تحطيمُ جدرانِ الخيبةِ وتطويعُها
هيثم حسين
من «سيرة الآخر اللامتناهي» إلى سيرة الخيبة اللامتناهية بدورها، من سيرة الانقسام والتشظّي إلى سيرة الذوات الملغزة، سيرة القهر المتراكم، سيرة الأسى المستديم، سيرة الوجع المزمن.. وسير أخرى محاذية وموازية ومتقاطعة.. كأنّي بالكاتبة والروائيّة السوريّة مها حسن، في روايتها «لوحة الغلاف – جدران الخيبة أعلى»؛ «روايتها الثانية الصادرة عن دار عبد المنعم – ناشرون ط1/2002»، تستكمل «سيرة الآخر اللامتناهي»؛ «روايتها الأولى الصادرة عن دار الحوار ط1/1995»، من دون أن تحدّد له نهاية، أو بداية، إذ أنّ الآخر غير المعروف، يقترب من الواجهة، ولكن تحت مسمّيات أخرى، مع الاحتفاظ بكثير من الصفات السابقة، التي تتوسّع مداليلها، لتشمل بدائرة الاحتواء نماذج متباينة من البشر، تمارس إسقاطاً واعياً، تغوص في أعماق أنواتها، التي تحيلها ذوات شبه مستقلّة، ترتبط كلّها بخيوط لا مرئيّة بالشخصيّة المركزيّة، التي تلغّم كلّ شخصيّة تتفرّع عنها بطبائع وصفات تميّزها عن غيرها، تتقاطع معها من خلالها، لتستقلّ، أو ربّما تعيّشها وهمَ الاستقلاليّة الروائيّة، تختلق لكلّ منها ماضياً، وتختار له أحلاماً وتضع له مخطّطات ومشاريع مستقبليّة.. رغم اختلاف روايتها «لوحة الغلاف..»، عن «سيرة الآخر اللامتناهي»، لكن يستشفّ منها أنّها جزء غير معلَن لها، من حيث امتداديّة الشخصيّة، فأدهم بن ورقة، المتشظّي في الأزمنة والأمكنة، غير المحدّد تاريخ ميلاده ولا تاريخ موته، حيث أنّه يتناسل من نفسه، يتبعّض، يكون تارة نفسه، وتارة أخرى، يتحوّل أو يترقّى إلى أدهم بن يرقة، وفي كلّ مرّة تختار له ميلاداً جديداً، يتقمّص اسمه آخرين، يتوالد، يتجدّد. وكذلك كريم الحاوي يكون الفرد الجامع لكثيرين، يختصر أكثر من كريم، كأنّهم كلّهم انعكاس لاسم الكاتبة الذي هو جمع «مها» حيث تبدو وكأنّها تختصر أكثر من مهاة أو تنطوي عليها، وكأنّها باختيارها لشهرة الحاوي، تومئ أنّه يحوي جمع شخصيّات، تشي بذلك صفاته التي المتناقضة، وهناك أيضاً المقدّمة المتشابهة في الروايتين، حيث تحرص الروائيّة على الإرباك بقدر ما يُظنّ أنّها إنّما توضّح، حيث توحي أو تُوهم أنّها تكتب سيرة معيّنة، ذاكرة مصادر سيرتها، ومعلنة عنها.. ويستمرّ التضادّ فاعلاً ومؤثّراً في روايتها، كما في شخصيّاتها، فالحكمة التي بدأت بها روايتها الأولى على لسان أحد أداهـ:«مها»؛ «أدهم بن ورقة» الذي يكون وجهاً متعدّد الانعكاس والتمرئي متداخلاً مع كرائـ:«مها»: «الحياة قائمة على التناقض والتضادّ، لا على التماثل والتوازي».
