هيثم حسين
يبدو انهمام الروائيّة السوريّة مها حسن بالتجديد في الصيغ التي تقدّم بها رواياتها، يتبدّى تمرّدها على القوالب الجاهزة التي باتت مقيّدة في الرواية، كأنّها تبحث عن لغز تسعى إلى حلّ شيفراته مع القرّاء الذين لا تبقيهم متلقّين فقط، بل تُشركهم في عمليّة البحث عن الدلالات والأبعاد المتضمّنة، لا ترتكن إلى تلك الطرق التي تُكتَب بها الروايات عادة، سواء من ناحية تقسيمها على فصول متسلسلة، أو سردها على لسان رواة بعينهم.
أو من ناحية الالتزام بالعناصر المتعارَف عليها في كتابة الرواية، إذ تخرج عن ذاك التسلسل المختصَر في: المقدَّمة، الحبكة، الحلّ. فقد تبدأ بحبكة ثمّ تبدأ بالبحث عن خيوطها، وتنتهي إلى مقدّمة متأخّرة، أو لا يهمّها أن تثبت مقدّمة أو انفراجاً للحوادث والمجريات التي لا تصل إلى ذروة التأزيم عندها، هذا لا يعني غياب التشويق، ذلك أنّ التشويق والإثارة والغرائبيّة تكون مبثوثة على مدار صفحات الرواية.. تحضر ثورتها الزمنيّة الاجتهاديّة في رواياتها، التي لا يكون الزمن فيها محدّداً ولا واضحاً، لا يقبض على الزمن فيها، إنّما تكون هناك خيوطا تكفل للمتابع بعض المتابعة والتقصّي، ثمّ تحرّضه على البحث عن مفاتيح للدخول إلى بوّابة الزمن الذي لا يكون نسبيّاً عندها، بل يكون دائريّاً التفافيّاً، أو لولبيّاً، يقود الحدث الأخير فيه إلى الأوّل ويحيل عليه، لتتكامل الأحداث متمّمة نسيج الرواية، التي تسير وفق خطوط متعدّدة منذ البداية، التي قد تكون نهاية الرواية الفعليّة، والبداية المفترضة لها.. هذا ما تطوّره في روايتها «تراتيل العدم» الصادرة حديثاً عن دار الكوكب/ الريّس، والتي تقع في 298 صفحة من القطع الوسط. ط1/نيسان 2009م.
تبتدئ الكاتبة في روايتها بمقولة لسوفوكليس: «مَن حلّ اللغز ذائع الصيت وكان أشدّ الرجال اقتداراً»، هي عبارة عن بيت من تراجيديا «أوديب ملكاً» حيث كانت منقوشة على ميداليّة، أهديت الميداليّة إلى فرويد من أحد تلامذته في أحد أعياد ميلاده. لا يقتصر الأمر على استشهاد وحيد، بل يتصاعد الأمر، لتكون ظلال فرويد حاضرة، مع كثيرين من المفكّرين والفلاسفة الآخرين، وذلك من خلال الاستشهادات الكثيرة التي تستشهد بها الكاتبة، وتثبتها كمراجع أو تذييلات، وهذا بدوره قد يثقل كاهل الرواية، من حيث تقريبها من الدراسة، بتثبيت الهوامش، التي بلغت أكثر من ثلاثين هامشاً وإشارة. كما أنّه، في الوقت نفسه، خروج وتمرّد على الطريقة الكلاسيكيّة في كتابة الرواية، بإجراء دمج بين الأجناس الأدبيّة والتنظيرات والاجتهادات الفكريّة والفلسفيّة..
قد تحيل مفردة «تراتيل» إلى جوانب دينيّة، لاسيّما أنّ الترتيل معروف في النصوص والأناشيد الدينيّة، كما قد تحيل عند إضافتها إلى العدم، أنّها تنشد العدم، أو تجعل منه أغاني يمكن إنشادها وترتيلها، أو أنّها مراثي الموت، حيث يكون الترتيل على الموتى نوعاً من التقدير لذكراهم مع إضفاء الأجواء الكنسيّة، أو العويل الصاخب.. وقد يكون ذلك نوعاً من التحايل على المعنى بقلبه، حيث ينقلب العدم إلى الضدّ عندما يغدو مضافاً إليه، لغة، يعرّفه معنىً، فيكون العدم فاعلاً عكس فعله المعروف عنه، أي يصبح وجوداً باللغة والرواية، وإن كان إلغاء لهذا الوجود مفرداً. وتكون التراتيل المعاد ترتيلها على مدار صفحات الرواية، كاملة حيناً ومُجتزأة أحياناً أخرى، منها هذا الترتيل الرئيس المتكرّر: «حذّرتك ألاّ ترتّل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تموت وتشمّ رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلاّ عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». ص10. كما يكون الحضّ على الترتيل يكون التحذير أيضاً مرافقاً له، ثمّ يتكرّر هذا الترتيل كثيراً، إمّا كاملاً أو مجتزأ، فقد ترِد منه جملة أو بضع جمل، وقد يرد كاملاً، ويغدو لازمة ترتّلها الشخصيّات التي يتباين تنغيمها، ويختلف إيقاع إنشادها وغنائها. من الصفحات التي يرد فيها الترتيل منقوصاً: «24، 60، 78، 134، 152، 275...».
