محمود عبد الشكور ـ جريدة الشروق
هذه
رواية ممتعة رغم أنها تشهد على أزمة وطن، وعلى مأزق شخصية ممزقة تتأرجح بين
عالمين، بين ماض وحاضر، وبين هوية قديمة وهوية جديدة، ولكن الرواية تنجح فى
النهاية فى أن تجعل من شجن الغربة، ومأساة الحرب، فنا رائقا ممتزجا بإرادة الحياة
والميلاد الجديد.
«مترو حلب»، الصادرة عن دار التنوير، للكاتبة السورية المقيمة فى باريس مها حسن، ليست سوى حكاية تنمحى فيها الفواصل بين باريس وحلب بصنعة فن، شخصيات الرواية النسائية تعيد تشكيل حياتها، تحكى عن ذاتها بنفس القدر الذى تحكى فيه عن وطنها المأزوم بالحرب والدمار، مها حسن (صاحبة «حبل سري» و«الراويات» اللتين كانتا فى قائمة البوكر الطويلة) ساردة بارعة تقيم دوما فى أعمالها جسرا بين الغرب والشرق، وتجيد التعبير عن العالمين باقتدار، وهى هنا تستدعى سوريا إلى باريس بصورة تمس العقل والقلب، ومن خلال عالم يأسرك بتفاصيله، ويترك لك مسافة لتتأمل جرحى الثورة والحرب، وجرحى الحب والعاطفة.
يمكننا أن نلمح فى كثير من أعمال مها حسن خطين يصنعان جدلا متواصلا، وسنراهما فى شكل أوضح، وأكثر احتداما فى «مترو حلب»، إنهما خطّا الذات والوطن، والاغتراب يتلون أيضا بلونين: هناك اغتراب «مكانى» عن الوطن، وهناك اغتراب «داخلى» تشعر به الشخصيات طلبا لتحقيق نفسها، فى هذه الرواية هناك حنين جارف للوطن، وهناك تعاطف بلا حدود مع مأساته، ولكن هناك أيضا رحلة بحث عن الذات، ورغبة فى تحديد الهوية، وحلم بالحرية، وبحق الاختيار، لذلك يجوز أن نصف «مترو حلب» بأنها رحلة بحث عن الذات، مثلما هى أيضا رحلة بحث عما تبقى من الوطن، أو بمعنى أدق فإن مطاردة الوطن لبطلتنا حتى وهى فى باريس، كان سببا فى أن تواجه ماضيها وذاتها، وأن تصل فى النهاية إلى قرار، تتخلص فيه من التأرجح، حتى لو لم يصل الوطن نفسه إلى ميناء تنتهى فيه الصراعات، ويتوقف فيه الدمار.
تمنح المؤلفة البطولة لثلاث نسوة من جيلين مختلفين: سارة المهندسة الشابة ذات الثلاثين عاما، التى اضطرت إلى السفر إلى باريس، لتكون بجانب خالتها أمينة فى أيامها الأخيرة بعد إصابتها بالسرطان، والأم هدهد، والدة سارة، التى تحمل سرا خطيرا، والتى تمسكت حتى النهاية بالحياة فى مدينة حلب رغم القصف المتواصل، ورغم المعاناة اليومية.
والشخصية النسائية الثالثة هى أمينة، خالة سارة وشقيقة هدهد، وقد اختارت أمينة أن تهرب من سوريا منذ سنوات طويلة، لكى تحقق ذاتها كممثلة مسرحية شهيرة، وكان لها ما أرادت بعد كفاح، ولكن إصابتها بالسرطان، تعجل بحضور سارة إلى فرنسا رغما عنها. ولكن سارة تأتى ومعها حلب، لدرجة أنها تتخيل أن مترو باريس الطويل، هو مترو حلب الذى لا وجود له، كل شارع فى باريس يستدعى شارعا فى حلب، وكل محطة للمترو تخترع لها سارة محطة افتراضية فى مترو افتراضى لمدينتها حلب.
