حوار منشور في مجلة نزوى الفصلية ـ العدد 66
تعتبر الروائية السورية المقيمة حاليا في فرنسا مها حسن من الأصوات الروائية التي انتحت بالسرد منعطفات جديدة وملتوية تراهن على المسافات الطويلة من النبش في التاريخ المنسي للذات عبر تحريك طاقاتها الطبيعية والدفع بها إلى الإفصاح بكل حرية ولو عبر المتخيل، لذلك فكتاباتها حبلى بالحكاية والتجريب وطقوس الأسطورة وأنين العمق الإنساني...
وهكذا أمكننا القول من خلال تتبع أعمالها الروائية اللا منتهية: سيرة الآخر، لوحة الغلاف، تراتيل العدم، حبل سري... أنها – بدون مبالغة- قطب من أقطاب صنع الحساسية الجديدة في السرد الروائي، تلك التي تقوم على المزاوجة بين الحفاظ على الحكاية كنواة صلبة للعمل الروائي والتجريب الفني الواعي بأشكال الكتابة وتحولاتها، الشيء الذي جعل لمحكيها الروائي طعما خاصا سواء على مستوى الصوغ أو اللغة أو التجربة أو المتخيل أو المحكي. تكتب عوالمها المسبوكة من الواقع والخيال وأناملها موصولة بفكرها المشغول بأسئلة الإنسان القلقة. تمشي وتعيش وتتحرك بين الناس بتلقائيتها المعهودة ومشاعرها الفياضة غارفة من أمانيهم وحياتهم اليومية متونها وموادها المثيرة دون أن يعوا أنها كتلة سردية كلما غاصت في القاع، كانت روايتها تفيض بالمتعة التي لا تنفي الفائدة، وبالوضوح المشوب بالملغز، وبالمتخيل المقرون بكل تفاصيل الشهوة والألم. عن كل هذه الأسئلة كان مدار هذا الحوار مع مها:
[[ كيف انبثق اختيارك للكتابة في جنس السرد الطويل؟ هل مارست الكتابة في أنماط أخرى أم أن موهبتك تفتقت منذ البدء في عالم الرواية؟
بدأت الكتابة دون علم مني بقصة الأجناس. منذ نشأتي وأنا ضد التصنيف. علمت لاحقا أن ما أكتبه يندرج تحت مسمى القصة القصيرة، ولأنني أفرق بين الأدب والحكي، منذ وقت مبكر، فقد سئمت تلك التسميات، ووجدت ضالتي حين وقعت على مسمى الكتابة عبر النوعية، الذي طرحه إدوار الخراط. في أول عمل منشور لي في كتاب، بعد نصوص هنا وهناك في الصحف والمجلات، وفي كتابي الصغير الذي لم يتجاوز المائة وثمان وعشرين صفحة، وهو الكتاب الأقرب إلي دوما، حاولت خرق حالة المسميات هذه، عبر ابتكار «ربما بدت فذلكة آنذاك» كتابة مختلفة، أسميتها «سيرة الآخر»، هاجرة السيرة الذاتية، أو الرواية، أو رواية السرد الذاتي. أكثر ما يزعجني في الحياة الأدبية والحياة العامة حتى، موضوع التصنيفات، وأظن أن هذه من خصائص العلم، حيث يدرس الظواهر المشتركة، أما في عالم الأفكار والفنون، فأنا أرفض الكسل الذهني واللجوء إلى التصنيفات التي تضع مجموعة أفكار أو محاولات أو أشكال ذهنية داخل سلة واحدة، نزوعا نحو دمج المختلف. في النهاية، لا يهمني الشكل الذي يطلقه الآخر على كتابتي، إلا أنني في هذه المرحلة الأكثر جدية في كتابتي، أعتبر نفسي الآن، روائية فقط.
