حليمة هي جدتي التي ماتت، كما أظن، منذ عشرة سنوات على الأقل، وهي إحدى جداتي الثلاث وأقربهن إلي، حيث اعتدنا، نحن أحفادهن، على مناداتهن بأصولهن، فنقول عن حليمة، جدتي الكردية، وعن سامية، جدتي العربية، وعن زينب، جدتي التركية. إذن، إن حليمة هي جدتي التي يفترض أنها ماتت منذ سنوات.
أما كريتيي فهو اسم مدينة صغيرة مجاورة لمدينة باريس الرحبة، حيث تسكن جانين، وحيث أزورها من وقت لآخر. و جانين، هي الجدة المفترضة، لطفل ما لم أنجبه بعد وقد لا يأتي.
كان من المفترض أن تستسلم حليمة للموت الذي رحلت معه منذ سنوات، إلا أنها، كما يبدو لي، لم تقتنع بموتها، الذي وهبت إياه، لترتاح وتسكن بعيدا عن ضجيج مشاكل عائلتنا الكثيرة.
فهي تصر ومنذ موتها، على زيارتي من وقت لآخر، وكنت بقدر ما أستمتع باعتنائها بي، حتى بعد موتها، أتضايق لأنها لم ترتح من بلاوينا، وأن الموت لم ينقذها منا.
كنت أعتبر الموت استقالة لأحدنا من الواقع ومصائبه، للتفرغ إلى التأمل الساكن الهادئ الذي لا تشوبه رغبات الدنيا التافهة، وهمومها الصغيرة، ولكن جدتي ترفض الاستقالة.
لقد تحررت، هنا في فرنسا، من زياراتها المباغتة لي، في أوقات أفضّل فيها أن أكون وحدي، إلا أن هذا على ما يبدو ليس صحيحا.
كنت أجلس في منزل جانين، وهي تحيك شالا صغيرا من الصوف لحفيدها أو حفيدتها، الذين سأحمل بأحدهما ذات ليلة. ومع أن لا شيء يدل على إمارات الحمل، حيث يداعبني ابنها في كل مرة : قد تكونين حاملا منذ الليلة الفائتة... إلا أنها تحاول تمثيل دور الجدة الفاضلة منذ الآن، وهاهي تجلس أمامي على الأريكة، ممسكة بسنارتيها وكرة الصوف التقليدية، ذات اللون الرمادي الخاص بالجدات، وتستمع لألفس بريسلي.
لا أعرف تماما فيما لو كانت جانين معجبة ببريسلي، إلا أنها اعتادت سماعه، لكثرة ما سمعته حفيدتها الصغرى مرارا وتكرارا معها.
تقول لي من وقت لآخر : أنت واثقة أني لا أزعجك، أستطيع وضع السماعات ؟ فأكرر لها، لا أبدا، أنا أستمتع بكل أصناف الموسيقا.
أجيبها دون أن أرفع رأسي عن جهاز الكمبيوتر الذي ينقذني منها، وها نحن كلتانا، كل منا تلعب دورها، هي، بصنارتيها وكرة الصوف، ونظارتيها، وجلستها على الأريكة... تؤدي دور الجدة المستقبلية لطفل قد أحمل به، وأنا، بجلستي الرصينة خلف جهاز الكمبيوتر، وفنجان قهوتي الساخن جواري، أؤدي دور الكاتبة الجدية.
كما تنقذها صنارتيها من اتهام ما بلامبالاتها تجاه أحفادها، ينقذني الانترنت بالعربي من ثرثرتها المجانية، فكلما أردت التهرب من حوار غير مرغوب به، أفتح النت العربي، الذي لا يفهم ماحولي ما تحتويه الصفحات، وأدخل في جو " أني أشتغل ".
كان المشهد مكتملا وراقيا، إلا أن حليمة ظهرت بغتة.
لا أعرف كيف يستطيع الموتى تجاوز الحدود، فإن الحكومة الفرنسية صارمة في منح تأشيرات الدخول للأحياء، وللشباب، فكيف تدخل جدتي الميتة والعجوز إلى شقة جانين في كريتيي.
دخلت جدتي ساحبة مسبحتها الطويلة خلفها، ومع أن كلبي كاترين سارعا للترحيب بها، إلا أن ذلك لم يصدمها، ولم تنهرهما، كما لو كانت فعلت أي واحدة أخرى من جداتي المفترضات أو أمي مثلا ، في التعامل مع الكلاب ككائنات نجسة. ربتت جدتي على رأس كل من الكلبين، فاسترخيا كل في فراشه جوار الأريكة، وتربعت حليمة هناك، جوار جانين.
