إذا كانت الحياة في مكان
آخر، فيجب أن تكون في القاهرة، حيث روح الكتابة في القاهرة، يشبه الانبعاث. كما لو
أن تلك الحرارة العالية والغبار، يحملان ذرّات روحية لآباء الإبداع الفرعوني، ذرّات
متناثرة في الغبار وأشعة الشمس، ما إن يمسّ جلدك، حتى تتفتح خلاياك الروحية، وتستسلم
للكتابة.
تأخّر ذهابي إلى مصر طويلًا،
أنا التي تأسستْ أحلامي ومخيلتي وعواطفي في المراهقة، وتغذّتْ، من السينما المصرية
والأغاني المصرية.
خالي، أو بوصف أدقّ ، خال
أمي، والذي أدعوه بـ«خالي»، وأنا التي لا أذكر شكله، بل أحاول تخيّل ملامحه، من الصور
التي تحتفظ بها أمي، وتتحدث عنه بـ«نوستالجيا» كبيرة، وهي تروي لي اهتمامه بي حين
كنت في «اللفّة»، وقد ورّثني شكل عينيه، حسب رواية أمي. خالي الذي غادر البلاد باكرًا،
متشردًا، تائهًا، عرفت العائلة، في وقت لاحق، وهي تحاول تتبّع أثره، أن آخر جهاته،
كانت مصر. لا أحد يعرف عنه شيئًا، فيما لو كان تزوج أو أنجب أو مات عازبًا، أو لايزال
على قيد الحياة.
حلمت بمصر كثيرًا، وانتابني
الارتباك كلما التقيت بمثقف مصري يسألني مندهشًا وكأنه يلومني «لسه مارحتيش مصر!».
حلمت بمدينة نجيب محفوظ، والأحياء التي كتب منها وفيها، حلمت بالفيشاوي، بمقاهي القاهرة،
وكان أصحابي السوريون يصفونها لي وصفًا سحريًا من منطلق ثقافي: الكاتب الفلاني الكبير،
يخرج من بيته، يسلّم على صبي المقهى، والصبي يرفع صوته بالسلام: صباح الفل يا أستاذنا.
الروائي المصري معروف لدى صبية القهوة، وليس متعاليًا، يجلس في مقاهٍ تابعة لفنادق
الخمس نجوم، يشرب الماء في كؤوس معقّمة.
الصور التي امتزجت في مخيلتي،
بين أفلام يوسف شاهين المتمردة، وأفلام الأبيض والأسود الرومانسية، وحكايات الأصدقاء
عن وصف المثقفين المصريين، والصور التي شاهدتها على الإنترنت، لكاتبات مصريات صديقات،
يجلسن في المقاهي، ويدخنّ «الأرجيلة» بتساوٍ يصيبني بالشغف، بين المرأة الكاتبة والرجل
الكاتب، وصور أخرى، امتزجت كلها في مخيلتي، وخلقت هاجسًا روائيًا إضافيًا، هو خالي
الضائع في مصر.
تشوّقت دومًا لرؤية هذا
البلد، وكان حلمي بالذهاب إليه، جزء من الأحلام القلقة، أن أموت قبل أن أرى مصر.
وتحقق حلمي بغتة. تحقق في
ظرف ضيق. كان عليّ أن أقرر السفر في ليلة واحدة، ودخلت في كآبة القلق، كلبتي التي
أعتبرها جزءًا من دائرتي المقربة جدًا، بل الكائن الأقرب لي، والتي تواجدت معي في
أوقات شدتي، حيث فقدت والدي وأنا في المنفى، ودون أحد على الإطلاق، كانت وحدها من
ينظر إلي بتعاطف وأنا أبكي الفقدان المدمّر. حسنًا، كوارتز مريضة، ماذا لو ماتت في
غيابي؟
الحيرة بين ذهابي الأناني
لتحقيق حلمي الذي تأخّر، وبقائي العاطفي مع كلبتي المريضة. حسمتها بأنانية لمصلحة
الحلم، وذهبت. ذهبت إلى القاهرة... بلد المخيّلة.