يتبدّى ذلك بوضوح من خلال الثنائيّات التي تكثر منها، أو الازدواجيّات المتوالية التي تتواتر وتترى في الرواية، عملاً بمقولة إنّ الضدّ يظهر حسنه الضدّ، ومن تلك الثنائيّات العكوس: عالم الخارج في مواجهة عالم الخارج، ومن ذلك ما تقوله، عندما يدخل كريم الحاوي؛ بطلها، أو ندّها، أو المسكون بأفكارها وعوالمها، لباسه، أو عندما يخرج منها، على عكس المتعارف عليه من لبس للثياب أو شلح لها، «خرج كريم من بنطاله» ص62، وفي مواضع أخرى كثيرة، وكذلك، عالم الداخل، بمواجهة عالم الخارج، الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، والخارج بتملّقه ومسايرته وتراضياته واسترضاءاته. كذلك تحضر ثنائيّة الضوء والعتمة في أكثر من فصل في الرواية، وتكون هناك عتمة داخليّة وأخرى خارجيّة، وعلى العكس، يكون هناك ضوء داخليّ وآخر خارجيّ، وكلاهما يتداخلان ويتشابكان في عالم يجمعهما، مستخدمة في الوقت نفسه الفعل أنار وأضاء، تقول: «عندما دخلت عايدة غرفتي، وأضاءت النور، ظننت أنّ عايدة قد أضاءت نوراً بداخلي، تماماً بضغطها على زرّ الضوء، فانتشر ضوء لا أعلم مصدره تماماً، أمن الضوء الخارجيّ، أم من الداخل؟ وتغيّرت معالم الأشياء، أجل، هناك أشياء تتبدّل في الظلام، وتأخذ هيئات مختلفة في كلّ من العتمة والنور». ص64. كما أنّ هناك تقاطعاً رئيساً بين ثنائيتي الذكورة والأنوثة، لأنّها تُبادِل السرد بين المذكّر والمؤنّث، تارة تسرد على لسان كريم الحاوي، أو على لسان أمين، وتارة على لسان عايدة، أو خالدة، أو أيّة شخصيّة أخرى، وأحياناً كثيرة يكون هناك خلط بين متحدّثين، فيكون كريم متحدّثاً مع نفسه، وعايدة أو خالدة أيضاً متحدّثة مع نفسها مناجية وحدتها، مبدّدة الاستيحاش من حولها، «كان كريم الحاوي/ الذي هو أنا على ما يبدو أنا/ لم يندمج مع شقّه الثاني، لأنّه ـ بعيداً عنه ـ لا زال يبحث عن تفسيرات لتلك الأحاسيس المختلفة والمتناقضة..». ص68. ثمّ تصعّد من الحديث عن ذلك عندما تمارس نوعاً من الإيهام مبلبلة بعض اليقينيّان المترسّخة حول الذكورة والأنوثة، ناقلة الأنوثة من حالة إلى أخرى، «الأنوثة حالة داخليّة توحي للرجل بالسلوك الخارجيّ، نحن الرجال أغبياء، تستعمرنا النساء من الداخل، وتوحي إلينا بأنّنا الفاعلون، نحن أداة تنفيذ فقط، والمرأة هي المقرّرة الحقيقيّة…». ص72. ولا تغيب ثنائيّة الحاضر والماضي، والمعلوم والمجهول، المألوف واللامألوف، المرئيّ واللامرئيّ، الظاهر والخفيّ، يظهر ذلك بوضوح المقطع التالي المرفق كنموذج استشهاديّ: «كأنّ شخصاً يختبئ بداخلي، وجوده غير مرئيّ، ولا محسوس، له حياة كاملة تجري داخل حياتي، فكأنّ لي حياتين، واحدة معروفة، وهي التي أحملها وأعرفها، وأقدّمها للآخرين، ولي، وهي المألوفة، كونها ظاهريّة ومباشرة، وواحدة مطمورة تحيا في البعيد، تنتمي لعصور سابقة جدّاً، أو لاحقة..». ص81. وتكثر الكاتبة من ذكر الثنائيّات والمتقابلات، وتسهب في التعليق عليها، معتمدة تفلسفاً لا ينقطع على طول الرواية، من ألفها إلى يائها، حيث يكون علم النفس حاضراً، ولكن بمناقشات روائيّة مستفيضة، تقّدم من خلالها رؤى انقلابيّة ثوريّة باحثة عن إجابات لا تروي ظمأها، وفضولها الروائيّين، من خلال الأسئلة التي تصوغها وتعرضها على ألسنة شخصيّاتها، مستنكرة، صاخبة، ساخطة، متمرّدة، مستجنّة، تبحث في الوجود وغاياته، تظهر من خلالها مأخوذة بالعبث الوجوديّ، مناقشة الجدوى واللاجدوى من الحيَوات، متفائلة ومتشائمة، هادئة وثائرة.. كأنّها تكتب شيئاً من كلّ شيء، تطرح رؤوس أفكارها، لتكون ألغاماً في حقل الكتابة الروائيّة، التي تجتهد فيها الكاتبة، محاولة تقديم إبداعها، مبتدئة بالثورة على المفاهيم التجنيسيّة للأدب، تلك التي تصنّفه وفق ذكورة أو أنوثة، ومستهجنة أن يكون هناك إبداع مختلف، بل داعية إلى توحيد المصطلح والاكتفاء بمناقشة المطروح من دون أن يكون هناك انسياق وراء ضباب الرائج أو سراب المتجذّر على كره.. تقول في مقدّمتها حول ذلك: «فإذا راج اصطلاح الكتابة عبر النوعيّة، الذي يأخذ بالاعتبار نوعيّة الجنس الأدبيّ ووحدته في العمل، من قصّة أو رواية أو سيرة، فإنّ كريم يطمح إلى تكريس اصطلاح آخر هو الكتابة عبر الجنسيّة، فلا يأخذ النقّاد والقرّاء الاعتبار بجنس الكاتب، من ذكر أو أنثى، لأنّ الإبداع ليس ذكوريّاً فحسب، أو أنثويّاً فحسب، وإذا كان كريم قد كتب هذا العمل بقلم مها حسن، فلا فرق إن كان المؤلّف مها أو كريم أو أدهم..». ص4.
