تستمهل مها حسن في بداية روايتها "تراتيل العدم" صورة الاحتراق. هذه المشهدية الموغلة بأدق دقائق استملاك لهبالنيران للجسد تلي ببضع صفحات، اقتباسا من "اوديب ملكا" لسوفوكليس. والحال ان التأرجح بين الشحنة الدرامية والرجوع الى الإرث التراجيدي الإغريقي، يجد مطرحه الرحب في المنطق الروائي. ذلك ان مبرراته مطبوعة في نثر يعرّج على التكثيف الوصفي في حين يكرّم الشغف بعالم التأويل. انه سرد ينقضي جلّه في مراكمة اصداء متواترة، وفي التمحور على الألم والمعاناة المتأتيين من معاندة المرء للإملاءات على انواعها. في رواية الكاتبة السورية الصادرة لدى "رياض الريس للكتب والنشر - منشورات الكوكب" والتي تريد ان تصير تراجيديا محلية بشخصيات تتحدث بلسان عربي ولها من الميثولوجيا والاسطورة والتأريخ الكثير، تتظهر من دون خفر محاولة تجري على اكثر من صعيد لتلبس فضيلة المسرح الاغريقي. ذلك انه وفي موازاة الاستعانة باللغز والمقدس والتورية، وفي غواية الترميز والاسقاطات، تخرج الرواية منذ السطر الاستهلالي على مناخ الصيغ الكلاسيكية المتداولة. ثمة طواعية بنيوية من طريق مخطط بياني يجعل المقدمة تتصل بالفصل الأول الذي يتولى التعريف بالشخصيات، وبالفصل الثاني الموكل بالحوادث، فضلا عن فصل ثالث يؤذن ببداية الرواية على نحو رسمي، ناهيك بفصل إضافي وملحق اول وملحق ثان. اما الراوية، فتتعمد ان تكسر الجدار العازل بين الحقيقة التخييلية وتخييل الحقيقة، فتظهر من خلف ضمير المتكلم مبرِّرةً لماذا تلوذ القصة بقلمها في المحصلة، كتركة ورثتها من شخصيتي جدار وجوزفين. هذا الاقحام لشبكة امان الرواية في هيئتها الامتثالية، يسهّل الدخول في حال من التفلت الزمني ويجعل تقبل الاستدعاءات النصية الروحانية التي لا تبخل بها "تراتيل العدم"، واردا في كل لحظة. ليتحول عندئذ الحلم صنو اليقظة بل الممر الملحّ اليها، وتمسي الحياة نسخة عن حياة اخرى. نقع في الرواية على لازمتين. تبدأ اولاها بقول "تجري حوادث هذه الرواية بأزمنتها المتعددة على خلفية مشهد احتراقه"، في حين يذكر مطلع ثانيها "حذرتك الا ترتل هذا النشيد فيسكن في ذاكرتك". تم ايراد هذين المقطعين الاعتراضيين عمدا بخط طباعي عريض، ليسعهما على هذا المنوال، اعادة بعث ايقاع السرد الموزع في اكثر من حقبة. في تقليد أدب الاغريق دائما، تحمل هاتان اللازمتان في باطنهما قدرة ابتهالية ايضا. كأنهما من طريق التكرار، تلعبان دور الكورس المؤلف من مؤدّين يصيرون جسما واحدا، ولا دور لهم سوى ان يشهدوا على الفعل الدرامي. اما في رواية مها حسن، فيبدو هذان الاعتراضان النصيان في الظاهر على هامش السياق العام، غير انهما يتفاعلان مع النماذج الرئيسية ويوفران التعليقات المناسبة في شأن الحوادث. في الوقت عينه تستبقي الرواية التكرار في تراكيب الجمل وتستنفد التعابير ذات الجذر الواحد، على نسق "كانت اغماء تتم اغماءتها"، فضلاً عن سعيها الدؤوب الى مدّ الجمل بما يشبه بطاقة التعريف الاضافية، او لنقل الشرح الاستكمالي من قبيل "ما دار بين عناد وحرز - الحوار الذي جرى بينهما!" أو "تعليقات من إحداهن على احداهن". هذا التغييب للفاعل تمارسه مها حسن مواربة، على مد الحكاية. تجيء المرأة على هذا النحو في حوّاءات مختلفة وتتمثل ايضا في الأفعى الناطقة الشيطانية في موروثنا، والحاضرة ها هنا. في مناخ من وشوشات كائنات لامرئية مجهولة النوع والهوية، لكأنها عفاريت تخرج من سلسلة "نزوات" الرسام غويا، الخارجة من قمقم سفلي، يسود بحث المرأة على تعريف لذاتها، وثمة تشديد على ذلك من خلال اعتبارها صانعة الرواية، وفي الحد الادنى "احدى صانعات الرواية". هذا اللعب الذي يغزر في "تراتيل العدم"، يلازم انتهاك صيغة النص الاحادية. تظهر الراوية، في لحظة، هي التي لا تني تتوارى، لتعبّر جهارا عن تفضيلها ثالثة الصيغ التي ترتئيها لحكايتها لأنها الوحيدة في وسعها أن تمنحها الخلاص، على ما تعلن. أما الصائب فلا انقطاع فعلياً بين الاشكال المقترحة. ذلك ان اساءة تفسير أحدها يؤدي الى اساءة فهم ثانيها واساءة الحكم على ثالثها. اما العمّ الذي يمثل بالنسبة الى شخصية حرز الرجل - الرجال وصورة الاب المضاد، فيلعب دور الارادة الالهية او السلطة الزمنية الموقتة التي يرغب في الانقضاض عليها. يجرّب حرز التحدي ونبذ الاستسلام لمشيئة القدر والظروف كسبيل يوصل الى الاصغاء الى حاجة باطنية تقود الى تجلّ مميت. تلاحق "تراتيل العدم" تنحّينا المتواصل وعلاقاتنا المهشّمة بالطبيعة والتاريخ وأنفسنا
رلى راشد
عن النهار