[[ عرفت المرأة عموما برهافة المشاعر، لذلك فهي تميل إلى الموضوعات الرومانسية الرقيقة التي تباعد نوعا ما العنف ضد الذات والعالم، عكس ما ذهبت إليه أنت، حيث العالم مقيت، جاف وقاس... من أين لك بهذه العوالم؟
هذا السؤال أيضا يحيلنا إلى موضوع التصنيف، لست أبدا مع فكرة كتابة ذات خصائص ما للرجل، وأخرى مختلفة الخصائص للمرأة. الكتابة فعل إبداعي فردي، لا يشترك كائنان في طريقة أدائه. قد تجد كاتبا ما من قارة ما، يتقارب مع طروحات أو شكل تعبير لغوي، مع كاتب آخر، أو كاتبة، من قارة أخرى... لهذا فالكتابة عمل كوني، لا علاقة له لا بالجغرافية ولا بجنس الكاتب. أما عن عوالمي التي تذكرها في سؤالك، فهي نتاج ثقافتي الشخصية وتجربتي الحياتية. أنا ولدت ونشأت في مجتمع ذكوري، الرجال هم أصدقائي، وهم أيضا مُثلي العليا، سواء في الكتابة أو في الحياة، وكذلك هم قامعيّ، أو مواضيع تحرري من سلطاتهم، أنا أعتقد بأنني محظوظة في العيش في بيئة شديدة التناقض، هذه البيئة مهدت لي أرضا خصبة للتعلم والاكتشاف، رغم الألم الذي، وللأسف، يعتبر مقدمة لا بد منها، نحو التعلم، إلا أن هذه التجارب القاسية، أنضجت عوالمي الانفعالية، وأفكاري .
[[ تميزت روايتك بالمتانة على مستويي الخطاب واللغة والدلالة. هل أفدت من تراكم معرفتك بالتوجهات النقدية والأكاديمية أم أن هذه العوالم الروائية كانت مشروعا ألهمتك إياه التجربة الحياتية وإحساسك المرهف تجاه ما يعج به العالم من قيم مزيفة؟
التجربة الحياتية وحدها لا تكفي. والموهبة وحدها لا تكفي. والثقافة والإطلاع على المدارس النقدية وأدب الآخر أيضا لا يكفي. الكتابة وصفة سحرية، لا أزال شخصيا أعجز عن شرحها. هذا لا يعني بأنني مؤمنة بأنني ساحرة، أبدا، على العكس، إن هذا الشعور الداخلي بالقلق، والخوف من الفراغ، أو عدم الإتيان بجديد، هو المؤلم والمحرض أيضا على الابتكار. أكثر ما أفادني في حياتي الكتابية هو الابتكار، أخاف من التشابه، وأكره التقليد. كتابتي في النهاية هي نتاجي الفردي، أنا مؤمنة بأن أي رواية، لا يمكن أن يكتبها إلا صاحبها. إن « المسخ» مثلا، كانت موجودة في العالم الافتراضي للغة والفكر، جاء كافكا فأنجزها، أو « الغثيان» التي دونها سارتر، أو « اللامنتمي» لكولن ولسون ... ربما تكون فكرة مجنونة قليلا، بأن كتبنا موجودة معنا، تُخلق إلى الحياة معنا، أو قبلنا، أو بعد ولادتنا، لا قاعدة في هذا. ولكن شخص واحد فقط، مُهيأ لكتابة رواية ما، أو رسم لوحة ما.. هذا يندرج على بقية الفنون، المهم ألا نتشابه وألا نتناسل أنفسنا أو بعضنا الأخر.
