samedi 25 août 2018

رواية السورية مها حسن «عمت صباحاً أيتها الحرب»: ليلة سعيدة أيتها الثورة




المثنى الشيخ عطية


في قراءتنا لرواية الكاتبة السورية مها حسن «عمت صباحاً أيتها الحرب»، سوف نقر من دون شك أنها كانت رواية متعبة، ليس للقارئ الذي استمتع مثلي بمتابعة الأجزاء المعروضة من حياة أبطالها تحت نار الحرب التي أشعلها النظام السوري ليحرق بها بلد وأهل سوريا الذين ثاروا على استبداده، وبمتابعة أبعاد وحلول تعقيدات البنية الظاهرة والعميقة التي تسرح الرواية في أرجائهما، وإنما كانت متعبة حد الإرهاق والتفكير بالتوقف عن الكتابة لدراسة هذه التجربة الغنية بعد إنجازها. مها حسن كاتبة أرادت خوض مغامرة بناء ملحمة للعائلة السورية، في حياتها ومعاناتها قبل وخلال الثورة، وخلال الحرب، وخلال التهجير والتشرد في مدن ودول العالم الظالمة للسوريين؛ في اللحظة/ البؤرة/ الحرب، التي يتحول شرها المطلق إلى إله أعمى يأكل الأجساد، ويمسخ الأرواح، وتُطلب مرضاته لاتقاء شرور غضبه. الأم الميتة/ شهرزاد الرواية، تختتمها هكذا: «الحرب، يا ابنتي. الأفعى المخيفة، لهذا رويت لك هذا الكتاب، ولا أزال أروي، طالما الحرب قائمة، أدللها، أجلسها في حضني، حتى إنني أكاد أقول لها متقية شرها: «بلغني أيتها الحرب السعيدة». لا، بل يفيق أغلبنا، نحن المدفونون في هذه الحديقة، في كل صباح، على الخوف الأعظم بعد الموت، لنهمس لها متصنعين الفرح: صباح الخير، أيتها الحرب الحبيبة»…
ومن الواضح لقراء هذه الرواية أن تصريح الكاتبة في مقابلة معها، بهذا التعب الذي استغرق أربع سنوات، لم يكن البتة إعلاناً لترويج الرواية. ففي شغلها المضني على إنتاج ملحمة للعائلة السورية، مؤثرة ومميزة وفق منظورها لفن الرواية، خاضت مها حسن تعب تحديات وقوعها في تكرار أسلوب غابرييل غارسيا ماركيز الذي تحاول مقاربته كما تصرح في شغلها على إيصال روايتها للواقعية السحرية؛ وذلك بالقفز فوق السرد البسيط الذي يقوم به كما تفعل الجدات، وعدم لمس نول نسجه الخفي لأبعاد بنيته العميقة الفانتازية ضمن هذا السرد، واللجوء بدلاً عن ذلك إلى التسجيل الواقعي لفظاعات وتشويهات ما جرى ويجري في سورية بما يفوق الخيال. هذا إلى جانب إضافة «كتابتها» كبطلٍ من أبطال الرواية، مع شرح أسلوبها بالتداخل مع الشخصيات العائلية التي انحدرت منها: «أمي العملاقة، الشتراوسية، النيئة، الماركيزية، المسكونة، خلقت عالمي السردي، حيث تقاسمتْ هذا الخلق مع جدتي، تلك المرأة المناقضة تماماً لأمي، جدتي لأبي، الرصينة، الحكيمة، حلالة المصائب، كأنها قاضٍ تلجأ إليها القرى والعشائر، وإن جلست في مجلس وقالت كلمة، تحولت كلمتها إلى حكم، لا يمكن دحضه. جدتي كانت النموذج المناقض لأمي. هي ملأت عقلي بالمنطق والرصانة والحكمة، وحررت أمي مخيلتي بالجنون والجن والرؤيا واستشراف البعيد».
وفي شغلها المضني على رواية تُدخل نفسها الصريحة مع كتاباتها السابقة بطلاً فيها (كمغامرة حساسة وراقصة على صراط النجاح/ الإخفاق، لكنها جسورة وباعثة على الاحترام مهما كان الخلاف حول الطريقة التي اتبعتها في هذا الإدخال)؛ تقوم الكاتبة بإحلال البيت مكان الأم الراوية ومفسرة الكتابة، وفقاً لتحليل غاستون باشلار، حول البيت والأم، وبربط بطلتها «الكتابة» بالبيت «كوطن دائم للكتابة والتخيل واكتشاف الذات والعالم، وإيجاد الحلول لأزماتها الحياتية والكتابية»، وفقاً لمارسيل بروست وزمنه الضائع؛ حيث: «أكتب كثيراً عن البيوت العديدة التي نمت فيها، وعن البيوت التي فقدتها… كأنني أعاني عقدة بروست ذاته وهو يجبر على مغادرة الزمن الجميل الذي صار بالنسبة إليه زمناً ضائعاً». وتخوض الكاتبة، بتصريحاتها المُدخلة المفسرة تلك لتكوينها النفسي ككاتبة بيتوتية، تحديات وضع إدخالاتها تحت مبضع دراسة الابتكار في آفاق الرواية الحديثة.