لعبة التعاريف:تعيد الكاتبة تعريف بعض المفاهيم وفق رؤاها الخاصّة، وتنظيراتها الروائيّة، تذكّر في ذلك بسليم بركات في تعريفاته، ولكن بلغة أكثر سلاسة، وأقرب إلى القارئ، فنراها تعرّف الصمت على أنّه صوت مكثّف، صوت مضغوط، يتحوّل إلى لا مسموع. ص29. لكنّ هذا الصمت يتحوّل في القسم الأخير من الرواية إلى حالة مخيفة، إلى موتٍ محتّم، «أنا أيضاً أهاب الصمت وأخافه، كما يهاب كلّ إنسان الموت، الصمت يشبه الموت بالنسبة لي، فكما أنّ الموت يخفي بعده حقائق بعد الموت، لأنّ أيّاً من الموتى لم يعد إلى الحياة لينقل لنا ما تمّ معه، وكذلك الصمت يخفي بعد، بُعده..». 306. وعندما تتحدّث عن العزلة، تختلف في ذلك عن عزلة باشلار الفلسفيّة، رغم لأنّ العزلة التي تقول بها هي فلسفيّة أيضاً، ولكنّ من جانب روائيّ فيه بعض الشطط، حيث تكون العزلة مكتوبة كقدر للإنسان لا فكاك منه، «العزلة قدر الإنسان» ص46، كأنّها بذلك تضعه في موازاة ومساواة مع الموت الذي هو أيضاً قدر لا مفرّ منه. وعندما تتحدّث عن التاريخ، تكون لشخصيّاتها تنظيرات مختلفة حوله، حيث التشاؤم سمة بادية بجلاء، تتّفق مع سارتر عندما تستعير مقولته حول التاريخ لتدعم رأيها، أو كأنّها تشرح وتفصّل في مقولته: «إنّ تاريخنا هو تاريخ إخفاق..»، عندما تكتب: «إنّ التاريخ العام للإنسان، تاريخ فاشل، السعادة فيه حالات استثنائيّة، الولادة أصلاً هي حالة إخفاق، صدمة الوجود.». ص52. ويكون لها/ لشخصيّاتها رأي مختلف عن الكسل والغناء والموسيقى والفنّ والحداثة، فنجدها تعرّف الكسل على لسان شخصيّتها: «الكسل حالة فكريّة وليس رفاهيّة..». ص86. مُضفية أبعاداً أخرى على حالات الكسل المعروفة. كما نجد كريم الحاوي يعرّف الغناء الذي تقوم به بأنّه انشغال أو تهرّب من الوحدة والوحشة، أي يتكفّل بتبديد وحشة الذات، ويؤمّن الاجتماعيّة التي هي نقيض السجن الداخليّ، أو الانعزال، على اعتبار أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ: «الغناء الذي تقومين به في وحدتك، هو حالة انشغال قصديّة عن التفكير… الغناء مثل الآخرين، ليست له مزايا جماليّة بقدر ما له ميزة إشغال الإنسان ليسلّيه في علاقته مع ذاته فيسلو عنها ويسهو، الغناء حالة جماهيريّة، تستدعي وجود الآخر، أي تستدعي الاحتكاك بالآخر».ص86. أمّا الموسيقى، فيكون لها مفعول آخر، مختلف عن الغناء، يكون لها تأثير بنّاء: «الموسيقا ترمّم انهيارات الذات، وتساعد على الوحدة مع الذات، والتسلسل في بنائها..». ص87. وعن الحداثة يكون هناك خروج عن المألوف أيضاً، فتكون الحداثة حالة شخصيّة داخليّة: «الحداثة يا أمينو هي الحداثة الداخليّة، التحرّر من عقد الموروث..». ص110. ثمّ تتبعه بتعريف آخر: «الحداثة هي الطعم الذي لا يفسد، بل يظلّ طازجاً على الدوام، وليست الحداثة مرتبطة بزمن معيّن، الحداثة ليست حالة زمنيّة، بل حداثة داخليّة، والداخل ليس له زمن كما تعرف..». ص111. وتتوالى التعريفات التي تتناول جوانب من الحداثة، أو تشمل المفهوم بشكل عام، تجعلها معنى، «الحداثة هي