية شريف لدرب السلام الضيق في غابة الحرب الكثيفة!
الهوامش
( 1) حي الدهشة، مها حسن، دار ممدوح عدوان، 2018.
(2 )
تختلف مها حسن عن نجيب محفوظ، وربيع جابر – إذ تحتفي رواياتهما بالمكان – في أمر مهم، هو: إقامتهما الدائمة في مدينتيهما، وتركها مدينتها قسرا.. إذ ربما سيتجلى ذلك الاختلاف في طريقة تقديم المكان في الرواية!! يمكن اعتبار مها حسن روائية حلب، ويمكن إطلاق اسم (روايات حلب) على رواياتها، ومن خلال تلك الروايات ستدخل مدينة حلب في ساحة مدن الروايات: القاهرة، وبيروت، والإسكندرية.. الخ.
( 3)
مما يعزز كونها رواية حلب، ويدعم موقفها في الترشيح الى جنس: روايات المدن.
( 4)
وقال الشاعر العراقي العاشق مثل هذا تماما، قبل نصف قرن تقريبا، قال: “طوّل يدرب السوك ريت دريولك يعثر ريت التاير اليفتر فلا يفتر”. طوّل: ازدد طولا، كن طويلا؛ لزيادة الوقت. درب: طريق. السوك: قضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار/ العراق. ريت: ليت. دريولك: الدريول هو السائق. التاير: إطار السيارة. يفتر: يدور. الشاعر يتمنى أن يطول الطريق، وان تتعطل السيارة، لكي يحظى بالمزيد من الوقت مع المرأة الجميلة التي كان يجلس جنبها في السيارة.
( 5)
قصة حب فيها عدد من المفارقات، منها: تسبب نجوى بأذى شديد من قبل أخيها للشخص الذي يحبها، لسبب غير حقيقي، افتعلته للعبث، والإساءة، والثانية الكلمة الجارحة، ثقيلة الوقع، التي قالتها لعريسها، قبل دخوله بها! وهنا المقارنة التي فرضها موقف نجوى من زوجها، وتطليقها إياه؛ لأنه ابن عم قاتل زوجها، بينما بنت المقتول تهوى وتتصنع المبررات للمتسببالمنافق، وخائن النعمة والعشرة – بقتل أبيها!!
( 6)
منتقلا الى قصص أو حبكات أخرى.
( 7)
على القارئ أن يعرف، البحث عن ايجابية القارئ، ودوره التفاعلي مع النص، والتخلص من الأسلوب القديم في الحكي، إذ كانت تتكفل الرواية بتفصيلاتها كلها، حتى البسيط منها.
( 8)
لا يبدو الاقتناع بهذا سهلا؛ لأنه أمر ليس من طبيعة الإنسان: “الفيسبوك… وصلني طلب إضافة من حسين، الذي كان يعمل في ورشة أبي، وكنت أكن له مشاعر مميزة [كانت تحبه!! قصة حب وردت عنها إشارات ضعيفة]. قبلت الطلب على الفور [يا للمبالغة!!]، حين كتب لي في رسالة خاصة (مرحبا درية.. بتتذكريني). خفق قلبي بطريقة لم تحدث معي منذ سنوات [يا لل…!!]، منذ حلب، حين كان قلبي يخفق كلما دق حسين جرس باب بيتنا هناك، لتوصيل غرض ما، أو للسؤال عن أبي حين يكون في البيت. …. قد يستغرب البعض تواصلي مع المخطط والمدبر لقتل أبي. لقد قامت الحرب في بلدي، وابتلعت كل شيء، لهذا، ربما لن يتفهم أحد مشاعري صوب حسين، بسهولة. لم أتمكن من تأثيم ما فعله، فأنا أعيش حالة فقدان البلد…. بل ربما شعرت بشعور غامض من الارتياح، لأن أبي مات ودفن في بلده… في عمقي، كنت أشعر بأن حسين لم يكن شخصاً سيئا، ولم يكن مجرماً، كانت دوافعه نبيلة، كان ثائرا ضد كل من يؤذي الأمهات الطيبات…. هل أنا ابنة عاقة؟” (ص257- 259)، شيء غير معقول، وغير مقنع، ومخالف للفطرة البشرية، أن تتحدث ابنة المقتول عن المتسبب في قتل أبيها هكذا، أبوها الذي وقف معها إذ أوصى بأن تكمل دراستها، وتحقق أمانيها كلها، بل ولا تعتبره مجرما، بالاعتماد على فكرة نسوية مبالغ فيها، هذا التناقض.. سبب آخر للدهشة!!
( 9)
ينحصر الشبه بين شخصيتي حسين وراسكولنيكوف في ارتكاب كل منهما جريمة قتل، فقط، وبوجود اختلافات عدة، منها: شخصية المقتول، ودافع جريمة القتل، وتأنيب الضمير.
( 10)
قد تصل الى حد الحكم عليها بـ “هذه ليست رواية”، الموضوع في عنوان رسالة الناشر.
(11 )
لم تنتهِ الرواية؛ لسبب بسيط جدا، هو: استمرار نسقها التأليفي!
( 12)
رواية (سابع أيام الخلق) للروائي العراقي عبد الخالق الركابي.
( 13)
في رواية (الراويات)، للمؤلفة نفسها، يوجد فهرست.
( 14)
والمهيمنة الأولى هي المرأة، المرأة والحرب مشتركان بين الروائية السورية مها حسن والروائي العراقي مهدي عيسى الصقر