mercredi 21 décembre 2016

شيء من وجع الروح في زمن الحرب

شكري المبخوت ـ ضفة ثالثة


ليست رواية "مترو حلب" لمها حسن، رواية عن الحرب في سورية وفي المدينة التي دمرتها الهمجيّات المتصارعة كما قد يوحي بذلك عنوانها. إذ يبدو أن ما يقع في سورية يحتاج إلى مسافة أوسع للتأمّل حتّى يفتح أرشيف الوجع السوريّ لتروى قصص الناس وعذاباتهم. بيد أنّ هذا هو حلم الكاتبة سناء، صديقة سارة الشخصيّة الساردة في الرواية. فهي في حالة عطالة روائيّة وإبداعيّة تحلم أن تكتب يوميّات الحرب والنزوح: "أذهب إلى المخيّمات، ألتقي النساء خاصّة، أتعمّق في حياتهنّ، وأدوّن كل ما أجمعه من قصصهنّ: الأرامل، اللّواتي أخذت الحرب أزواجهنّ. الأمّهات اللواتي فقدن أولادهنّ في الحرب. العاشقات اللّواتي سلبتهنّ الحرب قصص حبّهنّ" (ص 67).
 ولعلّ هذا الحلم، بحسب النهاية التي اختارتها مها حسن لروايتها، هو ما جسّدته سارة حين قبلت اقتراح الصحفيّ الفرنسيّ يان مرافقته إلى حلب، حتى تكون دليلته التي تطمئنّ لها العائلات والنساء فتدوّن شهادات الحرب والمخيّمات.
ولا أخفي أنّ هذه الخاتمة بدت لي أقرب إلى رغبة المؤلّفة منها إلى ما تفرضه الممكنات التي يتضمّنها النسيج السرديّ في الرواية. فقرار سارة المفاجئ الذي جعلها تختار حلب الماضي (أو لتكن حلب الحلم) بعد ضياعها في متاهة مترو باريس ضياعا حقيقيّا ورمزيّا في آن واحد، لم يكن من باب حسم أمر تأرجحها المؤلم بين مكانين، باريس وحلب، فمشروع حريّتها الذي عنوانه الفنّ لا يمكن أن يكون في حلب الحرب والدمار. إذ قالت لها أمينة أمها في رسالتها المسجّلة إليها:"أنت الآن امرأة حرّة (...) عيشي هنا واستمتعي وكوني ما ترغبينه" (ص 158) و"انظري في داخلك تري عمقك وتفرّدك" (ص 218). فبين حلب التي كانت في الرواية مدينة انقطاع الماء والكهرباء والفرقعات والطائرات والقصف والخوف، وباريس التي صورتها الراوية على أنّها مدينة الحريّة والفنّ والجمال والأمان، وإن بشيء من النمطيّة التي اعتدناها منذ أدب الرحلة في عصر النهضة إلى روايات طه حسين والحكيم وسهيل إدريس، لا شيء يبرّر أن تتجاوز سارة ما تسمّيه مرض "خلل المنافي" بالعودة إلى حلب المدمّرة. لذلك جاءت الخاتمة تعبيراً عن رغبة المؤلّفة التي خلقت لتسرد وتكتب الحكايات من باب الوفاء لأمّها الحقيقيّة "معلّمتها في السرد" و"معلّمتها في اختيار النهايات" كما تقول منذ فاتحة الكتاب. ولكن يبدو أنّ الخاتمة تحمل مشروع رواية جديدة عن حيوات الناس وعذاباتهم في سورية الحرب والدمار. هذا ما تشي به خاتمة "مترو حلب" وإن لم تكن مها حسن قد وعدت به.
حيوات مبعثرة