المعنى..». ص114. وتجعلها الأنا: «الحداثة هي الأنا..». ص115. هكذا تتوارد التعاريف المتباينة المتعدّدة، حتّى تصل إلى الخيبة، التي هي المدماك الذي تقوم عليها «لوحة الغلاف»، فجدران الخيبة تعلو وتعلو، غامرة الشخصيّات التي تنأسر لها، بل تصل إلى مرحلة قد تنشغف بها، ونجد الكاتبة تثبت تعاريف الخيبة، بطريقة مدرسيّة، عدا تعريفاتها الأخرى التي توزّعت هنا وهناك، وبنوع من المباشرة، على عكس التعاريف والتنظيرات الأخرى التي تخلّلت الحوارات والنقاشات التي كانت تديرها، فالخيبة تعرَّف على أنّها: «.. هي الوقوف على حافّة تفصل بين عالمين، اليأس والأمل، وهي تعني انتهاء الأمل ومغادرته تماماً، ولكنّها قبل الوقوع في اليأس.. – الخيبة هي إرث فكريّ مستمرّ، يتوالد في الأجيال. – الخيبة حالة فكريّة. – الخيبة صدمة انفعاليّة. – الخيبة صدمة فكريّة.». ص123. وكما بدأت بالخيبة فإنّها تختم بها أيضاً، وذلك عندما تثبت في الهوامش ما يدعم اشتغالها على الخيبة، وتفرّعاتها وتنوّعاتها، عندما تكتشف أنّ هناك فعلاً في اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة يعني التعذيب بالخيبة، ثمّ يكون هناك استشهاد بأسطورة يونانيّة، تدعم اجتهاداتها الروائيّة المشتغلة على الخيبة، محيطة بها إحاطة ثلاثيّة الأبعاد، مُرقّية الخيبة إلى تخييب، من دون أن تخيّب ظنّ القارئ في رواية تحقّق الآمال المعقودة منها: «إنّ أسطورة تاتنالوس من أساطير الشمس والفجر، إنّ تاتنالوس رمز للشمس، وقيل إنّ مثلاً قديماً قال: إنّ تاتنالوس يذبح ابنه ويشويه، ليدلّ القائل عن اليوم الذي تشتدّ فيه حرارة الشمس، فتذبل فيه الأشجار وتجفّ الفاكهة..! فكيف يصبح لفعل التعذيب بالتخييب أسطورة شمسيّة..! ألأنّ الشمس حالة خيبة، أم أنّ للخيبة جذوراً ضوئيّة، لم أعثر عليها بعد..؟!». ص 3535 -354.
إنّ «لوحة الغلاف» لـ مها حسن، تتّسم بالمناجَياتيّة، تركّز على لغة الدواخل، وما يعتمل فيها، كما تؤمن بدور الفرد في التغيير المنشود، وتختار الفردانيّة سبيلاً إلى التفرّد الذي يقود عملية التغيير الجذريّ، يؤكّد ذلك إهداؤها روايتها إلى «ذلك الفرد» وهي عبارة «كيركجور».. كما تعتني بالأبعاد وانطلاقتها في الأمداء والجهات، وتثير كثيراً من الأسئلة الفلسفيّة، بطريقة تبدو أن لا إجابة عليها، أو تحتاج إجابات كثيرة لتقترب منها، وذلك من خلال الشخصيّات التي تبدو وجوهاً ومرايا بعضها، سواء كانت ذكوريّة أو أنثويّة، من خلال حالات التقمّص والتماهي والتنكّر.. ومن تلك الشخصيّات: «كريم الحاوي/ أمين دالي، إبراهيم استانبولي، عايدة، خالدة،…إلخ». هي رواية مسكونة ومهجوسة ومأخوذة بهموم وجوديّة وعبثيّة، تجسّد الخيبة لتبدّدها، تمجّدها لتلعنها، تلهج بها في مسعى للقضاء عليها.. تحطّم جدران الخيبة، تلاينها، تسايرها، حتّى تتمّكن من تطويعها، وحَرْفها عن مسارها، قبل أن يكون لها وقعها أو أثرها في التخيّب، أو التخييب.. وأجزم أنّها لم تلقَ بعد حظّها من القراءة والنقد، كون النسخ المطبوعة منها قليلة، ووزّعت في إطار ضيّق..
