د. شيرين أبو النجا ـ أخبار الأدب
تبدو المسألة الكردية أحد شظايا الاشتعال السوري وهي في القلب منه أيضا. ولأنها من أكثر المسائل حساسية في العالم العربي بوصفها أحدي مسائل الهوية فإن مها حسن الروائية السورية (الكردية؟) تعبر عنها كما هي بدون تزييف أو تجميل في روايتها الثالثة "حبل سري" (الكوكب رياض الريس، 2010) فتكتب عن "الترحال الكردي، ولماذا لا يحس الكردي بالانتماء إلي المكان، وخاصة إذا كان ذلك الكردي امرأة. أي لماذا لا ترتبط الكردية بالوجود، ولماذا تظل تحت الوجود، وخلفه، لا في العدم، بل علي حافة التواجد، لا موجودة ولا معدومة، بل منفية في الفيصل بين العالمين؟" عبر قصة غاية في المحلية تسرد تفاصيل حياة أسرة كردية ممتدة تعيش في حلب، تتمكن مها حسن من توظيف هذه المحلية لتعيد طرح أسئلة قديمة في سياقات جديدة.
تنشأ حنيفة في ظل أسرة كردية نمطية، فالأب متزوج من امرأتين (كردية وعربية) تشتعل بينهما المشاكل المعتادة فيقرر (أو بالأحري تقرر له العائلة) أن يطلق واحدة منهما، وهو ما يؤدي إلي رسم أقدار حنيفة التي تعاني من النبذ والإقصاء بعيدا عن جو الأسرة. ولأنها لا تشبه أمها كثيرا تتحول العمة- حنيفة أيضا- إلي الأم الروحية الحقيقية، ولذلك ينفطر قلبها عندما تختفي حنيفة الصغيرة. بهذه الواقعة تتشكل رؤية حنيفة للعالم من حولها، فيبدأ الترحال علي المستوي النفسي مع المحاولة الدائمة للامساك بجوهر المعني الغائب عنها. بيد أن هذا النبذ والتهميش الأولي يتجلي في شكل تميز وتفرد يمسك عصب السرد من البداية حتي النهاية. فالنبذ هو ما يدفع حنيفة إلي طرح الأسئلة منذ أن كانت تلميذة بالمدرسة، وإذا كانت الأسئلة حينها تدور حول "لماذا" فإن الأسئلة تطورت لاحقا- بعد انتقالها إلي فرنسا- لتحاول الوصول إلي "كيف"، كيف يمكن تحديد الهوية الكردية التي لم يكن لها وطنا، كيف يمكن الشعور بالانتماء الذي لم يتوافر من قبل. تدور أفكار حنيفة- التي تتحول إلي صوفي في فرنسا- بسرعة كبيرة وبشكل غير مترابط أحيانا في تلك المساحة الجدلية التي ترسم علاقة الهوية بالوطن، وإذا كانت هذه العلاقة تكمن في قلب المسألة الكردية، فإن الأمر يتضاعف مع حنيفة بوصفها امرأة.
استفاضت الأدبيات النقدية النسوية في تحليل فكرة الهوية التي تتشكل بين ثقافتين، بين عالمين، كل منهما يحمل لغته وتراثه وتاريخه. وقد أدت هذه الأدبيات وغيرها- التي لم تعتمد علي التنظير فقط- إلي تقويض الفكرة السائدة عن الهوية بوصفها ثابتة علي مر الزمان واختلاف المكان. شكلت حنيفة هذه الهوية المتعددة برغبتها، أملا في الهروب من ماضي مؤلم، إلا أنها ظلت تتأرجح بين العالمين ولم يكن لها مكانا في النهاية سوي أن تقبع في المنطقة الفاصلة بينهما تحاول أن تمسك بخيط واحد ولا تنجح، يتمكن منها القلق الوجودي وتدرك أنه القدر: "لا أستطيع العودة إلي الوراء، ولا العيش في الآنية، لا مصير لي سوي الترحال الأزلي، الخروج الأبدي، وكأن البيوت لم تصمم لتكون لي...". تترك كل شيء غير مكتمل لتبحث عن غيره يحقق لها المراد، ولا تجد ملاذا سوي السباق مع الريح- وسيلة هروب- في السيارة أو علي الدراجة، فتترك حياتها غير مكتملة وتفقدها في لحظة سرعة جنونية. وكأن الموت- ليس بمعني الانتحار- هو ما كانت تبحث عنه صوفي/حنيفة. تترك حياتها بشكل مفاجئ وتوكل الآخرين ليكملوا لها الأجزاء الناقصة من الصورة. تموت صوفي لتصبح أكثر حضورا في السرد وفي حياة الشخصيات عبر كل وجودها السابق وبصماتها، وعلي المستوي المادي تترك أكبر مشروعين: الأول هو رواية بدأتها تشتبك فيها مع "الخيميائي" لباولو كويلهو (كيف تريد الشيء بشدة حتي تحصل عليه)،أما المشروع الثاني فهو ابنتها باولا التي تركتها صغيرة وقام آلان- رفيق صوفي في حياتها- بتربيتها.
