حوار/ إبراهيم الحجري
الجزيرة نت
تعتبر الروائية السورية المقيمة في فرنسا
مها حسن من الأصوات المجددة في السرد الروائي العربي، بفضل حسها ووعيها بالجماليات
السردية، وحرصها على الانزياح الشكلي في صياغة العوالم الروائية.
كما أنها أضافت إلى جنس الرواية العربية -باعتبارها امرأة كاتبة-
مضامين ذات خصوصية أنثوية قلما يغامر فيها الروائيون الذكور، وإن كانت هي تنفر من
هذا التصنيف.
وحصلت مها حسن على ليسانس في الحقوق من جامعة حلب،
ونشرت حتى الساعة ثماني روايات، هي "اللامتناهي-سيرة الآخر" (عام 1995)
و"جدران الخيبة أعلى" (2002) و"تراتيل العدم" (2009) و"حبل
سري" (2010) و"بنات البراري" (2011) و"طبول الحب" (2012)
و"الراويات" و"نفق الوجود" (2014).
فازت مها حسن بجائزة هيلمان/هامت الأميركية عام 2005، كما أنها وصلت
إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية مرتين (2011) و(2015) من خلال روايتيها
"حبل سري" و"الراويات".

"خُلقت لأروي"، هذه العبارة التي بدأت بها روايتي الأخيرة
(الراويات)، من هنا تتبدى أهمية الكتابة بالنسبة لي، فالعيش بالنسبة لي هو
الكتابة، تماما كما قلت في السطر الأول من الرواية: أعيش حياتين.. ووصفت نفسي
بالآلة الكاتبة. أعتقد أن الكتابة تمنح المرء حياة إضافية، ربما هي قدر أيضا.

""خُلقت لأروي"، هذه العبارة التي بدأت بها روايتي الأخيرة
(الراويات)، من هنا تتبدى أهمية الكتابة بالنسبة لي، فالعيش بالنسبة لي هو
الكتابة، تماما كما قلت في السطر الأول من الرواية: أعيش حياتين"
لا أعتقد أنني أدون الذاكرة، أنا أكتب الرواية، وهي فن متخيل في قسم
كبير منه، ينهل من المخيلة أولا، ثم يرفدها بالواقع والفكر والتحليل والذاكرة..
لهذا فإنني وكما تحدثت أيضا في (الراويات) أعيش حالة المنجم الكتابي، ثمة الكثير
بداخلي، وثمة إحساس دائم لدي أنني لم أكتب روايتي بعد.

في الوقت الحالي اشتغالي مركّز على الرواية، شغفي الأساسي، لكن هذا لا
يمنع أبدا من طرق أبواب مغايرة، على العكس تماما، حيث كما أجبتك من قبل، عن كتابي
أو روايتي التي لم أكتبها بعد، قد يكون ذلك الكتاب، مسكوبا في جنس جديد علي لم
أكتبه من قبل، القصة أو ربما الرواية السيرية.. بالإجمال، نعم، أفكر بالانفتاح على
أجناس أخرى، لكنني لا أعرف متى أفعل.

أنا ابنة هذه المنطقة، لدي مخزون هائل من حكاياتها، ومتأثرة بثقافتها،
دون أن ألغي أثر العيش الغربي علي، والذي فتح لي كذلك آفاق الثقة بذاتي الكتابية،
ومنحني الإيمان بالكتابة دون طابوهات إبداعية. تذكر ربما أنني قلت في روايتي
"حبل سري"، أن المستقبل للرواية المشرقية، لأن منطقتنا غنية بالروح
والجدل، منطقة حيوية رغم العنف والجهل والحروب والاستبداد.. لكنها غنية بالإنسان
وشغفه الدائم للتطور والتعلم إبداعيا، أشعر أن منطقتي الروائية تكمن هنا، في الكشف
عن ثراء الإنسان شبه الفطري، الإنسان الذي لم تخربه بعد الحضارات، ولم تتلفه
الماكينة والتكنولوجيا.
"أنا ابنة هذه المنطقة، لدي مخزون هائل من حكاياتها، وأنا
متأثرة بثقافتها، دون أن ألغي أثر العيش الغربي علي، لأنه فتح لي كذلك آفاق الثقة
بذاتي الكتابية، ومنحني الإيمان بالكتابة دون طابوهات إبداعية"
أذكر للتو كتاب "تدهور الحضارة" وأشعر أننا في العالم العربي
بكامل إثنياته وتعقيداته، من عرب وكرد وأمازيغ وموازييك إنساني هائل مصهور في
مفاهيم قديمة لم تتطور، لدينا الكثير -كروائيين وشعراء ونقاد وباحثين- الكثير من
العمل، لدينا مساحات لم يشتغل عليها أحد، لهذا فأنا "مهجوسة" إن صحت
اللفظة بأبناء هذه المنطقة وبناتها.