[[ عرف المشهد الروائي العربي مؤخرا غزو نوع جديد من الكتابة تروج له كاتبات جريئات أقمن الدنيا وشغلن الناس. وهو الكتابة عن الجسد الذي كان قد تناوله كتاب رجال فيما سبق لكن بطريقة مختلفة. ترى ما الذي أضفته المرأة الكاتبة على هذا النوع من الموضوعات الساخنة في المحكي الروائي؟
لا أفهم هكذا أسئلة، لأنها تدخل في موضوع الكليشيهات الذي لا أنخرط فيه. ماذا يعني «كاتبات جريئات» ؟، هذه تصنيفات يشتغل عليها علم الاجتماع، هو علم كما أجبت عن السؤال الأول، وليس من هاجس الفن، أنا ككاتبة، ما يهمني معرفته، درجة الفنية والإبداع في عمل ما، أما آثاره الاجتماعية، فهذا لا يهمني. ربما يزعج هذا الموقف المثقفين العضويين، وأنا بصراحة أعاني من هذه المسألة، الثقافة العضوية. قد ترى بعض الكاتبات، وهذا من حقهن دون شك، بأن الكتابة هي نوع من التحرر الاجتماعي، أو ثورة على عالم القهر على المرأة، أنا لست كاتبة معزولة عن همّ المجتمع، ولكنني لا أسمح بأن توظف كتابتي من أجل قضايا اجتماعية. ماذا يعني أن تكتب امرأة عن الجسد؟ هذا السؤال الكبير فقط في العالم العربي، هو «نكتة» في الغرب. مع فهمي طبعا لخصوصية مجتمعاتنا، كمجتمعات محافظة، ذات تابوهات دينية وسياسية واجتماعية، إلا أنني أفصل بين الفن والوظيفة الاجتماعية، أو على الأقل، فهذا هو موقفي حتى الآن، فأنا مثلا لا أستطيع قراءة عمل لمجرد أنه يتهجم على المجتمع الذكوري، أقبل كل شيء ضمن الشرط الفني، أما أن يكون الموضوع «الأكشن» هو المهم، بعيدا عن السوية الفنية، فلا يهمني الكتاب، مهما كانت أهمية الموضوع الذي يطرحه.
[[ هل تعتقدين أن كتابة الجسد رهان جديد للارتقاء بشكل الروائي وتحميله هما إنسانيا طالما بات يحجبه الستر والعيب؟
لم لا، شريطة الإتيان بجديد إبداعي. شريطة ألا يكون هاجس الجسد، بتسطيح الهاجس، هو الأساس، أي باقترانه مع الهاجس الفني. أنا أرى في هذا النوع من الكتابة، بعد تجريدها من شروطها الاجتماعية، عاملا في تحرير الكاتب أيضا، أو الكاتبة. فالكتابة خلق، تحتاج في أبسط قوانينها الداخلية إلى الحرية، فإن كان «تابوه الجسد» مانعا أمام الكاتب من التعبير عن داخله، فإن هكذا كتابة هي تحرير له. خذ مثلا تجربة الأدب الإيروتيكي في الغرب، أعتقد أنها ساهمت بكشف حقيقة الإنسان. أنا أؤمن بحق الفنان المطلق في الكتابة عن أي موضوع يشغله، والجسد ضمن هذه الرهانات، شريطة ألا يقع الفن في فخ الاستعراض والإدعاء لإرضاء الآخر وكسبه، وألا يدخل في حسابات البيست سيلر. أحب في هذا السياق، التعرض لتجربة الكاتب المصري إبراهيم فرغلي في نص غير منتهٍ بعد بعنوان «خارطة الجسد»، حيث الإيروتيكا المحمّلة بالمعرفة واكتشاف الذات، مما يمكنني وصفة بإيروتيكية وجودية، هذه كتابة راقية وتحتاج إلى خبرة ووعي وثقافة وموهبة... هكذا كتابة أرحّب بها بالتأكيد، لأنها مقترنة بالفن والمعرفة، وليست مجانية للفت نظر الآخر، والانخراط في ضجيج إعلامي سطحي.
