mercredi 21 décembre 2016

الطريق إلى مترو حلب

ليلى البلوشي ـ




« الإقامة والاستقرار في المكان ترف لا نمتلكه نحن أبناء الحرب، نسعى من محطة إلى محطة من هذه المنافي حاملين معنا أرواحا تسكننا من كل محطة، على التنقل من مترو باريس إلى مترو حلب والعكس».
تفتتح الروائية السورية المقيمة في فرنسا «مها حسن» روايتها «مترو حلب» دار التنوير 2016م على مدونة يومية تنطلق منها إلى سرد حكايتها المعلّقة ما بين مكانين شديدي الوطأة والثقل في الروح هما حلب وباريس، على لسان سارة، بطلة مترو حلب، تقول في احد يومياتها ما يشكل ازدواجية المكان وتحكّمها الكبير في أحاسيس ساره ورؤاها للحياة من حولها: «لديّ كتابان أدوّن فيهما: كتاب المنامات، لأتأكد أنني في باريس وكتاب الحرب، لأتذكر أنني في حلب، في مناماتي، أجدني في الغالب في حلب، أما في منامات باريس أشعر في الغالب بأنني في أجواء الحرب».
امرأة تم جلبُها من بلاد تخوض حربا إلى بلاد أخرى يجري الأمان في شرايينها الحيوية، أمان فوق طاقة ساره على التحمّل التي اعتادت على كل شيء في حياتها سوى الأمان المحض، هذا الأمان كان كثقب فاغر يشعرها بعمق غربتها في بلاد بادرة ولا تشبه ضجيجها الروحي الذي اعتاد على التوجس واللا أمان: « استغرق الأمر طويلا، منذ وصولي إلى فرنسا، لأكف عن الشعور بالذعر حين أرى رجلا أو امرأة من الشرطة، لم أتوصل حتى الآن إلى الربط بين الأمان الذي يحققه رجال ونساء البوليس هنا، وبين سلب الأمان الذي يتسبب به (البوليس) في بلدي..».
سارة التي تتقاذفها الصدمات على طول خط الرواية، تكون الصدمة الأولى أشبه باكتشاف غريب حين تعرف أن لها خالة في باريس، خالة تريد رؤيتها قبل موتها، من سيقرأ الرواية، سيشعر أن كل الذين كانوا محاطين بساره من أهل وأقارب وحتى أصدقاء كانوا وامش، صلتها بالآخرين تكاد تكون ملتبسة، لا تتعدى كونهم صلات لجلب الأخبار، شاشات عرض تتداخل معهم، مع حكاياتهم وهمومهم ومصائبهم وأزماتهم النفسية وخيباتهم لترى من خلالهم حياتها، لتتمسك بالثبات المهزوز، لتتشبّع بأرضها التي خلعت عنها رغما عنها وعلى غفلة منها، حلب وحدها استأثرت بكامل حواسها في الحياة، لم تكن الخالة « أمينة» سوى مصادفة جاءت على هيئة صدمة، وكان عليها، من باب المجاملة وربما الإنسانية المحضة أن تستجيب لطلب امرأة على وشك الموت بالسفر إليها لعدة شهور، هذه الشهور لم تكن سوى خدعة مؤقّتة لإقامة على وشك أن تكون كورطة أبدية، فكل من هم في بلدها الأحب، حلب، يجبرها بالبقاء حيث هي في كنف أمانها، حيث المستقبل المشرق والحياة اليسيرة، حيث لم يجرؤ أحد على إبلاغها بحقيقة إبقائها حيث هي، كانوا فقط، يخبرونها بأن الأوضاع في حلب مدمّرة، والحياة فيها تكاد تكون مدمّرة، حلب مدينة الهجران والتلاشي، مدينة يهربون منها لا يعودون إليها.