منذ البداية يظهر حرص الكاتبة على إكمال ما بدأته في روايتيها السابقتين «سيرة الآخر، اللامنتهي»، «لوحة الغلاف، جدران الخيبة أعلى»، كأنّما تستكمل ثلاثيّة فكريّة، من خلال إكمال مشروعها الروائيّ، خاصّة في المقدَّمة التي تتشابه فيما بينها، من جهة مشاركة الشخصيّات الروائيّة للكاتبة في إنجاز روايتها، وحيرتها المثبتة في تذييل الرواية باسمها، تكتب في مقدَّمة «تراتيل العدم»: «في البدء كانت هذه الرواية لـ جدار، ثمّ انتقلت كتابتها إلى جوزفين، ولأسباب محض فنّيّة، أنجزت العمل باسمي أنا....». كأنّما الشخصيّات هي تسميات مؤنّثة أو مطوّرة لشخصيّاتها السابقة: «أدهم بن ورقة – يرقة، أو كريم الحاوي، أمين دالي»، وذلك مع إبقاء قارئها متأرجحاً بين الشكّ واليقين، بين بحث عن راوياتها في الفصول، وفي الواقع، وفي كلّ المَظانّ المحتملة، وانشغالا بالقراءة عنهنّ، فهي تُبقي الشكّ فاعلاً ومؤثّراً، عندما لا تنفي إمكانيّة العثور على الشخصيّات، كما لا تنفي خياليّتها، لتكون بالنتيجة، شخصيّات روائيّة، مركّبة من مزيج واقعيّ وآخر متخيَّل، تشارك في صنع الأحداث وكتابتها. «تتحوّل أزمنة القصّ، وتتعدّد مستويات القصّ، وتتبختر روايات العمل، وتختلط ضمائر الرواة بين حِرز، وإغماء، وسماء، ولا يستقرّ فعل القصّ على الثلاثة فقط بل يتدخّل كلّ مَن له باع في الرواية...». ص43.
تبقى الكاتبة وفيّة لفكرة تعدّد الرواة في العمل، عندما تسلّم مقاليد السرد من جوزفين إلى جدار أو إلى نفسها، لكنّ الأسلوب يبقى نفسه بين الراويات الثلاث حيث لا تنوّع في الأسلوب، ما يرسَّخ الظنّ بأنّهنّ وجوه متعدّدة في مرآتها الذاتيّة ذات الأبعاد الكثيرة، التي تعكس غنى الشخصيّة، القادرة على الإفصاح عن مكنونات النفس، وهي تعاود أكثر من مرّة ذكر الراويات الثلاث، سواء عند مبادلة السرد بينهنّ أو عند الحديث عنهنّ، ولا تخفي ظنّها بأنّ الاشتراك قد يكون مضرّاً، لكنّها تبرّر ذلك بالضرورة الفنّيّة والفكريّة، «وأنا أرى أنّه كما سار المثل «إذا تعدّدت الأيادي في الطبخة، احترقت!»، وأرى أيضاً أنّ الضرورة الفنّيّة والفكريّة تلزمني باعتماد مستويات القصّ الثلاثة ومراحله الثلاث، والاعتراف بكلّ ما جاء في المرحلتين السابقتين للقصّ». ص81- 82.