[[ كيف تقيمين وضع الرواية العربية الآن في ظل السياقات الثقافية المتداخلة؟ خاصة لما دخلت المرأة حلبة الكتابة الجسدية من بابها الواسع؟ ما هي العلاقة بين وضع الرواية العربية والكتابة الجسدية لدى المرأة؟
هذا سؤال ملغوم، كأنه يراد به، بأن الكتابة الجسدية لدى المرأة هي فقط من أثرى التجربة الروائية العربية. هذا السؤال، برأيي، يحمل رؤية غربية لأدبنا. للأسف، لأن نظرة الغرب لنا، هي نظرة متعالية، فهو لا يهتم و«يطنطن» إلا لكتابة متصدية لتابوهات، وهذا ما أوقع الكثير من الكتاب والكاتبات بفخ « النظرة الغربية» . الغرب «لا أعمم طبعا» يهتم بكاتبة سعودية مثلا، تتحدث عن قضايا تابوهية محرم عليها الحديث في السعودية، ولا يهتم بكاتب «لنقل مسيحي مثلا» لديه تجربة أدبية إبداعية خالصة، فهو لا يبحث لدينا «الغرب» عن سارتر أو هيرمان هيسه، بل يأخذ من عندنا ما يرى فيه إجابات عن تخلف العالم العربي. مع إيماني بوجود قدر كبير من التخلف، والجهل في مجتمعاتنا، ولكن اعتراضي هو حين يكتب أحدنا لإرضاء النظرة «البحثية» المتعالية لدى الغرب، لا من أجل شهوة الكتابة. الغرب يورطنا أحيانا بالكتابة الملغومة، حيث المهم هو التفجير السطحي، وليس الاشتغال الجدي على الموضوع. لقد شاعت أعمال رديئة أدبيا، احتفى بها الغرب وترجمها، لنساء كتبن عملا واحدا ثم توقفن، هذا أضر كثيرا بالسيرة الإبداعية العربية، صار هاجس الكاتب أو الكاتبة - وهذا من حقه- أن يكون مشهورا ومُترجما، فقام البعض بالتنازلات لتحقيق رغبته في الشهرة والترجمة.
[[ في قمة الحصار، كتبت المرأة الخليجية روايات رائعات. هل ضروري من الحصار والمنع والرقابة كي نكتب أدبا جيدا؟
الأدب نتاج تجربة فردية. لا يعني هذا الكلام بأننا نحترم الرقابة والحصار والقهر والمنع، لإنتاج أدب حقيقي، حار، صادق، بل العكس، على الأدب ذاته، التحرر إلى أقصى طاقات التحرر ذاته من جميع القيود التي يفرضها الآخر، أو الأنا، أو ما يسمى بالرقيب الداخلي، على الكتابة. انظر مثلا أدب السجون، أليس ناتجا عن تجارب متميزة وفردية، فهل هذا يعني بأن نكرس السجن، حتى نحصل على تجربة مهمة، وكتابة مختلفة؟ سأعود مجددا للحديث عن الغرب . إن امرأة غربية ما، من أصول إسلامية، أو امرأة عربية بغضّ النظر عن جنسيتها، تكتب عن تجربتها عن الحجاب، أو أي موضوع يتعلق بالتابو، ويأتي كتابها دون أي قيمة فنية، ولا يمكن تصنيف صاحبته ككاتبة حتى، فالكتاب يحظى بالانتشار والترجمة «في حال كتب بالعربية»، هل يمكن اعتبار هكذا كتاب مهما من الناحية الفنية، فقط لأنه خرج من دوائر المنع والرقابة؟
[[ لم يعد النقد قادرا على متابعة ما ينشر من إنجازات روائية، ولا قادرا على توجيه وتقويم المنتوج الإبداعي. إلام يعود ذلك في نظرك؟
وهل أخذت أعمالك الروائية نصيبها من الدرس والتشريح؟ وما مساهمة النقد في تنمية اختياراتك الفنية في صوغ العالم الروائي؟ الكاتب في العالم العربي شخص أحمق أو حالم أو مغامر من نوع ما. إن نحن وضعنا جانبا الأسماء اللامعة في الكتابة، فإن الكاتب يعيش ازدواجية وجودية. هو كاتب حين يبدع نصه وحيدا، وهو كائن لديه متطلبات حياتية. لا النقد ينصف الكاتب، ولا المؤسسات الثقافية الخاضعة دوما لشروط سياسية أو مزاجية. النقد في العالم العربي لا يتمتع بالنزاهة والموضوعية، ولا بالمهنية. بل هو حالات عشوائية، تخضع للعلاقات العامة. فيما يخص تجربتي مع النقد، أنا أكتب رسميا، أي منذ نشر أول كتاب لي، منذ خمس عشرة