“ستقلتلك هذه السرعة ذات يوم”، تذكرت عبارته الدائمة التي يكررها تعليقا على سرعة قيادتها ، ”إلا أنني سأموت وحيدة، لأنك لن تكون معي آنذاك“، كانت ترد وهي تخفف من سرعتها ، شاعرة بشكل غامض، أن هذا سيحدث ذات يوم، أن تنقلب بها السيارة ، ولكنها ستكون وحيدة .
“تمهلي في مضغ الطعام ، هذه السرعة ستضيع عليك الكثير”أما تلك فهي عبارة أمها.
أما عمتها فكانت تؤكد لها”أنت كالحصان الهائج ، لا يعرف من أين يأكل، يتنقل في جميع المرابض”
ورغم انتقاد الجميع لسرعة حركتها، وتنقلها، وقيادتها، فهي تصر على القيادة بأعلى سرعة ، مسابقة الريح ، وكأنها حصان سيطير بالسيارة إلى سماوات أخرى.
كانت صوفي بيران، تقود سيارتها البيجو الكحلية اللون، وهي تمضغ شطيرة الجامبون، وتستمع إلى موسيقى جوان حاجو، وتهتز خلف المقود، بحركات رجل أرعن.
ولكن ما علاقة صوفي بيران بجوان حاجو ، أو برواية آلان بيران”الرغبة الأخيرة”الملقاة على المقعد المجاور، تقرأ فيها مقاطع عشوائية، حين تتوقف عن القيادة لترتاح قليلا .
أتبحث صوفي في رواية آلان عن مصيرها الذي تجهله!؟، كما تجهل الكثير عن ذاتها ، رغباتها المفاجئة ، حزنها المباغت ، كآبتها الملاصقة لها ، هوسها بالقيادة المتأصل فيها منذ سنوات ، كحالة انتقام من الثبات ، أم أنها تسخر من عالم آلان بيران، الذي تحمل اسمه . ولكن كل هذا لم يعطِ الجواب على سؤال العلاقة بين صوفي بيران ، والرواية الملقاة على مقعد سيارة البيجو ، الصادرة عن دار جوزيه كورتي ، وصوت جوان حاجو . فما العلاقة بين هؤلاء ، وبين صوفي بيران .
إذا عرفنا العلاقة بين صوفي وآلان تسهل معرفة العلاقة مع الرواية ، لأن آلان هو مؤلفها ، ولكن سيبقى جواب الموسيقا الكردية عالقا في الصفحات التالية للرواية الأخرى .
يرن هاتفها المحمول ، تنظر إلى الاسم ، هو آلان إذن ، يتتبعها كيفما تنقلت ، يدرك أنها ذاهبة إلى حتفها ، لا بوصفه روائيا فحسب ، بل بإدراكه العميق لسوء طواياها ضد ذاتها .
يرن الهاتف ، لا ترد ، يرن مجددا ، يترك لها رسالة صوتية ، إلا أنها لا ترد ، ، وتحت إصرار اتصاله ، وشعوره بالقلق ، ترد لتقول له عبارة سريعة”أنا في السيارة ، ذاهبة إلى لي فوج ، سأتصل بك فور وصولي ، باي”تغلق الخط ، وترمي الهاتف بنزق ، وتتابع القيادة .
اتجهت إلى الفندق ذاته الذي نزلت فيه منذ خمس سنوات ، إيتاب أوتيل ، وأصرت على رقم الغرفة ذاته ، وكأنها تعود لسنوات خمس نحو الوراء .
لم تكن تحمل سوى حقيبة الظهر الصغيرة ، التي تتنقل بها من مدينة لأخرى ، وترافقها مع محتوياتها ذاتها في جميع الفنادق ، حتى أنها غالبا لا تبدل محتويات الحقيبة : بعض الكاسيتات الموسيقية”سيرج غوسبرغ ، برتراند كونتا ، تري يان ، جوان حاجو ، فيروز”، كتاب آلان ، كتاب كونديرا”فن الرواية”بالنسخة الفرنسية ، مسبحة خضراء لا يعرف أحد من أين جاءت بها ، ولماذا تحملها ، بعض أدوات الزينة ، وعطرها المفضل شانيل ، ودواء الصداع ، فرشاة أسنانها ، وبالتأكيد مع حقيبة المحمول ، حيث لا تتحرك دون حاسوبها .