كما أنّها توجّه نقداً استباقيّاً إلى نفسها، على ألسنة الرواة، وهو أنّها تُنتقد على ولعها واهتمامها بتقديم الجانب الفكريّ في رواياتها على الفنّيّ، وهي بذلك تبرّر تصرّفها، وتردّ على نقّادها، ساحبة بساط الملاحظة منهم، متّخذة دور الكاتب والناقد معاً، لكنّها وهي تؤكّد ذلك، تعتمده ولا تبتعد عنه، يؤكّد ذلك دأبها على الاستشهاد بالمفكّرين والفلاسفة الذين تأثّرت بهم في كتابتها وتأويلها، حيث تكون الميثولوجيّات والتأويلات الفلسفيّة حاضرة، للتعليق على بعض السلوكيّات والتصرّفات، أو ربطها بأسطورة ما، أو وضعها في سياقها التاريخيّ، مع شرح لبعض تداعياتها، وذلك كلّه في سياق الرواية، تلميحاً وتصريحاً..
-الأسماء ودلالاتها:
كون هناك تركيزا، يكاد يكون مبالغاً، على استحضار الأسماء، يبلغ عددها حوالي مِائة اسم، تثبت دليلاً بها في نهاية الرواية، كملحق أوّل وثانٍ، تكون كلّها متحدّرة من الأم «أرض» ابنة أرضى ويرضى، والأب: «حِرث»، كأنّما يختصران حوّاء وآدم، ينجبان التوائم، اثني عشر توْأَماً، في حين يأتي المولود الثالث عشر ذكراً مفرداً «طُهر»، وكأنّه بتسميته بهذه التسمية قد يشكّل سبيل الخلاص للعائلة التي تحيا في قلعة واحدة، ولأجيال متعاقبة، حيث ينفرد بمسكن مستقلّ، ويفكّر بطريقة عقلانيّة، يكون العلمانيّ الوحيد الذي لا ينساق إلى استيهامات العائلة والآخرين حول قدرات أمّه الخارقة «أرض» التي تغدو محجّاً للزوّار يتبرّكون بها.
ترد الأسماء بشكل مدروس، حيث يكون الاسم دالاً على صاحبه، معنىً ومبنىً، فنجدها تبرّر سبب تسمية هذا أو ذاك، أو تعلّق عليها، فيكون الاسم صفة صاحبه، يكون وبَالاً على صاحبه إذا لم يكن مستحقّاً للاسم، أو مقدّراً ومُدركاً لأهمّيّة وثقل ما حُمّله: «حين وُلِد حِرز، ظلّ لعدّة أسابيع دون اسم، إذ لم تكن اسمه تستطيع إدراك أهمّيّة الاسم في حياة الإنسان، ولم يكن أبوه مهتمّاً بتسميته، لأنّه بإدراكه لأهمّيّة الاسم، لم يشأ المساهمة في تحديد هذا الكائن الذي لم يعرف مصدره، فهو إن أطلق عليه اسماً سيّئاً، حبس الولد فيه، وقد يكون ابنه، أمّا لو أطلق عليه اسماً هامّاً، فقد يسبغ عليه صفات لا يستحقّها مَن هو ليس بابنه....».. «فهمست في أذنه: أسمّيك حرز، لأحميك باسمك، من الوقع في أسر ما أسِرّ لي، إلى أنّه سيقع عليك، سوف تنسى ما قلته لك، وتتذكّر فقط أنّ اسمك هو حِرز..». ص31. كما قد يكون الاسم حامياً لا لصاحبه فقط، بل متعدّي ومتعدّد الحماية، فنجد أنّ نجمة تتحصّن بحرز، يحميها اسمه.
قد تكون الألقاب مستحضرة بالموازاة مع الأسماء: «وظهرت أفعوانة (وهذا لقبها الذي كانت تناديه بها أرض قبل أن تعرف اسمها)، فينقلب المعنى الذي تحمله حسب الشخصيّة التي تتّسم بها المسمّاة، وهي هنا، لا تظهر دوماً على أنّها شكل واحد أو أداء واحد، بل هي خليط من أفعال مندمجة، وشخصيّات مندمجة ورغبات وتكوينات». ص 52. وهي مع إيرادها لهذا الكمّ الكبير من الأسماء، تعترف بصعوبة الإحاطة بها كلّها، وتؤكّد أنّ الأبوين كانا يفشلان دوماً في تذكّر أسماء أبنائهم حسب تسلسل ولاداتهم، وكانا يخطئان في مناداتهم بأسمائهم في كثير من الأحيان، ولم يكن الفشل حال الأبوين فحسب، بل كان من نصيب الإخوة كذلك، حيث كانوا يحتاجون إلى دليل بالأسماء مع الصور، كي يتمكّنوا من مناداة الشخص المطلوب باسمه الصحيح. وتنتقل عدوى الفشل إلى القرّاء الذين يعاودون الرجوع إلى دليل الأسماء كي يربطوا بينها، ويستخرجوا العلاقات التي تتطوّر على إثرها.. فقد يتغيّر الاسم تبعاً للحالة، وقد يحوّل أحدهم اسمه أو يتلاعب به، «حوّلت اسمها من سيما إلى سيمياء..». ص205. تنتقل الدلالة إلى الترميز والتلغيز، فلا تعود الأسماء دالّة بل مرمزة ومتشظّية في آن.. تصبح هناك أسماء سرّيّة وأخرى معلنة..