الأوان تاريخ النشر الثلاثاء 7-4-2009
هيثم حسين
من «سيرة الآخر اللامتناهي» إلى سيرة الخيبة اللامتناهية بدورها، من سيرة الانقسام والتشظّي إلى سيرة الذوات الملغزة، سيرة القهر المتراكم، سيرة الأسى المستديم، سيرة الوجع المزمن.. وسير أخرى محاذية وموازية ومتقاطعة.. كأنّي بالكاتبة والروائيّة السوريّة مها حسن، في روايتها «لوحة الغلاف – جدران الخيبة أعلى»؛ «روايتها الثانية الصادرة عن دار عبد المنعم – ناشرون ط1/2002»، تستكمل «سيرة الآخر اللامتناهي»؛ «روايتها الأولى الصادرة عن دار الحوار ط1/1995»، من دون أن تحدّد له نهاية، أو بداية، إذ أنّ الآخر غير المعروف، يقترب من الواجهة، ولكن تحت مسمّيات أخرى، مع الاحتفاظ بكثير من الصفات السابقة، التي تتوسّع مداليلها، لتشمل بدائرة الاحتواء نماذج متباينة من البشر، تمارس إسقاطاً واعياً، تغوص في أعماق أنواتها، التي تحيلها ذوات شبه مستقلّة، ترتبط كلّها بخيوط لا مرئيّة بالشخصيّة المركزيّة، التي تلغّم كلّ شخصيّة تتفرّع عنها بطبائع وصفات تميّزها عن غيرها، تتقاطع معها من خلالها، لتستقلّ، أو ربّما تعيّشها وهمَ الاستقلاليّة الروائيّة، تختلق لكلّ منها ماضياً، وتختار له أحلاماً وتضع له مخطّطات ومشاريع مستقبليّة.. رغم اختلاف روايتها «لوحة الغلاف..»، عن «سيرة الآخر اللامتناهي»، لكن يستشفّ منها أنّها جزء غير معلَن لها، من حيث امتداديّة الشخصيّة، فأدهم بن ورقة، المتشظّي في الأزمنة والأمكنة، غير المحدّد تاريخ ميلاده ولا تاريخ موته، حيث أنّه يتناسل من نفسه، يتبعّض، يكون تارة نفسه، وتارة أخرى، يتحوّل أو يترقّى إلى أدهم بن يرقة، وفي كلّ مرّة تختار له ميلاداً جديداً، يتقمّص اسمه آخرين، يتوالد، يتجدّد. وكذلك كريم الحاوي يكون الفرد الجامع لكثيرين، يختصر أكثر من كريم، كأنّهم كلّهم انعكاس لاسم الكاتبة الذي هو جمع «مها» حيث تبدو وكأنّها تختصر أكثر من مهاة أو تنطوي عليها، وكأنّها باختيارها لشهرة الحاوي، تومئ أنّه يحوي جمع شخصيّات، تشي بذلك صفاته التي المتناقضة، وهناك أيضاً المقدّمة المتشابهة في الروايتين، حيث تحرص الروائيّة على الإرباك بقدر ما يُظنّ أنّها إنّما توضّح، حيث توحي أو تُوهم أنّها تكتب سيرة معيّنة، ذاكرة مصادر سيرتها، ومعلنة عنها.. ويستمرّ التضادّ فاعلاً ومؤثّراً في روايتها، كما في شخصيّاتها، فالحكمة التي بدأت بها روايتها الأولى على لسان أحد أداهـ:«مها»؛ «أدهم بن ورقة» الذي يكون وجهاً متعدّد الانعكاس والتمرئي متداخلاً مع كرائـ:«مها»: «الحياة قائمة على التناقض والتضادّ، لا على التماثل والتوازي».