الكتابة كنهر.. أطلّ على
النيل
في شرفة الطابق الثالث عشر،
رحت أطلّ على النيل، وفي لحظة شعورية مكثّفة جدًا، تشبه ما تحدث عنه كولن ولسون واصفًا
رغوة الصابون، حيث تتركّز كل أحاسيسنا، وتتجمّع فقط في هذه الصورة، صورة رغوة الصابون
لدى ولسون، ولحظة إطلالي على النيل، ما يشبه قليلًا ربما حركة التلويح باليد في رواية
كونديرا... تكثيف كلّي للجسد والروح والمخيلة والذاكرة، احتشد في فكرة «أطلّ على
النيل». هبت عليّ نسائم الطقس الساخن، روائح الذرة المشوية للباعة المنتشرين على
ضفّة النهر العظيم، اخترق الضجيج روحي، كأنني في فيلم، ولكنه لم يكن فيلمي القديم
الذي صنعته في مخيلتي مركّبًا من مقتطفات السينما، بل كان فيلمًا مستقلًا، لم أتدخل
في صناعته، المراكب الكثيرة، بأحجام متنوعة تسير على واجهة النهر أمامي، أغانٍ لم
أسمعها من قبل، وأخرى أعرفها، تصدح من المراكب مختلطة بزعيق يأتي من جهات عديدة،
من ركاب المراكب، من الشارع، الزمامير.... كل هذا الخليط الصوتي والبصري، تكثف في
لحظة «أطلّ على النيل» فبكيت.
في الليلة الأولى لوصولي
إلى القاهرة، خرجت مع الأصحاب، لتناول العشاء في مطعم يجاور النيل، يلتصق به، و كأننا
داخل النيل.
لم أكن قد خرجت بعد من ذاكرة
المكان، قادمة من باريس، أنظر إلى الأضواء الساقطة داخل النهر، فتختلط عليّ الصورة،
بين أنني أمام السين أو النيل.
يذهب الليل بخصوصية النهر،
أنا على ضفة النيل، ولكنني أحاول أن أتذكر هذه المعلومة، حيث أعتقد أنني على ضفة
نهر السين.
مع أنني لم أولد من الماء،
وربما لأنني لم أولد من الماء، كنت مهووسة بالمقارنات النهرية، في أمستردام، أغرمت
بنهر أمستل، وفي باريس، كتبت طويلًا أمام نهر السين، وبكيت على جسر ميرابو، حيث كتبت
أولى رواياتي، منذ عشرين سنة تقريبًا، مفتتحة المقطع الأول بقصيدة أبولينير ، التي
غناها ليو فيري: على جسر ميرابو يجري نهر السين، لا الزمن يعود ولا الأحبة يرجعــــون.
ارتجفت أمام النيل الليليّ. في الصباح هو شخصية مستقلة، واضحة، له ملامحه، ملامح
نهر عربي، في مدينة عربية.
بعد الفرات، هذا أول نهر
عربي أراه، ولم يمسني فقط لهذا السبب، بل لأنه اختلط في ذاكرتي بالفراعنة وقدرتهم
على الخلود، وتجاوز الموت.
في المدرسة الإعدادية درست
في مدينة حلب، في مدرسة «النيل للبنات»، في شارع سكنت فيه، اسمه «شارع النيل»، لم
أفهم حــتى اليــــوم، لماذا يُسمى شارع في حلب، باسم النيل؟ إن لم يكن لأسباب فرعونية
غامضة فانـــــتازيّة تــــتعــــلق بأننــــــي سأولد في هذا الحي، وأدرس فيه، وأحلم
بالنيل؟
الكتابة تتدفق... أتدفق
كنهر وأنا أكتب، مع أنني أخاف من السباحة، ولا أتقنها. في عمق البحر الأطلسي، نزلت
الماء، فشدني بقوة مباغتة، ولم أفهم قانون الدفاع عن جسدي لأطفو أو أتصرف بتقنية
السباحين مع التيار، صرخت، وهربت، وتوقفت علاقتي بالسباحة والغوص في النهر. ولكنني
أسبح في الكتابة، بتقنية النهر، أكتب متدفقة، تهبط أفكاري من مخيلتي، وتسيل على أصابعي،
من دون توقف، كأنها مخزّنة هناك، فقط، أزيح الحصوة أو الحجرة، حجرة الكسل مثلًا،
أو المزاج العكِر، فتأتي الكتابة، بسلاسة الماء.