لا يخفى الضجيج الذي تخلقه كثرة الأسماء للقارئ، ولا تبدو الكاتبة لا مبالية إزاء القارئ، بل تأخذ نفسيّته بعين الاعتبار، تعلن أنّها بصدد إراحته، وتخفيف العبء عنه، تتكلّم إليه مباشرة، مزيحة الستار بينها وبينه، غير متخفّية خلف راوياتها، تلخّص له بإيجاز مُجملَ ما مرّ وما سيمرّ معه، كي يكون على اطّلاع في إبحاره في عوالمها الروائيّة: «يستطيع القارئ الآن، الاسترخاء، من ضجيج الأسماء والأحداث، قبل أن يدخل إلى الفصل الثالث، لأنّه بعد أن كان الفصل الأوّل، هو التعريف بالأسماء/ أو الأشخاص، وجاء الفصل الثاني للتعريف بالأحداث، سنبدأ في الفصل الثالث بالرواية، وكلّ ما سبق كان تمهيداً للرواية، التي تبدأ الآن، شدّوا الأحزمة سنقلع في الصفحة التالية». ص210.
كما يكون هناك استحضار التأويل والحلم، الفكر والوهم، الدين والعلم، وكلّها في سياقات روائيّة، وعلى ألسنة الرواة والشخصيّات، كأنّما تقدّم الكاتبة شيئاً من كلّ شيء، في محاكاة روائيّة لرائعة ماركيز «مِائة عام من العزلة»، حيث الأجواء الغرائبيّة السحريّة والساحرة، وحيث التناسل والانئِسار لسلطات خارجة عن المألوف، ما يؤدّي إلى فناء واندثار الشخصيّات، فلا تعود القلعة التي تجمع الجميع وحيدة وشامخة، بل تتثنّى وتتثلّث، تخرج عن المسار المحدّد لها، يكون ذلك إنذاراً بالكارثة الوشيكة الوقوع، كما يكون تمهيداً للعدم كنتيجة حتميّة. يكون كلّ ما سبق من الألغاز مقدّمات للفناء.. يكون قائد الأوركسترا الذي تجري أحداث الرواية على خلفيّة مشهد احتراقه، ضحيّة الضحايا، يقود عشرات الشخصيّات ويملي الأحداث التي كانت مصدر الآلام لهم جميعاً..
أجيال متعدّدة تتكاثر، تنقل العدوى من جيل إلى آخر، لكنّ جينة الجنون والتخبّط تكون الأكثر فاعليّة.. فحِرز حفيد حِرث الذي يرث منه ثلثي اسمه، يتعرّض لتغيّرات مفاجئة تجتاحه، تقلبه رأساً على عقب، تحوّله من شخص إلى آخر، يقبع الجنس خلفيّة لتلك التغيّرات التي تبدو مفاجئة، لينتقل من خوّاف من كلّ شيء، من ناقم على «ذاكه»، عضوه الصغير الذي أشبه ما يكون بزائدة لحميّة أو دودة ملتصقة به، إلى عاشق للجنس، فاتح الفتوحات فيه، منتقل من واحدة إلى أخرى، في لعبة الأنوثة والذكورة، التي تتحوّل إلى فحولة، حيث يكون خوافه مَرضيّاً، يغدو تعويضه أكثر مرضيّة.. كما أنّ هناك الكثير الكثير من الأحداث والوقائع والحكم والعبر تقدّمها الكاتبة في روايتها، عبر الأسماء والأحداث تارة، وبشكل مباشر من دون تورية أو مواربة تارة أخرى..
«تراتيل العدم» لمها حسن، روايةٌ لتواريخ نمَتْ في الظلّ، وألقت بظلالها على كثيرين.. رواية الأسماء؛ الدوالّ والمداليل، محاولة لاختصار سير ومراحل عديدة.. تسرد التطوّر المفترض المهمّش، عبر التغلغل في قلب الصراعات والخرافات والأساطير، عبر وصف حالات متباينة، تتكامل لتنتج عالماً روائيّاً سحريّاً ثريّاً.. عن جريدة الاتحاد