|
مها حسن *
أساطير العزلة
على بعد سبعين كيلو متراً غربي مدينة
مرسين التركية، تقع قلعة البنت، ذلك المكان الذي يتوسط البحر، والمبتعد عن الساحل
بمسافة مائتي متر.
هناك، في ذلك الصرح، كان لجيجرو، حاكم
مدينة كوريكوس، ابنة حاول تحصينها من الموت، حين أخبرته العرافة، بأن وحيدته
الجميلة والنبيلة والتي يحبها حباً جماً، ستموت في شبابها من لدغة أفعى.
قرر الملك أن يشيّد قصراً من الحجر الأبيض على جزيرة صغيرة في
البحر، وأن يضع ابنته فيه.
وفي أحد الأيام ظهرت أفعى من إحدى سلال العنب المرسلة من
القصر إلى القلعة حتى لدغت الأميرة فقتلتها.
أصبح هذا المكان اليوم، من أكثر
الأماكن ارتياداً، في تركيا عامة، وفي مرسين خاصة، حيث تصطف السيارات على الساحل
المقابل للقلعة، وتزدحم المنطقة بالسياح والمواطنين الأتراك، الذين يبحثون عن
الاستجمام والسباحة وتناول الطعام في أحد المطاعم الكثيرة المنتشرة قبالة القلعة.
ذلك المكان الذي عزل فيه الملك ابنته
عن العالم، وحاول إبعاد الموت والأذى عنها، تحول إلى العكس، إلى نقيض العزلة، إلى
ضجيج وصخب يستمران حتى ساعات الصباح.
هذا التناقض الجمالي بين العزلة
والصخب، يثير التساؤل حول إمكانية العزلة في الزمن المعاصر، في زمن يُسر المواصلات
والتكنولوجيا وسرعة انتقال المعلومة.
فالمكان الذي كان الوصول إليه غير
متاح، إلا عبر السباحة أو عبر المراكب، حسب حكاية البنت المعزولة والمحمية في القلعة،
أصبح الوصول إليه اليوم متاحاً عبر المراكب السريعة، وصارت حكاية العزلة ذاتها،
سبباً لجذب الناس، نحو قلعة العزلة.
الأمر ذاته، وبصيغة مختلفة، وقع لشخوص
الكهف، حيث انعزلوا في النوم العميق داخل الكهف، لمدة ثلاثمئة وتسع سنوات.
يعتبر هذا الكهف اليوم، من الأماكن
المرتادة سياحياً في مرسين، ولا تخلو رحلة فردية أو جماعية، من التركيز على زيارة
الكهف ضمن برنامجها السياحي.
هذا أيضاً يأخذنا إلى حكاية العزلة،
واستحالتها في الزمن الحديث، إلى أن تغدو العزلة اليوم، بمثابة أسطورة، لا أحد
يستطيع تمثلها، أو عيشها، أو تطبيقها.
العزلة كعقاب إلى جانب العزلة
المُحِبة، حين عزل الملك ابنته حباً ورغبة في حمايتها، وعزل الله الفتيان السبعة
وكلبهم حماية لهم، ثمة أنواع أخرى من العزلة، تلك القسرية، والتي تُستخدم كعقاب،
كما في عزل المساجين وحبسهم، فتتحول سجونهم كذلك إلى نقاط سياحية.
فحبس الدم في قلعة حلب، من الأماكن
السياحية المرتادة في مدينة حلب العريقة والشهيرة بقلعتها والكثير من عمرانها وتاريخها
القديم، حيث كانت واقعة على طريق الحرير التجاري، وأسواقها متميزة في العالم
العربي، حبس الدم إذن، يستقطب السياح والمواطنين كذلك.
حين كنت صغيرة، وذهبت في رحلة مدرسية
لزيارة القلعة، ارتجفت ساقاي وأنا أنزل تلك السلالم الضيقة، الموصولة من أعلى
الفتحة الضيقة نحو الأسفل.