لعل لقاءها القصير بخالتها أمينة في باريس جعلها تستعيد ترتيب العلاقات في نفسها، لتكتشف أن كل ما حولها هامشي ومؤقت سوى عودتها إلى حلب، هي الحقيقة الوحيدة التي لا تريد دحضها في قلبها وفكرها أيضا: « كما لو أن فرنسا هي المكان الطارئ، المؤقت، الإسعافي الذي جئت إليه وانتظر انتهاء الحرب لأغادره، فرنسا كلها الآن بالنسبة لي مجرد فندق أو مشفى أو جسر بين جبلين، محطة هنا انتظر فيها القطار الذاهب إلى بلدي هناك، انتظر أن تنزلق قدمي في كل محطة فرنسية، لتأخذني إلى حلب».
كان الشعور مضادا بالنسبة لخالتها أمينة، فهي كانت دائما تشعر أنها فرنسية، هويّتها وكيانها وكلّها: «أنا فرنسية، أشعر بهذا العمق، ويخيل إلي أحيانا، أن ثمة من سرقني من فرنسا وأخذني إلى سوريا، ثم استعدت حياتي الحقيقية حين غادرت».
أمينة يمكن تسميتها مفجِّرة الصدمات في الرواية، أولا ظهرت كخالة ثم كأم لسارة، شخصيتها تكاد تماثل ساره، كل العلاقات في حياتها كانت مجرد هوامش، سوى المسرح، المسرح وحده كان حبّ حياتها الحقيقي، لقد تنازلت عن حياتها في حلب، تنازلت عن ابنتها، عن كل شيء راسخ في سبيل عشقها الأوحد المسرح، ومن خلال شخصيات التي أدّتها على خشبتها كانت تعيش اكتمالها كامرأة استغنت عن كل شيء، كان هذه التمازج والتداخل في عديد من الشخصيات يكسر غربتها الداخلية، بل كان يشعرها بالثراء والافتتان دون أن يساورها أي إحساس يُنغّص عليها تكريس حياتها لفنّها، ولا حتى بالندم لتخليها عن ابنة من صلبها، خلفتها وراءها إلى ماض ما عاد يمتّ لها بصلة، لقد تجاوزت أزمتها، تجاوزت ذكرياتها، واستطاعت أن تؤثث ما أرادته من حياة يلائم شبقها وروحها المتمردة، كانت أمينة شخصية متفردة من نوعها وجديدة، خرجت عن طور التقليدية في بناء شخصيات النسوية في الروايات العربية، حتى أن القارئ يكاد يتصالح معها، دون أن يمسّها بالأنانية، دون أن يُؤلب مشاعره عليها، لقد انتصرت أمينة حقا حتى على قارئها ونجت من المحاسبة، هي وحدها التي اختارت الحياة التي تريدها وحلت محلها أختها «هدهد» لتكون أمينة أخرى في نظر أهل زوجها، لتكون الوليمة والضحية في آن على حساب مشاعرها: « أختي التي سرقت حياتي، لم أعش حياتي، عشت الحياة التي اختارتها أختي ثم تركتها، لم أختر حياتي: لا زوجي ولا أقاربه ولا حلب التي تركت دمشق بسببها »، حتى وليد الذي تزوجته في لحظة عبث ثم هجرته في لحظة مطاردة لأحلامها الخاصة عانى من مغبة هذا النفي الذي كان خارج إرادته، والنتيجة لهذا الزواج العبثي هو ساره التي كانت عليها أن تحمل عبء ما فعلته أمها أمينة التي نبذت أمومتها بها حدّ الهجران، كان عليها أن تتقبّل تقاطيع الحياة التي فرضها عليها وضعها الطارئ الذي صار مصيرا لا يمكن الفرار منه، كان عليها أن تواجه الصدمات تباعا ولوحدها خاضعة لاختبار صادم لاستعادة ذاتها المسلوبة، ذاتها التائهة، ذاتها المتشبثة بحلب: « كأنني في ورشة التكوين، أحاول أن أثبت ملامحي الجديدة، لكن كلما نظرت إلى نفسي تظهر القديمة، أنا سارتان أو ثلاث: سارة ابنة أمينة سارة ابنة هدهد، سارة التي في باريس – سارة التي تريد أن تستسلم – سارة التي تريد أن تتمرد… ساره…».