ألقت بالحقيبة على السرير ، ثم اتجهت فورا لأخذ حمامها الساخن ، تلك العادة المرافقة لها ، مع أنها امرأة غير نمطية ، لكن الحمام الساخن أحد أشكال بهجتها المؤقتة ، تظل تحت الدوش ، حتى يتورد جلدها وتتفتح أزهاره .
عادت تلتف بالمنشفة ، وفتحت النافذة المغلقة ، بدلا من أن يغلق أحدهم عادة نوافذ مفتوحة ، تنسمت الهواء بعمق ، ولوحت بيدها دون أن يكون ثمة أحد ، لهيلين وكولييت اللتين دعيتاها منذ خمس سنوات للتحدث عن تجربتها في الكتابة مع طلاب ثانوية أندرية مارلو في راميرمونت ، في لي فوج . البعيدة قليلا عن نانسي .
كلما ابتعدت عن باريس ، شعرت بالهدوء ، وكلما زاد ابتعادها ، عاودها الشعور بالقلق .
تكره ذلك الالتزام الأجوف ، عليها أن تعود في لحظة ما ، من دونما سبب منطقي ، حتى حين لا يكون آلان في باريس ، تشعر أنها في لحظة ما يجب أن تكون هناك ، في باريسها ، وهي تعود إلى هُناكها ، سرعان ما تضجر، وتشعر أن باريس لا تعني لها شيئا ، هو شيء من المراهقة العاطفية ربما ، تلك المراهقة الملازمة لكل أنماطها السلوكية والعاطفية ، ترغب ولا ترغب في الوقت ذاته ، تفرح ثم تحزن ، للأمر ذاته ، تحب وتنفر . ياه لو أنها تنتقي إحدى الحالات .
قالت لدومنيك ، محللتها النفسية : في كل دورة زمنية ما ، أشعر أني أبدأ من الصفر ، تصبح ذاكرتي خالية تماما ، أتفرغ من عالمي ، أتجوف ، وأشعر أن علي الامتلاء مجددا ، بالدوافع والرغبات والأفكار ، والبحث عن المحرك الأساسي لماذا أنا هنا ، وماذا أفعل ؟ ثمة تجويف كبير بداخلي ، هوة سحيقة مخيفة ، تشدني إلى العدم ، إلى الرغبة الملحة في الموت ، والخوف من الموت في آن معا .
كانت تستلقي على السرير ، دون أن تفرغ حقيبتها ، وقد بدأ جسدها ينشف ويتعرض لهواء مؤذ ، حين رن الهاتف ، فرأت مجددا اسم آلان ، لم ترد ، بل نهضت وأغلقت النافذة ، ثم أقفلت جهاز الهاتف .
***
ترك آلان هاتفه على حافة حوض المغسلة في الحمام ، حيث كان يأخذ حمامه متوقعا اتصالا من صوفي ، وحين أنهى حمامه دون أن تتصل ، نظر إلى الجهاز بشيء من الامتعاض قائلا”لتذهب إلى الجحيم”، وغادر الحمام تاركا جهاز الهاتف على حافة الحوض عن قصد ، ثم أخذ يجفف جسده وهو يدندن أغنية لجون براسان، وتوقف قائلا لنفسه بصوت ساخر”هي ذاهبة إلى الجحيم بكل حال”.
يشعر آلان دوما ، وبغرابة لا يفقه مصدرها ، يردها دوما إلى حدسه الروائي ، إذ يعتقد أن الروائي راءٍ دون ريب ، لا كما قال رامبو ، الشاعر راءِ ، إذن بحدسه الرائي ، يرى صوفي معلقة على شجرة في قلب الجحيم ، صورة مرتبطة في مخيلته بشخصية جان دارك.
