lundi 29 mars 2021

"في بيت آن فرانك".. نصّ روائي لمها حسن يجمع الخيال بالواقع

صدرت حديثاً الطبعة العربية لرواية "في بيت آن فرانك" للكاتبة السورية المقيمة في فرنسا "مها حسن"، التي تقول إن الرواية استغرقت 13 سنةً لتخرج في صيغتها النهائية، ولتتحرَّر الكاتبةُ أخيراً من آن فرانك، التي سكنت بيتها وذاكرتها.

 

"هيا لنُغيِّر العالم بلعبة الكتابة!" تقول كلّ مِنْ آن فرانك صاحبة كتاب "مُذكِّرات فتاةٍ صغيرة"، ومها حسن صاحبة هذا الكتاب. حيث تسيرُ الكاتبتان جنباً إلى جنب في خطَّين كثيراً ما يتقاطعان، بين صفحاتِ الرواية وأمكنتها وأزمنتها المُركَّبة، لنقعَ في اللَّبسِ، وفي السِّحرِ أيضاً. مع استعادة الفتاة الصغيرة لصوتِها روائيَّاً، في سردٍ مشتركٍ تمنحُها فيه الكاتبة المُقيمة في بيتها الفرصة لتحكي قصَّتها، ولتخرج من البيت، وتسافر معها إلى فلسطين. ولنعبُر، في تناوب الصَّوتيْن وامتزاجهما، من صراع الهويّة، ومآسي الماضي، إلى همومِ الكاتبتيْن الشَّخصية وقد سكنت روحُ إحداهُما ذاكرةَ الأخرى.

 

لا تخرجُ رواية "في بيت آن فرانك" عن أسلوب صاحبة "عمت صباحاً أيتها الحرب" 2017، في السِّيرة واليوميَّات والمذكّرات، بل تُعمِّقه في قالبٍ روائيٍّ يجمعُ الخيال الأدبي بالواقع. تبدأ الحكاية ولا تنتهي في أمستردام، في بيتٍ يعرفهُ الكثيرون، بيت أنيق وهادئ، صارَ متحفاً ومكاناً للإقامات الإبداعية؛ أين تقضي كاتبةٌ، بعد تردُّدٍ، سنةً كاملةً في مواجهةِ ذاكرةٍ مزدوجة، وحيدة لساعاتٍ طويلةٍ، يُفارقها النَّوم وتكبر بداخلها المخاوف، بل وتأتيها في شكلِ طيفِ فتاةٍ، اجتثَّها يوماً النَّازيونَ من مكانِها، وحرموها أن تعيشَ حياتها في بيتٍ آمن، بيتٍ مليء بالمخابئ السّرية التي لم تُجدِ نفعاً بعد الوشاية بالعائلة، وإرسالها إلى معسكراتِ الاعتقال، لتقضي وأختها هناكَ، غالباً بسبب وباء التيفوس عام 1945.

 

من الرواية:

- أنا خائفة من آن فرانك.

- هل يمكنكِ قول المزيد حول هذه النقطة؟

- لا أستطيع النوم لأني أخاف من آن فرانك، أخاف من أن تقوم بإيذائي. أحلم يومياً بفتاة تحدّثني بالفرنسية، تُخبرني عن مدفنها، وأفيق لأشعر بأنني لم أكن أحلم، بل بأن فتاة كانت تجلس قرب رأسي، وتحكي لي وأنا نائمة. بل أرى شبحاً يعبر الغرفة كلَّما أفقتُ من الحُلم، كأنها فعلاً تجلس قربي، تحكي لي، وحين أفيق، تغادرني... لم أكن أعرف في البداية مَنْ هذه الصَّبيَّة التي تتحدَّث إليَّ في المنام، وتروي حكاية موتها بالتيفوس في مخيَّم، لا أعرف كيف ترسَّخ اسمه الألماني في ذاكرتي (بيرغن بيلسن)، حين بحثتُ في الإنترنت، عرفتُ أنَّ آن فرانك ماتت هناك، وأدركتُ أنها تخرج من الموت، وتأتي للجلوس جواري حين أنام. لا أعرف ماذا تنتظر منِّي آن فرانك، ولكنني أعتقد أنها متضايقة لأنني أسكن في بيتها.  لقد كانت طفلة سعيدة في هذا المنزل، إلَّا أنها أُجبرت على تركه تجنُّباً للوقوع بأيدي النَّازيِّين. وأنا الآن هنا، مكانها، في المكان الذي اقتُلِعَتْ منه، وحُرِمَتْ من متابعة حياتها، كفتاة مليئة بالأحلام، أشعر أني آخذ مكانها، وأخشى من أن تنتقم منِّي. كنتُ أتصوَّرها تقول: ماذا تفعل هذه المرأة الغريبة في منزلي؟ لقد حُرِمْتُ من حياتي ومن سعادتي، حُرِمْتُ من أصدقائي، من مدرستي، من فتاي الأوَّل.. لتأتي هذه المرأة وتحتلَّ مكاني. أنا خائفة من روحها، من روح آن فرانك.

 

الرواية صدرت عن منشورات "المتوسط -إيطاليا"، وجاءت في 184 صفحة من القطع الوسط، نعيش فيها مع مها حسن تفاصيلَ عن السفر والصداقة والقصص المشتركة، وعن بلاد جميلة تسمّيها مها "أرض الكتابة".

عن الكاتبة:

مها حسن، روائية سورية، من مواليد مدينة حلب، وتقيم حاليًا في فرنسا. صدر لها العديد من الأعمال الروائية من أبرزها "اللامتناهي - سيرة الآخر"، 1995. "جدران الخيبة أعلى"، 2002. "تراتيل العدم"، 2009.  "حبل سري"، 2010. "بنات البراري" 2011، "طبول الحب" 2012. "الراويات"، "نفق الوجود"، 2014، "مترو حلب"، 2016. "عمت صباحاً أيتها الحرب"، 2017.  "حي الدهشة"، 2018.

وصلت رواياتها "حبل سري" و "الراويات"، إلى اللائحة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، كما وصلت رواياتُها "مترو حلب"، عمت صباحاً أيتها الحرب"، "حي الدهشة" إلى اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.