كتابة الرواية بتقنية اليوميات كان ضرورة، لأن سارة كانت بحاجة إلى بوح شخصي، أن تستعيد من خلال فضفضتها الحميمة ثباتها الروحي الذي اختلّ على حين فجأة، توثيق المكان بالساعات والأيام كان حلّها الكفيل، كي لا تسقط في ثقب الغربة الممتد حولها بشدة !
اللغة المنولوجية التي سارت عليها ساره خرقت مسارها بأصوات بقية الشخصيات المتعددة في الرواية، لقد تحكمت الروائية « مها حسن » بشخصياتها بشكل فريد، ومنحت لكل منهم ومنهن، حيّزه الخاص من خصوصية البوح، لقد اقتسمت الحكايات بينهم بشكل يكاد أن يكون منصفا، كأن الأحداث صيغت بمكبّر صوت كبير، مرّر نفسه بانسيابية إلى كل شخصية في الحكاية، مراوغة بهدوء مثل صيّاد متمرّس، تركت لهم مساحة من الفردانية والاستقلال، فكل الشخصيات في الرواية لها مواقفها وبوحها، لها ما يشغلها وما يوتّرها.. ( أمينة، وليد، هدهد، سوسن، هالا، سناء، رولا، بوران، مُنية، نُزهة، عادل، شيماء، طارق، يان)، وحدها سارة كانت تراهم طريقها إلى مترو حلب.
« – ماذا تفعلين هنا وأنت ترتدين هذا الفراء الفاخر؟
أنتظر المترو.
لقد نزلت للتو منه.
لم يكن المترو الذي أريد.
أي مترو تريدين ؟
مترو حلب.. ».
في النهاية حدث تصالح ما بين المكانين، ما بين حلب وباريس، يتوحد المكانان في قاعها كمصير مشترك « أحس بأنني أولد من جديد وقد وجدت الجواب على السؤال الذي شغلني: أين أعيش، في حلب أو في باريس ؟ لاختار العيش معا، لا نتقل بين الضفتين، كأنني أركب هذا المترو الباريسي الطويل، لأنزل منه في محطة حلب و أعود من جديد إلى باريس».
وصار الطريق إلى حلب مُمهّدا.

مترو حلب للسورية مها حسن: وقائع هوس بالمكان

 محمد جميل يعقوب القدس العربي

على خلفية الحرب السورية تقدم الروائية مها حسن نوعا جديدا من أمراض الحنين، عندما تقبل الذاكرة بيانات جديدة وترفض معالجتها إلا بعد أن تمزجها أو تستبدلها كليا بمستودعها من الصور القديمة، الأمر يشبه نوعا من معاندة دارات الاستعادة العصبية المربوطة بالدماغ، ورفضا مبطنا للبقاء في مكان بديل، تقدم الكاتبة حالة هوس بالمكان يمنع المصاب به من التأقلم، حيث يرفض المكان «المرجع» أن يغادر ساحة الإدراك ويتمادى بتقدم نفسه دائما مكانا وحيدا ونهائيا كمتلازمة السمك والماء.
لا ترتبط الحالة بشكل مباشر بالحرب فهي مجرد لواعج داخلية او مطارحات مع الذات تنتاب بطلة الرواية، ثم تأتي الكاتبة لتربط بين علم نفس الحنين ويوميات العنف ووحشية الحرب، لا توجه الحرب سلوك البطلة ولا تؤثر بحالتها ولكنها توفر لها الدوافع لتبرر ما تقوم به وتهيئ لها مناخات ممارسة الحنين.
تعطي الكاتبة فرصة لبطلتها لتتفاعل مع المكان الجديد وتخلق لها محفزات للبقاء ومثبطات عن العودة، من ضمنها منزل في باريس ورصيد بنكي يقارب المئة وخمسين ألف يورو لكن سارة بطلة الرواية تتأبط أول فرصة حقيقة للعودة وتغادر المخمل الباريسي المترف إلى حلب، حيث الأتون الذي لا يهدأ أواره، ولا تبرر الكاتبة العودة إلى ساحة الحرب إلا بالضغط النفسي الذي يعاود البطلة كنوبات «الكريزا».