وضعت جانين كرة الصوف والصنارتين، بل ونظارتيها، جانبا، متخلية عن دور الجدة القادمة، محبذة دور المرأة الباحثة عن ألق الثرثرة، ودون أن تطرح على جدتي أسئلة شخصية للتعرف عليها، رمقتها بنظرة متهكمة، وهي ترى ثوبها الغريب يلامس الأرض وقالت : ماذا يعني أن يكون أحد ما مسلما ؟
ابتسمت جدتي، التي لم أرها تبتسم في الحياة، فهي من التوازن والحكمة، بحيث لم يكن لديها الوقت للتعبير عن انفعالاتها، فهي لا تبتسم، ولا تعبس... بل منشغلة دوما بالتفكير. ولكن ربما خفف الموت من أعبائها، فابتسمت لجانين، وقالت وهي تسحب حبات المسبحة وتقرأ " قل هو الله أحد " على كل حبة : الإسلام عملية بسيطة جدا، تشبه علاقتك بعصفور الصباح، أو هبة نسيم تذكرك بشخص أو مكان ما، أن تكون مسلما، هو أن تحب الله والناس والحياة.
لا أعرف من أين جاءت جدتي بتلك الفلسفة المباغتة، فهي لا تجيب على الأسئلة، ولا تطرحها، بل تسعى إلى حل الخلافات بين البشر، وهذا كان دورها الكبير في حياتها.
قلّبت جانين نظرها قلقة بيني وبين جدتي، مستفسرة بينها وبين ذاتها عن سر انحراطي في الانترنت، دون أن يرف لي جفن، كما لو أن جدتي، لم تقطع تلك المسافات الطويلة، من قبرها في حلب إلى كريتيي في فرنسا، من أجلي.
لم أستغرب سؤال جانين الذي ينم عن تناقض في تصريحاتها السابقة أمامي، كلما اجتمعنا، هي وأنا، أمام حشد من الآخرين: كلتانا لا تهتم بالدين، وتعتبره أمرا شخصيا، المهم هو علاقتنا مع البشر وليس مع السماء. كانت تكرر جانين ذلك، ناظرة إلي، منتظرة أن أؤكد كلامها. وبما أني لا أحب أن أوافقها على ماتقول، حتى لا أخلق لديها انطباعا بإمكانية سحبي نحوها فكريا، كنت أضيف أي جملة، لأعبر عن عدم اتفاقي كليا مع ما تقول، مع عدم نسفه، كأن أقول : إلا أني لا أهتم أبدا بتفسير الدين وتحليله، وفيما إذا كنت أنتمي لديانة ما...
أعتقد أن جانين كانت تنتقم من عدم مسايرتي لأقوالها، ومحاولة الاختلاف عنها، أمام الآخرين، فانتهزت الفرصة، للتأكيد على اختلافنا، من حيث وجود جدتي، ذات الانتماء الإسلامي الواضح للرب، عبر مسبحتها، وشاشيتها البيضاء النظيفة كثلج الأماكن العالية، حيث لم يعبث به أحد. حيث توحي بطهارتها وجاهزيتها للصلاة في أي لحظة.
نهضت جانين بخطوات متثاقلة، وأحضرت ثلاثة أكواب، وزجاجتين، إحداهما من النبيذ الأحمر والثانية، من " كريم دو كاسيس ". قدمت لي كأسي أولا، ثم اتجهت نحو الكنبة، وقدمت لجدتي كأسها قائلة: هذا يخفف عنا هذا البرد الباريسي القارس... صحتك!
أخذت حليمة رشفة من كأسها، ونظرت بإعجاب إلى جانين قائلة: إنه شاي لذيذ الطعم، أقدر أن الشاي الفرنسي يختلف عن السوري. فضحكت جانين بشماتة مباغتة وصححت لجدتي: إنه نبيذ ! إلا أن جدتي لم تهتم، إذ قالت: المهم أنه لذيذ... صمتت قليلا لتأخذ رشفة جديدة وأضافت، وأنه يشعر بالدفء، فالموتى يعانون من البرد أ أكثر من الأحياء.
شعرت بالدفء يسري بغتة في أوصالي، وأظن أنها كانت حالة كل من جانين وحليمة، إذ تورد وجه الجدتين معا، إلى أن شاشية الصلاة التي أحكمتها حليمة فوق رأسها، بدت كهالة من ضوء تحيط بوجهها المتورد... إلى أن بدأت حليمة تتحول تدريجيا إلى ضوء، حتى صارت شعاعا غادر من النافذة. بينما كنت أفتح جهاز الكمبيوتر أمامي، مدونة العنوان التالي " حليمة أ كريتيي "، بالفرنسية، لأمكّن جانين من قراءة ما أكتب.