 عن تلفزيون سوريا 

https://www.syria.tv/%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%A2%D9%86-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%83-%D9%86%D8%B5%D9%91-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7-%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%8A%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9


 

 

الروائية مها حسن: «العربية» حقل فاكهة وجمال

يهاب الملاح جريدة الاتحاد الخليجية حاورها إ

من بين أهم وألمع الأصوات الروائية العربية في السنوات العشر الأخيرة؛ يبرز اسم الكاتبة السورية المقيمة بباريس مها حسن صاحبة التجارب الروائية المتميزة؛ «حبل سري» و«الراويات» و«طبول الحب».. وغيرها من الأعمال السردية التي وضعتها في الطبقة الأولى الممتازة من مبدعات ومبدعي الرواية العربية.. بمناسبة صدور روايتها الأخيرة «في بيت آن فرانك» عن منشورات المتوسط، تحدثت إلى (الاتحاد).

ماذا تعني العربية لغة وثقافة لكاتبة سورية مرموقة ذات أصول كردية؟
- أشعر بالقلق الغامض أحياناً، هذا القلق الذي يعرفه الكتّاب، ويحللون مصدره أثناء الكتابة، فأعرف أن مشكلتي هي عدم رضاي عن جملة تؤرقني، وحين أعثر على عبارة أو لفظة، كانت غائبة عني، يبدو الأمر وكأن شعاعاً من ضوء مرّ في روحي، فأتحرر من القلق.. اللغة العربية بالنسبة لي، حقل اكتشاف دائم، يساعدني على معرفة المزيد عنّي، وعن الآخر.. حقل مليء بالثمار والفاكهة والجمال، ولا يزال مهما سرت فيه، بعيد المنال، وكلما خطوت متعمقة فيه، اكتشفت منبع الأمان
تكاد تكون اللغة العربية بالنسبة لي، هي زجاجة الماء الصافية المنبعثة من ينابيع نقيّة. قد أشرب مياه الصنابير، أو مياهاً غازياً، حيث أتحدث وأكتب بلغات أخرى، غير العربية، لكن إحساسي صوب اللغة العربية، يبقى هو الأصفى والأكثر سلاسة وطمأنينة.

حسنا. ماذا عن أحدث مشروعاتك الروائية؟
- روايتي الأخيرة «في بيت آن فرانك» استغرقت ثلاثة عشر عاماً حتى تمكنت من إظهارها إلى العلن
كتبتُ النسخة الأولى، بعد انتهاء إقامتي في منزل آن فرانك في أمستردام/ هولندا، ثم تركتها، وعدت مراراً لمراجعة المخطوط الأول، وفي كل مرة كنت أشعر فيها بالهلع وأنا أتخيل الكتاب مطبوعاً. أريد الاعتراف، بأن استسهال الكتابة في العالم العربي عموماً، واختيار المواضيع الهادئة والرقيقة على الأغلب، جعلني أشعر دائماً بالقلق، ولأنني لا أرغب بالعزلة، فإنني أقوم بتأجيل مواضيعي الأكثر إشكالية، تلك التي أبدو فيها وكأنني كائن «دونكيشوتي» يحارب وحده كائنات خيالية، ليست خيالية أبداً في مشهدنا الثقافي، المليء بالنسخ والتكرار، واستلهام الماضي، والخوف من التجريب، والمغامرة الإبداعية.

هل تحمل الرواية من مغامرات على مستوى الشكل؟
- إحدى معضلات هذه الرواية، هو تحديد جنسها الأدبي، حيث أشعر دائماً بأن كلمة «جنس أدبي» تقيّد الكتابة، وتحيلها إلى حالة أكاديمية مدرسية كسولة إلى حد ما. هذه الرواية، تتضمن بعض اليوميات، تقاطعاً مع كتاب اليوميات لآن فرانك، شريكتي في هذه التجربة، لكن كتابي ليس يوميات. لهذا أحياناً يتم الخلط بين فكرة الرواية التي هي النسبة لي، في هذه التجربة خاصة، وفي تجربة «عمتِ صباحًا أيتها الحرب» هي مزج بين الواقعي والخيالي، بحيث يصعب على القارئ أن يتأكد من مرجعية العمل، وأظن أنه ليس من الكاتب البرهنة على واقعية وصحّة ما وقع له في الكتاب، طالما أن العمل في النهاية، ليس وثيقة تاريخية، بل وثيقة إبداعية.

لماذا «في بيت آن فرانك» ما الذي جمع بينك وبينها؟
- في هذه الرواية، جمعتُ بين روح آن فرانك التي أقمتُ في بيتها، وجسدي الذي تركتُ لآن فرانك تقيم فيه لاحقاً، لتطلّع على الحياة التي حصلت بعد موتها، وتعرف المزيد مما كانت تتمنى معرفته آنذاك. ربما من الأهداف السرية لهذا النوع من الكتابة، هو محاولة منح الخلود للكاتب الذي يموت، وتبقى روحه المبدعة القلقة تهيم في الحياة
الرواية دعوة أيضاً لمراجعة تاريخ الحرب التي لا تزال تتكرر، والتي عاشتها آن فرانك من جهة، وأنا ككاتبة سورية من جهة أخرى، ورغم الفارق الزمني بين الحربين، لكن معاناة الشعوب وآلام الحرب واحدة.

 

 

 

الكاتبة السورية مها حسن: منحتُ آن فرانك عينيّ لترى بهما فلسطين

حاورتها هدى مرمر ـ القدس العربي

 

مها حسن روائية وقاصة سورية، حصلت على ليسانس الحقوق من جامعة حلب. صدر لها العديد من الأعمال الروائية من أبرزها «اللامتناهي ـ سيرة الآخر» «حبل سري» «بنات البراري» «الروايات» «مترو حلب» و«عمت صباحاً أيتها الحرب».
وصلت روايتاها «حبل سري» و«الروايات» إلى اللائحة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر). كما وصلت رواياتها «مترو حب» «عمت صباحاً أيتها الحرب» و«حي الدهشة» إلى اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. والأخيرة «حي الدهشة» مرشحة حالياً عن القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ للآداب. وكان لنا حوار مع الكاتبة حول عملها الأخير «في بيت آن فرانك»..

