jeudi 29 janvier 2015

تجريم الكتابة






تجريم الكتابة

لماذا تكتب؟ سؤال تقليدي، لكنه متكرِّر وقائم، يُطرح على الكاتب، وأحياناً يطرحه الكاتب على نفسه. ولكن السؤال الذي يُطرح في الثورات أو الحروب، ليس- فقط- لماذا أكتب، بل: هل أكتب؟ وما أهمّية أن أكتب؟

كما لو أن الكتابة تفقد شرعيتها، وتفقد مبِّرر وجودها أمام ضخامة الموت والخراب. كأنك تمسح الغبار عن مزهرية أو تعدّل وضع اللوحة في منزل طارت جدرانه وأثاثه ومات سكانه. إلى هذه الدرجة تصبح الكتابة ضئيلة وعديمة الأثر.

«
طبول الحب» هي روايتي السادسة. بدأت الكتابة منذ أكثر من عشرين عاماً. أولى رواياتي منشورة سنة 1995، ولكن هذه الرواية لها مكانة خاصة بين رواياتي، لأن ظروف كتابتها مختلفة. أنظر إلى هذه الرواية نظرة خاصة، أشعر أنها رواية هشّة. هنا يمكن الحديث عن الكتابة الهشّة، حيث ظروف كتابتها خاصة، يتداخل فيها الفني مع الإنساني.

تعرفون جميعكم أَرَق الكتابة، ذلك الأَرَق الإبداعي المصاحب للذّة الإنجاز، وإخراج نصّ من العدم. أما أن تكتب في ظلّ الحرب، فهو- بحَدّ ذاته- بمثابة الجرم، إنك لا تعيش عدم اللذة فقط، بل تحيا في محاكمة مستمرّة: محاكمة قبل الكتابة، محاكمة في أثناء الكتابة، محاكمة بعد الانتهاء من الكتابة، محاكمة بعد النشر.

الكتابة في زمن الثورات محاكمة متعدِّدة الطوابق والمستويات، كأنك ترتكب جرماً تُحاكَم عليه في كلّ لحظة.

أنت تكتب، بينما غيرك يموت تحت التعذيب، تحت القصف، تحت البراميل، فكيف لا تشعر- في كل لحظة- بتأنيب الضمير، والإحساس بأن نجاتك وكتابتك هي ترف تحياه، بينما غيرك يبحث عن بقعة ضوء أو لحظة تنفُّس أو رغيف خبز؟

بينما أنت تكتب، هناك كاتب مات جوعاً في المعتقل. بينما أنت تكتب، هناك صبية اغتُصبت. بينما أنت تكتب، هناك بيت وقع على أصحابه.

تحاكم نفسك في لحظات الكتابة. هل من حقِّك أن تكتب؟ أليست الكتابة ترفاً؟

ثم تقول لنفسك: وماذا أفعل إذاً؟ أنا لا أجيد سوى الكتابة.

هي محاكمات مستمرّة، متداخلة، تبدأ من مرحلة شرعية الكتابة، ثم تدخل في مرحلة جدوى الكتابة، لتنتهي في مرحلة ضرورة الكتابة، هذا ما وقع لي. من شرعية الكتابة، أو لا شرعيتها، إلى جدواها انتقلت إلى ضرورة الكتابة.

كان عليّ أن أحافظ على المزهرية واللوحة والسجّادة رغم الموت. هذه الأفعال ليست عدمية، بل، على العكس، إنها تخنق العدم وتعدمه، إن صحّ القول.



ضرورة الكتابة



اليوم، وبعد مضيّ عامين على صدور روايتي، وأكثر من عامين على كتابتها، أعود إلى الوراء مقارِنةً بين زمن كتابتها والزمن الذي أحيا فيه الآن، فأشعر بالرضا لأنني أنجزتها. هذه الرواية التي خفتُ من عدم شرعيتها، وأرّقني دوماً سؤال جدوى الكتابة، تقودني يوماً تلو الآخر، مع قساوة وعنف المشهد السوري المتزايد في كل يوم، إلى القناعة بأنني كنت على حقّ حين انقدتُ خلف حدسي الكتابي، وأصغيتُ إلى أصوات الأشخاص الذين شاركوني أحلامي وكوابيسي، وطالبوني بالكتابة. اليوم أتأكَّد من ضرورة الكتابة، حيث السؤال العدمي المخيف: (ماذا تفيد الكتابة؟)، يُقابَل بمنتَج حقيقي، ملموس، واقعي، يحيل العدم إلى مجرّد احتمال، ويمنح الوجود احتماله الآخر. أي أن الكتابة- بحدّ ذاتها- هي خلق ضدّ الموت. هذا الكتاب الذي بين يديّ، وكتب الآخرين، والأعمال الفنية الأخرى من موسيقا ورقص وسينما ورسم.. كلها أدوات توثّق الحياة، وتلعن العدم. إنها تشبُّث بالحياة، هذا على المستوى الوجودي الذي يُظهر أهمّية الكتابة رغم الموت، أما على الصعيد اليومي، والفني، والسياسي، والإنساني، فإن الكتابة ضرورة.