سنة. المقالات النقدية التي تناولت تجربتي، بدأت بعد كتابي الثالث الصادر منذ سنتين فقط، أي أمضيت أكثر من ثلاث عشرة سنة، دون أن يعرف أحد بي، سوى ككاتبة مقالات، أما تجربتي الروائية، فلم يسمع بها أحد، ولم يهتم بها أحد، حتى ممن يعرفونني عن قرب. لأن ثمة عقدة في العالم العربي، هي «التقدير»، لا أتحدث هكذا لأنني أفترض أنني كاتبة مهمة ويجب تقديري، فأنا لا أزال «مجرّبة»، بل أقول لأنه، وما أن ظهر اسمي في لائحة البوكر، حتى بدأ الحراك يدور حول تجربتي، وكأن المثقف العربي يحتاج ضمنيا إلى وصاية ما، رأي أول، ليقول كلمته. حين كنا نحضر مهرجانات سينمائية ومسرحية، ثم يأتي دور الجمهور للنقاش، كان الجميع ينتظرون أول رأي، إن مدح، صبت الآراء التالية في خانة المدح، أو العكس. المثقف العربي ليست لديه ثقة بذائقته، يحتاج تأكيدا من الآخر، إنه تبعي، والمعضلة الأكبر، أن التبعية ذاتها، قائمة أو تابعة، لأشخاص لا يستحقون أن نثق بذائقتهم، لأنها محكومة بالعلاقات والمزاجية. أستثني من هؤلاء الذين اهتموا بتجربتي، المثقفين الجادين، من المغرب العربي، الذين أحمل لهم ثقة خاصة، وكذلك المبدعين القادرين على التحرر من رأي الآخر، وجرأة كونهم «رأي أول» أو «أول رأي».
[[ يُحتفى اليوم كثيرا بالرواية والقصة على مستوى الجوائز والمنتديات والندوات والحملات الإعلامية على حساب الشعر الذي تسلطن لقرون من الزمن. هل يمكن القول بأننا في زمن الرواية؟
أعتقد أن هذه التسميات هي من ابتكار النقاد ومن اختصاصهم، أطلق جابر عصفور اصطلاح زمن الرواية منذ سنوات، ثم جاء منذ فترة قريبة، وأعاد النظر فيه. ليس للإبداع زمن، ولكن ربما التجربة السردية أكثر قربا من القارئ. الشعر بوصفه مجازا وتكثيفا وتجريدا، قد لا يغري أي قارئ، ولكن للشعر قراءه أيضا ومهرجاناته وجوائزه واحتفاءاته، إلا أنه ربما أكثر «نخبوية»، بسبب حاجته إلى فهم ومخيلة وجهد من القارئ للتواصل مع النص، أظن أن الرواية أكثر»شعبية» وأكثر فهما، ولا سيما حين ينظر البعض، وهذا خطأ برأيي، إلى الرواية، على أنها «كتاب قبل النوم»، أي القراءة فقط للمتعة، من هنا سادت سلطة الرواية «الموهومة»، لأنها أسهل، وهذا مفهوم سطحي وغير صحيح، يكرسه كتاب غير موهوبين، يحوّلون الرواية إلى «حكاية» خالية من الجهد والجدية.
[[ كيف تجدين الرواية المشرقية مقارنة مع مثيلاتها في العالم العربي؟ وأين تكمن مواطن القوة فيها بوصفك متتبعة ومبدعة؟
لا أستطيع التحدث عن موضوع ليست لدي فيه الكثير من المعلومات، ولكنني في العموم أعتقد أن الرواية المشرقية تحتفي بالكثير من التفاصيل السياسية التي تعاني منها المنطقة الشرقية من العالم العربي. في المغرب، ثمة حريات أكثر ـأرجو ألا أكون مخطئةـ إضافة إلى الهمّ الفرانكفوني، هذان الأمران خلقا للمغرب العربي خصوصية ثقافية، في الرواية أيضا. في بداياتي، قرأت لبعض المغاربة، لرشيد بوجدرة مثلا، كنت أشعر وكأنني أقرأ لشخص يعيش في عالم آخر. وكنت ولا أزال طبعا، أحب كتابته. نحن المشارقة أكثر همّا من المغاربة، سياسيا واجتماعيا، ربما من هنا تكمن الفوارق، ولكنني لا أرى بأن الرواية المشرقية أقوى من المغربية. أعود لمسألة التصنيفات التي لا أؤمن بها، أنا لا أرى أن ثمة رواية مشرقية ورواية مغربية، اعتراضي ذاته على أدب المرأة وأدب الرجل، أنا لا أؤمن إلا بالأدب ذاته، أما موضوع «المحاصصة» الجغرافية أو الجنسوية أو الإثنية... فهذا من شأن المنظرين وعلماء الاجتماع والنقاد...