سلالم التي لم تكن موجودة إبان الحبس،
بل كان يُلقى بالسجين دفعاً داخل الحفرة، ثم يُرسل بالكلاب والقطط لتعذيب السجين
حتى سيلان دمه، إلى أن سُمي بحبس الدم.
ذلك المكان المخيف، المعدّ للتعذيب،
أصبح اليوم مكاناً سياحياً، ليطّلع الزوار، في رحلات رغبوية، أو منهجية مقصودة،
كرحلات المدارس التي وقعت لي، على عذابات المساجين، إلى درجة يشعرون فيها برائحة الدم
الحبيس في تلك الحفرة العميقة، المظلمة.
العزلة الطوعية أما الرهبان، في قلاع
متعددة، كقلعة سمعان في سوريا، وغيرها من القلاع في العالم، فقد اختاروا عزلتهم،
تقرّباً من الله، فتحولت جغرافيا عزلتهم إلى أماكن سياحية، والأمثلة كثيرة، لرهبان
اعتزلوا العالم، وتفرغوا للعبادة، فصارت مراكز عبادتهم أماكن سياحية منفصلة عن
الدافع الديني وصار المكان بذاته، مزاراً ضد العزلة.
كما حال بعض الأديرة المنعزلة
النائية، التي يتطلب الوصول إليها جهداً وطاقة جسدية كبيرة، حيث لا تصلها
المواصلات، وتقع أحياناً في الكهوف أو الجبال، تقرّباً من الله.
لنذهب أبعد من هذا، إلى العزلة
الفكرية، حيث ينعزل كاتب كسالينجر عن العالم، ويبتعد عن الضجيج وعن الكتابة حتى،
ليتحول إلى ما يشبه الأسطورة بعد موته، يبحث العالم عنه وعن كتاباته ومخطوطاته
التي امتنع عن نشرها في حياته.
فكأن العزلة استحالة، وكأن الحياة
المعاصرة، وكلما ذهبت نحو المعاصرة أكثر، ابتعدت عن العزلة، أو كأننا أمام استحالة
العزلة.
استحالة العزل أو العزلة بين العزلة
كفرض من الطرف الآخر: الأب الذي يحمي أولاده، رجل السلطة الذي يعاقب معارضيه،
الزوج الذي يخاف على امرأته، فيدفنها في بيوت موصدة بإحكام، وقصص ألف ليلة وليلة
تعجّ بهذه الحكايات، فتتسرب النساء من الأبواب الخلفية للقاء العشاق، أو لعيش
مغامرات، يعتقد الزوج أنه يحصّن حياته الزوجية عنها، حين يسجن من يحب، وعبر نماذج
عديدة من العزلة التي يفرضها طرف على آخر، وبين العزلة الطوعية، لأسباب دينية، أو
لاختيارات فردية فكرية، أو لمزاج شخصي سوداوي مكتئب يخشى الآخر، أو يرفضه، أو
يتعالى عليه، بين كل أشكال العزلة، تلك التي نعرفها، وكشفها التاريخ أمامنا، وبين
تلك المخفية حتى الآن، والتي ستنكشف أيضاً بحكم التاريخ، وحكم قوانين الديالكتيك
الحديثة، عبر عولمة العالم، أصبح الحديث عن العزلة مستحيلاً، حيث يمكن لرجل أو
امرأة يعيش أحدهما في كهف منعزل، أو قبو بعيد، أو جبل عالٍ، أن يتحولا إلى حكاية
تثير الارتياد وتجذب العالم نحوهما، سواء كان هذا الجذب مادياً، كما مثال قلعة
البنت وافتتاح المطاعم والفنادق وانتشار السياحة حول المكان، أو بالجذب المعنوي،
كمثال سالينجر، الروائي الأميركي الذي أقبل الناس عليه بعد موته أكثر مما حدث حين
حياته.