إنها ضرورة تقودني إلى نتائج خاصة تتعلَّق بتجربتي الكتابية خلال السنتين المنصرمتين:

1 -
القول إن الكتابة في أثناء الحدث تشكّل خطراً على الكتابة هو قول غير صحيح. أو غير صحيح في بعض الحالات. بل الكتابة الطازجة في أثناء الحدث توثّق اللحظة الانفعالية التي قد يصعب استعادتها في زمن الكتابة التالية للحدث. أو ما يسمّى مرحلة هضم واستيعاب الحدث ثم الكتابة عنه. نحن هنا أمام كتابة مختلفة، كتابة غير مصنوعة، كتابة مغمَّسة بوجع حقيقي لا بوجع متخيّل. أذكر أنني كنت أشعر بألم في معدتي في أثناء كتابة بعض الفصول لأنني عشت أحداثها، أو عاشها مقرَّبون لي.

2
ـ التحوُّلات الكبيرة التي طرأت على المشهد السوري، وانتقال الثورة السلمية إلى حرب أهلية من ناحية، وحرب بين السوريين والأجانب من ناحية أخرى، والاقتتال بين الأجانب أنفسهم على مشاريع أيديولوجية تتحقَّق في سورية بعيدة، جذرياً، عن طموحات الثورة السورية، التي قامت لتحقيق مفاهيم مدنية داخل سورية من أجل السوريين. بعد كل هذه التحوُّلات كان من الضروري وجود أعمال أدبية توثّق للثورة، قبل وقوع هذه التحوُّلات، التي تعيق الآن الكتابة عن الثورة.

حين كتبتُ «طبول الحب»، لم يكن في ذهني، ولم أتخيل وصول أحلام الخلافة الإسلامية إلى سورية وانتشار الفكر الجهادي، واليوم، يصعب الكتابة عن الثورة التي صارت في الصفوف الخلفية من المشهد. لهذا فإن روايتي- من وجهة نظري- هي توثيق للثورة- الحلم، وبالتأكيد هو توثيق غير قصدي.

3
ـ على الصعيد الشخصي المتماهي مع الأدبي: الزيارات التي قامت بها بطلة روايتي ريما إلى مدينة حلب، وتجوُّلها في شوارع وأحياء حلب، وساحة سعد الله الجابري مثلاً هو توثيق غير قصدي أيضاً للأماكن التي لم تعد موجودة، بعد كتابة هذه الرواية، حيث ساحة سعد الله الجابري قُصفت، وتغيّرت ملامحها.

لكل ماسبق، ولأن الكاتب لا يملك في الحياة من وسائل للتعبير عن مواقفه وآرائه أكثر من الكتابة، لهذا فإن الكتابة، مهما حاول الآخرون أو الكاتب نفسه، تجريمها في أثناء الثورة أو الحرب أو الكوارث الكبرى هي فعل وجود، وحالة مقاومة للموت والخراب، فعل بناء واستمرار ودفاع عن الحقّ بالوجود.

من هنا، يمكننا محاكمة النصّ فنياً فقط، لا أخلاقياً؛ هذا لو عدنا إلى المقولة القديمة بترف الكتابة في زمن الموت. وبما أننا طوينا صفحة المحاكمة الأخلاقية يبقى النص- في النهاية- هو المادّة التي يمكن محاكمتها كقطعة فنية.

شخصياً، وهذا رأيي الذي اختلف معي حوله بعض الذين قرأوا الرواية، أرى أنها من الناحية الفنية أقلّ مستوى من باقي رواياتي، لأن حجم المخيِّلة فيها قليل حيث الحديث عن واقع حقيقي لا يسمح بالكثير من اللعب الفني والابتكار، كما أن طبيعة الرواية ذاتها: الحديث عن موت طازج وجثث طريّة لا يسمح لي باللعب التقني وممارسة نزقي الإبداعي عبر اللهو الروائي. مساحة الفن قليلة هنا، وهذه من نقاط قوّة الرواية برأيي، وهذا ما اكتشفته لاحقاً، لأن الرواية كانت شديدة الصلة بالواقع، كأنني أكتب تحت خطّ النار، يغيب ترف (الفني) هنا، لكنه يحضر، دائماً، ضمن معادلة جديدة في الكتابة الطازجة، حيث يبدو دور (الفني) مغيَّباً عبر الحدث الآني، لكن أهمية (الفني) تكمن في إقناع القارئ- في نهاية المطاف- بأن هذا العمل هو رواية.

أحد عناصر نجاح العمل الفني هو خلق الحقيقة. أظن أن الرواية المكتوبة على عجل- كما توصف- ومن مطبخ الحدث، تستطيع أن تكون رواية جيدة إذا أبعدنا عنها مقياس النقد الأخلاقي الجاهز: تأثيم الكتابة، وأبقينا على السؤال الرئيسي: هل هي كتابة؟ لننجو بالكتابة، كفعل إبداع وفعل حياة وفعل سلام، كرد فنّي على محاولة الآخر لتعميم الحرب والعدم.

مجلة الدوحة 
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=6A7635A3-B836-4372-9F35-8ACEE64472E7&d=20150201#.VMsreSxsYZx