في روايتها الجديدة “طبول الحب” تذهب الكاتبة السورية مها حسن مع الحب وعبر الحب نحو استحضار المعاني الجديدة للحرية والأسئلة الجديدة التي ولدتها ثورة الشباب السوري في مرحلة نضاله السلمي، ملتقطة التأثيرات الواسعة والعميقة التي تركتها على واقع بطلة الرواية وحياتها، باعتبارها تشكل ولادة جديدة للشخصية السورية أو استعادة لها بعد عقود من الضياع والقمع والاستبداد.
لعل ما يميز رواية “طبول الحب” هو اشتغالها على
العالم الافتراضي الذي تجري فيه أغلب أحداث الرواية، وتتطور من خلاله،
بصورة تواكب فيه وتتماهى مع الدور الذي لعبه هذا العالم في إيصال صوت
الثورة ووقائعها اليومية إلى العالم، رغم كل محاولات التعتيم والمراقبة
واستهداف الناشطين في هذا المجال، وصولا إلى فضح ما يرتكبه النظام من جرائم
بحق المتظاهرين السلميين في المدن والأرياف السورية.
كتابة الثورة
تترك
مها لأحداث الرواية ووقائع الثورة أن تروي الحكاية كلها من خلال علاقة حب
افتراضية تنشأ بين بطلة الرواية التي تتولى مهمة السرد، وبين إحدى الشخصيات
الحقوقية الفاعلة في النضال السلمي في مدينة كفر نبل إحدى قرى ريف إدلب
المعروفة. تختار الروائية شخصية تعبر عن حالة التعايش والتداخل الحاصل في
المجتمع السوري بين مكوناته الدينية والطائفية المختلفة، هي شخصية بطلة
الرواية، التي تنتمي إلى أسرة مثقفة، والدها المسلم متزوج من امرأة مسيحية
تعرف إليها عندما كانا يدرسان في أوروبا، وقد تزوجت رغما عن إرادة والديها
من شاب مسيحي، وسافرت معه إلى باريس لكي يكملا دراستهما الأكاديمية العليا
هناك، لكنهما ينفصلان بعد سنوات قليلة بسبب التباين بين شخصيتيهما، ممّا
يجعلها تعيش وحيدة مكتفية بوظيفتها كمدرسة في الجامعة. يفتح المجال
الافتراضي أمامها مجال كسر هذه العزلة والتعرف إلى عدد من الأصدقاء تستعيد
معهم ومن خلالهم ذكريات أيام دراستها الجامعية، وعلاقات الحب الأولى التي
عاشتها في جامعة دمشق، وبذلك يتحرك السرد بين زمن الرواية الحاضر والزمن
الماضي، مستخدمة لذلك تقنية الفلاش باك أو العودة نحو الوراء. لكن العلاقة
الغريبة هي التي تنشأ بينها وبين شخصية يوسف سليمان حتى تغدو الحامل السردي
لوقائع تلك الانتفاضة وتحولاتها، التي تتعرف إليها من خلاله، كما تكشف عن
ذلك حوارات البطلة إيزابيل معه، حيث يشكل الحوار في هذا المكان الأسلوب
الأفضل للتعبير عن أفكار الشخصيتين ومواقفهما من الثورة، وما كان يطرأ
عليها من تحولات ترتبط بطبيعة علاقة كل منهما بالثورة، ورؤيتهما لما يجب أن
تكون عليه، وهي بقدر ما تكشف عن تباين طبيعي في وجهات النظر، فإنها تكشف
عن تباين في الموقف بين من يعيش الثورة على أرض الواقع ويواجه الموت كل
يوم، وبين من هم يتابعون أحوال الثورة من الخارج.
مثقفون سلبيون
يتحرك
السرد في بداية الرواية على مستويات عدة مركزا على إبراز تفاصيل حياة
العزلة التي كانت تعيشها إيزابيل قبل الثورة بغية إبراز الأثر العميق
والواسع الذي أحدثته انتفاضة شباب الثورة على شخصيتها (أحسست وكأنني احتضن
سوريا كلها بين ذراعيّ. سوريا التي تركتها منذ عشرين سنة، وظننت أنها مركب
محروق بالنسبة إليَّ. ها أنا أشعر باستعادتها وبالانتماء لها، وأشعر بأن لي
أصدقاء سوريين أرغب في معانقتهم جمعيا).