[[ مع الفجوة الرقمية، اختلط الحابل بالنابل، وتهدمت سلطة المؤلف الرمزية، وانهارت أبراج الرقابة، وفاضت الشاشة بالمنتوج الأدبي غثه وسمينه. كيف تقيمين هذا الوضع؟ وما آفاق الوضع الأدبي في ما يستشرف من الزمن؟
علينا أن نتقبّل هذا، هذه هي الديمقراطية الحقة. الكل يمارس دوره، الزمن يفصل والقارئ أيضا يفصل، أنا مؤمنة- كما ذكرت أنت في مقالك عن روايتي- بأهمية القارئ الشريك. القارئ يستطيع أن ينحاز للنص الجيد، ومن المهم برأيي استبعاد سلطة النقاد. انظر سارتر «أعتذر عن أمثلتي الغربية دوما، للأسف ليست لدينا تجربة عربية مشابهة»، الذي رفض جائزة نوبل، لا لكونه ضد الجائزة، بل حتى لا يؤثر هذا في ذائقة القارئ. لهذا فإن هذه التجارب، حتى الرديئة منها، ورغم فوضويتها، تكرس لسلطة جديدة، هي سلطة الشارع المتذوق، بدلا من الناقد المتعجرف المزاجي، وهنا أكرر ما قلته في حوار سابق بأن التغيير قادم بسبب هذه الفوضى بالذات. ولن يكون ثمة مكان أو أهمية لناقد مهيمن على ذائقة القارئ.
[[ هل أحدثت الثورة الرقمية تحولا على مستوى الكتابة الروائية- في نظرك- أم أن آثارها تظل حبيسة بعض الرتوشات التي لا تمس الجوهر والعمق السرديين؟
ليس بعد، في الغرب نعم، ثمة روايات تأثرت بالتجربة الرقمية، أما في العالم العربي فلا تزال هذه التجربة حديثة، والسبب برأيي يعود إلى حجم المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يعج بها المجتمع العربي، إلى حد تظهر فيه الكتابة الروائية المحاكية للتجربة الرقمية بمثابة «ترف» . للأسف، الكاتب في عالمنا يجد نفسه أحيانا أو غالبا منخرطا في هموم مغايرة تماما، متنازلا عن أحلامه الروائية. أمام حالة ارتفاع نسبة الأمية مثلا، لا يمكننا التحدث عن أهمية الفن التشكيلي، أو أمام «جرائم الشرف» لا نستطيع التحدث عن كتابة بعد الحداثة... إن هذا الانزياح بين ما نحياه واقعيا من فساد وجهل وتجهيل وقمع، وما نحلم بكتابته بوصفنا كتابا لا ننتمي إلى تصنيف، يجعلنا نتنازل عن الكثير من أدواتنا السردية لصالح هم الآخر، وهذه المعضلة التي ذكرتها في بداية الحوار عن إشكالية المثقف العضوي.
