مها حسن
تاريخ المقال: 07-03-2014 02:32
حين كنت أتحدث في حلب، قبل عشر سنوات على الأقل، عن جرائم الشرف، كانت
السيدات البورجوازيات المحيطات بي، بسبب طبيعة عملي، يتعالين بأنوفهن بقرف
واشمئزاز، ويقلن لي: هذه حالات قليلة تحدث في المجتمع المتخلف الريفي
والبدوي. وحين حملت هاجسي إلى فرنسا، وكتبت عن الموضوع ذاته، وأدرجته في
قائمة أولوياتي، رحت أحاضر بين الطلاب الفرنسيين، ككاتبة أجنبية، في
مناسبات تتعلق بالمرأة خاصة، عن الفوارق بين حريات المرأة في الغرب والأخرى
في الشرق، نهرتني إحدى الإعلاميات من أصل عربي: تتحدثين عن قلّة في
مجتمعاتنا وتشوّهين صورة المجتمع، نحن مو هيك؟
ينتابني ما يشبه الصدمة وانزياح الواقع، حين أرى سيدات أنيقات، يتمتعن
بالكثير من الحريات السطحية: التنقل، العمل، التبرّج.. يمثّلن قضايا القهر
لدى المرأة الغائبة. كيف تتحدث امرأة تحتقر في أعماقها صورة المرأة التي
تتحدث عن مشاكلها، فتمثلها، وهي رافضة في العمق فكرة التساوي معها، بل تنظر
إليها باستعلاء؟
كأن حقوق المرأة ومساواتها انزاحت من موقعها لتغيير وضع النساء المقهورات،
لتتحول إلى كليشيه تتمتع بمزاياها نساء ـ مقهورات دائماً، لكنهن قاهرات
بنفس الوقت لنساء في مراتب اجتماعية أقل منهن.
الفرق شاسع، بين المرأة التي تعاني، وتلك التي تنقل معاناتها. الأولى تدفع
حياتها مقابل لحظة حرية أو تحقيق لذاتها، والثانية تحصل على استحقاقات نقل
وجع الأولى.
من هنا يمكن الحديث عن مفهوم الاستغراق، للفصل بين الحقيقي والمزيف، بين
نساء موجوعات فعلاً من مصير المرأة وتدهور وضعها، وبين أخريات، لا تشكل
المسألة بالنسبة لهن أكثر من ظهور إعلامي، ومجد شخصي.
من قال بأن النساء كلهن نبيلات ويعملن لمصلحة المرأة؟
من قال بأن المرأة ليست أكبر عدو للمرأة؟
لننظر إلى النماذج النسائية المندمجة في الحكومات الديكتاتورية، وهي تنحاز للطاغية، وتشرعن استبداده.
نساء سيئات أيضاً، يتواجدن بالكمية ذاتها، أو أكثر، في طريق النضال ضد
اضطهاد المرأة، منهن يعلنَّ كراهيتهن للمرأة، المنضوية على إحساس بالدونية،
وتفوقهن الشخصي على بنات جنسهن، ومنهن من يُخفين دونيتهن، فيبرعن في تلميع
صورتهن الشخصية، المسيئة للمرأة.
الأمثلة كثيرة عن النساء السيئات، هؤلاء اللواتي لا يقل ضررهن بقضايا النساء عن الذكور القامعين للمرأة.
المرأة التي تظهر في الإعلام كامرأة جميلة حائزة على جميع مواصفات النجاح
التي يروّج لها صانعو الفقاعات: الجمال ـ الأناقة ـ مهارة الحديث، والصدمة.
الصدمة بشقّها الرديء، حيث تخرج المرأة المقصودة عن سياق أخلاقي، إنساني،
يركّز على حقوق الإنسان عامة، والمرأة خاصة، وبخصوصية أكثر في مجتمعات
شرقية تطحن المرأة ليل نهار، لتتحدث، المرأة الصادمة، عن تمييزها الطبقي
والثقافي والمهني، في تقييمها للآخر، فتفصّل الحق وتمنحه وفقاً للطبقة
والبيئة، لا للإنسان بوصفه إنساناً.