إذا كان التسلسل الأمومي قد بدأ بالعمة الكبيرة حنيفة ومر بصوفي فإنه يستمر مع باولا، التي تعلن: "أحس أحيانا أني شبح أمي، أني لست أنا بل جزءا اقتطعته أمي وتركته هنا، وها هو يكبر مع الأيام، ويصيرها، أنا لن أصبح أنا، وأحقق وجودي الخاص بي، ما لم أحل لها مشاكلها، لا تزال صوفي تنظر إلي العالم بعينين مفتوحتين، أريد أن تغمض عينيها وترتاح". هكذا تعود باولا إلي الوراء متتبعة خطوات أمها ليحط بها الرحال في مسقط رأس أمها. تعيد باولا كافة التفاصيل في وسط العائلة الممتدة، حتي ينتهي بها الأمر إلي الزواج من روني لتنجب الزا ويستمر التسلسل الأمومي. في إقامة باولا في حلب تعيد مها حسن سرد التأرجح بين ثقافتين من منظور مختلف، وتضمن حكايات النساء هناك التي تستمع لها باولا، لتكشف عن الإشكالية الأزلية الكامنة في الثقافة: الحرية، بمعناها الفلسفي الذي لابد وأن ينعكس علي الواقعي. تفهم باولا المسألة الكردية في علاقتها بالديمقراطية الممنوعة، وتفهم أنه من أجل القضية الكبري لابد وأن تسحق الحريات "الصغيرة"، وتتأكد أن حبها لروني قد بدأ ينقل حياتها من خانة الحرية المفروغ منها إلي خانة الخضوع طواعية، "أنا كامرأة ما لم أستطع أن أكون حرة في تصرفاتي الصغيرة، كيف سأدافع عن الحريات الكبري، حريات الاعتقاد، الحريات السياسية، الحريات الوجودية...". بتتبع خطوات أمها تجد باولا نفسها في ذات المأزق الذي مرت به صوفي وهو ما يدفعها إلي العودة مرة أخري إلي فرنسا لتضع حملها هناك.
إن الأسئلة التي تطرحها رواية "حبل سري" تمس جوهر ومعني الحرية، حرية العيش في الأوطان، وحرية اختيار الانتماء. وهي الأسئلة التي تعيد طرح العلاقة بين حقوق النساء وبين حقوق الأوطان، تلك الإشكالية التي بدأت منذ عهود الاستقلال ولم تنته حتي الآن. فالأوطان دائما ما تؤجل حقوق وحريات النساء من أجل العمل علي "القضايا الكبري"، ومن أجل إرساء الديمقراطية تدريجيا، فينتهي الأمر إلي إخضاع وخضوع النساء بوصفه أمرا مقررا سلفا ومفروغا منه. ولإعادة طرح مسألة الحرية والهوية يوظف السرد التقابل بين الشرق والغرب بمنظور مختلف كليا عن الأعمال الأدبية المعروفة في هذا السياق، فينتفي عن الرواية صفة طرح حوار بين الثقافات أو عقد مقارنة. في بحث باولا في "التيه"- تيمنا بالخيميائي- تصل إلي الجوهر الذي بحثت عنه صوفي طويلا، وفي بحثهما معا يبقي آلان كشاهد (كاتب) علي تسلسل أمومي قوي يعتمد علي ما يشبه تناسخ الأرواح. وكما تتداخل الأرواح تتداخل الكتابة فلا نستطيع تحديد من الذي يكتب: صوفي أم حنيفة أم آلان أم باولا