قالت له صوفي غاضبة ولأكثر من مرة ، حررني من أوراقك ، لا تعاملني كبطلة في روايتك ، تطبّق علي مصائرك وقراراتك ، أنا كائن من لحم ودم . وحين ابتسم آلان ذات مرة عند جملتها الأخيرة ، مؤكدة وجودها المادي ، ردت غاضبة ، ولكن بلهجة هادئة وأقرب إلى الاستسلام”يبدو أني فعلا موجودة”.
ارتدى آلان ملابسه الأنيقة ، وهو على النقيض منها ، يهتم بأناقته الأرستقراطية الموروثة رغما عنه من والدته ، بينما كانت صوفي لا تهتم بشكلها ، مؤمنة أن المرأة الحديثة ، لا تهتم بالشكل ، على عكس الرجل الحديث .
حان موعد جولته المسائية ، في تمام السابعة ، كانت تعلق عليه كلما رأته يستعد للخروج في الساعة ذاتها”لا افهم كيف تكون روائيا حداثيا ، ولا تتخلى عن عاداتك ، كرجل كلاسيكي”وكان يرد عليها ليغيظها ، إذ لا يوفر فرصة لاستفزازها عن حب ، كما نستفز صغارنا ، حتى يتشاجروا معنا ، أو يضربونا ، أو حتى يشتمونا”لولا دقّتي وتنظيمي، لما تابعت رواياتي ، ولكنت مثلك قائد سيارة أهوج”، ترد عليه صوفي بنبرة الاستفزاز ذاتها المختلطة بالحب”أن تكون قائد سيارة أهوج وحداثي خيرٌ من أن تصطحب كلبتك كعادة الفلاسفة الرصينين ، لتتمشى على ضفاف السين في تمام الساعة السابعة مساء من كل يوم ، كعادة مقدسة”، يقترب منها آلان ، يحتضنها ، ويقبلها بدفء وشهوة ، كما لا يكف عن حبها واشتهائها”ولكن لا تنسي سيدتي أنني روائي حديث”، تعبث بخصلات شعره معلقة بخبث”ولا تنسَ أني إحدى قارئاتك المفتونات بك”.
ارتدى ملابسه، ووضع عطره المفضل، فأخذت روزيت تزعق إلى جواره، متمسحة به ، لاعقة يديه، فقال لها مؤنبا”لماذا تصرين أن تبقي كلبة ذليلة، هذا موعدنا اليومي للخروج، فلماذا لا تتعاملين مع نفسك بأناقة”نظرت إليه روزيت بعيون ملتمعة، فشعر بكآبة غامضة وهو يعلق السلسة في عنقها، ثم يغادر ويضغط على زر المصعد ، كان يشعر بالاستياء من نفسه، فقد التبس عليه الأمر في لحظة ، وأدرك في جزء صغير من البرهة، أنه يتحدث إلى كلبته كما لو أنه يتحدث إلى صوفي، هل هو الافتقاد إذن، أم عدم الشعور بالأمان حين تغادره؟ لقد قالت له حين تشاجرا آخر مرة، على عادة جميع الأزواج، ”مم تخشى!؟، سأعود، مهما طال غيابي، سأعود إلى هنا”، فقال محبطا وكان قد أسرف في الشرب، وهو لا يتنازل ويعبر عن مشاعره، كرجل بروتوني متحفّظ عاطفيا، إلا حين يغلبه المشروب”من يدري صوفي؟ ربما تذهبين ذات مرة ، وتكون الأخيرة”، قالت”أتعني أني سأموت؟ ، ”قال”أعني، أن تكتشفي مكانك بعيدا عني”ثم صمتا.
أنهى جولته مع روزيت حول السين ، ثم عاد بصحبة روزيت ، إلى مقهاه القريب من المنزل ، مقهى رينوار، في شارع رينوار، حيث اعتاد، خاصة حين لا تكون صوفي معه، أن يأخذ كوب بيرتة المسائية، قبل أن يعود ليتناول عشاءه الخاص في المنزل، وحيدا ، كرجل أعزب، كان الجو يقترب من البرودة ، حين بدأت روزيت تعطس، وتهز ذيلها رغبة في العودة ، لشعورها بالجوع .