رغم الأمان المنتشر في باريس الذي تقدمه الرواية على شكل محطات مترو هادئة، وجيران حذرين ولكن لطفاء، والكثير من الأصدقاء المستعدين أن يفتحوا آذانهم للاستماع من دون عرض النصائح، ترفض سارة إلا أن تستحضر حلب بكل ثيماتها التاريخية والجغرافية المعروفة، تنتقي من باريس المترو بعجلاته وحجراته ومحطاته وحتى ركابة لتعود به ليستقر تحت بيوت حلب.
تحتل باريس الصورة البصرية ولكن تفاصيل حلب التي تشكل جينا منفصلا في خلايا سارة يرفض أن يبقى خاملا ويلج مستعيدا الماضي مغطيا جزءا مهما من صورة باريس، تُستدعى سارة على نحو غامض من خالتها لتأتي إليها في باريس تنتقيها من بين أخوتها بالاسم لتشهد آخر أيامها ولتُسمعها تفاصيل ذات طبيعة سرية يجب أن تُنقل بشكل شخصي، بدون تفاصيل السفر وتعقديات الجوازات، نجد سارة في باريس تعايش خالتها وهي تلفظ آخر أنفاسها تاركة وراءها ثروة من السرد الحكائي لتاريخ حياتها وتفاصيل هروبها المثيرة من دمشق إلى باريس على شرائط سماعية لا يمكن معرفة ما فيها قبل أن تغادر الخالة هذا العالم.
تبدو سارة واقفة على تخوم الثورة تشاهد المظاهرات وتشترك في بعضها، من دون خلفية سياسية كافية لتجد نفسها في باريس وسط غموض الخالة التي خُلقت فجأة من رسالة سريعة، من الملجأ الباريسي وباستماع صبور إلى أشرطة مسجلة تركتها الخالة أمينة، تعرف سارة بأنها كانت مجرد قشة في مهب إعصار عنيف، والخالة أم تركت ابنتها وهي صغيرة لتمارس هواية تحولت إلى شغف أطاح بزواجها وبعائلتها وبحياتها في دمشق، لا تبدو أمينة مقتنعة كليا بنجاحها الفني في باريس فهي تعترف بلوعة أن ارتباطها بابنتها التي تركتها رضيعة لم ينفصم، وها هي تعبر عن قوة هذا الرابط بتوريثها كل ما بقي لديها، هروب أمينة وضع على وليد عبء زواج يغطي به زواجه الأول وكلف عادل حياته كلها فقد تركته هدهد لتتزوج زوج شقيقتها الهاربة، تنهار بضع قصص حب دفعة واحدة لتعيش سارة، فتنمو في حلب بحضانة الأم البديلة هدهد، إلى أن تأتيها الدعوة اللغز. كل شيء في الرواية يدور حول سارة التي تكتشف مرض الحنين عند وصولها إلى باريس، الحياة في دمشق وحلب وباريس مكرسة لتعطي لسارة الشخصية الروائية المطلوبة، أنثى مسرعة بهرمونات كسولة تركض لتلاحق مواعيدها وليس صدفة أن يكون مترو باريس وسيلتها الوحيدة، تبرز سارة حتى على أحداث الحرب والثورة تقف شاهدة على شخصيات المعارضة وتعبر عن سخطها من كل شيء من دون أن يكون لهذا الموقف تداخلا مؤثرا على حالتها، ثم كما يتوقع القارئ تعود سارة الى مربعها الأول لتتخلص من حالات الأحلام النهارية المطبقة على صدرها على شكل صورة حلب، يأتي الرجوع وكأنه علاج لداء مزمن أكثر منه تلبية وطنية أو إخلاصا للمكان.