■ بدأت كتابة الرواية خلال إقامتك في بيت آن فرانك في أمستردام عام 2007. لم انتظرتِ حوالي 13 عاماً لتكملي الحكاية وتخبريها؟
□ السبب الأول الذي جعلني أتردد في نشر الرواية بعد الانتهاء من كتابتها، هو التابو المتعلق بشخصية آن فرانك، كونها يهودية، ولأن موضوع تناول اليهود في الكتابة العربية المعاصرة لا يزال، مختلطا بمرجعية سياسية، مع محاولاتي في كل لقاءاتي الشفهية، التأكيد على أن اليهود أمر، وإسرائيل أمر آخر. كان لديّ تخوّف كذلك من التهم الجاهزة، حول البحث عن الشهرة والضوء، من خلال تناول هذا الموضوع. السبب الآخر، والأكثر عمقاً هو السبب الفني، فلم أكن راضية عن الصيغة الأولى للكتاب، التي كانت أقرب إلى اليوميات، وكأن حدسي كروائية، جعلني أؤجل فعلاً، ليقع ما لم يكن في الحسبان، الحرب في سوريا أولاً، وذهابي إلى فلسطين تالياً، هذان الحدثان اللذان كان لا بد منهما، لاستكمال الرواية فنياً وفكرياً، حيث تقاطعت الحربان، العالمية الثانية التي كانت آن فرانك من ضحاياها، والسورية التي طحنت الكثير من السوريين، ثم جاءت فكرة الذهاب مع آن فرانك إلى فلسطين، التي أعتقد كانت الحدث المؤثر بشدة في علاقتي بهذا الكتاب. في النهاية، جاء هذا التأجيل لمصلحة الكتاب، وربما أشعر بهذا الآن، وأنا أجيب على الأسئلة، كانت تخوفاتي الواردة في السبب الأول، هي مجرد ذرائع فنية للإصغاء إلى صوتي الداخلي كروائية، أحسست أن شيئا ما سيحدث لاحقاً، ويمنح تجربتي مع آن فرانك، عمقاً أكثر أهمية في السرد.
■ غلاف الرواية كما العنوان يثير الفضول ويتميّز عن أغلفة رواياتك السابقة. فماذا عن تصميمه واختياره ومعناه بالنسبة إليك؟
■ غلاف الرواية هو للناشر والشاعر خالد الناصري، الذي كانت رواية «في بيت آن فرانك» هي ثاني تجربة جمعتني مع دار المتوسط. حين رأيت الغلاف بصيغته النهائية، قفزت إلى مخيلتي غلاف الرواية السابقة «عمت صباحاً أيتها الحرب» إذ ثمة مفردات متقاربة بين الغلافين، مفردات أقرب إلى المطبخ في الأولى، وأقرب إلى الغرفة في الثانية. أحسست فجأة، أن كتابتي الطويلة عن مفهوم البيت، في «عمت صباحاً أيتها الحرب» استمرت في العنوان في الرواية الثانية.. «في بيت آن فرانك» وكأن رواية «في بيت آن فرانك» حسب العلاقة بين الغلافين، هي إجابة عن هاجس البيت المفقود.. البيت الذي قصفته الحرب في حلب، وحوّلته إلى أنقاض. ربما شعرت بلحظة أمان، أمام الغلاف الآخر، خاصة لون (الموف) المليء بالحياة والطاقة.
■ تتداخل في الرواية الأحداث الواقعية والمتخيّلة، حيث يصعب التفريق بين النوعين.. ما كانت نقطة التلاقي في بنية السرد، بين ما حدث بالفعل وما كان محض خيال؟
□ في العادة لا يحب الكتّاب الخوض في هذه التفاصيل، لأن الأهمية في النهاية لقيمة النص، بغض النظر عما حدث، وعما تم تخيل حدوثه. لكنني فقط أقول، ومن باب طمأنة القارئ على جزء كبير من واقعية الحكاية، إنني أقمت في بيت آن فرانك في أمستردام، وكل سردياتي التي دونتها، حتى المتخيّل منها، عشتها بحق، بطريقة يصعب عليّ أنا شخصياً، الفصل بين الواقعي والمتخيل، لأن خيال الروائي يتجاوز في صدقه أحياناً الواقع المعاش.
■ تطوّر الرواية في قسمها الثاني نحو سياسة الاحتلال والتضارب مع (آن) أدّى إلى الانفصام بين التوأمين. لم حوّلتِ السرد نحو أرض فلسطين؟
□ شهادة آن فرانك مهمة. طالما أنني حظيت بفرصة الذهاب إلى فلسطين، وطالما أن آن فرنك توأمي السردي، تعيش في داخلي فنياً وأخلاقياً، كان واجبي أن أصحبها معي إلى تلك الأرض التي لها رموز تاريخية مهمة لدى آن، كصبية يهودية، ربما لو كانت قد عاشت وتزوجت وأنجبت، لكان أحفادها يعيشون اليوم في القدس، أو حيفا أو يافا، لهذا رغبتُ أيضا أن تطّلع آن على تفاصيل العيش اليومي، والخوف والقلق الذي يحياه الفلسطينيون.. كنت بحاجة لعيني آن فرانك لأرى بهما، كما منحتها عينيّ لترى بهما.
■ يُحسب لك التحدّث بوضوح عن أهمية الحرية والاستقلالية لدى بطلة الرواية، لدرجة رفضها للأمومة وإجهاض جنينها. لما في رأيك لا نرى مثل هذه الموضوعات في الأدب العربي وبأقلام نسائية؟ وهل يمكن أن نقرأ لك المزيد عن هذا الموضوع الحميمي والأساسي للمرأة ـ أو غيره ـ في روايات مقبلة؟
□ سبق وكتبت عن جرائم الشرف في روايتي «بنات البراري» وعادة أركّز على الجانب الإبداعي والجديد في كتابتي، بدون أن أهتم بفكرة مسّ المحظورات.. بمعنى أنه في حال كانت تجربة الإجهاض مؤثرة، وأساسية، في أي عمل مقبل لي، فإنني بالتأكيد سأتناول الموضوع بحريّة، ولكن حتى هذه اللحظة، لا يوجد لديّ مشروع مماثل.
■ انطلاقاً من تجربتك ككاتبة أمضت عاماً في عزلة منزل آن فرانك للكتابة، كيف أثّرت تلك التجربة وهل تنصحين بها للكُتّاب؟
□ الكتابة مزاج خاص ولا يعمل وفق وصفة واضحة. يمكن وضع مئات الأشخاص في مكان واحد، وكل منهم يسجل انطباعاته عن المكان بطريقته. أعتقد أن تجربتي في بيت آن فرانك لها خصوصيتها التي ظهرت في الرواية، من خلال النقاط المشتركة بيني وبين آن، هذه النقاط التي قد يشكل غيابها عدم القيمة أو الأهمية لدى كاتب آخر.
■ ما مدى تأثّرك شخصياً بآن فرانك وأمستردام؟ هل هناك ما لم تفصحي عنه في الرواية؟
□ كتبت في روايتي «الروايات» عبارة (ولدتُ لأروي).. بمعنى أن حياتي موهوبة للسرد، فإن لم يكن هناك ما لم أقله، فهذا يعني أنه غير مهم سردياً، أو أن له مكانا آخر، في تجربة سردية أخرى.
■ كلمة أخيرة..
□ تجربتي مع القراء إيجابية غالباً، وأعتبر نفسي محظوظة بأنني مقروءة ومفهومة إلى حد مقبول، فقط ما أحب التأكيد عليه، هو النظرة الموضوعية لأي كتاب، وفصله عن سياقه السياسي أو التاريخي، والتعامل معه كمادة إبداعية… أنا لست داعية، ولا أسعى لتغيير العالم، فقط أحاول التأكيد على فرادة الإنسان، والخوض في عوالمه الداخلية، لخلق نسبة فهم وتفاهم بين الكائنات البشرية جمعاء. أعتقد أن هذا هو هاجس أغلب الكتّاب. ما يهمني حقًا أن تتم قراءتي بمعزل عن خلفيات مسبقة، أو أحكام موجودة في رأس القارئ، غير موجودة في النص.