ومع  إدراجها للمعلومات والرسائل والمكالمات والرسائل الهاتفية والوثائق المجمعة من الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، كشغلٍ مضنٍ، في بنية روائية مثلى لتوليد التأثير، ومنح الحياة الدائمة لتجميعاتها، إضافة إلى هم وقاية الرواية من فخاخ إصدار الأحكام، في موضوع حساس ومعقد تشابكت فيه الصراعات الاجتماعية، مع المذهبية، مع القومية؛ تختار الكاتبة أسلوب سرد الشخصيات المتعارضة لذاتها وتبرير مواقفها وسلوكياتها بذاتها، ضمن ثلاثة عشر فصلاً تضم مائة وسبعة عشر عنواناً تنبض تحت خفق أجنحتها الحكايات التي تتقطع وتتواصل لتشكل الرواية. وتتضح مماهاة هذه الطريقة بأسلوب ألف ليلة وليلة، وبتصريح واضح من الكاتبة، مع سردية شخصية الأم التي تلعب دور شهرزاد الروي، في سردها لمعاناتها ومعاناة أهالي حلب المدنيين تحت قصف صواريخ وبراميل النظام المتفجرة، مع استعادات لحياتها تعكس تفاصيل الحياة الاجتماعية المشتركة لتعايش السوريين مع بعضهم، على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم قبل وبعد تمزيقها من قبل حرب النظام عليهم. ذلك كله بالإضافة إلى إغناء هذا المحكي بسرد آرائها في حكاياتها، وبأسلوب ابنتها في الكتابة، بما يوفر إضاءات في بلورة شخصيتيهما، وبلورة أسلوب الكاتبة في رواياتها، والأهم: تحميل شخصية هذه الراوية الحرة ضوء نقل الرواية من التسجيل إلى الواقعية السحرية. وسواء أن يُلحظ هذا من خلال شخصيتها الطليقة إلى حد الجنون، أو من خلال جعلها تروي وهي ميتة مدفونة في حديقة، ولا يقطع كلامها المباح، صياح ديك الفجر، وإنما أصوات القذائف والانفجارات التي تصيب برعبها الأموات.
مع فتح آفاق التشويق في هذه البنية، وفي مقابل السرد الشهرزادي على لسان الأم الميتة التي تروي لتعيش، ما يجري من قتل وتهجير في الداخل؛ تسجل الكاتبة معاناة السوريين على دروب التهجير واللجوء التي تكمن فيها أنياب الموت في كل تقاطع ومنعطف وموجة، في المناطق الأخرى من سوريا، وفي تركيا، واليونان والسويد، من خلال سرد الأخ الأصغر لها حسام، الشاب السوري الكردي الذي التحق بثورة الحرية والكرامة منذ بداياتها، وشارك في مظاهراتها السلمية، وكان أحد المؤثرين فيها داخل حارته في حلب التي يسودها منطق تكافل وصداقة الحارة، دون سؤال عن الدين أو المذهب أو القومية. كما تسجل (من خلال تجربة معاناته في الهرب خشية اعتقال النظام له، ومروره بتجربة تمييزه من قبل الجيش الحر، والفصائل المسلحة ككردي عليه أن يسجن أو يموت، في صراعها مع فصائل الـ»بي كيه كيه»، والـ»بي واي دي» الكردية المساندة للنظام)، أحداث وتفاصيل سرقة الثورة الديمقراطية السلمية برعاية النظام من قبل الفصائل الإسلامية المسلحة، وتصفية الديمقراطيين الذين قامت على مظاهراتهم الثورة. كذلك تسجل، على لسان الأم والأخ، خذلان العالم للسوريين، وإطلاقها نبوءة معاناة العالم نتيجة مساهمته في إجهاض ثورتهم.
وتكمل الكاتبة صورة ملحمتها السردية بتصوير أبعاد التمزق الاجتماعي، المذهبي، القومي، السوري الذي اصطنعه ورعاه النظام بخلقه للفصائل المسلحة كي يقوض الثورة، من خلال سرد شخصيات الموالين والمعارضين للنظام: بنات الأخت وزوجة الأخ الموالي، والصديقة المعارضة، في ظل الحرب التي سقطت فيها حلب بيد النظام، وتشفى فيها الأهل الموالون بالأهل المعارضين، وأعدوها تحريراً وإن فوق أنقاض المباني والجثث.
في روايتها «عمت صباحاً أيتها الحرب» خاضت مها حسن كما يبدو تحديات كبيرة متعبة، ليس أقلها قرارها بإنتاج رواية ملحمية عن العائلة السورية في لحظة مهولة هي الحرب التي لم يشهد العالم مثيلاً لفظاعاتها. ولقد كانت جسورة في خوض تحديات البنية وحلول تكوينها، مع تحديات التسجيل والارتقاء به إلى فضاء الرواية، وتحديات الواقعية والارتقاء بها إلى فضاء السحرية، مع تحديات التفاصيل في الأسماء والأحداث، مع تحديات اللغة، وتحويل لغة أمها الدارجة إلى أسلوبها في الفصحى، وتحديات ربط الأم بالبيت والكتابة وتحديات مقارباتها لأساليب روائيين عظام مثل ماركيز، وبروست، وغيرها من التحديات التي تثري روايتها ولا تخلي وفاضها من الدراسات النقدية المهتمة باكتشاف ابتكارات الآفاق الجديدة للرواية الحديثة.
مها حسن روائية سورية متميزة بتجريبها الفني، مقيمة في فرنسا، وكانت روايتها الأولى «اللامتناهي ـ سيرة الآخر» قد صدرت سنة 1995. رواياتها اللاحقة تضم «لوحة الغلاف»، 2000، مع طبعة ثانية في القاهرة عام 2016 بعنوان «ذيول الخيبة»، تراتيل العدم»، «حبل سري»، «نفق الوجود»، «بنات البراري»، «الراويات»، «مترو حلب»، و»حي الدهشة» مؤخراً.