يتبدّى ذلك بوضوح من خلال الثنائيّات التي تكثر منها، أو الازدواجيّات المتوالية التي تتواتر وتترى في الرواية، عملاً بمقولة إنّ الضدّ يظهر حسنه الضدّ، ومن تلك الثنائيّات العكوس: عالم الخارج في مواجهة عالم الخارج، ومن ذلك ما تقوله، عندما يدخل كريم الحاوي؛ بطلها، أو ندّها، أو المسكون بأفكارها وعوالمها، لباسه، أو عندما يخرج منها، على عكس المتعارف عليه من لبس للثياب أو شلح لها، «خرج كريم من بنطاله» ص62، وفي مواضع أخرى كثيرة، وكذلك، عالم الداخل، بمواجهة عالم الخارج، الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، والخارج بتملّقه ومسايرته وتراضياته واسترضاءاته. كذلك تحضر ثنائيّة الضوء والعتمة في أكثر من فصل في الرواية، وتكون هناك عتمة داخليّة وأخرى خارجيّة، وعلى العكس، يكون هناك ضوء داخليّ وآخر خارجيّ، وكلاهما يتداخلان ويتشابكان في عالم يجمعهما، مستخدمة في الوقت نفسه الفعل أنار وأضاء، تقول: «عندما دخلت عايدة غرفتي، وأضاءت النور، ظننت أنّ عايدة قد أضاءت نوراً بداخلي، تماماً بضغطها على زرّ الضوء، فانتشر ضوء لا أعلم مصدره تماماً، أمن الضوء الخارجيّ، أم من الداخل؟ وتغيّرت معالم الأشياء، أجل، هناك أشياء تتبدّل في الظلام، وتأخذ هيئات مختلفة في كلّ من العتمة والنور». ص64. كما أنّ هناك تقاطعاً رئيساً بين ثنائيتي الذكورة والأنوثة، لأنّها تُبادِل السرد بين المذكّر والمؤنّث، تارة تسرد على لسان كريم الحاوي، أو على لسان أمين، وتارة على لسان عايدة، أو خالدة، أو أيّة شخصيّة أخرى، وأحياناً كثيرة يكون هناك خلط بين متحدّثين، فيكون كريم متحدّثاً مع نفسه، وعايدة أو خالدة أيضاً متحدّثة مع نفسها مناجية وحدتها، مبدّدة الاستيحاش من حولها، «كان كريم الحاوي/ الذي هو أنا على ما يبدو أنا/ لم يندمج مع شقّه الثاني، لأنّه ـ بعيداً عنه ـ لا زال يبحث عن تفسيرات لتلك الأحاسيس المختلفة والمتناقضة..». ص68. ثمّ تصعّد من الحديث عن ذلك عندما تمارس نوعاً من الإيهام مبلبلة بعض اليقينيّان المترسّخة حول الذكورة والأنوثة، ناقلة الأنوثة من حالة إلى أخرى، «الأنوثة حالة داخليّة توحي للرجل بالسلوك الخارجيّ، نحن الرجال أغبياء، تستعمرنا النساء من الداخل، وتوحي إلينا بأنّنا الفاعلون، نحن أداة تنفيذ فقط، والمرأة هي المقرّرة الحقيقيّة…». ص72. ولا تغيب ثنائيّة الحاضر والماضي، والمعلوم والمجهول، المألوف واللامألوف، المرئيّ واللامرئيّ، الظاهر والخفيّ، يظهر ذلك بوضوح المقطع التالي المرفق كنموذج استشهاديّ: «كأنّ شخصاً يختبئ بداخلي، وجوده غير مرئيّ، ولا محسوس، له حياة كاملة تجري داخل حياتي، فكأنّ لي حياتين، واحدة معروفة، وهي التي أحملها وأعرفها، وأقدّمها للآخرين، ولي، وهي المألوفة، كونها ظاهريّة ومباشرة، وواحدة مطمورة تحيا في البعيد، تنتمي لعصور سابقة جدّاً، أو لاحقة..». ص81. وتكثر الكاتبة من ذكر الثنائيّات والمتقابلات، وتسهب في التعليق عليها، معتمدة تفلسفاً لا ينقطع على طول الرواية، من ألفها إلى يائها، حيث يكون علم النفس حاضراً، ولكن بمناقشات روائيّة مستفيضة، تقّدم من خلالها رؤى انقلابيّة ثوريّة باحثة عن إجابات لا تروي ظمأها، وفضولها الروائيّين، من خلال الأسئلة التي تصوغها وتعرضها على ألسنة شخصيّاتها، مستنكرة، صاخبة، ساخطة، متمرّدة، مستجنّة، تبحث في الوجود وغاياته، تظهر من خلالها مأخوذة بالعبث الوجوديّ، مناقشة الجدوى واللاجدوى من الحيَوات، متفائلة ومتشائمة، هادئة وثائرة.. كأنّها تكتب شيئاً من كلّ شيء، تطرح رؤوس أفكارها، لتكون ألغاماً في حقل الكتابة الروائيّة، التي تجتهد فيها الكاتبة، محاولة تقديم إبداعها، مبتدئة بالثورة على المفاهيم التجنيسيّة للأدب، تلك التي تصنّفه وفق ذكورة أو أنوثة، ومستهجنة أن يكون هناك إبداع مختلف، بل داعية إلى توحيد المصطلح والاكتفاء بمناقشة المطروح من دون أن يكون هناك انسياق وراء ضباب الرائج أو سراب المتجذّر على كره.. تقول في مقدّمتها حول ذلك: «فإذا راج اصطلاح الكتابة عبر النوعيّة، الذي يأخذ بالاعتبار نوعيّة الجنس الأدبيّ ووحدته في العمل، من قصّة أو رواية أو سيرة، فإنّ كريم يطمح إلى تكريس اصطلاح آخر هو الكتابة عبر الجنسيّة، فلا يأخذ النقّاد والقرّاء الاعتبار بجنس الكاتب، من ذكر أو أنثى، لأنّ الإبداع ليس ذكوريّاً فحسب، أو أنثويّاً فحسب، وإذا كان كريم قد كتب هذا العمل بقلم مها حسن، فلا فرق إن كان المؤلّف مها أو كريم أو أدهم..». ص4.
