samedi 25 août 2018

الكتابة عملية سحرية تختلط فيها عقلانية الكبار بمغامرة الصغار


حاورها: كه يلان محمد


يقول الفيلسوف الألماني نيتشة نحن لانتحرر إلا من خلال التذكر وربما يكون فعل التذكر أمراً ملحاً في الأزمنة القاتمة عندما تضيع ملامح المستقبل وتطبع حاضرك صور محملة بالبؤس والدمار آنذاك يتحول التنقيب في الذاكرة إلى خيار وحيد هروباً من عدمية الحرب إذا كانت تقنية التقابل بين زمنين قائماً زمن الحرب وماقبلها في معظم الأعمال الروائية المكتوبة على إيقاع الحدث السوري «المحتشد بالآلام» فإن الكاتبة والروائية السورية مها حسن، تروم في روايتها «حي الدهشة» الصادرة مؤخراً عن دار ممدوح عدوان بالاشتراك مع دار سرد الخروج من إطار سرديات الحرب ولاتَذكر وقائع ما بعد الربيع العربي إلا لماماً بدلاً من ذلك تركزُ على أنماط الحياة في مساحة جغرافية (حي الهلك) في مدينة حلب إذ تعيدُ في مادتها الروائية بناء هذه البقعة المكانية مع إظهار دفء وحميمية المكان والاهتمام بترتيب وتمصيم محتويات العمل طبقاً لبرنامج سردي محُكم. وكان لـ «القدس العربي» حوار مع صاحبة «مترو حلب» حول عملها الجديد:
■ سبق وأن قررت التوقف عن كتابة الرواية بعد نشر عملك «عمت صباحاً أيتها الحرب» ولكن صدرت لك مؤخراً «حي الدهشة» هل جاء مشروع هذه الرواية إدراكاً منك بضرورة تقديم عمل مغاير لما أنجزته سابقا؟
□ بعد روايتي الأخيرة «عمت صباحاً أيتها الحرب» أحسست بحالة من العدمية. في هذه الرواية قلت الكثير عن الخراب الذي طالني وطال من حولي، وأحسستُ بعدم جدوى الكتابة وأنني لن أتمكن من إضافة أي شيء بعد ذلك السرد المحتشد بالألم، لكن مشروع «حي الدهشة» أطل علي وحده. حقيقة لا يعرف أحدنا كيف تتسلل إليه الكتابة، يحدث هذا بطريقة ساحرة، كما حين تكون في غرفة تجلب لك نافذتها نسائم تعبق بالذكريات، فتشعر كأن شخوصاً وأمكنة دخلوا غرفتك عبر ذلك النسيم. هكذا دخلت إلي شخوص الرواية، كنت مستلقية على أريكة مكتبي حين أحسستُ بمكان يتسرب من ذاكرتي، مكان بعيد أمضيت فيه بعض سنوات طفولتي الأولى، حيث كان منزل جدي لأمي في حي الهلك. شممت رائحة الحارة ورأيت وجوهاً قديمة. وهكذا رحت أصنع روايتي وأبنيها خارجة من بين أنقاض روايتي السابقة عن الحرب، كأن الطفلة التي كانت في سن الخمس سنوات تقريباً، تسحبني من يدي، لأخرج من تحت القصف، وأتابع الكتابة من مكان آخر، مكان هو الآخر لم يعد موجوداً اليوم إلا في ذاكرتي، لأن ذلك الحي أيضاً تعرض للقصف والتدمير، ولكن الطفولة لا تريد الاعتراف بالحرب، يبدو أن هذا ما جعلني أدخل لعبة الكتابة من جديد : سحر الطفولة.
■ يتفاعل نصك الروائي مع الأعمال العالمية والعربية من خلال تصدر عناوين الروايات والمسرحيات المؤثرة في المشهد الأدبي . ما الدافع وراء هذا الانفتاح المُباشر على نصوص أُخرى؟
□ سأكمل جوابي هنا، عبر آخر عبارة وردت في إجابتي السابقة (سحر الطفولة)، أعتقد أن الكتابة عملية سحرية، تختلط فيها عقلانية الكبار بمغامرة وجرأة الصغار. لجوئي إلى العناوين الروائية الشهيرة، هو لعبة للاستمتاع وكسر إيقاع السرد الذي قد يصيب القارئ بالملل أحياناً، وفي الوقت نفسه، هو تخطيط عقلاني يهدف إلى تقدير أهمية الرواية في حياة البشر، وخاصة في زمن الحروب والكوارث، وهذا ما حصل لبطلتي الشابة الصغيرة دريّة التي ساعدتها قراءة الروايات للعيش في عالم موازٍ في مخيلتها، عالم أنقذها إلى حد كبير من اليأس والخوف والموت.