تلجأ الكاتبة، خاصة في القسم الثاني من الرواية إلى التراجيديا الموجعة، وتقدم نماذج مازوكية تحت عناوين الإخلاص و التضحية وتعتمد في آخر مشاهدها على الميلودراما لتقدم صورة شديدة الألم للقاء لم يحصل بين عادل وهدهد، كانت قذيفة الحرب حكما بعدم لقاء حبيبين، الصور النفسية للشخصيات كانت طاغية على أحداث الحرب، حتى تكاد الحرب كلها تتحول سايكولوجيا في وسط بحر من الشخصيات التي تصارع نفسها ولا تكف عن الهروب من الحاضر وكأنه خطيئة، تعيش كل الشخصيات ماضيها محاولة توقيف الزمن عند لحظة بعينها، رغم الحرب وواقعية الخراب. الحرب ليست هدفا روائيا فالمتن السردي يعتمد على سارة وما يدور بداخلها مع التعريج قليلا على الشخصيات الفائقة الإخلاص، أما الهامش فتحتله الحرب، ورغم مساحته الروائية الكبيرة فهو يبقى هامشا.

"مترو حلب" لمها حسن: ستديو تحميض صور الحرب بكيمياء الماورائيات

عبود سمعو ـ النهار



13 كانون الأول 2016 | 09:09
"مترو حلب" هي الرواية التاسعة للكاتبة السورية مها حسن الصادرة عن "دار التنوير للنشر"، حيث تجد سارة بطلة الرواية نفسها فجأة في منفاها الباريسي، غير قادرة على العودة إلى #حلب بسبب تصعيد العنف هناك، فتعيش حالاً من التأرجح وعدم اليقين في المكان، وتحلم بالعودة إلى مدينتها.
"تقول خالتي: حين أغمض عينيّ أرى نفسي فوق المسرح. المكان الحقيقي هو الذي يأتيك حين تغلقين عينيك أنا أرى حلب كلّما أغمضتُ عينيّ لا تغيب حلب. هي مكاني الحقيقي، و"كلّما مرّ المترو فوق السين أو المدينة، تخيّلت أنني سأنظر من النافذة، لأرى قلعة حلب أو سوق الهال أو حي التلل."
حبلان معلّقان على غصن شجرة النارنج في بيت عربي في حي الميدان بحلب، في أسفلهما وسادة قديمة. دفعة، دفعتان، ثلاث، ثمّ أعلى، فأعلى. هيييي، إنّها لذة التأرجح في الطفولة، مرفقة بغناء الأراجيح "هي دور اللحمة، وهي دور الشحمة، ويلي ما بينزل، رح يوقع ويتكسّر". مشهدان متناقضان في التأرجح، "مشهد أرض الدار المزدحمة بصواني البندورة وأمي مع عمتي وجارات جدّتي يعملن على عصر البندورة، ومشهد الحارة، حيث الدكاكين والناس. كانت الأرجوحة تدخل إلى الدار فأرى النساء من دون غطاء الرأس، مشمّرات أكمامهن وأثوابهن فتظهر سيقانهن العارية، ثمّ تخرج إلى الحارة، حيث النساء يرتدين ملابس محتشمة، أنيقة، ويختلطن مع الرجال".
نوبة أخرى من التأرجح بعد أعوام طويلة، هذه المرة في باريس، عندما سافرت سارة، بطلة الرواية، من حلب إلى باريس بطلب من خالتها، التي تعاني وضعا صحيّا صعبا. خالتها التي يعرفها أغلب الفرنسيين بأمينة دو دوماس، سيدة المسرح الشهيرة، تظهر فجأة في حياتها. تتشابك خيوط كرة الصوف في الرواية، بطابع سردي متقن، ثمّ لا تلبث أن تنفرج رويدا رويدا في باريس، وأثناء تفريغ سارة لأشرطة تسجيل خالتها على الورق، تكتشف أن خالتها هي أمّها الحقيقية، وهدهد خالتها التي ربتها، ودفعت ثمن حلم أختها الحالمة بالمسرح لتترك دمشق إلى باريس حيث تبدأ بتحقيق أحلامها تاركة خلفها ابنتها سارة وزوجها وأهلها وكل شيء شغفا بالمسرح. تجد هدهد نفسها مجبرة على الزواج من وليد، زوج أختها، والسفر إلى حلب، منهية بذلك قصة حبها بعادل، درءا للفضيحة.