هل أتحدث بلغة الألغاز؟ ألم يسمع أغلبنا، عن كاتبات، باحثات، إعلاميات،
ينظرن باحتقار، ويتحدثن بنرجسية عن حقوق لا يستحقها الآخر المتخلّف،
الجاهل؟
أمراض فكرية
يكاد التعاطي مع ملف النساء، لا يختلف عن كثير من أمراضنا الفكرية
الرائجة، التي لم تكن ظاهرة بشكل فاقع، إلا أنها موجودة بيننا. ذلك الهمس
الذي يدور في الجلسات الخاصة في تقييم البشر وفق انتماءاتهم الطائفية أو
الإثنية. لا يختلف، الهمس ذاته، المريض، عن وصف امرأة ما، ناجحة، بأنها
«عاهرة»، أو باحتقار كل من يحقق إنجازاً ما، وتقديمه على أنه دفع مقابل
أخلاقي لقاء نجاحه. هذا التشكيك في المقابل المفترض، يطلق على النساء
غالباً، ومن نساء.
تشعر النساء بالغيرة من نجاح نساء رديفات لهن، وتحاربهن، ولكنهن لا يشعرن
بنفس الغيرة من الرجل، بل يبررن نجاحه ويدافعن عنه، لأنه صورة الأب النبيلة
الخالية من العيوب، ولأن الأم في العمق، محجوزة لأماكن ثابتة: الحنان ـ
الدفء ـ العائلة...
حين تنشقّ بعض النساء عن هذا الدور التقليدي للمرأة «الأم ـ الزوجة ـ
العشيقة ..»، فإنهن يحرصن على أن يتميزن وينفردن بهذا الانشقاق، في عالم
الرجال، على طريقة «شوفوني» التي كشفها السوريون الساخرون من النجوم
المارقين، المتعطشين للظهور، وهنا، فالمرأة الخارجة عن النمط المرسوم لها،
وهو أمر يحسب لها من دون شك، ويستحق التقدير، إلا أن ما لا يجب السكوت عنه،
هو نرجسية الانفراد بسبق الموقف المخالف للمجتمع، بحيث تتحول هذه المرأة
إلى نموذج فرداني، يحقق إنجازات شخصية، تتعلق بسياق ذاتي، من دون أن يضيء
في نفس الوقت، على النساء الأخريات العالقات في الظل.
الترويج مثلاً، بأن المرأة إن أرادت الثورة على حياتها، لفعلت، إلا أنها
هي التي ترغب بتمثيل دور الضحية، هو استلاب لإرادة المرأة، التي تحول
العادات الاجتماعية من ناحية، والجهل بالحقوق من ناحية ثانية، والخوف من
العقاب والعنف من ناحية ثالثة، والقلق من النبذ الاجتماعي والوحدة في
مواجهة المصير من ناحية إضافية، وتفاصيل كثيرة ومخاوف تقف في وجه المرأة
لتحول بينها وبين صرخة التمرد، لا يمكن ردها جميعاً وحبسها ضمن قالب: عدم
إرادة المرأة بالتغيير.
لننظر من طرف آخر، إلى النساء الواصلات، اللواتي يستطعن الكتابة، والظهور
في الإعلام، هنا يمكننا محاكمة إرادة المرأة السلبية، بعدم التغيير.
النساء السيئات موجودات بكثرة إذن، ومن إحدى أشكال الدفاع عن المرأة،
تعرية هذه النماذج، التي تستخدم كليشيه المرأة، ليصعدن عليه لمتابعة قهر
المرأة.
النساء السيئات موجودات، وعلينا فقط التنبّه لوجودهن، اللواتي يُقصين
غيرهن من النساء، فقط لأنهن نساء. اللواتي يصادرن حق غيرهن من النساء
بالظهور إلى جانبهن، لأن الصورة لا تتسع إلا لواحدة. اللواتي يستبعدن
النساء وهن يدافعن عن قضايا النساء. يُزحن نساء متواجدات لينفردن بتمثيل
نساء غائبات، فعن أي نساء يدافعن!