■ يبدو اهتمامك بالمستوى البنائي واضحاً في «حي الدهشة» هل تعتقدين بأنَّ تصميم المادة الروائية وترتيب محتوياتها وفقاً لخطة سردية مُحكمة أصبح جزءاً أساسياً من عناصر التشويق؟
□ أظن أنه في زمن انتشار الكتابة، واتساع خريطة الكتّاب، صار على كل كاتب أن يبتدع أسلوبه ليحافظ على استقلاليته، وليشرعن ـ إن صح الوصف ـ حلمه الروائي. ومن هنا يأتي التكنيك الروائي بالنسبة لي، كأحد أهم ركائز النص المختلف. كما أنه من حق القارئ أيضاً أن يدخل في زمن القراءة مستمتعاً. أظن أن هذا التكنيك الذي هو بمثابة لعبة بين الكاتب والقارئ، يخلق نوعاً من الانسجام والارتياح بين اللاعبين، للذهاب بعدها إلى مرحلة تفكيك النص، والوصول إلى المعاني الكامنة خلف التقنيات الشكلية.
■ بخلاف ما يتابعه القارئ في (مترو حلب) و(عمت صباحاً أيتها الحرب) حيث تتراوح الأحداث بين الأمكنة فإنَّ مدينة حلب وبالتحديد حي الهلك يتحول في روايتك الأخيرة إلى مسرح لحركة الشخصيات وتعاقب الأجيال هل يعزى ذلك إلى إدراكك بأنّ تحويل مساحة جغرافية محددة إلى ركيزة أساسية في برنامجك السردي يخدمُ تماسك العمل أكثر؟
□ علاقتي بالمكان هي استجابة لصوت الطفولة بداخلي. كما أن هناك رغبة واعية لدي، تتعلق بشخصيتي البالغة الآن، بضرورة وضع هذا العالم المهمش تحت الضوء. هذا العالم ارتبط وجوده اليوم بالحرب والخراب. إذا ذهب أحدنا إلى محركات البحث في الانترنت وكتب أسماء حارات حلب القديمة، وحي الهلك منها، لقرأ مئات الأخبار وشاهد مئات الصور والأفلام، حول الحرب والاشتباكات. لا أحد يعرف هذه الأحياء بمعزل عن الحرب، لهذا كانت ثمة استجابة آنية عاقلة لدي، لصوت الطفلة القديمة البريئة والبسيطة، لإعادة تقديم هذا النمط من الحارات والأشخاص، ولكن قبل أن يقع عليهم هذا الخراب.
■ من يقرأُ «حي الدهشة» يتخيلها في إطار الأعمال الدرامية والسينمائية كون النص ضاماً لمقومات تَمده بالحركة والتشويق هذا إضافة إلى ما يشعر به المتلقي من حميمية ودفء المكان المُؤَطر للأحداث. هل كان هذا الأمرُ يهمك؟ أي تحويل النص إلى الشاشة عندما شرعت بكتابة عملك؟
□ كنت أكتب روايتي هذه محاولة أن أستمتع أنا بها. كنت ألعب مع ماضيي وذاكرتي، ومع أسماء الروائيين والروايات التي أحببتها وتأثرت بها. لم أفكر أبداً في مستقبل النص، وعلاقته بالشاشة. هذا السؤال دقيق يجرّني أيضاً إلى الماضي: حين كنت في ذلك السن، ورغم صغري، كنت أتقاسم مع نساء العائلة والجيران، مشاهدة المسلسلات التلفزيونية المأخوذة عن روايات : مثلا مسلسل اللص والكلاب، أو شجرة اللبلاب. أظن أن ذاكرتي اختزنت شكلاً سردياً تدفق في روايتي هذه بطريقة غير واعية، جلبتها لي تلك الطفلة التي كنتُها ذات يوم في ذلك الحي. دعني أشكرك على هذا السؤال الذي ساعدني لفهم المزيد من (سحر الطفولة) ودعني أقول لك كما يقول المثل: من فمك لباب السماء. لم لا.