 

mercredi 23 décembre 2020

في بيت آن فرانك… مهـا حسن تقف فوق اللغم، وتدعو القارئ لاختبار إنسانيته

محمد سمير ندا

في روايتها الأحدث “في بيت آن فرانك”، الصادرة عن منشورات المتوسط هذا العام، تضع الروائية السورية مها حسن القراء أمام اختبار حقيقي قوامه سؤال واحد، ولكنه امتحان شديد الصعوبة، أخشى ألا يفلح البعض في تخطّيه بنجاح!

رواية سيرة، أم محض خيال روائي؟

السيرة هنا تتسع كرداء جامع لحيوات المقهورين من كل عرق ولون ودين، سيرة الكاتبة، التي هي مها حسن، وسيرة آن فرانك، الفتاة اليهودية التي تجرعت مرارة العنصرية النازية، حتى توفيت في الرابعة عشر من عمرها، قبل أن تصبح يومياتها ذائعة الصيت فيما بعد، كشهادة تؤرخ اضطهاد هتلر لليهود. الخيال الروائي هنا مضفور بأحداث حقيقية، نسيح واحد طُرز بعناية في قماشة الواقع، بحيث يصعب في الكثير من المواضع الفصل بين الواقعي والمتخيل، اللهم إلا في الفصول التي تعتلي فيها آن فرانك منصة السرد، وحتى هذه الفصول، كثيرًا ما شعرتُ أن الراوية تروي -حرفيًا- ما مرت به، سواء كان حلول الروح حقيقة خابرتها، أو عاشتها كأحد أنواع الهلاوس السمعية والبصرية. في النهاية: نحن أمام نص روائي كتب بالمشاعر الصادقة المترسخة في وجدان الكاتبة، قبل أن يمس القلم أول الأوراق المكتوبة.

عتبة المنزل (المكان)

تخطو الكاتبة عتبة منزل آن فرانك، هناك في “ميرفيديبلين” في أمستردام، حيث عَرفتْ الفتاة آخر فصول حياتها الطبيعية، قبل أن تهرب وتختبئ في عدة أماكن حتى تموت بحمى التيفويد في معسكر الاعتقال في برجن بيلسن. الكاتبة هنا عربية سورية كردية، هربتْ من بلادها قبل تفجر ثورات الربيع العربي إلى فرنسا، عانت الأمرّين حتى صارت لها بطاقة هوية فرنسية، هي وثيقة رسمية تضمن العبور وتحقق أحد درجات الأمان، ولكنها لا تعوضها أبدًا عن الوطن المسلوب، ولا تبث الراحة في وجدانها المضطرب العامر بالقلق، حائرة هي طوال الوقت، بين اكتشاف ماهيتها، ومحاولة غض بصرها عن الوجه البشع للحياة التي يُشكلها الطغاة، واكتشاف المعنى المنطقي للتواجد في هذا العالم، لذلك فهي تنسلخ عن كل شيء، تكفر بمسميات الوطن والدين والعرق والهوية، تحاول أن تركل بعيدًا عن محيطها كل ما هو مفروض أو موروث، هكذا تريد وتعتقد، حتى ينتهي بها الأمر بالتكوّر في وضعية جنين يخلق لنفسه رحمًا من الكلمات، يستقر في حشاياه، ويتصل بالعالم عبر حبل سري يمده بالحبر، فما عاد بحاجة إلى المزيد من الدم ليحيا، فكفاه ما رأى، وحسبه أنه وجد المستراح في مروج الخيال، حيث لا قنابل ولا قصف ولا اضطهاد ولا عنصرية. بهذا التكوين الإنساني تدخل الكاتبة إلى منزل آن فرانك بدعوة لقضاء عام كمنحة تقدمها جهة ثقافية تتفرغ خلالها للكتابة، ولأن التكوين الإنساني الرافض والمقاوم لكل أشكال التمييز هو المكون الرئيسي للكاتبة، تتعاطف مع حكاية الفتاة آن فرانك، وتنخرط في قراءة يومياتها، وتتلمس تدريجيًا أوجه التشابه بين وجوه المقهورين، فالندوب والجروح لا تتباين بين جسد مسلم وآخر يهودي، والدم الذي يلطخ جباه الطغاة له ذات الحمرة.