وُلدت في مجتمع نسائي حكّاء.. في منزل تحكمه ثلاث نساء يتبادلن السلطة،
ويتنازعنها، وقد تناوبن على تربيتي، وتنازعن علي، إلى أنني حتى اليوم، أحاول إيجاد
صيغ توفيقية لأعبّر عن ولائي لهن معا، دون تعارض أو نزاع.
جدتي لأبي، مربيتي الذهنية، امرأة عُرفت بالحكمة، وكانت تُدعى إلى
مجالس الرجال حتى لفض النزاعات. كانت امرأة قليلة الكلام، صوفية إلى حد ما، كردية
لا تجيد من العربية إلا السور القرآنية. علاقتها بي استندت إلى القص والنُصح غير
الفج، والكثير من الحب، ثم جاءت ابنتها، عمتي، التي كانت طموحة ومتمردة ضمن محيطها
الضيق، لكن المجتمع هرسها وأقفل عليها داخل بيوت تقليدية، فماتت شابة، ولا تزال
ملهمتي عن النساء الرافضات لقدرهن، حتى أنني أظن أنها ماتت برغبتها، ماتت كرفض
للحياة المملة والعادية.
وأخيرا أمي، مورثتي للسرد.. أمي امرأة لا تكف عن السرد، ولولا أنها
أمية ولا تجيد الكتابة ولا تقرأ سوى في فنجان القهوة الذي فتح مخيلتي باكرا
لنازعتني على الكتابة.
"أعتقد دون تعصب، أن الكون أنثوي، وأن الإبداع هو المرأة.. لنعد
إلى قصة الخلق الأولى.. حواء هي صاحبة الفضل على البشرية في تجربة العيش"
ثم دخلت حياتي نساء أخريات طبعا، والسلسلة لا تزال مستمرة.. نساء أتلفن
هناءتي، وهن يستنجدن بي لأحكي وجعهن، نساء قُتلن غدرا بسبب ما ندعوه في الشرق
بالشرف، نساء حُرمن من أحلامهن وتطلعاتهن ورُمين في العتمة... هؤلاء ينغصن عيشي،
ويثقلن كاهلي، فأكتب، أكتبهن محاولة الغوص أكثر، في تاريخهن وتاريخي المتداخل..
حيث تاريخ المرأة لا يزال هو الطابو الكبير، وبالنسبة لي، إحدى حالات إلهامي.

هل نجوت فعلا في "الراويات" من خطر المسافة؟ أعرف أنني تورطت
في هذه الرواية إلى حد الخدر.. فوجدت "ساباتو" -بطلي- يوقع لي نسخة من
الرواية، باسمي أنا.. هذه الرواية سرقتني مني، وسمحت لنفسي بمشاركة بطلاتها قصصهن،
تذكر منذ المقدمة، وأنا أتحدث عن جدي، وأبي... كما لو أنني أريد أن أقول إن هذه
الرواية هي أنا المتعددة، المتوالدة.
حسنا، لن أكشف أسراري، لكن هذه الرواية أخذتني، ووجدتني مع
"الراويات" كراوية ألهث معهن، أفرح وأبكي، أخاف وأغضب... أحيانا تأتي
الكتابة الثانية، أي في مرحلة تدقيق النص ومراجعته، لأحاول زجر الروائية بداخلي،
فأخفف من حضورها، وهكذا أقيس مسافتي.. لكن في "الراويات" كان الزجر أقل.