أما كريتيي فهو اسم مدينة صغيرة مجاورة لمدينة باريس الرحبة، حيث تسكن جانين، وحيث أزورها من وقت لآخر. و جانين، هي الجدة المفترضة، لطفل ما لم أنجبه بعد وقد لا يأتي.
كان من المفترض أن تستسلم حليمة للموت الذي رحلت معه منذ سنوات، إلا أنها، كما يبدو لي، لم تقتنع بموتها، الذي وهبت إياه، لترتاح وتسكن بعيدا عن ضجيج مشاكل عائلتنا الكثيرة.
فهي تصر ومنذ موتها، على زيارتي من وقت لآخر، وكنت بقدر ما أستمتع باعتنائها بي، حتى بعد موتها، أتضايق لأنها لم ترتح من بلاوينا، وأن الموت لم ينقذها منا.
كنت أعتبر الموت استقالة لأحدنا من الواقع ومصائبه، للتفرغ إلى التأمل الساكن الهادئ الذي لا تشوبه رغبات الدنيا التافهة، وهمومها الصغيرة، ولكن جدتي ترفض الاستقالة.
لقد تحررت، هنا في فرنسا، من زياراتها المباغتة لي، في أوقات أفضّل فيها أن أكون وحدي، إلا أن هذا على ما يبدو ليس صحيحا.
كنت أجلس في منزل جانين، وهي تحيك شالا صغيرا من الصوف لحفيدها أو حفيدتها، الذين سأحمل بأحدهما ذات ليلة. ومع أن لا شيء يدل على إمارات الحمل، حيث يداعبني ابنها في كل مرة : قد تكونين حاملا منذ الليلة الفائتة... إلا أنها تحاول تمثيل دور الجدة الفاضلة منذ الآن، وهاهي تجلس أمامي على الأريكة، ممسكة بسنارتيها وكرة الصوف التقليدية، ذات اللون الرمادي الخاص بالجدات، وتستمع لألفس بريسلي.
لا أعرف تماما فيما لو كانت جانين معجبة ببريسلي، إلا أنها اعتادت سماعه، لكثرة ما سمعته حفيدتها الصغرى مرارا وتكرارا معها.
تقول لي من وقت لآخر : أنت واثقة أني لا أزعجك، أستطيع وضع السماعات ؟ فأكرر لها، لا أبدا، أنا أستمتع بكل أصناف الموسيقا.
أجيبها دون أن أرفع رأسي عن جهاز الكمبيوتر الذي ينقذني منها، وها نحن كلتانا، كل منا تلعب دورها، هي، بصنارتيها وكرة الصوف، ونظارتيها، وجلستها على الأريكة... تؤدي دور الجدة المستقبلية لطفل قد أحمل به، وأنا، بجلستي الرصينة خلف جهاز الكمبيوتر، وفنجان قهوتي الساخن جواري، أؤدي دور الكاتبة الجدية.
كما تنقذها صنارتيها من اتهام ما بلامبالاتها تجاه أحفادها، ينقذني الانترنت بالعربي من ثرثرتها المجانية، فكلما أردت التهرب من حوار غير مرغوب به، أفتح النت العربي، الذي لا يفهم ماحولي ما تحتويه الصفحات، وأدخل في جو " أني أشتغل ".
كان المشهد مكتملا وراقيا، إلا أن حليمة ظهرت بغتة.
لا أعرف كيف يستطيع الموتى تجاوز الحدود، فإن الحكومة الفرنسية صارمة في منح تأشيرات الدخول للأحياء، وللشباب، فكيف تدخل جدتي الميتة والعجوز إلى شقة جانين في كريتيي.
دخلت جدتي ساحبة مسبحتها الطويلة خلفها، ومع أن كلبي كاترين سارعا للترحيب بها، إلا أن ذلك لم يصدمها، ولم تنهرهما، كما لو كانت فعلت أي واحدة أخرى من جداتي المفترضات أو أمي مثلا ، في التعامل مع الكلاب ككائنات نجسة. ربتت جدتي على رأس كل من الكلبين، فاسترخيا كل في فراشه جوار الأريكة، وتربعت حليمة هناك، جوار جانين.