لعبة التعاريف:تعيد الكاتبة تعريف بعض المفاهيم وفق رؤاها الخاصّة، وتنظيراتها الروائيّة، تذكّر في ذلك بسليم بركات في تعريفاته، ولكن بلغة أكثر سلاسة، وأقرب إلى القارئ، فنراها تعرّف الصمت على أنّه صوت مكثّف، صوت مضغوط، يتحوّل إلى لا مسموع. ص29. لكنّ هذا الصمت يتحوّل في القسم الأخير من الرواية إلى حالة مخيفة، إلى موتٍ محتّم، «أنا أيضاً أهاب الصمت وأخافه، كما يهاب كلّ إنسان الموت، الصمت يشبه الموت بالنسبة لي، فكما أنّ الموت يخفي بعده حقائق بعد الموت، لأنّ أيّاً من الموتى لم يعد إلى الحياة لينقل لنا ما تمّ معه، وكذلك الصمت يخفي بعد، بُعده..». 306. وعندما تتحدّث عن العزلة، تختلف في ذلك عن عزلة باشلار الفلسفيّة، رغم لأنّ العزلة التي تقول بها هي فلسفيّة أيضاً، ولكنّ من جانب روائيّ فيه بعض الشطط، حيث تكون العزلة مكتوبة كقدر للإنسان لا فكاك منه، «العزلة قدر الإنسان» ص46، كأنّها بذلك تضعه في موازاة ومساواة مع الموت الذي هو أيضاً قدر لا مفرّ منه. وعندما تتحدّث عن التاريخ، تكون لشخصيّاتها تنظيرات مختلفة حوله، حيث التشاؤم سمة بادية بجلاء، تتّفق مع سارتر عندما تستعير مقولته حول التاريخ لتدعم رأيها، أو كأنّها تشرح وتفصّل في مقولته: «إنّ تاريخنا هو تاريخ إخفاق..»، عندما تكتب: «إنّ التاريخ العام للإنسان، تاريخ فاشل، السعادة فيه حالات استثنائيّة، الولادة أصلاً هي حالة إخفاق، صدمة الوجود.». ص52. ويكون لها/ لشخصيّاتها رأي مختلف عن الكسل والغناء والموسيقى والفنّ والحداثة، فنجدها تعرّف الكسل على لسان شخصيّتها: «الكسل حالة فكريّة وليس رفاهيّة..». ص86. مُضفية أبعاداً أخرى على حالات الكسل المعروفة. كما نجد كريم الحاوي يعرّف الغناء الذي تقوم به بأنّه انشغال أو تهرّب من الوحدة والوحشة، أي يتكفّل بتبديد وحشة الذات، ويؤمّن الاجتماعيّة التي هي نقيض السجن الداخليّ، أو الانعزال، على اعتبار أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ: «الغناء الذي تقومين به في وحدتك، هو حالة انشغال قصديّة عن التفكير… الغناء مثل الآخرين، ليست له مزايا جماليّة بقدر ما له ميزة إشغال الإنسان ليسلّيه في علاقته مع ذاته فيسلو عنها ويسهو، الغناء حالة جماهيريّة، تستدعي وجود الآخر، أي تستدعي الاحتكاك بالآخر».ص86. أمّا الموسيقى، فيكون لها مفعول آخر، مختلف عن الغناء، يكون لها تأثير بنّاء: «الموسيقا ترمّم انهيارات الذات، وتساعد على الوحدة مع الذات، والتسلسل في بنائها..». ص87. وعن الحداثة يكون هناك خروج عن المألوف أيضاً، فتكون الحداثة حالة شخصيّة داخليّة: «الحداثة يا أمينو هي الحداثة الداخليّة، التحرّر من عقد الموروث..». ص110. ثمّ تتبعه بتعريف آخر: «الحداثة هي الطعم الذي لا يفسد، بل يظلّ طازجاً على الدوام، وليست الحداثة مرتبطة بزمن معيّن، الحداثة ليست حالة زمنيّة، بل حداثة داخليّة، والداخل ليس له زمن كما تعرف..». ص111. وتتوالى التعريفات التي تتناول جوانب من الحداثة، أو تشمل المفهوم بشكل عام، تجعلها معنى، «الحداثة هي المعنى..». ص114. وتجعلها