عتبة الحلول (الزمان)

تأنس روح آن فرانك الحائرة بوجود الكاتبة، تشعر بألفة ورابط قوي يجمع روحيهما، لم لا وقد تناوبت عليهما مصائر الغربة والشتات، وتقاسمتا موروث الاضطهاد والنبذ؟ كلتاهما نبيذة في زمان مغاير، وبحلول روح آن فرانك في جسد الكاتبة، تنصهر الأزمان، وتسيل نهرًا مخضبًا بالخوف، يمضي في إيقاع جنائزي ليصل بين الماضي والحاضر. تتنقل المحطات السردية بين يوميات فتاة مضطهدة مطاردة في الأربعينيات دون ذنب اقترفته سوى مجيئها إلى الدنيا من أبوين يهوديين، ويوميات امرأة عربية شاءت أقدارها أن تولد لعائلة كردية، في أوطان تنبذ المرأة وتقهرها بالسليقة، فما بالنا بامرأة كردية فقدت هويتها الأم منذ مولدها؟ تتلاقى الخيوط وتتشابك حتى تتشابه الوجوه والمرويات، الكتابة عالم رحب يرحب بكلتاهما، ففوق الأسطر وبين والحروف وفوق رؤوس الكلماتـ، لا يميز المكتوب بين كاتب وآخر، مرة أخرى تستخدم مها حسن الكتابة كمرادف للتحرر من العالم المتشابك الذي عرفته، ولكنها هذه المرة تصطحب معها روح فتاة يهودية إلى عالم يقبل الاختلاف ولا تعرف قواميسه مفردات التمييز. تضعنا الكاتبة أمام مرآة تقف هي أمامها فتنعكس فيها صورة أن فرانك! تشتبك الأصوات وتمتزج الوجوه والأزمان، لتضعنا الكاتبة أمام أحجية قديمة: اكتشفوا الفوارق بين الصورتين!

وهو سؤال يضع القارئ في ورطة، فبإجابة هذا السؤال يفصح المُجيب عن درجة الإنسانية التي يتمتع بها!

عتبة الكشف (التقاء الزمان والمكان)

تعقد الكاتبة اتفاقًا مع الروح التي تطنّ في رأسها وتؤرقها، بأن تصحبها إلى فلسطين، لتغادرها هناك للأبد، نعرف أن الكاتبة قد انتقلت من مكان إلى آخر، نلملم أشلاء حكايتها المنثورة هنا وهناك، في ردهات الذاكرة التي تأبي أن تضمحل، على أعتاب المطارات، وفي شرفات الخيال، وفي حبر الأختام على جواز السفر، طيف أب صارم، وأم لم تكن ودودة بما يكفي، إخوة مشتتون، شبح زوج، وتجربة إجهاض يتم تمريرها بين السطور، حكايات الأب والأم تتماس مع ذاكرة آن فرانك القصيرة، وتتطابق الأفكار التحررية مع بذرة التمرد التي غرست في عقل فتاة لم يمنحها القدر فرصة التحليق فوق أسوار الممنوع. تدمج الكاتبة بين هذه التجربة الغرائبية الفانتازية في بعض أجوائها، وتجربة حقيقية عاشتها مها حسن حين سافرت إلى الأردن ثم إلى رام الله لحضور مؤتمر أدبي ترعاه وزارة الثقافة الفلسطينية، تذكر أسماء كتاب حقيقيين رافقوها هناك، ويغلب على بعض المقاطع طابع التوثيق، ولكن آن فرانك تشاهد أرض ميعادها عبر عيون مها، وتغادر جسدها هناك، لتتعرف على الوطن الذي حلم بها جدودها منذ قرون، ولكنها تنكمش وتشعر بالأسى لما تلقاه هناك من انعدام الأمان الذي طالما تاقت له، وهي هنا تجزم بأن الأمان مفتقد لدى الطرفين، من يحمل السلاح، ومن يحمل الحجر أو يجعل من جسده قنبلة تدوي عبرها صرخته المكتومة. تلتم الأزمنة المبعثرة على حافة المكان، رام الله، القطعة النابضة المستأصلة من الجسد العربي عبر جراحة  تمت دون تخدير، تستعيد الكاتبة شعور الطفلة في قرية أبيها، وتستعيد آن فرانك الشعور بالحياة وقد تحررت من موتها في وطن دولة اليهود التي لم تعرف عنهم غير اضطهادهم من هتلر، ولم تسمع بمجازرهم واجتياحهم لديار العرب.

عتبة مجدل شمس (انفصال)

تظن الكاتبة أن الانفصال قد تم بينها وبين قرينتها، غادرتها روح آن فرانك في رام الله، وعادت هي إلى فرنسا ثم ارتحلت إلى القاهرة، لتجد شبح آن فرانك يتجسد من جديد في غرفة فندقها المتاخم للمعبد اليهودي في شارع عدلي.

هنا تتم المواجهة المؤجلة بين الكاتبة والروح المطاردة لها، فبقدر ما تأثرت مها بيوميات آن فرانك، وبقدر ما تأثرت آن فرانك بقراءتها لمخطوطة رواية مها حسن “عمت صباحًا أيتها الحرب”، وبقدر ما تشابكت صور المعاناة وتشابهت، تتباين بينهما الرؤى حول الكتاب الذي بين يدينا الآن، فآن فرانك ترى أن الكتابة غير موضوعية ومنقوصة، وأن مها تنقل نظرة أحادية لوضع ثنائي الأطراف، فهي تصف القهر والذعر الذي يعيش فيه أهل فلسطين، ولا تذكر شيئًا عن الرعب الذي يظلل حياة اليهود في المستوطنات. تراجع كلتاهما مخطوطة روايتنا، وتنخرطان في بحث عن اليهود الأكراد، فتتضح لهما صورة تتسق مع حكاية كل منهما، فاليهودي الكردي غريب في دولة اليهود المغتصبة من الجسد العربي، والكردي العربي غريب في الدولة العربية التي جاءت منها الكاتبة، تصر آن فرانك على أن إنهاء النص بالشكل الأكثر موضوعية يستلزم زيارة أخرى إلى فلسطين المحتلة، حتى تتيقن الكاتبة من عدالة السماء في تفريق أنصبة الذعر وسحب دثر الأمان عن الكافة، ولكن الكاتبة تسقط في حيرة من أمرها، ولا تعدها بشيء، يتحقق الانفصال الأخير بينهما، تحلق روح آن فرانك بعيدًا، وتقرر الكاتبة تأجيل نشر النص، حتى يردها مقطع فيديو يظهر فيه أصدقاؤها فيما يشتلون شجرة تحمل اسمها في قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، عقب تلك الرسالة العفوية الصادقة، تشعر الكاتبة بأن نصها قد اكتمل، على الأقل في وجدانها، وتقرر أن تظهره للنور.