مجددا المزيد من الاهتزاز، التأرجح، الثبات، اللذّة، الألم، الحقيقة، الحلم، حلب، باريس. أوه ماذا يجري؟ "تقول خالتي: حين اغمض عينيّ أرى نفسي فوق المسرح. المكان الحقيقي هو الذي يأتيك حين تغلقين عينيك. أنا أرى حلب كلّما أغمضتُ عينيّ لا تغيب حلب. هي مكاني الحقيقي". "كلّما مرّ المترو فوق السين أو المدينة، تخيّلت أنني سأنظر من النافذة، لأرى قلعة حلب أو سوق الهال أو حي التلل...". تلاقي الشخصيات في الرواية، لا يبدو روتينيا مملاً، فسارة التي التقت بطارق للمرة الأولى في تظاهرة جامعة حلب، أثناء زيارة المراقبين الدوليين لحلب آنذاك، وبينما كانت مع صديقتها تستقلان سيارة، في نزلة كلية الهندسة الكهربائية، وأثناء فض التظاهرة، على أيدي من يسمّيهم طلاب جامعة حلب "سلاحف النينجا" (قوات حفظ النظام)، وهرب الطلاب، طلبت من طارق ورفيقه أن يصعدا بسرعة إلى السيارة، ثم خلعت قميصها، ليلفه على يده المصابة، هذا في حلب مع بداية الثورة.
التقته في ما بعد في باريس، وبعد نوبة حنين مجنونة في محطات المترو وأرصفتها مع المشردين، ينتشلها مما هي فيه. بعد ثلاثين سنة، في شارع النيل بالقرب من حي السبيل، تماما في تقاطع الفتاة اليتيمة كاد أن ييتحقق لقاء هدهد بعادل لكنه لم يكتمل، فقذيفة واحدة وقعت فوق عيادة عادل الذي كان في طريقه إليها، أنهت كل شيء دفعة واحدة.
في الحقيقة، فقدت مها حسن أمها مرتين في حلب، مرة كونها سارة، ومرة أخرى هي هي مها بالتزامن مع الانتهاء من كتابة روايتها هذه، التي بدأتها بإهداء، هو جزء لا ينفصل عن الرواية، معنونة إياه "أمي ينبوع السرد" التي استشهدت نتيجة سقوط قذيفة على المنزل في حلب قبل عام تماما.
استطاعت مها حسن تحميض صور الحرب الداكنة، بكيمياء الماورائيات في مكان معتم، أكثر ما يشبه، أزقة قلعة حلب وأدراجها السريّة التي لن يكتشفها إلا عاشقان أرادا الاختفاء عن عيون الناس أوقات السلم، أو مسلّح متخفّ يحدث ثغرة في الجدار المقابل لسوق المدينة ليكشف بمنظار قناصته الطريق وإشارة (+) منتصف المنظار، أسفل رأس ضحيته في الحرب الدائرة الآن، لتخرج المشاهد بأبعادها النفسية، ظاهرة على ملامح كل شخصية من شخصيات الرواية, الشخصيات ضحايا أيضا، إلا أن الكاتبة كانت الضحية الأكثر مأسوية. لا تتجسد معاناتها فقط في تقمص معاناة السوريين، في كل مكان داخل سوريا بمختلف الرايات المرفوعة هناك، وخارجها بالتجمعات الصادقة منها والكاذبة، وأعواد السيلفي الإلكترونية المرفوعة أيضا في كل مكان في الخارج.
سافرت سارة إلى اسطنبول برفقة الصحافي يان، ومن ثمّ إلى غازي عينتاب. ومن هناك يدخلان إلى سوريا بطريقة غير شرعية مثل بقية الصحافيين، إلى عفرين ثم إلى أحياء شرق حلب، لتملأ مسامها بغبار الحب والحرب، ولسان حالها يقول: لا روزنامة للعام الجديد في الأحياء المحاصرة.