قدّمت مها حسن رواية يختلط فيها ضرب من التخييل الذاتي يقوم على تداعيات شابة تبحث عن هويّتها الفرديّة بعد أن اكتشفت سرّا خطيرا في حياتها. وهو يمتزج بكتابة سيرة غيريّة للخالة أمينة التي سجّلت اعترافاتها وباحت بأسرارها كلّها لسارة بعد أن دهمها مرض عضال. ويضاف إلى هذه التشكيلة السرديّة بوح الأمّ "هدهد" عبر الواتس آب والدفتر الذي دوّن فيه والدها وليد يوميّاته، وليد الذي ظلّ يعيش على ذكرى زوجة هجرته وإن تزوّج هدهد أختها التي ضحّت بحبّها لعادل كي تصون العائلة من فضيحة محققة بعد فرار أمينة مع جيرار.
وبهذه الفسيفساء السرديّة تبني مها حسن، عبر تفاعل الأجناس السرديّة الفرعيّة وتفريع الحكايات، رواية عائليّة مشوّقة مثيرة تتداخل مع رواية البحث عن الهوّيّة التي تريدها سارة. وهذا ما منح الرواية كلّها، بتعدّد رواتها ووجهات النظر فيها، تلوينات مختلفة وإضاءات متعدّدة لم تلغ الخطاطة العامّة للحكاية الأساسيّة بقدر ما مكّنت من وضع اليد على تردّدات إنسانيّة عميقة ومصائر مبعثرة وحيوات متشظية تلتقي وتفترق لتعمّم أزمات جلّ الشخصيّات في الرواية وخيباتها وآلامها الدفينة.
ولنا أن نسمّي هذه الرواية رواية المرايا المتجاورة. فالحكايات تتناظر والشخصيّات، خصوصا النسائيّة منها، تتقاطع فيكمّل بعضها بعضا أو يكشف، عبر لعبة الصور والخيالات، الحالات النفسيّة المتعدّدة. فسارة حين اختارت العودة إلى حلب، كما ذكرنا، كانت صورة من حلم صديقتها سناء الروائيّة، وأمينة كانت تحلّل، وهي تروي سيرتها، ما في نفس سارة من خوف وشوق إلى الحريّة عبر الفنّ، وحتّى دارلين الطفلة التي ترافقها سارة وتحضنها في غياب أمّها للعمل تصبح مرآة لسارّة يوم كانت صغيرة ترى فيها صورتها.
إنّ في هذا التداخل ولعبة المرايا بعض السرّ الذي جعل رواية "مترو حلب" تتقدّم في مسارات متعدّدة دون أن تفقد الخيط الناظم لنسيجها السرديّ.
استعارة الأرجوحة
وليس هذا التأرجح بين أجناس السرد والحكايات المختلفة المتكاملة إلا مظهر من الاستعارة الكبرى التي تشدّ الرواية كلّها: استعارة الأرجوحة والتأرجح إلى حدّ الترنّح أحيانا. فسارة منذ الصفحات الأولى تتأرجح بين باريس حيث تقيم وحلب التي غادرتها لزيارة خالتها. ولكنّها كانت ترى في تفاصيل باريس ومشاهدها كلّها ما يذكّرها بحلب. كانت في حالة حلم وأحلام يقظة مستمرّة. ولا سبيل لها إلى التخلّص من هذا التأرجح المدوّخ إلا أن تكتب "كتاب المنامات" لتتأكّد أنها في باريس، و"كتاب الحرب" لتتأكّد أنّها ليست في حلب. ولكنّ المشروع الحقيقيّ للرواية هو أن تكتب كتابا ثالثا يمثّل سيرة خالتها الممثّلة الشهيرة كما روتها لها. وأمينة لا تؤمن بالصداقة ولا الحب ولا العائلة ولا الوطن. اختارت فرنسا وطنا وقطعت كل الأسباب التي تشدّها إلى سورية. فهي لا تؤمن إلاّ بفنّها وبهوّية عالميّة تجسدها في المسرح والجمال، هويّة تتجدّد مع كل شخصيّة تتقمّصها، هويّة متحوّلة.
بيد أنّ سارة ظلّت الحبل الذي يشدّها إلى الماضي ولم تستطع قطعه. وها هي تدعوها إلى فرنسا وتلتقيها في الثلاثين لتبوح لها وتعترف بكلّ شيء. ومن هنا بدأ تأرجح سارّة. رأسها في حلب وجسدها في باريس. فقد كانت الصدمة على قدر السرّ الذي اكتشفته فكيف لها أن تعيد بناء هوّيتها؟
تركب المترو من محطّة باريسيّة ولكنها تحلم بالنزول في محطّة بحلب (ص 15). وتبدأ سلسلة من الالتباسات التي أضفت على النصّ إيقاعا خاصّا محبّبا. فالمترو عند سارة هو الرابط بين الباريسيّين بجميع ألوانهم ولغاتهم وإيديولوجيّاتهم وأديانهم. وحلمت سارة بأن يكون لحلب مترو أيضا. لذلك رسمت، وهي المهندسة المعماريّة، خارطة لمترو يغادر في باريس من إحدى المحطات المعروفة  ليصل إلى مكان ما في حلب: القلعة، سوق الهال، سيف الدولة، الموكامبو، كنيسة اللاّتين. وما هذا التداخل بين خريطتي باريس وحلب إلاّ صورة من التأرجح الذي سكن عقل سارة ووجدانها إلى حدّ الفصام والهذيان منذ أن اكتشفت أنّ كلّ ما عاشته لا يعدو أن يكون وهما وخداعا تقول: "أصلا لا أعرف أين أعيش ولست متأكّدة من أيّ شيء في حياتي" (ص 170) ثم تقول في موضع آخر: "من أنا وأين أنا وماذا أفعل هنا وما هو بلدي الحقيقيّ ومن هم أهلي" (ص 199). فالحرب تدور رحاها في حلب ولكنّ حربا ضروسا اندلعت في عقل سارّة. إلى أن وصلت إلى حالة ضياع حقيقيّ في مترو باريس تُسْلِمها محطّة إلى أخرى ولا تجد للخروج منفذا. صار مترو باريس عندها متاهة حقيقيّة.
 ولئن أبرزنا مظهراً من تأرجح الشخصيّة الرئيسيّة سارة فإنّ جميع الشخصيّات في "مترو حلب" تعيش، على طريقتها، داخل هذه الأرجوحة النفسيّة التي تجعلها لا تجد لنفسها مستقرّاً.
لقد تفاعلت في الرواية حكاية سارة وهي تعاني خلل منفاها وأزمة هويّتها، مع حكاية عائلة ظلّت تحمل لثلاثين عاما سرّاً كبيراً تفكّكت خيوطه مرّة واحدة بعد أن دمّر نفسيّات الجميع. ولكن الحرب السوريّة لم تكن إلاّ خلفيّة عامّة لا نسمع منها إلاّ أصداء للدمار والمعاناة والمنافي وحلم البحث عن مكان آمن، ولا نرى في الرواية منها إلا تحوّل الثورة إلى حرب والحرب إلى "أحداث" وملامح من معارضة سوريّة في باريس تنقدها مها حسن نقداً لاذعاً (ص 51 - 60 وص 212).
فهل كانت العودة المفاجئة إلى حلب، في نهاية الرواية، تداوياً من خلل المنافي بالمكان المألوف؟ أم كانت في الواقع رحيلا من منفى إلى منفى بعد أن حوّلت الحربُ السوريّة ألفة المكان إلى وحشة وغربة؟  
* أكاديميّ وروائيّ من تونس
- See more at: https://www.alaraby.co.uk/diffah/books/2016/9/27/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%AC%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8#sthash.vAxcdXud.dpuf