الوقوف بثبات فوق اللغم

أدبيًا، كتبتُ مسبقًا عن كتابة مها حسن، عن لغتها الناقلة لنبضات قلبها، حد أنني في بعض المواضع كنت أسمع تنهداتها بين سطر وآخر، والزفرات الحارة التي تطلق سراحها في خواتيم الفصول. لمها حسن عوالمها شديدة الخصوصية، حكايتها مروية بشجن الرحيل، وبميراثها الشخصي من القهر والفقد والاغتراب.

ولكنها بهذا النص الإنساني العامر بالمشاعر النبيلة، الرافضة لكل أفكار التفرقة البشرية، المعارضة لكل صنوف التمييز العرقي والديني، تخطو بثبات لتقف فوق اللغم! فهي بذلك تخوض في فضاء غير مسموح تناوله، وربما أكاد أسمع الاتهامات المقولبة التي حتمًا سوف توجه لها، سيقال مثلاً: كاتبة عربية سورية تكتب عن آن فرانك، ولا تُكذب حكايتها التي اختلقها اليهود من ألفها إلى يائها! أو: انظروا؛ كاتبة سورية كردية تعترف بحكاية آن فرانك! ثم: ها هي مها حسن تؤيد التوجه العربي نحو التطبيع برواية عن فتاة يهودية يُعدها اليهود أحد أبطالهم ورموزهم…… إلى آخره من هذه الاتهامات المحضرة سلفًا، ليس لمها على وجه التحديد، ولكن لكل من يدخل إلى تلك المنطقة المحظورة في العقول العربية التي عششت في أركانها عنصرية حربائية الطباع، تطفو على السطح وقت الحاجة، وحسب الهوى.

فهل من العدالة أن يتم اختزال هذه الكتابة الإنسانية البديعة بهذه الطريقة؟ لا أعتقد!

ألا يحق لمها أن توثق تاريخ القهر وتوحد بين ضحايا الطغاة في جسد واحد؟ ألا يتساوى ألم القتل بين البشر جميعًا؟ ألا تتشابه وجوه الجناة، وتتطابق وجوه الضحايا؟ لم تنكر مها مأساة فلسطين، ولا حقوقهم، ولم تعترف لا هي ولا حتى آن فرانك بإسرائيل، ولكن مها أقرت بإنسانية آن فرانك، وخلقت تناصًا أدبيًا بين حكايات الاضطهاد البشري عبر الأزمان، فهل عرف عالمنا البشع بين مخلوقاته كائنًا أقسى وأكثر شرًا من الإنسان؟

عزيزي القارئ،

أنت أمام اختبار لإنسانيتك، هل تشعر بذات الألم والحزن تجاه سائر ضحايا الحروب والمجازر الجماعية عبر تاريخ الإنسان المغمور بالدم؟ هل تتعاطف مع أسرة يهودية أحرقها هتلر، كما تتعاطف مع أسرة فلسطينية بَقرَتْ بطون نسائها عصابات اليهود في النكبة، كما تتعاطف مع أسرة سورية قُذفت بالأسلحة الكيماوية، سواء كان مطلق الصاروخ هو جيش بشار أو جبهه النصرة أو الجيش الحر، أو داعش؟ هل تتألم حين تعرف أن جنديًا مصريًا قد قتل في سيناء سواء كان مسلمًا، أو مسيحيًا؟ هل تتساوى لديك حرمة الدم التي اتفقت عليها الأديان والشرائع السماوية؟ هل تنزعج إذا ما دهست دبابة إسرائيلية طفلًا فلسطينيًا، بذات القدر الذي تنزعج به عند سماعك لأخبار عن أسر داعش للإيزيديات واغتصابهن ثم قتلهن؟ أو حين تسمع عن إبادة وتدمير مدينة كاملة كانت تسمى يومًا كوباني؟ هل أزعجك التاريخ الموثق لحملة صدام “الأنفال” على إقليم كردستان سنة 1988 والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 50 ألف شخص أغلبهم من الأكراد، كما أزعجك التاريخ بشرح مجازر صبرا وشاتيلا، وحادثة مدرسة بحر البقر في مصر؟ هل أحزنك استشهاد النائب العام المصري هشام بركات، بقدر ما حزنت على سحل رجل الدين الشيعي حسن شحاتة حتى الموت في مصر؟

عزيزتي الكاتبة

لقد وقفتِ فوق اللغم بكامل إرادتك، وتلوتِ على الشهود نصًا إنسانيًا تنهار فيه كل الحواجز الفكرية والعقائدية لتضعنا أمام عالم إنساني مسالم يعيش فيه الناس دون حرب واقتتال، نصٌّ يحرم الدم كله، ويدعو لسلام عادل لا تنازل فيه ولا خضوع، أنتِ رفضتِ إقصاء آن فرانك من ذاكرة الإنسانية، كما نرفض جميعًا إقصاء الآلاف من ضحايا العرب خارج صحف التاريخ. ولكن؛ أنتِ تعرفين ما قد ينالك بسبب هذه الجرأة، وإثر هذه الشحنة الإنسانية الصافية الصادقة المستفزة للكثيرين، وأعتقد أنكِ تذكرين ما جرى للكتاب المصريين الذي شاركوكِ حضور ذات المؤتمر الأدبي في رام الله في 2017. ولكنني رغم كل ذلك، أدعوكِ لأن تواصلي حراكك، أعبري فوق اللغم، غني وارقصي وانشري تلك المشاعر، طوفي حول شجرتكِ في مجدل شمس، وراقبيها حتى تكبر وتظلل سماءك، اخلقي المزيد من أوطان الكتابة الآمنة، ولا تخشي ألغامهم، فهي ألغام عربية، واللغم العربي لا يصدر عنه سوى ضوضاء، وربما بعض الدويّ، قصير الأمد.

ربما يكون حلمك بهذا العالم المثالي صعب التحقق، فهو يخالف فطرة قابيل وهابيل، ولكن؛ يكفينا أن يظل بيننا من يؤمن بهذا الحلم، ويصر على توثيقه، ولو في أوطان من ورق.

شكرًا مها

#محمد_سمير_ندا

mercredi 19 août 2020

مها حسن في بيت آن فرانك!

 

تلك الزيارة الواقعية أو المتخيلة للروائية السورية مها حسن، إلى هولندا، وإقامتها المفترضة في بيت آن فرانك، أيقونة الاضطهاد اليهودي على يد النازي، جعلت منهما اثنتين في واحدة، حيث مع الوقت تلبّست الطفلة اليهودية التي كتبت مذكراتها قبل موتها في معسكر الاعتقال النازي بعامين، ونشرها والدها بعد سنوات من رحيلها وشقيقتها، جسد مها.