[[ تحظى رواياتك بانتشار واسع بين القراء العرب نظرا لعوالمها التخييلية المتاهية التي تعكس هواجس الإنسان المعاصر ومخاوفه وطموحاته، الشيء الذي أهلك للفوز بجائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة Human Rights Watch الأمريكية في عام 2005م، ورشحك بقوة للفوز برتب متقدمة في جائزة البوكر. فكيف تقيمين وضع الجوائز العربية؟ وما مدى مساهمتها في النهوض بمستوى الإبداع والمبدع اعتباريا وثقافيا؟
لا أعتقد بأن كتابتي تحظى بهذا الانتشار، دعني أشكرك على هذا الرأي. أما الجوائز يا صديقي فأنت تعرف كل ما قيل ويقال يوميا حول هذا. لا أنكر بأنني كنت محظوظة بورود روايتي في اللائحة الطويلة، وأنا لا أحب «النق» والظهور بمظهر الضحية، أتمنى فقط أن تكون الروايات المرشحة للجوائز، أي جائزة، مستحقة لهذا، ألا يكون اسم الكاتب/ـة، أو علاقاته أو «هباته»، هي السبب الحقيقي خلف الفوز. للأسف، الثقافة العربية لا تعرف الكثير من النزاهة، بحيث يقدم شخص على فعل ما دون انتظار حصته من الفعل. ليست لدينا الكثير من النماذج «الطوعية» التي تعمل فقط لخدمة الثقافة «أعتذر عن كلمة خدمة»، والسبب ليس هذه النماذج فقط، بل الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي يحيا فيها الجميع. من هنا أرغب بتوجيه تحية احترام لكل من كتب عن رواياتي، أو كتب لي، دون أن تربطه بي أي علاقة، من هنا أيضا أصرّ على اختلاف المثقف المغربي ـضمن حدود تجربتي معه ـ، وكذلك الشخصيات النزيهة النادرة التي تعطي دون انتظار الأخذ، لأنها مؤمنة بما تقدمه. أشكر كل من كتب عني، وكل من كتب عني، من خارج أبناء المؤسسة والعقلية القائمة على «خذ وهات»، من حسن حظي ربما، أو لأننا تربطنا ثقافة واحدة، هي المجاهرة بالرأي دون دوافع شخصية أو مزاجيات. أما عن مساهمة الجوائز في النهوض بمستوى الإبداع والمبدع، ووفق الظروف الراهنة، فلا أعتقد بهذا، لأنها لا تحظى بالمصداقية الكافية، هذا لا يعني بأنني أعمم، لا شك بأن ثمة نزاهة لا نعدمها، ولكنها نادرة، وهذا موضوع طويل ويحتاج لأبحاث طويلة، لتخليص الفكر والثقافة من المصلحة.
[[ هل تتابعين ما ينشر على مستوى الأدب المغربي؟ وكيف تُجسّد صورة الثقافة المغربية في المشرق العربي؟
بسبب تواجدي الجغرافي البعيد، فإنني لا أستطيع مواكبة كل ما يُنشر، قراءاتي بالعربية مقتصرة على الكتب التي تصل باريس أو تلك التي يخصّني بها الأصدقاء الكتاب. لهذا فإن تجربتي غير مكتملة لأبدي رأيي في النتاج الثقافي. أما صورة الثقافة المغربية في المشرق العربي، ومن خلال تجربتي الشخصية، فهي تمر بمرحلتين، مرحلة الجهل بها، في بلاد مقصّرة في الإطلاع على أدب الآخر، وهذه المرحلة التي عشتها حين كنت في سورية، أما في فرنسا، وهذا أمر متناقض، فقد اكتشفت الثقافة المغربية، وأحببت الكتابة المغاربية، فرنسا ـ وقلت هذا في إحدى لقاءاتي مع الأصدقاء المغاربةـ هي التي عرفتني على المغرب العربي، قراءة وعوالم شفهية وأصدقاء، صورة المغربي لدي الآن، ربما صورة مبالغة قليلا، متعارضة بشكل حاد، مع صورته البدئية في رأسي، حيث كانوا «أبناء ثقافة التخويف والتجهيل» يحذروننا من المغربي، إلى أن أصبح أي مثقف مغربي اليوم، يحمل جواز عبور إلى رأسي دون أي حسابات أو تردد.... المثقف المغربي اليوم حالة موثوق في جديتها ونزاهتها وإخلاصها، ربما بسبب تلك المسافة الطويلة، التي جعلت من المغربي مجهولا لدينا أو غريبا، راح المغربي، مبادرا للذهاب إلى المشرق وتعريفه به. أظن اليوم صارت هذه المسافة شبه معدومة، وصار أحدنا يعرف الآخر.