الأنا: «الحداثة هي الأنا..». ص115. هكذا تتوارد التعاريف المتباينة المتعدّدة، حتّى تصل إلى الخيبة، التي هي المدماك الذي تقوم عليها «لوحة الغلاف»، فجدران الخيبة تعلو وتعلو، غامرة الشخصيّات التي تنأسر لها، بل تصل إلى مرحلة قد تنشغف بها، ونجد الكاتبة تثبت تعاريف الخيبة، بطريقة مدرسيّة، عدا تعريفاتها الأخرى التي توزّعت هنا وهناك، وبنوع من المباشرة، على عكس التعاريف والتنظيرات الأخرى التي تخلّلت الحوارات والنقاشات التي كانت تديرها، فالخيبة تعرَّف على أنّها: «.. هي الوقوف على حافّة تفصل بين عالمين، اليأس والأمل، وهي تعني انتهاء الأمل ومغادرته تماماً، ولكنّها قبل الوقوع في اليأس.. – الخيبة هي إرث فكريّ مستمرّ، يتوالد في الأجيال. – الخيبة حالة فكريّة. – الخيبة صدمة انفعاليّة. – الخيبة صدمة فكريّة.». ص123. وكما بدأت بالخيبة فإنّها تختم بها أيضاً، وذلك عندما تثبت في الهوامش ما يدعم اشتغالها على الخيبة، وتفرّعاتها وتنوّعاتها، عندما تكتشف أنّ هناك فعلاً في اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة يعني التعذيب بالخيبة، ثمّ يكون هناك استشهاد بأسطورة يونانيّة، تدعم اجتهاداتها الروائيّة المشتغلة على الخيبة، محيطة بها إحاطة ثلاثيّة الأبعاد، مُرقّية الخيبة إلى تخييب، من دون أن تخيّب ظنّ القارئ في رواية تحقّق الآمال المعقودة منها: «إنّ أسطورة تاتنالوس من أساطير الشمس والفجر، إنّ تاتنالوس رمز للشمس، وقيل إنّ مثلاً قديماً قال: إنّ تاتنالوس يذبح ابنه ويشويه، ليدلّ القائل عن اليوم الذي تشتدّ فيه حرارة الشمس، فتذبل فيه الأشجار وتجفّ الفاكهة..! فكيف يصبح لفعل التعذيب بالتخييب أسطورة شمسيّة..! ألأنّ الشمس حالة خيبة، أم أنّ للخيبة جذوراً ضوئيّة، لم أعثر عليها بعد..؟!». ص 3535 -354.
إنّ «لوحة الغلاف» لـ مها حسن، تتّسم بالمناجَياتيّة، تركّز على لغة الدواخل، وما يعتمل فيها، كما تؤمن بدور الفرد في التغيير المنشود، وتختار الفردانيّة سبيلاً إلى التفرّد الذي يقود عملية التغيير الجذريّ، يؤكّد ذلك إهداؤها روايتها إلى «ذلك الفرد» وهي عبارة «كيركجور».. كما تعتني بالأبعاد وانطلاقتها في الأمداء والجهات، وتثير كثيراً من الأسئلة الفلسفيّة، بطريقة تبدو أن لا إجابة عليها، أو تحتاج إجابات كثيرة لتقترب منها، وذلك من خلال الشخصيّات التي تبدو وجوهاً ومرايا بعضها، سواء كانت ذكوريّة أو أنثويّة، من خلال حالات التقمّص والتماهي والتنكّر.. ومن تلك الشخصيّات: «كريم الحاوي/ أمين دالي، إبراهيم استانبولي، عايدة، خالدة،…إلخ». هي رواية مسكونة ومهجوسة ومأخوذة بهموم وجوديّة وعبثيّة، تجسّد الخيبة لتبدّدها، تمجّدها لتلعنها، تلهج بها في مسعى للقضاء عليها.. تحطّم جدران الخيبة، تلاينها، تسايرها، حتّى تتمّكن من تطويعها، وحَرْفها عن مسارها، قبل أن يكون لها وقعها أو أثرها في التخيّب، أو التخييب.. وأجزم أنّها لم تلقَ بعد حظّها من القراءة والنقد، كون النسخ المطبوعة منها قليلة، ووزّعت في إطار ضيّق..
الأوان تاريخ النشر الثلاثاء 7-4-2009