وضعت جانين كرة الصوف والصنارتين، بل ونظارتيها، جانبا، متخلية عن دور الجدة القادمة، محبذة دور المرأة الباحثة عن ألق الثرثرة، ودون أن تطرح على جدتي أسئلة شخصية للتعرف عليها، رمقتها بنظرة متهكمة، وهي ترى ثوبها الغريب يلامس الأرض وقالت : ماذا يعني أن يكون أحد ما مسلما ؟
ابتسمت جدتي، التي لم أرها تبتسم في الحياة، فهي من التوازن والحكمة، بحيث لم يكن لديها الوقت للتعبير عن انفعالاتها، فهي لا تبتسم، ولا تعبس... بل منشغلة دوما بالتفكير. ولكن ربما خفف الموت من أعبائها، فابتسمت لجانين، وقالت وهي تسحب حبات المسبحة وتقرأ " قل هو الله أحد " على كل حبة : الإسلام عملية بسيطة جدا، تشبه علاقتك بعصفور الصباح، أو هبة نسيم تذكرك بشخص أو مكان ما، أن تكون مسلما، هو أن تحب الله والناس والحياة.
لا أعرف من أين جاءت جدتي بتلك الفلسفة المباغتة، فهي لا تجيب على الأسئلة، ولا تطرحها، بل تسعى إلى حل الخلافات بين البشر، وهذا كان دورها الكبير في حياتها.
قلّبت جانين نظرها قلقة بيني وبين جدتي، مستفسرة بينها وبين ذاتها عن سر انحراطي في الانترنت، دون أن يرف لي جفن، كما لو أن جدتي، لم تقطع تلك المسافات الطويلة، من قبرها في حلب إلى كريتيي في فرنسا، من أجلي.
لم أستغرب سؤال جانين الذي ينم عن تناقض في تصريحاتها السابقة أمامي، كلما اجتمعنا، هي وأنا، أمام حشد من الآخرين: كلتانا لا تهتم بالدين، وتعتبره أمرا شخصيا، المهم هو علاقتنا مع البشر وليس مع السماء. كانت تكرر جانين ذلك، ناظرة إلي، منتظرة أن أؤكد كلامها. وبما أني لا أحب أن أوافقها على ماتقول، حتى لا أخلق لديها انطباعا بإمكانية سحبي نحوها فكريا، كنت أضيف أي جملة، لأعبر عن عدم اتفاقي كليا مع ما تقول، مع عدم نسفه، كأن أقول : إلا أني لا أهتم أبدا بتفسير الدين وتحليله، وفيما إذا كنت أنتمي لديانة ما...
أعتقد أن جانين كانت تنتقم من عدم مسايرتي لأقوالها، ومحاولة الاختلاف عنها، أمام الآخرين، فانتهزت الفرصة، للتأكيد على اختلافنا، من حيث وجود جدتي، ذات الانتماء الإسلامي الواضح للرب، عبر مسبحتها، وشاشيتها البيضاء النظيفة كثلج الأماكن العالية، حيث لم يعبث به أحد. حيث توحي بطهارتها وجاهزيتها للصلاة في أي لحظة.
نهضت جانين بخطوات متثاقلة، وأحضرت ثلاثة أكواب، وزجاجتين، إحداهما من النبيذ الأحمر والثانية، من " كريم دو كاسيس ". قدمت لي كأسي أولا، ثم اتجهت نحو الكنبة، وقدمت لجدتي كأسها قائلة: هذا يخفف عنا هذا البرد الباريسي القارس... صحتك!
أخذت حليمة رشفة من كأسها، ونظرت بإعجاب إلى جانين قائلة: إنه شاي لذيذ الطعم، أقدر أن الشاي الفرنسي يختلف عن السوري. فضحكت جانين بشماتة مباغتة وصححت لجدتي: إنه نبيذ ! إلا أن جدتي لم تهتم، إذ قالت: المهم أنه لذيذ... صمتت قليلا لتأخذ رشفة جديدة وأضافت، وأنه يشعر بالدفء، فالموتى يعانون من البرد أ أكثر من الأحياء.
شعرت بالدفء يسري بغتة في أوصالي، وأظن أنها كانت حالة كل من جانين وحليمة، إذ تورد وجه الجدتين معا، إلى أن شاشية الصلاة التي أحكمتها حليمة فوق رأسها، بدت كهالة من ضوء تحيط بوجهها المتورد... إلى أن بدأت حليمة تتحول تدريجيا إلى ضوء، حتى صارت شعاعا غادر من النافذة. بينما كنت أفتح جهاز الكمبيوتر أمامي، مدونة العنوان التالي " حليمة أ كريتيي "، بالفرنسية، لأمكّن جانين من قراءة ما أكتب.