يتدفق السرد من خلال صوت سارة فى فصول خاصة بها، ولكن صوت هدهد، وصوت أمينة يعبران عن نفسيهما بطرق غير مباشرة، سواء فى صورة أشرطة تركتها أمينة تحكى قصة حياتها، وطلبت أن تسمعها سارة بعد وفاة أمينة، أو فى شكل محادثات بين سارة وهدهد من خلال الواتس آب، كما يتدخل الراوى العليم فى فصول محددة لكى يخبرنا أشياء لن تعرفها سارة، وهو أيضا الذى سيسمح لهدهد أن تحكى من خلاله، أما زمن السرد فهو ينقسم إلى مستويين متداخلين: الحاضر وهو بالأساس يومان من شهر نوفمبر 2015، وتحديدا 6 و7 نوفمبر2015، والماضى الذى يستغرق بالأساس ثلاثين عاما، تمثل عمر سارة، بطلة الرواية، وموضع المعاناة والاختبار.
هذا البناء المركب يأخذ خطوة أبعد عندما يطرح لعبة «الهويات» التى تتعرض لها سارة، حيث تكتشف أن أمينة ليست خالتها، وإنما هى أمها الأصلية، التى تركتها بعد مولدها بشهرين، جريا وراء حلم أن تكون ممثلة مسرحية، وبالتالى فإن هدهد هى الخالة وليست الأم، ولكنها ضحت بحياتها من أجل سارة، وتزوجت من والدها، لتستر فضيحة هروب أمينة، بل إن هدهد حملت اسم أمينة، تتبادل النسوةُ الثلاثُ الأقنعةَ: هدهد حملت اسم أمينة وحلت محلها وقامت بتربية ابنتها سارة، وأمينة تذيع السر فى شرائطها لكى تعرف سارة الحكاية، وسارة ستحل فى النهاية محل أمينة، سترث بيتها، ومكانها، وستحاول أن تتحقق مثلها، تحققت أمينة بالمسرح، وستحب سارة أن تتحقق بالغناء، بعد سنوات من القمع.
الوطن حاضر فى كل سطر سواء فى أماكنه التى تقفز إلى شوارع باريس، أو فى الكوابيس المتواصلة، أو من خلال تشتت أسرة سارة: أختها سوسن فى اسطنبول، وشقيقها سمير فى هولندا، وأمها/ خالتها هدهد فى حلب، ولوركا (زوج سوسن) فى السويد. غموض هوية سارة يتداخل مع غموض ما يحدث فى سوريا، الأمور اختلطت على المستوى العائلى والوطنى معا.
لم يعد الحديث عن «ثورة» وإنما عن «أحداث»، ولم تعد المعاناة بسبب النظام وحده، وإنما أيضا بسبب المعارضة، والطائرات الأجنبية، وتنظيم داعش، فوضى شاملة ذاتية وموضوعية تمزق حياة سارة فى باريس، فتتركها معلّقة فى الهواء، أو تائهة فى «مترو باريس»، من دون أن تتذكر العنوان.
يتداخل الخاص والعام بشكل عجيب، مثلما تتداخل باريس وحلب، ومثلما تتداخل قصة هدهد، وحكاية أمينة، ويأتى حل النهاية توافقيا بامتياز: ستضع سارة قدما فى باريس وأخرى فى حلب، ستعيش هنا وهناك، فى باريس تتحقق بالغناء، وفى حلب ستتسلل مع صحفى فرنسى يريد أن ينقل الماسأة للعالم، ستأخذ سارة من أمينة جسارة المغامرة، والسير وراء ما يحقق الذات، ويمنح الحرية الشخصية، وستأخذ من هدهد (أمها البديلة) معنى التضحية من أجل الآخر، وأهمية أن تعيش فى الوطن.
«مترو حلب» تنحاز إلى الفرد وإلى الوطن معًا، لا تضحى بأحدهما فى سبيل الآخر، سارة وهدهد وأمينة أقرب أن تكنّ شخصية واحدة بثلاثة وجوه، كل واحدة تعرضت لاختبار الاختيار، وكل واحدة تحملت نتائج ذلك، ماتت هدهد وماتت أمينة، وحلّت سارة مشكلة «الأرجوحة» المعلقة، فى انتظار أن يحل الوطن مشكلة أرجوحته التى لا تتوقف.
هذه رواية تصالح الذات على الآخر، وتصالح الفرد على الوطن، فيها نفس وجودى يُعلى من شأن الحرية الفردية، ومن حق الاختيار، ولكن فيها أيضا معنى عدم القدرة على الخلاص من الماضى. قد يكون الاختيار ميلادا جديدا، ولكن لا بد من التصالح مع الماضى، مثلما تصالحت أمينة، بشكل أو بآخر، مع هدهد وسارة. لا يمكن الهروب من الوطن إلا إليه، وعندما يتحقق الفرد، ويتحقق الوطن، تتوقف الكوابيس، ويسترد الجميع هوياتهم المفقودة والغائبة.