- See more at: http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=1147d01fy289919007Y1147d01f#sthash.RJoWiGd7.dpuf

رواية «مترو حلب» لمها حسن .. البحث عن سورية ما بين الهنا والهناك ! - See more at: http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=1147d01fy289919007Y1147d01f#sthash.RJoWiGd7.dpuf



كتبت بديعة زيدان:
"أين نذهب نحن السوريين؟ ما من مكان في العالم يتسع لنا. وحين يحصل ونجد مكاناً نحمل بلدنا معنا، ونقارن تفاصيل الحياة في كل مكان مع حياتنا في سورية، فلا نعرف كيف نعيش .. لا يمكننا التأقلم مع أية حياة. الآن، مجرد أن أحدنا سوري هي تهمة ونبذ مسبق. ثقيلة هي صفة اللاجئ التي تدمغنا..".
لعل هذه الفقرة في الصفحة الخامسة والستين من رواية السورية مها حسن الجديدة "مترو حلب"، تختصر رسالة الرواية الصادرة حديثاً عن دار التنوير في القاهرة، والتي اتكأت فيها حسن، على حالة من ديناميكية المكان والزمان، عبر تقنية سردية ممتعة تعتمد على إحداث التداخل ما بين الجغرافيات والأمكنة .. ما بين حلب وباريس، فترى في فرنسا مجرد فندق أو مستشفى أو جسر بين جبلين، أو محطة قطارات، بينما تمثل لها حلب حلم العودة، فتماهي الأمكنة الباريسية بأمكنة حلبية، وهو الأمر الذي ينطبق على زمن الرواية حيث المراوحة والخلط المدروس ما بين زمان مضى وزمان يعاش يطلق عليه "الحاضر"، ففي الرواية حالة من عدم الثبات تعكس حالة وطنها الذي يسكنها رغم الاغتراب والغربة.
وتتناول الرواية حكاية سارة القادمة من حلب، بناء على رغبة خالتها، والتي يتبين فيما بعد أنها أمها .. سارة التي تعيش متاهة المكان ورهبته، كما تعيش فيه ذكرياتها، فيختلط عليها كل شيء، حتى الأمكنة، لدرجة أنها تعيش حلب داخل باريس، فهذه الساحة الباريسية تشبه تلك الحلبية، بل يغيب المكان الباريسي أحياناً خلال احتضار المكان الحلبي، الذي يسكنها ولا تسكنه، بينما تسكن باريس ولا تسكنها على الإطلاق.
ولا تغفل مها حسن في "مترو حلب"، الحديث بجرأة عن غياب الثورة، وتحولها مع الوقت إلى حرب طويلة لا تزال تعاني من التدخل الخارجي، فهناك: النظام والشبيحة، وهناك المعارضة، و"داعش" أيضاً، وكأنها بذلك تضع يدها على الجرح النازف في بلدها دون أن تضمده، فهي كما بلدها وملايين السوريين كل بحاجة لمن يضمد جراحهم.
وثمة حالة أخرى من التماهي ما بين حكاية العديد من المبدعين السوريين وما بين حكاية سناء تلك الشخصية الروائية، والتي هي كاتبة تجبرها الحرب ومحاولات النجاة من الموت الذي يرفرف بجناحين أسودين فوق الجغرافيا السورية، إلى اللجوء في ألمانيا بعد استقدامها بوساطة ابنتها، وهي بذلك تعكس أزمة المبدع السوري عامة، والكاتب على وجه الخصوص، فيما بعد موجات اللجوء إلى أوروبا، حيث يصعب على سناء الاندماج في المجتمع الألماني، فتغادرها إلى سورية مرة أخرى .. ولصعوبة الكتابة في سورية، حيث القصف، والرعب اليومي، ورائحة الموتى تعبق في المكان، تختار اللجوء إلى بيروت القريبة، حيث التقاطعات كثيرة ما بينها وبين سورية التي يتواصل نزيفها، ويتوزع دمها بين القبائل، إن جاز التعبير، وهو ما تعبر عنه سناء بقولها: "يعني وين بدنا نروح بحالنا؟ لا سورية بقيت سورية والعالم مش شايفنا إلا شحادين وعبء عليه".