***
ولكني أحب آلان ... كتبت في دفترها الصغير ، فلماذا أخشى كما يخشى هو ، أنه ربما أغادر ذات مرة ولا أعود ، ماهذه الفجوة الغامضة بيننا!؟.
إنها التاسعة مساء ، وليس الوقت مناسبا للتنزه في جبال لي فوج ، إلا أنها لا تعبأ بالزمن ، بل تكرهه ، وتحاربه ، استقلت سيارتها ورفعت وتيرة الموسيقى حتى أقصاها .
تجولت في سيارتها لأكثر من ساعة ، في عتمة لي فوج ، باحثة عن ذلك الكائن الخرافي الذي يدمر استقرارها وهدوئها ، يشدها نحو البعيد ، يرميها خلف المقود ، تقطع المسافات باحثة عنه بعيون محملقة ورأس خدر ، هذا الذي سرقها من بيوتها ، من رجالها ، من أهلها ، من دراستها ، من فنها ، من ذاتها ، ذلك الذي لم تتذوقه يوما ، ولم تعرفه ساعة”الأمان”.
حين وضعت رأسها على كتف فاضل وقد أسرفت في الشرب ، قالت له بصوت متكسر وهما يسمعان الفيس بريسلي”أحتاج إلى الشعور بالأمان”، فسألها”وما هو الأمان بالنسبة لك”، صمتت صوفي ، ثم رمت رأسها بين كفيها وأجهشت بالبكاء ، صرخ فيها فاضل ، كعادته كلما رآها منكسرة ، أراد إسنادها وتقوية عزيمتها “كفي عن معاملة نفسك كامرأة مهزومة ، هل أنت في حرب لتبحثي عن الأمان”، توقفت عن البكاء باستعلاء ، نهضت ، نظرت إليه مطولا دون أن تنبس بكلمة ، ثم حملت حقيبتها وغادرت ساخطة .
أشعل سيجارته مدركا أنها ستعود بعد قليل ، تقود دراجته النارية ، كمجنونة ، ثم تعود ، لم تكن آنذاك في فرنسا ، ولم تكن تملك سيارة ، بل تسرق دراجة فاضل ، حيث تحتفظ بنسخة من مفاتيحه ، كما كانت تحلم دوما بقيادة دراجة والدها الـ”ياماها”، ولم يكن يسمح لها على الإطلاق ، فتسرقها ، ثم تتعرض للعقاب .
هي الآن في سيارتها ، تقود ، تسمع الموسيقا ، وتبكي ... هذه الأفعال الرئيسية التي تمارسها في حياتها كأحد أشكال أدائها لتلك الحياة ، وتُعرّف صوفي بيران نفسها من خلال تلك الأفعال الثلاثة”أنا صوفي بيران ، الموازية للقيادة والإصغاء إلى الموسيقا والبكاء”، وفي توقفها عند كل من هذه الأداءات تحلّل ، وهي تلفّ ساقا على ساق ، وتدخن ، وتتفلسف أمام آلان ، مستغلة حبه ، واحتماله لثرثرتها :
الموسيقى والقيادة متشابهان ، شكلان من أشكال رفض الثبات ، السيارة تحركني ، تتحرك بي ، تقتل المكان ، وكذلك الموسيقا ، تقتل الثبات ، ولكن البكاء ، تُرى آلان ، ما سبب ميلي للبكاء”!؟ ، فيسألها بضجر وقد ملّ ميلها الدائم لطرح أسئلة سرعان ما تغير من إجاباتها ، بل وحالاتها ، إذ ستقول له غدا مثلا ، أن الضحك بصوت عالٍ هو فعاليتها الجديدة لقبول الانكسار ، إذن سألها بضجر”أتتمتعين بالبكاء”تقول وبلهجة من يكتشف”أحس باحترام لذاتي حين أبكي ، وكلما بكيت ، شعرت وأنا ابكي ، أني يجب أن أزيد من حالة البكاء، لأزداد احتراما ، ترى ما هو السبب الذي يجعل البكاء قيمة بالنسبة لي”ويقول آلان وهو يشرب نبيذ البوجولي”الماء”، ”نعم ؟؟؟؟”، الدموع هي المياه الداخلية التي تنظّف خطاياك ، كلما احتجت للبكاء أكثر ، دلّ ذلك على كثرة الوسخ الذي يحتاج لإزالة”، تدهس سيجارتها ، وتقفز عليه بصخب ، ترتمي فوقه وتقلبه على الأريكة”سأخنقك ، أتسخر مني”فيقول بحبه النادر الممزوج بالسخرية”أنا من سيخنقك”، يطبق على شفتيها ، ليخنقها من الحب .
