لكل صباح رائحته. ولكل صباح رائحته التي لا تشبه أية رائحة أخرى، ولا أية رائحة أي صباح آخر. بل تتغير الرائحة بتغيير المكان، من القرية، إلى المدينة، إلى البلاد
فرائحة حلب، لا تشبه رائحة باريس، ولا رائحة باريس تماثل رائحة أمستردام
في صباحات باريس، غالبا ما تداهمني رائحة حلب. كلما خرجت من المصعد في الطابق السابع، تلصصت على طهو جارتي المغربية، عبر الرائحة، لأستردّ حلب، روائحيا
كنا نغادر المدرسة جائعات، نحن طالبات البكالوريا، ونبدأ بفتح شهواتنا الروائحية لترصد أنواع الطبخات التي تحتويها مطابخ بيوت الجميلية في حلب. نأخذ بتعداد الأطباق التي نتصورها من خلال الروائح الهاربة من طناجرها، محشي، فاصوليا خضرا، بامية... هممممم فلافل. والفلافل هي سيدة الروائح، تشدنا رائحتها، نتوقف أمام بياع الفلافل، ولكننا نكتشف أننا لا نستمتع بالنكهة، بل تغوينا الرائحة
ولكني الآن في أمستردام، الغريب أني لا أتفقّد رائحة حلب، بل تداهمني رائحة باريس كلما استيقظت في الصباح، وقبل أن تمتزج رائحته بأنفاس الهولنديين. كما لو أنك حتى تتيقن من امتلاكك أو حيازتك لرائحة مدينة ما، عليك أن تذهب إلى المدينة التالية، التالية فقط
حلب لا تأتيني في أمستردام، حلب التي تقفز روائحها في مطبخي، حين أكون وحدي، فأتفنن بالإتيان بحلب، عبر الملوخية خاصة، والتي لا يمكن التكتم على طهوها. إن ما يقفز في نافذتي الصباحية في أمستردام، هو باريس. أفتقد باريس في أمستردام، تماما كما أفتقد بعضا من حلب في باريس. وكما علي أن أفتقد أمستردام في بروكسل
أستيقظ في بعض الصباحات الأمستردامية، ممتلئة برائحة بروتانيا، الواقعة في غرب فرنسا. والمطلة على الأطلنطي والمانش. لرائحة الصباح البروتوني خصوصية لا تفارق ذاكرتي الشمية. ولكني في أمستردام، فكيف تقفز رائحة الغرب الفرنسي، إلى الشمال الهولندي
كما لو أن رائحة المكان تتنقّل، تلحق بالذاكرة. فرائحة الربيع الحلبي، تستطيع أن تتسلل إلى رائحة ربيع ما في جونفلييه، حيث بيتي في الضاحية الباريسية. ورائحة الحقلة الصغيرة المنزوية في حوش عمتي فريدة، المزروعة بالفول، تستطيع أن تنطّ فتحطّ في شارع هوتبول في الحي التاسع عشر في باريس، قريبا من بيت صوفي. من قال أن الروائح تلصق بالمكان !
إن الروائح تولد في المكان، ولكنها تغادره، إن غادرنا. يكفيها أن تتسجل في ذواكرنا، بوصفها رائحة المكان الفلاني، حتى تتنقل معنا، وتنضم إلى خزان الروائح القابع بداخلنا، والذي يميز بدقة في أي صباح، كهذا الذي أصفه الآن، لأقول وأنا في أمستردام متنشقة الهواء بعمق، زافرة ذاكرتي من رئتي: يا له من صباح بروتوني، أو، كما أني في تريغومور على الكوت دا أرمور
تأخذ الرائحة، آن ولادتها في مكان ما، هوية المكان. ثم تتحرر من المكان، حاملة اسمه كتمييز لها. تتجاوز الحدود والمطارات والحقول الشاسعة. أنا الآن في أمستردام، وثمة حلب تتنفس جواري، في صباح ما، صباح آخر، غير هذا الصباح
لا أعرف إن كنت حقا في أمستردام، في شقتي قريبا من أمستل، أم أني في بروتانيا، في تريغومور. إذ أن هذه الأغنية التي لا تتوقف، تربطني إلى طاولة الحديقة في منزل تريغومور، حيث يغني سونوريون دو "ماريو سي برومين ".. ماريو تتنزه