وليس ذلك فحسب، بل إنهما تحطان الرحال في فلسطين، لتستثمر الروائية السورية مشاركتها في الدورة الأولى لملتقى فلسطين للرواية العربية في رام الله، حيث تنطلق الطفلة اليهودية الألمانية متخفية داخل جسد الثانية، ولكل معاناتها على مستوى التهجير، واللجوء، وحتى البحث عن الهوية.

رحلة العبور إلى فلسطين، وزيارة القدس وغيرها، شكلت مساحة لآن فرانك لتراقب كيف يُمارس المُنتَهك في عصرها انتهاكات بحق شعب آخر، منذ المعبر، فيتملكها الخزي في "أرض الميعاد"، حيث "شعرت بالخجل"، ولكنها أكدت "كنت أود أهمس لها أنني لست مسؤولة عن حماقة اليهود هنا"، وتقصد رفيقتها، ليتأرجح هذا الفصل على الأرض الملتبسة بينهما، ما بين لهفة حسن إلى زيارة فلسطين، ولهفة آن فرانك إلى زيارة إسرائيل، التي اعترفت أنها لن تعيش فيها "دون جسد آخر تحيا فيه"، وليس لموقف مبدئي بالأساس هنا، وإن كان الأمر سيتبدل لاحقاً.

وتنحو حسن في روايتها "في بيت آن فرانك" الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، وعن الدار "الرقمية" في رام الله بطبعة فلسطينية، إلى عوالم أخرى غير تلك المطروقة بكثرة في أعمال سينمائية ودرامية وأدبية غربية.. عوالم لا تخلو من فنتازيا غير مشبعة، ومقتصِدة، ولا تخلو من حوارات متناقضة ما بين السورية الكردية العربية وما بين اليهودية التي شاخت في داخلها، لتحقق لها حلم زيارة فلسطين- إسرائيل، على اختلاف نظرة كل منهما، ودون أن تخلو تلك الرحلة من نقاشات حادّة بعض الأحيان، ولكن دون إقصاء، ما يدفع السورية ذات حوار قبل حتى الزيارة إلى فلسطين، مخاطبة آن "يجب أن تعترف إحدانا بحق الأخرى في البقاء"، والحديث الذي هو عن المنزل هنا ينسحب على فلسطين المنزل الأكبر، والحياة التي تبثها مها روائياً في جسد آن فرانك، صاحبة واحدة من أشهر المذكرات تاريخياً.

وفي رحلة مها لاستعادة آن فرانك ليس فقط من التاريخ وحيث دفنت، بل من داخل أروقة المنزل حيث عاشت وكتبت مذكراتها الشهيرة، يتنقل السرد ككرة التنس ما بين الاثنتين، وفي تسارع تربكه اللحظة، والحالة التي تعيشها كل منهما.. تقول آن فرانك في الرواية "ولدتُ سنة 1929، وتوفيتُ سنة 1945، ثم حدث أمر غريب، حيث جلبتني هذه المرأة من الموت في سنة 2007. حيث متّ في آذار 1945، اعتقدتُ أن موتي كباقي البشر، نهائي. إلا أنه، وفي العام 2007، وبعد مضي 62 عاماً على وفاتي، تمكنتُ من العودة إلى الحياة بقوّة الكتابة. لم أتخيّل أن للكتابة تلك المقدرة، أنها تستطيع إعادتي إلى الحياة. حصل هذا في لحظة قوية استثنائية، حين قفزت روحي من صورتي المعلقة على جدار بيتي المهجور في ميرفيديبلين، الذي وصلت إليه هاربة من ألمانيا في الرابع من كانون الثاني 1934".

أما حسن فتقول "إن وجودي في منزل يهودي يحمّلني شعوراً مسبقاً بالذنب، أو بالاتهام، وبضرورة الدفاع عن نفسي، لأثبت أن تواجدي في هذا المنزل لا يقع تحت أي تسميات سياسية، وانّي أتمتع بحريّتي الفكرية، وأستطيع أن أعادي إسرائيل من هذا المنزل. ومن ناحية أخرى، فإن هذا المنزل، منزل قديم، أي منزل يهودي في الداخل. بالإضافة إلى معاناتي الحالية عليّ أن أعود أيضاً إلى التاريخ، كلما أغلقت أبواب الشقة لأدخل أيضاً في صراع غير عادل بين الطرفين. أنا الضحية القادمة من بلاد تذبح أبناءها لو تعاطفوا مع اليهود، هل عليّ أن أُنصف في التاريخ؟ وأن أنصف آن فرانك مثلاً التي تستضيفني في بيتها، وهذا حق لها، وواجب عليّ، لأن آن لم تختر يهوديتها كما أنا لم أختر كرديتي أو عروبتي؟".

وفيما سبق يتضح أن مها حسن تفرّق جيداً ما بين كرهها لإسرائيل كقوة احتلال، وتعاطفها مكمن التساؤل مع يهودية تعرضت كغيرها من اليهود لاضطهادات بشعة على يد النازي في أوروبا، ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، هي التي تستعيد فصولاً من مذكرات آن فرانك، وتسقطها على ذكرياتها هي، على الصعيدين العائلي والاجتماعي بالدرجة الأولى، كما على صعيد الإبداع الكتابي، فعلاقة فرانك الملتبسة بأمها، والتي ينقشع ضبابها لاحقاً، أحالت الروائية السورية إلى علاقتها الشخصية بوالدتها، كما كانت هناك حالة من المقارنة ما بين حضور الأب لدى كلتيهما، فلم يجمعهما المنزل فحسب، وفعل الكتابة أيضاً، بل تلك المعاناة المشتركة لاثنتين بينهما عقود في الولادة والمأساة، لكنهما عايشتا الحرب، واللجوء، والتشرد الداخلي وفي المنافي، ورائحة الدم والجثث الطازجة والمتعفنة.