ولكن حقا ما هو الأمان ؟
من أجل معرفة أمانها الخاص ، تركت صوفي دراسة الطب ، لتتجه نحو السينما ، ومن ثم هجرت السينما في السنة الثانية لتدرس العلوم النفسية ، ثم وبعد سنة تقريبا ، تركت كل شيء ، ووهبت نفسها للقيادة والترحال.
منذ ثلاث سنوات لم تكف صوفي عن القيادة بمعدل ثماني ساعات يوميا ، ولم تتجاوز مدة الليالي التي قضتها في المنزل ، منذ السنوات الثلاث أكثر من ثلاثة أشهر ، أي أنها ومنذ ارتباطها رسميا بآلان ، قضت معه تسعين ليلة ، بينما قضت في الخارج أكثر من ألف ليلة ، بداية راح يسايرها في التجوال معها ، ولكن باعتباره رجلاً ذا مواصفات مختلفة ، يكره التغيير ، يكره التحرك ، يميل إلى الاستقرار والثبات ، أو يتمتع بالأمان الداخلي كما تصفه صوفي ، فقد وجد في قيادتها المجنونة ضربا من الانتحار ، وكانا لا يكفان عن الشجار كلما جلس إلى جوارها وراحت تقود وكأنها ذاهبة إلى الموت .
وصوفي أيضا شعرت بدورها أنها تحررت منه حين كف عن ملازمتها في السيارة ، وكأنها تستعيد طقوسها الخاصة اللصيقة بها : قيادة ، موسيقا ، بكاء بدلا من أن تكون معه بـ قيادة ، موسيقا ، شجار أو حوار .
“لو كان الحزن رجلا لقتلته”كان يكرر آلان ، محبطا من إمكانية إخراجها من حزنها ، ربما يكون هذا الحزن ، أحد أسباب ارتباطه بها ، أحبها بجنون نادر ، والبروتوني لا يعبّر عادة ، ولكن ميلها المفرط في تدمير ذاتها ، جعله يقرر أن يكون معها ، وتكون معه ، أملا في إدماجها في الحياة ، لتكف عن الشعور أنها معلقة في الحياة ، دون جذور قوية ، أو دوافع أو أسباب ، تربطها بالعيش .
كان يعتقد أنها بمجرد أن تحمل وتنجب ، سوف تتخلص من حالة التيه والضيعان أو التضييع الرغبوي التي تحياها ، إلا أن الطبيعة لم تمنحها الأمومة ، كأنها لم تشأ إخراجها من تيهها ، أو ربما لم يكن ذلك هو الجواب .
كانت تكرر أمامه”إذا مت ، ادفنوني في مقبرة مونبرناس ، هذا سيمنحني الأمان بعد موتي”، ولا يستغرب إذن أن تكون مقبرة مونبرناس إحدى أماكنها المفضلة التي تزورها كلما شعرت بالكآبة والخوف . فكأنها تلاقي هناك مصيرها القادم ، فتعود ممتلئة بالصمت والقناعة .
كانت القيادة هي الشيء الوحيد الذي يحميها من الخوف ، فكأنها تفرّ ، عبر التحرك ، من شبح الموت ، كلما توغلت في الطريق ، ابتعدت وضللت الموت عنها .
ما هذا البريق الملتهب في عينيها ، يؤكد لها آلان”أنا كروائي وراءٍ لا أصدق أن الموت يجرؤ على الاقتراب من شعلة عينيك ، ستعيشين ثمانين سنة”.