المقهى الثقافي
في الصباح، أول ما اقترحه
علي صديق شاعر يعرف شغفي بالمقهى القاهريّ، وأجواء محفوظ، أن نذهب إلى المقهى. قبل
الفطور، انطلقنا إلى ذلك المقهى.
محامون بحقائب المهنة، بربطات
عنق أنيقة، كتّاب كبار بالسن، كتّاب شباب، مهنيون، عمّال... كائنات من كل صوب وحدب،
كما يقال، جاءت إلى المقهى. رجال ونساء أيضًا.
كما لو أنني ألتحم بمشهد
تلفزيوني لمسلسل من تأليف محمد فاضل، أو لنص مأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، كأنني في
مسلسل «خان الخليلي» الذي داعب مراهقتي، وبحثت عنه طويلًا في «اليوتيوب» ولم أجده،
لليلى حمادة وصلاح ذوالفقار، كأنني جزء من مقطع مرئي، شعرت وأنا في المقهى، بين المصريين،
أتحدث بلكنتهم التي نجيدها جميعنا تقريبًا في العالم العربي، الذي غزتنا فيه الدراما
المصرية، هذا الغزو المحبب الذي أبكانا ونحن مراهقون، ولايزال هذا الغزو العاطفي
يُبكي أمهاتنا وعمّاتنا وخالاتنا أمام «شجرة اللبلاب» و«اللقيطة»، ورومانسيات الدراما
القديمة والمستمرة.
في المقهى الشارعي، حيث
تصطف الكراسي والأراجيل على جانبيه، ويقطعه المارة، عبورًا بين الزبائن، تعرفت على
شخصيات ثقافية، من «إحداثيات» المشهد الثقافي. التقيت بمكاوي سعيد، برءوف مسعد المقيم
في أمستردام، والذي جاء في زيارة في نفس فترة زيارتي، وعلى المفاجأة الأدبية، جميل
عطية إبراهيم، الذي راح يمتحن معرفتي بالكتاب المصريين. رحت أعدّد له أسماء أصدقائي
وصديقاتي فنجحت في الامتحان حين قال لي: «أنت تعرفين الكل إذن!».
حين قلت لصديقي الناقد والصحافي
إيهاب الملاح، إنني في «زهرة البستان» فوجئ ضاحكًا، أنني إذ وصلت إلى هذا المقهى،
فقد دخلت قلب القاهرة إذن... نحن في وسط البلد.
الفندق الآخر الذي انتقلت
إليه، القريب من تمثال طلعت حرب، لن يضيّعني، سيكون هذا التمثال دومًا، علامة فارقة،
أحدّد منها الجهات، صوب الفندق، صوب المقاهي: زهرة البستان، ريش، الغريون، استوريل،
جروبّي، التكعيبة ... حيث نحدد مواعيد اللقاء مع الأصحاب الكتّاب المصريين أو العرب
الموجودين في القاهرة... مقاهٍ تتفاوت ما بين بذخ يميل إلى «البرجزة»، ودفء شعبي
يميل للبساطة... تشعرني، أنا الروائية الشغوفة بكل هذه الاختلاطات، بجمالية المكان
في القاهرة، كيفما كان.
المقهى الشعبي المتواضع
في القاهرة، على رصيف مليء بالغبار والذباب والمارة والمتسولين، يكاد لا يقل أهمية
عن «المقهى الثقافي» القادم من الغرب،الديمقراطية في الحوار، الاسترخاء دون تشنج
المحاورين العرب عادة، اللطف وقبول الآخر، والأهم من كل ذلك، الظاهرة الثقافية المصرية
خاصة، والتي نعاني غيابها في سورية ولبنان، ولا أعرف عن بقية البلدان، غياب فكرة
صراع الأجيال. المثقف المصري الكبير بالسن، يتعامل بمحبة وموازاة واعتراف بالمثقف
الأصغر سنًّا، بل وبرعاية أحيانًا، مفسحًا له الطريق. حالة «الأبوية» بمفهومها الوصائي
أو الاستعلائي لم أرها لدى المصريين، وإن وجدت، فهي تحمل مفهوم الرعاية والعناية.