لا أزال أندهش من هذه الأسئلة، كما لو أنه من الطبيعي أن تكون المرأة
أقل من الرجل.. أعتقد ودون تعصب، أن الكون أنثوي، وأن الإبداع هو المرأة.. لنعد
إلى قصة الخلق الأولى.. حواء هي صاحبة الفضل على البشرية في تجربة العيش، لولا
هواجسها وتشكيكها ورفضها للثابت، وإن كان النعيم، لما نزلنا على الأرض وخبِرنا
الحياة... لهذا، فأنا أعتقد بتفوق المرأة الإبداعي في الأصل، وما هذه المحاولات
القليلة التي تظهر، سوى إعادة الاعتبار لإبداع المرأة.
"حين تتحرر المرأة من استرضاء الرجل، وتستعيد سلطتها على ذاتها
وعلى العالم، سنجد الكثير من المفاجآت في الإبداع.. لا نزال في البدايات الخجولة"
المشكلة تكمن في الكليشيهات التي حبست المرأة ذاتها، فراحت تنتج أدبا
يطبطب للرجل.. حين تتحرر المرأة من استرضاء الرجل، وتستعيد سلطتها على ذاتها وعلى
العالم، سنجد الكثير من المفاجآت في الإبداع.. لا نزال في البدايات الخجولة، وهذه
الأصوات التي نسمعها ونقول بتفوقها، ليست إلا عينات بسيطة.

ربما بسبب انتشار جوائز الرواية في العالم العربي، ثمة سوق تميل لإنتاج
الرواية، وثمة ميل لدى الناشرين العرب خاصة في استقطاب الرواية، وهذا ينطبق أيضا
على الغرب.
الجوائز في الغرب كذلك تشد الاهتمام صوب الرواية أكثر، ولا ننسى أن
للشعر نخبويته، والرواية أكثر اقترابا من النبض الجماهيري، خاصة الرواية بالمعنى
التلقائي الدارج، أي الحكاية.
شخصيا أميل إلى الكتابة الجميلة، حتى مجرد مقال من ألف كلمة أو أقل،
يمكن أن يتمتع بجمالية تتفوق على كتاب نقدي أو رواية من ألف صفحة.. بالنسبة لي، لا
معايير ثابتة للإبداع، لكنها السوق -للأسف- من تحدد الهيمنة الأدبية وقانون
البضاعة الرائجة.

"الإبداع الذي يصمد، كأدب دستويفسكي أو كافكا أو كونديرا... هو
حفر طويل وشاق، لا علاقة له بالآنية التي تثيرها الجوائز والإعلام"
قد تساهم الجوائز أو المناسبات الاستثنائية في صناعة اسم ما، لوقت ما،
ولكن الأمر يشبه نجومية السينما والغناء.. نحصل على ظواهر مؤقتة سرعان ما يبتلعها
الزمن، أي أنه يمكن التحدث عن الموجة العابرة، أما الأثر الطويل، فمن النادر أن
تكتشفه الجوائز، أو أن تصنع الجائزة روائيا ما.. فالإبداع عملية تراكمية،
واكتشاف ظاهرة أو اسم أو تجربة، قد يكون لها أثرها السريع والحالي، إلا أنها تذوي مع
الزمن... الإبداع الذي يصمد، كأدب دستويفسكي أو كافكا أو كونديرا... هو حفر طويل
وشاق، لا علاقة له بالآنية التي تثيرها الجوائز والإعلام، دون أن يعني هذا استنكار
الجوائز أو الاعتراض عليها، فهي تساهم دون شك في تحريك المشهد الإبداعي والنقدي،
وهذا مهم جدا للكاتب والقارئ وللثقافة عموما.

إلى حد ما، أنا راضية عن المتابعة النقدية لكتابتي، هناك أسماء مهمة في
العالم النقدي كتبت عن أعمالي، ولكن موضوع التطوير أمر آخر.. فالإبداع عملية فردية
لا أعتقد أنها تتأثر بالخارج.. ربما يضيف الخارج المزيد من القلق والإحساس
بالمسؤولية، وهذا من وصفات الكتابة الحقيقية المشغولة بخوف وشغف معا، لكنه برأيي
لا يؤثر على تطوير الوعي السردي، إلا من حيث تفتيح آفاق النقد، أي النقد المتعلق
بأي نص، سواء كان النص المشتغل عليه نقديا هو نصي أنا أو نص غيري... شخصيا، أسمع
وأستمتع، ولكنني لا أحاول اتباع وصفات مهما كانت برأي الآخرين ناجحة، بل أجدني
متشبثة بعنادي، هذا العناد الذي حماني حتى اللحظة من الانجراف خلف رأي الآخر
الإبداعي أو وصفته للكتابة الناجحة.