لكن لم يكن الموت ما يزعجها ، بل الافتقاد إلى الأمان ، الخوف الدائم ، تلك الرجفة الأبدية في الداخل ، كأن ثمة تجويف عميق سيلتهمها ، تلك الحفرة التي يصعب ردمها .
كل ذلك لا يمكن التحايل عليه إلا عبر القيادة ، تلك الحركية الدائمة ، الاهتزاز الأزلي ، يدمر احتمالية انتصار الهوة ، فيرجّها باستمرار ....
توقفت بها السيارة على مشارف راميرمونت ، هبطت باحثة عن حل ، رغم جهلها بالميكانيكا ، ما من سبب لتوقفها سوى نفاذ الوقود ، وهذا هو السبب فعلا ، لا وقود ، كانت منشغلة ومنهمّة بذاتها ، فلم تنتبه إلى مؤشر الوقود .
تركت السيارة سابحة في الظلام ، ولو كان الوقت نهارا ، لسبحت في الأزهار والخضرة وجمال جبال لي فوج ، ولكنه المساء ، أقفلت السيارة وعادت سيرا على الأقدام .
يا للعتمة ، يا للوحدة ، يا للعزلة ، ... يا للضياع ...
تضع يديها في جيوبها ، تدندن لحنا ، تصفر ، كأنها محاولة لطرد كل ذلك ، الذي يهجم عليها ليمزق كل ما قد يدفئها ، يا للبرد ... ماذا تغفل في هذه الحقول الفارغة ، وسط العتمة ، ولماذا تترك شقتها الفاخرة في باريس ، وحضن زوجها الذي يحبها ، بل حتى ووفاء روزيت ، ودفء النبيذ وأفلام العطل في التلفزيون ، لترتمي هنا ، وحيدة ، تشعر بالبرد ، بل وخائفة .
من أين نأتي بالقوة لاحتمال كل هذا الفراغ، كأنها أضاعت الطريق نحو الفندق ، تمشي على غير هدى ، وكأنها حين تترجل ، تفقد الاتجاهات ، وكأن آليتها الوحيدة للتنقل داخل الحياة ، هي السيارة .
حتى أنها لا تحمل مصباح جيب ، أشعلت سيجارة وحاولت السير على ضوء الـ قداحة ، وهي تتعثر بين الأعشاب وكتل التراب ، وفضلات الكلاب .
شعرت بغتة برعب لا يمكنها احتماله ، توقفت عاجزة عن معرفة ما ستفعله ، إما عليها الاستمرار في السير على غير هدى ، دون أن تصل إلى مكان محدد ، أو عليها أن تجلس منتظرة ضوء الصباح ، وباعتبارها كائنا مرتبطا بالحركة ، آثرت متابعة السير ، منخرطة في موجة بكاء عارمة .
من بعيد تلمح ضوء سيارة يقترب ، تؤمن أن دموعها جلبت لها الرأفة من مكان ما ، لا تزال ثمة بذور ميتافيزيقية تقود سلوكها ، تلوح صوفي بيديها وهي تشعل وتطفئ قداحتها مرارا لتلفت نظر الشخص خلف المقود .
تصل السيارة قريبا منها ، تتوقف ، يا لنسائنا الضالات في العتمة والبرد !