المثقف «الأب» في مصر، هو صديق الابن، وليس أهم وأعلى، وتحتاج إلى بروتوكولات للوصول
إليه، فهو متاح، وعلى القهوة، لا في فنادق وخلف أبواب موصدة، كالزعماء والشخصيات
الصعبة المنال.
الإبداع والحرارة
في مصر، طبّقت الصفحة التخييلية
عن مصر، فوق الصفحة الواقعية، فازدهرت إقامتي، والتصق ماضيي المحلوم به، وأفلام السينما،
وأغاني عبدالحليم ونجاة، وصور مجلة الموعد عن الممثلات، بالحاضر، ووجدت أن الحياة
تتكثف هنا، وأجمل ما فيـــها هو هنا.
الحسين، المقاهي، أحياء
نجيب محفوظ، الباعة الذين يعرضون منتجات مصر الخاصة، عين حورس المتكررة على الميداليات
والأساور والعقود، كانت تشدني لأقتني الكثير من العيون، متذكرة تراث أمي بالتنقيب
عن الخرزات الزرقاء، تدسّها في ملابسنا، لتحفظنا من شرّ العيون الحاسدة، أحببت عين
حورس الزرقاء، وحاولت صناعة أسطورة جديدة، تخلط حكاية أمي بحكاية مصر... أجاء خالي
متلهّفًا خلف هذه الخلطة؟ الحرارة والغبار وأرواح الفراعنة، وصفة خاصة لإبداع ساخن،
أنا ابنة المنفى البارد، بين باريس وأمستردام وقليل من بروكسل وبرلين وفرانكفورت....
الإبداع، مرتبط بالانفتاح
للشمس والغبار، لا للنقاء والترتيب الصارم، المريح للجسد، الحابس للروح. إذا كانت
الحياة في مكان آخر، حسب عنوان رواية كونديرا، فيجب أن تكون للكاتب في مصر، حيث الدفء
يساعد على الكتابة، وحيث برد المنفى الأوربي، يخلق كآبة ورتابة، ويُخشى من إحباط
العزلة.
في مصر الدافئة، الحارة،
لا يمكن للمثقف ممارسة العزلة، فالشارع والمقهى والعالم كله يقتحم حياة أحدنا. ربما
تكون أفضل كتاباتي في نظري، هي ما دوّنته في منفاي الباريسي، لكنني لاأزال مؤمنة،
أنني لم أكتب ما أحلم به، وربما ما أحلم بكتابته، لن أكتبه إلا في مصر. هناك حيث
أحسستني جنية فرعونية سمراء هاربة من أرض ما، ومتنقّلة بين شوارع القاهرة مع سائق
مجنون، كان يغني لي طيلة الطريق، وهو يعرّفني على شوارع المدينة القديمة، نمرّ على
الأحياء الفقيرة، أتفرج بدهشة على الشوارع والبيوت وعربات الباعة المتجولين، وكأنني
من نافذة السيارة، أرى العالم الحقيقي. لم يكن لدي وقت للمشي طويلًا في تلك الشوارع،
كان عليّ العودة سريعًا إلى بلاد البرد.
في مصر، شربت من نيلها،
ودخلت الرواية المصرية، ومشيت في شوارع المسلسل المحبب الذي كنت أنتظره بلهفة، مع
صحن البزر. ثم عدت إلى باريس.
بين فرحتي باكتشاف جذوري
الفرعونية الميتافيزيقة، واختلاط أنفاسي بأنفاس خالي التائه هناك، وشعوري بالذنب
نحو كلبتي، التي لم تنتظر عودتي، فماتت قبل وصولي إلى باريس، أترنّح باحثة عن كتابة
جديدة، كتابة دافئة، تستمد إبداعها من شمس، وأساطيره هناك، شمس الذي يقهر برد الروح،
ورتابة الغرب الأنيق، المرتب بدقة، والخالي من المفاجآت.
--------------------------------------------
* كاتبة سورية مقيمة في باريس.
|