العزلة غير حقيقية، إلا أن «مائة عام
من العزلة» هي رواية سحرية، تحدث في المخيلة، وقصة أن «ليس لدى الكولونيل من
يكاتبه» هي أيضاً اليوم حكاية سحرية، تتعاطف مع المقهورين وأسرى الانتظار، لأن
منتظري «غودو»، الجالسين في محطة الثبات الأزلي، عالقين بين عقارب ساعات قطارات
الرحلات المتكررة، هي حكاية تساند خوف الانتظار، والموت دون تحقق ما نتتظره، لكن
الحقيقة اليوم، في زمن القرية الكونية، و(الفيسبوك) و (الواتس آب) وكل هذه
المدمّرات الجميلة ـ مع تناقض العبارة ـ للعزلة، تجعلنا نصدق اليوم، أن غودو قادم،
وأن رداً آتٍ لا محالة على كولونيل ماركيز الذي أمضى نهاراته الحارة الدبقة
مستلقياً في أرجوحة تتسول القليل من الهواء.
تستطيع أن تغلق الباب على من تحب، خوفاً
من أن يذهب منك، وتستطيع أن تحبسه في غرفة محكمة الإقفال، وتستطيع أن تُلقي
بالمختلف معك في سجون لا يسمع بها أحد، ولا يعرف عنها أحد، وتستطيع أن تستأثر بمن
تحب، فتحبسه داخلك، وتمنع عنه العالم، إلا أن تلك «الاستطاعات» وهمية، ومن طرف واحد، لأن الحكاية الحديثة تفرض
صيغاً مختلفة، لتفتح عيوننا ومخيلاتنا على «استطاعات» الطرف الآخر، حيث للغرفة
المحكمة، سرداب سري يقود إلى ضوء لا يراه السجّان، وللحبس المادي أو المعنوي،
منافذ ومخارج يكتشفها المحابيس، محابيس الحب أو محابيس السياسة، وكل المحبوسين قسراً،
يخرمشون الجدران، ويفتحون كوّات من العزلة، تقع على الطرف الآخر من العيش، طرف غير
مرئي للسجان الذي يرى المكان بعين واحدة، ترى الحبس ولا ترى امتداده نحو الحرية.
مكر العزلة تستطيع بالتوازي، أن تحبس
نفسك طوعاً، حين تشعر بأمان الحبس، أو بحماية العزلة، لكنك ستكتشف لاحقاً، خديعة
العزلة، بأنك محاط بالعالم دون أن تدري، أو أنك، متواطئ ضد عزلتك، حيث وأنت تختار
العزلة، تخدع نفسك وتعتقد أنك تخدع العالم، لتثير ريبة اعتزالك لدى الآخر، ليهرول
نحوك طارقاً أبواب كهفك أو كوخك البعيد، لتشعر بنرجسية المختلف، المبتعد، الخارج
عن القطيع، الذي يحلم في عمق الحالة، أن يعترف به ذلك «القطيع»، فكأن لسان حاله
يقول: اعتزلتكم، لأنكم لم تعرفونني، ولم
تحبونني، ولم تكونوا معي كما أريد، وليس كما برر اعتزاله، أن العالم لا يستحقه.
إن أسطورة العزلة اليوم شبيهة بأسطورة
الجحيم الذي دسّه سارتر في عقولنا، وخاصة جيلي، ذلك الجيل الذي انبهر بسارتر
وبوجوديته الساحرة، لنلهث خلف سارتر مكررين: الآخرون هم الجحيم، لأننا نبحث عن «
آخرين» كما نريد، فكأننا أطفال نحرد وننهض عن الطعام، حتى يهرع أهلنا خلفنا
ويرجوننا لتناول بعض اللقم.
فنأكل بغنج مزيّف، ونحن ندرك أن
الإقبال على الطعام، هو رغبتنا لا رغبة الأهل، لأن الجحيم ليس الآخر، ولأننا في
العمق نحب هذا الآخر، ولأن العزلة ليست قراراً جدياً في العمق، حين تكون طوعية،
وليست حقيقية وفعالة، حين تكون قسرية، بل هي عزلة «افتراضية»، وحتى الذين ماتوا في
أقبية التعذيب والعزلة، الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم بعد، سيتحولون إلى نجوم
مضيئة ورموز ضد العزلة، وسيسمع بهم العالم، أكثر مما سمع بفارضي العزلة وسجانيهم
.