لم أتخيل أنني سأكون على مسافة دقائق عن منزل بلزاك، حين انتقلت إلى مسكني الجديد في الدائرة السادسة عشرة في باريس. حين صعدت شارع «رينوار» الطويل الممتد من سكني القديم في ساحة الدكتور هايم مقابل مبنى «منزل الراديو»، المطل على نهر السين وتمثال الحرية ـ النسخة الفرنسية، صوب بيتي الجديد في شارع»دولا تور»، فاجأتني تلك الحديقة، وخفق قلبي، تلك الخفقة التي أفهمها، والتي تثيرها روائح الكتابة، تلك القرابة البعيدة، اللصيقة.. هنا بيت بلزاك.
صار ذلك الشارع ملاذي اليومي، وحجّتي للتوجه نحو بيت الراديو، أو بيت الصحافيين في شارع كوشي الذي لا يبعد كثيراً عن مقهاي المفضل في»جافيل» وأنا أردد مقولة أبولينير، متوقفة في كل مرة، عبر مئات المرات التي قطعت فيها الجسر، أجل جسر ميرابو، حيث: لا الزمن يعود ولا الأحبة يرجعون. حيث بدأت روايتي قبل خمسة عشر عاماً، من ذلك المقطع الذي غنّاه ليو فيري: تحت جسر ميرابو، يجري نهر السين...
أتوقف أمام بيت بلزاك، أهبط الأدراج القليلة صوب الحديقة، لا يهمني المكان من الداخل، رأيته من قبل لمرة واحدة، مخطوطت بلزاك، أعماله، طاولة الكتابة، حياته هنا... تهمني الحديقة حيث ينتصب تمثاله بين الأغصان، وحيث أمارس ذلك النشيد السري الصامت، أتحاور مع أرواح الكتّاب، مؤمنة أنهم هنا.
شارع رينوار
من ساحة الدكتور هايم، يتفرع شارع رينوار، المسمّى باسم الكاتب فرانسوا ماري رينوار، في زاوية الشارع، يقع مقهى رينوار، والذي تغيّر اسمه بعد مغادرتي الحيّ.
في هذا المقهى، رأيت شخوص روايتي يدخلون ويخرجون، قادمين من بيت بلزاك في الشارع ذاته، خارجين من مقبرة مونبرناس، أو بير لا شيز، حيث يستلقي بلزاك. كتّاب وكاتبات، يحضرون من عدة أمكنة وعصور، يجتمعون في ذلك المقهى، ثم يستلقون في الحديقة الكبيرة لراديو فرانس، حيث يتجرأ البعض ويتنزّهون مع كلابهم هنا، أراقبهم من خلف نافذتي.
قبر سارتر
ما أن وصلتُ إلى باريس، حتى كانت مقبرة مونبرناس أولى محطاتي للذهاب إلى هناك. ضحك مني صديقاي وأنا أطلب منهما الابتعاد قليلاً ليتركانني أختلي بسارتر. هناك، فوق قبره، حيث تسمع سيمون دو بوفوار المدفونة معه، كل ما أقوله، ولا أجرؤ أن أطلب منها الابتعاد، لإتمام خلوتي مع سارتر.. هناك عرّفته على نفسي، وحدثته عن السنوات الطويلة التي انتميت فيها إليه من دون أن يعرفني، وشكرته على ما منحني إياه. كل هذا، قبل أن أنقلب عليه لاحقاً، وأتقرّب أكثر من تلك المرأة، التي قمعها بشكل ما، أعني دو بوفوار، وهذا ليس موضوع اللحظة.
منزل الكسندر دوما
كنت أتجول في بروتانيا، في تلك المدن الصغيرة المترامية على شاطئ البحر الفاصل بين فرنسا وبريطانيا، وفي مدينة (روسكوف) التي مررت عليها في طريقي إلى مدينة (مورليه)، حين توقفتُ لتناول الطعام قبال البحر، وبينما أقطع الشارع، من موقف السيارة، متجهة صوب المطعم قرب الشاطئ، استوقفني ذلك البناء، وتلك العبارة: الكسندر دوما في روسكوف.
لولا ذلك العبور غير المقصود، لما انتبهت أن الكسندر دوما أقام هنا، في هذه المدينة البعيدة عن الضجيج والضوء، الواقعة في جغرافيا، تدعى (فينيستير) أي نهاية الأرض، للدلالة على انتهاء الحدود الفرنسية.
بيوت الأدب
يستعمل العامة هذه التسمية، رامزين إلى المراحيض،وثمة قواميس تستعمل اللفظة وتشرحها وتضع مرادفاتها كبيت الماء، أو بيت الخلاء، ولا أزال أجهل الرابط اللغوي بين بيت الأدب بالمعنى الشائع الشعبي، أي أماكن الخلوة الفيزيولوجية، وبين الأدب الذي أفهمه أنا، وعلى الأرجح، فإن التسمية مأخوذه من اللغة التركية، التي تسمّي المرحاض بأدبخانه.
شارلفيل أي رامبو
كتبتُ كثيراً عن بيت رامبو الذي تركته خلفي في شارلفيل، عن قبره، عن حلمي بنقل ضريحه إلى باريس حيث كان رامبو يفرّ من تلك المدينة المثقلة بالطاعة العائلية، وحيث دفنت معه أخته في القبر ذاته، لتكريس الولاء العائلي. أحسست بروح رامبو المثقلة بالضجر وأنا أتحدث إليه بالعربية التي ربما كان يجيدها أو يعرفها قليلاً، حيث تاجر في بلادنا العربية، وعشق اليمن...