[[ اتخذت من فضاءات المغرب جسدا لمحكي روايتك الأخيرة «حبل سري». لماذا اتجه اختيارك نحوه؟ وكيف وجدت عوالمه الجغرافية والطقوسية؟
كما ذكرت في جوابي السابق، فرنسا هي التي قرّبتني من المغرب. كانت لدي صديقة فرنسية مهووسة برجل مغربي عرَفته في الصويرة. كانت تتحدث عنه وكأنه إله هابط من سماوات باخوس، تتحدث عنه بشكل خرافي جعلني أتوق لاكتشاف هذا العالم. لم أذهب إلى المغرب واقعيا، ولكنني تعرفت على رجال ونساء من المغرب، بهروني... أعرف أن صورتي عن المغرب سحرية قليلا وغير واقعية، ولكن لم لا إن كانت تغذّي عوالمي الجمالية... كل مغربي تعرفت إليه، أضاف لي أمرا مختلفا عن غيره، المغرب يضج بتفاصيل تسحرني كمشرقية، لا يزال أرضا بكر تحتمل الكثير من الفانتازيا ولذة الاكتشاف.
[[ تكتبين ملاحم روائية ضخمة تحتفي بعوالم مسحورة من الأساطير والأحداث المتشعبة والمثيرة. وهذا يتطلب منك تركيزا عاليا واطلاعا واسعا على التراث الإنساني ومعايشة حقيقية للناس واقتراب يومي من همومهم وأسئلتهم... فأي طقوس تفضلين للكتابة؟ وكيف توفقين بين هذه الإجراءات والمهام كلها دفعة واحدة؟
هذا أصعب سؤال يصادفني، ليس من الناحية النظرية، وإنما من ناحية التكيف العملي وتطبيقه واقعيا. أنت تعرف أن الكاتب المتفرغ أمر نادر في ثقافتنا، مُتاح لكتّاب كبار، مشاهير... لهذا فأن يُخلص أحدنا لكتابته التي ينهمّ بها ـ من الانهمام ـ، وفي الوقت ذاته يكون شخصا واقعيا يلبي طلباته العادية اليومية، لهي معادلة معقدة. أتحدث غالبا عن تعدد الأنوات، لهذا فأنا أحيا على مستويين، مستوى إبداعي ذاتي، أنغمس فيه وحدي، أنفصل فيه عن العالم، وآخر واقعي، حياتي، أكون فيه أنا أقلّ من الأول، إلا أنه ضروري أيضا لأنه يرفد عالمي الذي أحب، أي كتابتي... أشعر أحيانا أنني داخل صالة عرض تحوي فيلمين يعرضان معا، أنتقل من فيلم لآخر وفق ضرورة التضحية بالمشهد للذهاب إلى مشهد آخر، هذه مهارة متعبة ومؤذية ومضيعة أيضا لكثير من الطاقات، وتفويت مشاهد .. أما طقوسي الكتابية، فهي ليست معقدة كثيرا، أو ربما أدعوها بالسهل الممتنع، تقوم على تفصيل رئيسي هو العزلة. حين أكتب أنسى العالم، واستغرق في كتابتي التي تمحوني أنا أيضا. الكتابة هي الركن الوحيد في العالم الذي أسمح لها بإلغائي للإصغاء لها... حتى نكتب، علينا أن نتخلص أحيانا منا... أن نصغي إلى العوالم التي تسكننا... ربما يسمى البعض هذا باللاشعور... إن «لاشعور» الكاتب هو كتابة تسكنه، تحتاج إلى تحرير حواسه من العالم الخارجي، ليتخفف من وطأة الواقع وشخوصه وأحداثه، ليسمح لها بالشعور بالطمأنينة والانسياب على الورق. أنا أكتب كثيرا، بشكل خرافي... أكتب شفهيا، في رأسي... هذا مضحك. كأنني مسكونة بجنيات وشياطين وملائكة وآلهة ومدن وأنهار وأطفال... يثرثرون في رأسي، يتشاجرون، يلعبون... حيوات كاملة متداخلة، متناقضة... تتحرك معي، تنشط في وحدتي حين أمشي، حين آخذ المترو، حين أسمع الموسيقى، حين أنام... نعم أنا أكتب في النوم أيضا، وكثيرة هي المرات التي أصحو من نوم عميق أو سطحي، لأدون عبارة أو فكرة... طقوس طويلة ومعقدة، تحتاج كتابا خاصا لوصف جماليتها وألمها.
حوار: ابراهيم الحجري
قاص وشاعر من المغرب