سيدة خمسينية تفتح لها الباب ، فتقتحم رائحة الخمرة أنفاسها
- نفذ وقود سيارتي
- البيجو المتوقفة في الطريق ؟
- نعم ، لم أنتبه إلى خزان الوقود ، ولا أعرف المنطقة لأتصل بأحد
- ليست مشكلة ، تفضلي لأوصلك ، أين تسكنين ؟
- في الفندق
- حسنا ، سأوصلك ، وتأتين في الصباح مع أحد للاعتناء بأمر السيارة
- نعم ، فالوقت متأخر كما أعتقد
تثرثران في الطريق ، فاليري تقود بطريقة أسوأ من صوفي ، تتذكر صوفي آلان ، لو كان معهما ، لفضّل أن يترجل وسط العتمة ، على أن لا ينتحر في هذا السيارة ، تستمع فاليري إلى جاك بيرل ، تثرثر وتهذي عن زوجها الذي هجرها مع أغلى صاحباتها ، تشتم عالم الرجال ، وفجأة تتوقف أمام منزل متطرف قليلا عن المنطقة قائلة”اسمعي عزيزتي ، أنا متعبة ، وهذا منزلي ، إما أن تدخلي وتمضي الليلة هنا ، أو خذي السيارة ، وأعيديها في الصباح”تتفاجأ صوفي بلامبالاة فاليري التي أنهكها المشروب والخيانة ، تلحق بها مؤمنة أن امرأة حزينة إلى هذا الحد ، ربما أكثر منها ، لا يجب أن تُترك وحدها ، حتى و ليلة واحدة ، ما دامت صوفي هنا .
تتابع المرأتان الشرب ، وكأنهما تبدآن سهرتهما من جديد ، موسيقى ، تدخين ، ثرثرة ، بعض الأطباق الخفيفة ، وأخيرا لا بد من إتمام طقوس النساء الوحيدات ، الهاجرات أو المهجورات : البكاء !
حين تصحو صوفي ، تجد نفسها على الأريكة ، مرتمية متهالكة ، وتجد فاليري أمامها مستلقية على فراش صغير على الأرض ، بينما مدفأة الحطب تقرقر مانحة دفئا لا يزال الوقت مبكرا لاستهلاكه .
تنهض وألم عنيف يعبث برأسها ، لقد خلطت أنواعا من المشروب ، واستمعت إلى من تفوقها ثرثرة ، اتجهت إلى المطبخ باحثة عن ما تشربه ليوقظ رأسها المرتبك ، جهزت الكثير من القهوة ، وجلست في المطبخ المطل على حديقة المنزل الرائعة ، أمام شجرة مشمش متفتحة الزهور، تدخن وتعبث بمخيلتها ،
تكتب ورقة صغيرة لفاليري وتغادر ، لن تفيق فاليري قبل العصر ، هي متحطمة من الشرب ، تتجه إلى محطة الوقود ، تشتري بعض الوقود ، وتتجه بسيارة تاكسي نحو المزارع البعيدة ، مستعيدة بيجوها الكحلي التي أمضت ليلتها وحيدة ، مع الموسيقا التي لم تتوقف طيلة الليل ، لأن صوفي نسيت إطفاء جهاز التسجيل .
***
كما أنها نسيت إطفاء جهاز التسجيل في السيارة ، فقد نست ، أو تناست هاتفها المقفل في الفندق ، وحين أخذت حمامها وعادت تشرب المزيد من القهوة قبل أن تغادر راميرمانت ، دون أن تفقه سبب مجيئها ، لماذا جاءت ، ولماذا ستغادر ، كأن ثمة سراً مدفوناً في أرض ما ، ستكتشف وجوده ، وحين لا تعثر عليه ، تركب سيارتها وتمضي .
انتبهت بغتة إلى الهاتف ، فتحته ووجدت العديد من الرسائل .
علقت حقيبة ظهرها على كتفيها ، وحملت حقيبة الكمبيوتر ، وهبطت السلالم ، فهي تكره المصاعد ، وتفضل التحرك الأسرع ، المصعد حالة حركة لا تشعر بها ، طاقتها الداخلية تحتاج دوما للارتجاج ، ولكي ترتج ، يجب تسلق وهبوط السلالم بالأقدام .
رمت الحقيبة في المقعد الخلفي ، واسترخت خلف المقعد ، أشعلت سيجارة أولا ، ثم شغلت جهاز التسجيل ، وبعد لحظات قررت التوجه صوب فاليري ، ربما تكون قد أفاقت ، يجب أن تقول لها شكرا على الليلة الماضية .