بيت الصحافيين
أما البيت المطل على المقبرة، حيث يشعر الصحافيون القادمون من بلاد القمع بخوف الموت، وهم يطلّون على الموتى كلما أفاقوا وقبل النوم، هنا كنت على أولى مواعيدي مع ميرابو، حيث أخرج في كل صباح، قاطعة حديقة سيتروين الضخمة في الدائرة الخامسة عشرة، لأتوجه بعدها إلى الجسر، فأتوقف أمام التماثيل المذهلة المنتصبة تحت الجسر، وأدندن أشياء أخرى لليو فيري، كأن أقول: أفيك لو تومب: مع الزمن!
هنا، في الطابق الثاني كنت أكتب قبالة المقبرة، عن بعد، ولم أرغب بالكتابة فيها، كما كنت أحلم أحياناً، كان الموتى، كلما عبرت بينهم، يشوشون أفكاري ويعيقون مخيلتي.
في تلك الغرفة الصغيرة، كان لكتابتي بيتها، وكانت تسترخي بطمأنينة مؤقتة، حتى وأنا أستلقي بعد منتصف الليل، محتضنة كتابتي، بينما سكارى آخر الليل يعبرون من تحت نافذتي ويملأون الشارع بالصراخ والشتائم، قبل أن يأتي البوليس في بعض الأحيان.
بيوت الكاتبات
هو إغواء شخصي ربما، أن أدوّن في قائمة (بيوت الكاتبات)، أسماء الكاتبات، وعنوان البيوت. الكاتبات الصديقات اللواتي دخلت بيوتهن، ولا تغويني بيوت الكتّاب. حيث لمسة الكاتبة المرأة، تختلف، حسب تجربتي.
بيوت صديقاتي الكاتبات، العربيات والغربيات، البيوت المتناثرة، كحبات مسبحة من اللؤلؤ، أو عقد منفرط من الماس، في أنحاء العالم، في باريس، في برلين ،في القاهرة ، في قطر، في حلب، في بيروت، في أمستردام، في استنبول...
كاتبات مثلي، متنقلات في أكثر من بيت، مزدوجات البيوت، متعدداتها، يحملن حقائب السفر من بلد لبلد، من بيت إلى بيت، مملوءات بالقلق وشغف المكان، حالمات بالاستقرار، حيث الكتابة تتعارض مع التشرد والانتقال، حيث النساء يرغبن بوضع الرحال في أرض واحدة، أرض أخيرة، هي غالباً: غرفة لها، كما كتبت فيرجينيا وولف.
الكاتبات المرهقات من الترحال، حيث تثير الفنادق ذعر الكتابة، كاتبات نساء لم يتصالحن مع هاجس الترحال الرجالي ربما، حيث أقام جان جينيه في فندق، ورفض البيوت، حيث الرجال يعيشون في المؤقت، بينما النساء يحلمن بالثابت المكاني، من اجل خلق كتابة متغيّرة، هل يمكننا جندرة المكان الإبداعي، أو بيت الأدب!
تكوين الخراب، سقوط البيوت
حين غادرت سوريا منذ عشر سنوات، لم أتخيّل أنني لن أستطيع العودة إليها، كنت أحلم بمغادرة البلاد، لأعيش في بيئة آمنة تحتضن كتابتي، ولكن منذ ثلاث سنوات، تغيّرت أحلامي، صار كل همّي أن أعود إلى تلك البلاد وأُدفن فيها. كما لو ان أحدنا لا يعرف قيمة الشيء الذي يكون بين يديه، لهذا فإن منفاي اليوم هو عبارة عن طبقتين من المنفى، الطبقة الأولى، التي يعيشها جميع المنفيين من مختلف أنحاء العالم، الحنين والشوق والذكريات ومحاولة التأقلم مع البلد الجديد وتعلم اللغة والعادات والاندماج، بمعنى إعادة بناء حياة جديدة والبدء من الصفر، لكن الطبقة الثانية من المنفى، هي الاستثنائية، هي بدء المنفى من جديد، بعد الاندماج، وخسران الانتماء كلياً، الانتماء للبلد الأول الذي تركته، فانتميت إلى البلد الجديد، ثم خسران الانتماء للبلد الجديد، بعد أن تعرض البلد الأول للحرب. هو وضع يصعب شرحه، يحتاج لوقفات سردية تحلل كيف نبني بلداً في المنفى، ثم يتخرّب كل شيء... ما أحياه الآن باختصار هو الخراب. أعيش على أنقاضي وأنقاض ما حولي فيما لا يشبه المكان، بل فيما أدعوه باللامكان، هذه الحالة من التأرجح بين حدود البلاد، والاغتراب بقسوة، وكأن لا شيء لي.
بعد هذا الخراب المادي والمعنوي، سقوط الأبنية والعمارات الشاهقة والبيوت، بحيث يبدو ذلك السقوط المُذهل لبرجي التجارة في نيويوك مقطعاً تفصيلياً أمام مشهد السقوط اليومي لبيوت السوريين، حيث صور الدمار، تشوّه المخلية، هل يمكن للكتابة أن تكون ملاذاً وبيتاً للكاتب، أو الكاتبة؟ هل يمكن لدفتي الكتاب المطبوع، تعويض الكاتب عن جدران البيت؟ بحيث يكون الأدب هو البيت والجنسية والانتماء والوطن، لنقنع أنفسنا بأنه ليس للكاتب من وطن، سوى الكتابة
مها حسن