لا تزال سارة تعيش في باريس متاهة حقيقية، هي التي تقضي وقتها في التسكع في شوارع العاصمة الفرنسية، وربط الأماكن هناك أو هنا، بالأماكن في حلب هنا أو هناك .. "البيغال" يشبه "بحسيتا" .. "محطة سان لازرار" تذكرها بمحطة بغداد .. شارع "باريس" هو المعادل الموضوعي لشارع التل .. "مونتروي" كأنها سوق الهال .. "الشانزليزيه" كأنه حي العزيزية .. "مونمارتر" هي قلعة حلب .. مكتبة "جورج بومبيدو" تعيدها إلى ذكرياتها في المكتبة الوطنية .. أما المترو فلا "مترو" في حلب، مع اختلاط الهنا والهناك عليها!
وفي الفصل الثاني من الرواية المقسمة لستة فصول، أو فصل المفاجآت كما يمكنني أن أسميه، وحمل اسم "مالا تعرفه سارة عن هدهد أو العيش في حقيبة" .. تروي مها حسن حكاية أمينة وهدهد ووليد، وأمينة هي أم سارة، ووليد والدها .. أمينة تخلت عنهما وقررت الانحياز إلى حلمها باحتراف المسرح .. نعم اختارت أمينة عالم الفن والشهرة، في حين قبلت هدهد الزواج من وليد والاعتناء بسارة ابنة الشهرين، آنذاك، ولعب دور أمينة، بل واستخدام اسمها أيضاً .. وهنا برزت الحبكة الدرامية الإنسانية التي أدخلت من خلالها مها حسن القارئ في مستوى آخر أو طبقة أخرى من الرواية متعددة الطبقات.
تقوم هدهد بجمع كافة متعلقات شقيقتها أم سارة، من ملابس وحلي في حقيبة تحتفظ بها لأكثر من ثلاثين عاماً، لتقدمها ذات يوم لابنتها التي هي الابنة البيولوجية لشقيقتها، أي إلى سارة التي عاشت برفقة والدها وأمينة المصطنعة أو هدهد في سورية، إلا أن قذيفة ما تحرق البيت وحقيبة الذكريات، في إشارة إلى ما أتت عليه الحرب السورية المتواصلة حتى على مستوى الذاكرة، فقذيفة واحدة قادرة على حذف تاريخ عائلة بأكملها، أو حذف العائلة برمتها من سجلات الأحياء، مع أن الجميع في سورية أحياء ينتظرون الموت، في حين يعيش الناجون في شتات على امتداد جغرافيات العالم، ما بين بيروت والأردن وفرنسا وألمانيا والسويد، وغيرها.
في الفصل الثالث تتكشف الأسرار لسارة عبر الأشرطة التي كانت تسجلها لها أمها أمينة بنسختها الأصلية، أثناء مرضها، وخلال مغادرة سارة منزل من كانت تعتقد أنها خالتها .. أمينة التي تغلغل السرطان داخل جسدها الذي احتضن لتسعة أشهر قبل سنوات عدة سارة، اختارت أن تعيش آخر أيامها مع ابنتها، دون أن تخبرها بأنها أمها وليست خالتها، ودون أن تخبرها بالكثير عن مشاعرها وجاهة.
وفي خضم الحديث عن تفجيرات فرنسا وتأثيراتها على اللاجئين السوريين، والتفجيرات المستمرة في سورية، تقضي أمينة بالسرطان، بينما تقضي هدهد بقذيفة، في وقت كانت تنتظر فيه الهروب من حاضر مفجع وفج، إلى ماضيها الجميل بلقاء حبيبها الذي تخلت عنه ذات يوم للارتباط بزوج شقيقتها انحيازاً لسارة .. كات قررت أن تراه في عيادته، كانت تركض وراء الماضي الجميل لكن الحاضر القاتل كان أسرع بقذيفة لم تمكنها من استعادة شيء من ماضيها الجميل، كما هي سورية.
تحلم سارة بالعودة إلى سورية، وتحقق حلمها، ولو جزئياً، بمرافقتها لصحافي أجنبي لتغطية الحرب التي تطحن رحاها البشر وذكرياتهم وبلداً بأكملها هي بلدها .. ترافقه إلى سورية، ولكن هل هي سورية الحلم ؟ّ!