عندما فتحت فاليري الباب ، لم تعرفها”أنا صوفي ، عدت الليلة السابقة معك ، بعد أن توقفت سيارتي ....”، وقبل أن تتم كلامها قالت فاليري بغضب”سيدتي ، أنا أقابل يوميا عشرات الأشخاص الذين تتعطل بهم سياراتهم ، ويعودون معي ، اعذريني فأنا لا أذكرك”، تفاجأت صوفي قليلا ، ثم انتبهت أنه ربما انفصام المشروب ، أو السجائر التي تتعاطاها هذه السيدة ، فتختلط لديها الأحداث .... كم كان حديثا حميميا ودافئا ، ياه ، إن فاليري إذن تتحدث إلى عشرات الأشخاص بالطريقة ذاتها .
عادت صوفي لتقبع خلف مقعدها ، ولتقود مجددا ممتلئة بإحباط اعتادته طويلا .
هل عليها العودة إلى نانسي ، أم باريس ، ربما الذهاب إلى ستراسبورغ القريبة هو الأفضل ، تشعر بقليل من الجوع ، لم تأكل شيئا منذ ليلة البارحة مع فاليري ، تغيّر الموسيقا ، تسمع الراديو ، تتمتع بالاستماع إلى أغنية بربارة”زمن الليلك”، تقود دون أن تقرر بعد إلى أين ستتجه .
تتوقف في ستراسبورغ ، أمام مطعم وجبات سريعة ، تأخذ وجبتها مستندة إلى سيارتها ، مستمعة إلى رسائل هاتفها :
- أيتها المجنونة ، اتصلي بي ، لن أعتاد جنونك طويلا ، أحبك ... آلان
- صوفي ، لماذا تغلقين هاتفك دوما !؟، سأصل باريس في الأسبوع القادم .... فاضل
- صوفي ، اتصلي بي ، مشتاقة إليك جدا ، لقد عاد ريكس مجددا .... كاترين
- صوفي ، معك روبير ، آن في المشفى ، ستلد قريبا ، سأتصل بك لاحقا ، أقبّلك
- هاي صوفي ، أنا فاليري ... هل تذكرينني ، لقد كانت سهرة جميلة
- السيدة صوفي بيران ، يرجى مروركم على بلدية باريس الدائرة السادسة عشر ، للاتفاق على موعد يناسبكم حول محاضرة جمعية النساء المعاصرات ، سارة بانتر
تتصل بآلان :
- أين أنت ؟
- في ستراسبورغ
- ستعودين إلى باريس؟
- لا أظن
- إذن؟
- سأتابع إلى بون
- حسنا صوفي ، لن أقول المزيد ، لقد سئمت عباراتي ، اتصلي بي حين تصلين هناك
- شكرا آلان ، أعرف أنك أكثر من يفهمني في هذا العالم
- أحبك صوفي
- وأنا أيضا آلان ، أحبك ، ولكنني بحاجة لأبتعد قليلا
- حسنا صوفي ، أعرفك جيدا ، افعلي ما يريحك ، وأنا هنا دوما
- أحبك آلان ، احبك كثيرا ، ولكن ....
- حسنا حبيبتي ، لا تقولي شيئا ، لست ملزمة بالتفسير ، المهم أن تكوني هادئة ، وأرجوك قودي بتمهل ، أرجوك !
- حسنا ، سأحاول ، سأتصل بك من ألمانيا ، أقبّلك
لماذا أنت ذاهبة إلى ألمانيا ، لا أعرف ، ماذا ستفعلين هناك ، لا أعرف ، لماذا أنت أساسا في ستراسبورغ ، ولماذا جئت إلى راميرمونت ، ولماذا غادرتها .... لا أعرف ! بل تعرفين ، تعرفين أيتها الهاربة ، التائهة ، تبحثين عنه ، ولن تجديه يوما ، ولأنك لن تلتقي به ، ستظلين في تيه أبدي ، هيا ، تابعي توهانك .
تشعل سيجارة جديدة ، وتنطلق بسرعة أكبر ، قاطعة الطريق الدولي من حدود فرنسا ، إلى الأراضي الألمانية ، بشجاعة لا تليق بامرأة ، بل تليق برجل أهوج ، تبحث عنه ، فتحاول أن تكونه .