«مترو حلب»، الصادرة عن دار التنوير، للكاتبة السورية المقيمة فى باريس مها حسن، ليست سوى حكاية تنمحى فيها الفواصل بين باريس وحلب بصنعة فن، شخصيات الرواية النسائية تعيد تشكيل حياتها، تحكى عن ذاتها بنفس القدر الذى تحكى فيه عن وطنها المأزوم بالحرب والدمار، مها حسن (صاحبة «حبل سري» و«الراويات» اللتين كانتا فى قائمة البوكر الطويلة) ساردة بارعة تقيم دوما فى أعمالها جسرا بين الغرب والشرق، وتجيد التعبير عن العالمين باقتدار، وهى هنا تستدعى سوريا إلى باريس بصورة تمس العقل والقلب، ومن خلال عالم يأسرك بتفاصيله، ويترك لك مسافة لتتأمل جرحى الثورة والحرب، وجرحى الحب والعاطفة.
يمكننا أن نلمح فى كثير من أعمال مها حسن خطين يصنعان جدلا متواصلا، وسنراهما فى شكل أوضح، وأكثر احتداما فى «مترو حلب»، إنهما خطّا الذات والوطن، والاغتراب يتلون أيضا بلونين: هناك اغتراب «مكانى» عن الوطن، وهناك اغتراب «داخلى» تشعر به الشخصيات طلبا لتحقيق نفسها، فى هذه الرواية هناك حنين جارف للوطن، وهناك تعاطف بلا حدود مع مأساته، ولكن هناك أيضا رحلة بحث عن الذات، ورغبة فى تحديد الهوية، وحلم بالحرية، وبحق الاختيار، لذلك يجوز أن نصف «مترو حلب» بأنها رحلة بحث عن الذات، مثلما هى أيضا رحلة بحث عما تبقى من الوطن، أو بمعنى أدق فإن مطاردة الوطن لبطلتنا حتى وهى فى باريس، كان سببا فى أن تواجه ماضيها وذاتها، وأن تصل فى النهاية إلى قرار، تتخلص فيه من التأرجح، حتى لو لم يصل الوطن نفسه إلى ميناء تنتهى فيه الصراعات، ويتوقف فيه الدمار.
تمنح المؤلفة البطولة لثلاث نسوة من جيلين مختلفين: سارة المهندسة الشابة ذات الثلاثين عاما، التى اضطرت إلى السفر إلى باريس، لتكون بجانب خالتها أمينة فى أيامها الأخيرة بعد إصابتها بالسرطان، والأم هدهد، والدة سارة، التى تحمل سرا خطيرا، والتى تمسكت حتى النهاية بالحياة فى مدينة حلب رغم القصف المتواصل، ورغم المعاناة اليومية.
والشخصية النسائية الثالثة هى أمينة، خالة سارة وشقيقة هدهد، وقد اختارت أمينة أن تهرب من سوريا منذ سنوات طويلة، لكى تحقق ذاتها كممثلة مسرحية شهيرة، وكان لها ما أرادت بعد كفاح، ولكن إصابتها بالسرطان، تعجل بحضور سارة إلى فرنسا رغما عنها. ولكن سارة تأتى ومعها حلب، لدرجة أنها تتخيل أن مترو باريس الطويل، هو مترو حلب الذى لا وجود له، كل شارع فى باريس يستدعى شارعا فى حلب، وكل محطة للمترو تخترع لها سارة محطة افتراضية فى مترو افتراضى لمدينتها حلب.
يتدفق السرد من خلال صوت سارة فى فصول خاصة بها، ولكن صوت هدهد، وصوت أمينة يعبران عن نفسيهما بطرق غير مباشرة، سواء فى صورة أشرطة تركتها أمينة تحكى قصة حياتها، وطلبت أن تسمعها سارة بعد وفاة أمينة، أو فى شكل محادثات بين سارة وهدهد من خلال الواتس آب، كما يتدخل الراوى العليم فى فصول محددة لكى يخبرنا أشياء لن تعرفها سارة، وهو أيضا الذى سيسمح لهدهد أن تحكى من خلاله، أما زمن السرد فهو ينقسم إلى مستويين متداخلين: الحاضر وهو بالأساس يومان من شهر نوفمبر 2015، وتحديدا 6 و7 نوفمبر2015، والماضى الذى يستغرق بالأساس ثلاثين عاما، تمثل عمر سارة، بطلة الرواية، وموضع المعاناة والاختبار.