النساء السيئات موجودات، إلى جانب النساء الجيدات، ومن الضروري الانتباه
إلى ميزان الحكم على الجودة أو السوء، لا من منظور أخلاقي تقليدي يربط هذين
المفهوم، أو المفهوم ذاته، وعكسه، بالربط المادي، الفيزيائي بالمرأة، بل
بأخلاقية تخدم تطور المرأة. بحيث نستطيع أن نحلل مواقف النساء، والرجال
طبعاً، إلا أن الحديث هنا مقصور على النساء، فإذا كانت تصب في مصلحة إلقاء
الضوء على معاناة النساء، وإذا كانت تحرّك فعلاً لدى المتلقي مشاعر قد
تترافق بسلوك من أجل رفع المعاناة عن النساء، فهي نماذج جيدة على الأغلب،
والعكس، حين تتصرف امرأة بطريقة تجعل الآخر، المتلقي، المجتمع، يحتقر
المرأة، فهن نساء سيئات.
قد يبدو الحكم الأخلاقي مجازفة، وقد يبدو هذا الكلام بمثابة ضربة قاصمة في
سلوك المرأة الفردي، المرأة التي ترفض جندرة مواقفها وسلوكها، لأنها تطمح
إلى الحرية بشكل أعلى، حرية متحررة من توظيفها في خدمة الآخر، وهذا من حق
المرأة، أن تتماهى مع الرجل، أو أن تشعر بالعلو على الرجل، بوصفها كائناً،
لا بوصفها الجنسوي، من حقها حين يكون هذا الأداء واعياً، دقيقاً، فهو أيضاً
يصب في مصلحة الكائن الإنساني، امرأة كان أو رجلاً، لكن ما لا يحق لها، أن
يكون ذلك الأداء، غير واع، بشكل يُفضي بطريقة مكشوفة أو مبطنة، إلى احتقار
جنسها.
حين تكتب امرأة عن العنف ضد النساء، فتقدم نموذجاً لرجل عنيف، يضرب زوجته،
أو أخته، وفي سياق المعالجة، يتعاطف القارئ مع الرجل، إما لأن الكاتبة
تعني هذه النتيجة، لتبرر العنف، أو أن إحساسها بالدونية، لا قصدياً ربما،
يجعلها تنحاز إلى الطرف الأقوى، فتنسى الضحية، وتذهب برفقة المنتصر، الأب،
الذي تخاف، الكاتبة ذاتها، من عقابه، وإن بحرمانها من رضاه والطبطبة عليها،
حيث التواطؤ الباطني بين الأم والإبنة، يبرر في سردياته الطويلة، غفران
الأم. الأمر الذي تضمنه الكاتبة المنحازة إلى قضية المرأة في العمق،
والمنحازة، من دون وعي، إلى صف الرجل، لتملك صك الأمان، الذي لا يحمله إلا
الرجال.
قد تكون كاتبة هذه الكلمات، امرأة سيئة أيضاً وفق الميزان المفترض هنا،
لأنها ركّزت على السوء لدى النساء، ما يغفر لها ربما، أنها ترغب بهزّ
النساء القادرات، على الوقوف ضد الرجال، والتخلص من أمان الصك الأخلاقي
الذي يمنحه الأب ـ الزوج ـ الزعيم.
نساء الطغاة في العالم العربي خاصة، شريكات في غنائم السلطة، سيئات، وهن
يشجعن الطاغية، بالصمت، بالابتسامة المشجعة، بالاستمتاع بالوقوف في ظل رجل
جبار قاهر، يعيد إلى دونيتهن الاعتبار.
هل بدا الفصل واضحاً بين نساء عظيمات يقفن في الظل، أو في الضوء، خلف نساء
ورجال، ليدعمن حرية الإنسان، وحرية النساء كذلك، يسحبنهم ويسحبونهن، نحو
الضوء، وبين نساء متواطئات مع أنظمة القمع والاستبداد، حتى ولو في طريقة
الهمس السرّية، ليشرعنّ ركل النساء نحو الحضيض، أو المزيد من الحضيض؟