تبقى الرواية دون نهاية تعبيرا عن إدراكها بأن الثورة وأحداثها الدرامية المتصاعدة قد باتت دون أفق منظور أو نهاية قريبة يمكن توقعها
تستخدم الكاتبة العنونة بدلا من التقسيم التقليدي لأجزاء الرواية حيث يلعب
العنوان دورا محوريا في تكثيف واختزال الموضوع الذي يدور حوله السرد. كذلك
تعمد الكاتبة إلى توظيف الوثيقة بشكل مكثف لكي لا يشكل عبئا على حركة
السرد وتناميه، وهي عبارة عن شهادات لصحفيين أجانب منشورة، تتضمن مشاهداتهم
عن العنف الشديد الذي يرتكبه النظام ضد المتظاهرين السلميين والمناطق
الثائرة.
لا تخلو لغة السرد في هذه الرواية من شاعرية تحاول فيها
بطلة الرواية أن تكشف عن حالة توحدها مع أحداث الثورة وشهدائها (أعرف أنهم
سيأتون مضرجين بالدماء. يأتون ململمين أشلاءهم الممزقة. يقذفون بأحلامهم
المبتورة تحت وسادتي، يتحدثون إليّ حتى اليقظة، يئنون من آلام الرحيل،
ويوصونني ببقايا بيوتهم وأصص الزهر وشتلات الشجر، وأغطية الأسرة وتفاصيل
هائلة أسمعها بإصغاء يمنعني من خداعهم بلحظة غفوة عميقة إذ أكرر وصاياهم).
إن أهمية الدور الذي يلعبه الحوار في هذه الرواية هو أنه ينقل لنا مواقف
شرائح وفئات مختلفة مع الثورة وضدها، بحيث ينقل لنا صورة مركبة وواسعة عن
تلونات المشهد السوري المختلفة واختلاف وجهات النظر وتبايناتها، ولا سيما
بعد أن مرّ أكثر من عام على الثورة، عمد النظام فيه إلى ارتكاب المزيد من
جرائم القتل والتدمير المنهجية أمام أنظار العالم الذي لم يفعل شيئا لإيقاف
هذه الجرائم. لذلك يحتل الحوار مساحة كبيرة من الرواية تعرض فيها الساردة
لتلك المواقف وفي المقدمة منها مواقف المثقفين التقليديين السلبية من
الثورة، كما يمثلها والدها وأدونيس على خلاف خالها السياسي المعارض الذي
كان يشارك في المظاهرات رغم تقدمه في العمر بعد أن رأى حلم الثورة قد تحوّل
إلى حقيقة.
ديمقراطية السرد
يمكن القول إن هذه الرواية هي رواية شخصيات نظرا لعددها الوافر الذي تقوم
بطلة الرواية بالحديث عنها ونقل آرائها تجاه الثورة. كما تفعل ذلك في
العتبة السردية التي تقوم فيها بالتعريف بشخصيتها، وهو ما يتجلى في عناوين
مشاهد الرواية، التي تتلاحق في سياق حركة بطلة الرواية في المكان ولقاءاتها
المختلفة مع شرائح وأجيال مختلفة (خالو إلياس- ريما خوري- كاتيا- يوسف
سليمان- رانيا) إلى جانب الكثير من الشخصيات التي تلتقي بها وتعرض لوجهات
نظرها أثناء الحوارات، التي تدور في الأماكن التي تلتقي فيها بأصدقائها في
دمشق وحلب، على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم وقناعاتهم تجاه ما يحدث
وانعكاساته على الحياة والمجتمع ما يدلل على ديمقراطية السرد في هذه
الرواية. لكن الأهم رغم الحشد والتكثيف الذي تعرض له الكاتبة في مشهد
النهاية لصور القتل والاغتصاب والتدمير التي تتدافع أثناء لاوعيها بعد
إصابتها، بغية تجسيد المشهد السوري بكل فظاعاته ودمويته، تبقى الرواية دون
نهاية تعبيرا عن إدراكها بأن الثورة وأحداثها الدرامية المتصاعدة قد باتت
دون أفق منظور أو نهاية قريبة يمكن توقعها بعد أن اتخذت المواجهة بين
النظام والمعارضة طابع المواجهة المفتوحة على الرغم من اختلال موازين القوى
بين الطرفين، وبعد تخلي العالم عن مسؤولياته الأخلاقية تجاه ما يحدث من
فظائع، لم تستطع أن تجعل السوريين الثائرين عليه يرفعون راية الاستسلام،
كما يتوهم النظام من وراء جرائمه التي ليس لها مثيل أبدا في تاريخ البشرية.