هذا البناء المركب يأخذ خطوة أبعد عندما يطرح لعبة «الهويات» التى تتعرض لها سارة، حيث تكتشف أن أمينة ليست خالتها، وإنما هى أمها الأصلية، التى تركتها بعد مولدها بشهرين، جريا وراء حلم أن تكون ممثلة مسرحية، وبالتالى فإن هدهد هى الخالة وليست الأم، ولكنها ضحت بحياتها من أجل سارة، وتزوجت من والدها، لتستر فضيحة هروب أمينة، بل إن هدهد حملت اسم أمينة، تتبادل النسوةُ الثلاثُ الأقنعةَ: هدهد حملت اسم أمينة وحلت محلها وقامت بتربية ابنتها سارة، وأمينة تذيع السر فى شرائطها لكى تعرف سارة الحكاية، وسارة ستحل فى النهاية محل أمينة، سترث بيتها، ومكانها، وستحاول أن تتحقق مثلها، تحققت أمينة بالمسرح، وستحب سارة أن تتحقق بالغناء، بعد سنوات من القمع.
الوطن حاضر فى كل سطر سواء فى أماكنه التى تقفز إلى شوارع باريس، أو فى الكوابيس المتواصلة، أو من خلال تشتت أسرة سارة: أختها سوسن فى اسطنبول، وشقيقها سمير فى هولندا، وأمها/ خالتها هدهد فى حلب، ولوركا (زوج سوسن) فى السويد. غموض هوية سارة يتداخل مع غموض ما يحدث فى سوريا، الأمور اختلطت على المستوى العائلى والوطنى معا.
لم يعد الحديث عن «ثورة» وإنما عن «أحداث»، ولم تعد المعاناة بسبب النظام وحده، وإنما أيضا بسبب المعارضة، والطائرات الأجنبية، وتنظيم داعش، فوضى شاملة ذاتية وموضوعية تمزق حياة سارة فى باريس، فتتركها معلّقة فى الهواء، أو تائهة فى «مترو باريس»، من دون أن تتذكر العنوان.
يتداخل الخاص والعام بشكل عجيب، مثلما تتداخل باريس وحلب، ومثلما تتداخل قصة هدهد، وحكاية أمينة، ويأتى حل النهاية توافقيا بامتياز: ستضع سارة قدما فى باريس وأخرى فى حلب، ستعيش هنا وهناك، فى باريس تتحقق بالغناء، وفى حلب ستتسلل مع صحفى فرنسى يريد أن ينقل الماسأة للعالم، ستأخذ سارة من أمينة جسارة المغامرة، والسير وراء ما يحقق الذات، ويمنح الحرية الشخصية، وستأخذ من هدهد (أمها البديلة) معنى التضحية من أجل الآخر، وأهمية أن تعيش فى الوطن.
«مترو حلب» تنحاز إلى الفرد وإلى الوطن معًا، لا تضحى بأحدهما فى سبيل الآخر، سارة وهدهد وأمينة أقرب أن تكنّ شخصية واحدة بثلاثة وجوه، كل واحدة تعرضت لاختبار الاختيار، وكل واحدة تحملت نتائج ذلك، ماتت هدهد وماتت أمينة، وحلّت سارة مشكلة «الأرجوحة» المعلقة، فى انتظار أن يحل الوطن مشكلة أرجوحته التى لا تتوقف.
هذه رواية تصالح الذات على الآخر، وتصالح الفرد على الوطن، فيها نفس وجودى يُعلى من شأن الحرية الفردية، ومن حق الاختيار، ولكن فيها أيضا معنى عدم القدرة على الخلاص من الماضى. قد يكون الاختيار ميلادا جديدا، ولكن لا بد من التصالح مع الماضى، مثلما تصالحت أمينة، بشكل أو بآخر، مع هدهد وسارة. لا يمكن الهروب من الوطن إلا إليه، وعندما يتحقق الفرد، ويتحقق الوطن، تتوقف الكوابيس، ويسترد الجميع هوياتهم المفقودة والغائبة.