"قفز ذلك العالم القديم الذي غادرته توأمي منذ سنوات، وحُرمت من بلد الأجداد والجدّات حصراً، لتعيش في فرنسا(الحديث هنا عن مها حسن بلسان آن فرانك)، كما حُرمتُ أنا من أرض مولدي، فارّة إلى هولندا. جمعنا المنفى بعد الكتابة، جمعنا، أي توأمي وأنا. كنتُ سعيدة لسعادتها، مزاجها الرائق ذاته منحني الحرّية للتجوال في رأسها، والخروج من نافذة الباص للطيران في تلك المساحات بحرّية، لم أذقها منذ سنوات بعيدة، منذ كنت أقود عجلتي الهوائية في ميرفيدبلين عائدة من المدرسة. امتلأت روحي بهواء الحرية على مشارف رام الله. لكنّي عدتُ سريعاً إلى رأس توأمي حين أحسست بالخوف يداهمها".

وكما تنقل السرد بين الاثنتين في عدة اتجاهات، نحا في فصل "هذا كتاب ناقص" إلى تناص أدبي ما، عبر استحضار شيء من مذكرات آن فرانك التي تاهت في القدس، حيث لم يمض أكثر من ثلاثة أيام على إحساسها بالسلام ليقع تفجير "إرهابي" في بار يهودي، وما بين "مذكرات" مها حسن، التي ارتحلت إليها فرانك لعلها تسكنها مرّة أخرى، حيث كانت في غرفة منزلها بمورليه، وهي تدوّن حكاية أمها التي ماتت بسبب قصف بيتها في حلب.. "لكنها الآن تكتب، وأنا أقرأ كتابها، وأرتعش من شدّة التقارب مع ما عشته في أمستردام، قبل خمس وسبعين سنة تقريباً".

وعلى لسان آن فرانك، تُختصر الحكاية، بعد أن أصبحت حياة توأمها مها، مثلها قبل سبعين عاماً، مليئة بالجثث وأخبار الموت والخوف.. "الحرب هي الحرب في كل مكان وزمان، قاسية وشرسة وغير عادلة، ولا جدوى لها. الأقسى، وما أحياه الآن، هو أنه حين تحدث الحرب في مكان وزمان جديدين، تحرّك ذاكرة الحرب السابقة. نعم كنت أعيش آلام الحربين: حرب 1944 وحرب 2014. العام الأقسى الذي مرّ على توأمي منذ بداية الاقتتال في حلب".

وتطير الرواية، إلى ألمانيا الحلم وتوأمها قبل سبعين سنة، ألمانيا الألم.. "ها أنا أتابع القراءة في كتاب مها، لتقول أمها بأنها تحلم في الذهب إلى ألمانيا، حيث تتواجد أخواتها وأخوتها الذين فرّوا أثناء الحرب، هكذا تتحدث الأم عن ألمانيا بوصفها بلاد الأحلام (...) يا توأمي أمّك الآن ترى الأمان في ألمانيا، بينما ما حصل معي كان مختلفاً تماماً، وها أنا أذكر ما كتبته يوم الجمعة 9 تشرين الأول: شعب لامع هؤلاء الألمان، أنا التي أقول بأنني أنتمي إليهم! ثم إنّ هتلر جعل منّا، منذ فترة طويلة، أناساً بدون جنسية، وعلى كلّ لا توجد أشدّ عداوة في العالم من التي توجد ما بين اليهود والألمان".

وفي مسيرة مها حسن التي حملت آن فرانك داخلها، منذ أن حلّت في بيتها بأمستردام، مروراً برحلة فلسطين، إلى فرنسا حيث استرقت آن قراءة كتاب مها، الذي وصفته في آخر الرحلة بأنها "ناقص وغير موضوعي"، وكادت بذلك تتبدد علاقة طويلة تكونت بينهما، فعادتا إلى لحظة البداية غريبتين، وهي العبارة التي هدمت جسور التواصل الكتابية والإنسانية والشعورية فيما بينهما، قبل أن تعودا إلى نقاش حول صورة الإنسان الفلسطيني في رحلة رام الله والمدن الأخرى والعسكري الإسرائيلي المُدان والمُنتقَد حتى من آن نفسها، مع تجاهل مها للمدنيّ الإسرائيلي، لتتهمها آن بأنها كتبتْ عن آلام جهة وتجاهلت الثانية، مع أنها، أي آن، أكدت أنها لم تكن فخورة بتأسيس هذه الإسرائيل، فهي المقتولة في معسكرات النازية لا يمكن لها أن تتماهى مع الجلّاد.. وهنا يدور نقاش حاد وساخن، حول ضرورة اكتمال الرواية بزيارة لبيوت المستوطنين، تطلبها آن، وترفضها مها التي تتحدث عن اغتصاب الأرض، بينما تحدثها آن عن إمكانية الحل عبر المفاوضات!

ومع ذلك، وبعد نقاشات جديدة، تخلص الرواية إلى أنه "لم يعد لدينا ما نكتبه بعد الآن. ربّما عليّ الذهاب مجدداً إلى فلسطين، لأتمّم هذا الكتاب ذات يوم، لكن هذا ما استطعتُ كتابته حتى اليوم".. قبل أن تخلص مها حسن بأمنية مشتركة لها ولتوأمها آن فرانك "حين يُشفى العالم من داء الحرب، سأعود إليكِ، تقرئين كتابتي بالعربية على جمهور عربي وغربي، وأقرأ كتبكِ بلغات أخرى، على الجمهور ذاته.. تعالِ نضفّر خصلات شعرنا، لنصنع جديلة واحدة ضد هذا العالم الخانق للحريّات"
جريدة الأيام الفلسطينية ـ بديعة زيدان .

dimanche 12 juillet 2020

ما لا يُقال –عادةً– في الحروب أو السيرة المُتخيّلة لحرب حقيقية



 لونيس بن علي
في السنوات الأخيرة، وبعد نشوب الحرب في سوريا، تحوّلت الروائية السورية مها حسن إلى الكتابة عنها، لتوثّق فنيًا لهذه المأساة الإنسانية. مها حسن روائية سورية، وُلدت في مدينة حلب عام 1966، درست الحقوق قبل أن تتفرغ للكتابة؛ من أعمالها الروائية: «اللامتناهي: سيرة الآخر» 1995، «جدران الخيبة أعلى» 2002، «حبل سري» 2010، «الراويات» 2014، «حي الدهشة».
في رواية «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» التي صدرت عن دار المتوسط، كتبت مها عن قصة عائلة سورية (كردية) شتتها الحرب، فالأم تقضي نحبها تحت القصف، أمّا أبناؤها فهاجروا وتشتت شملهم في بقاع عِدة من العالم. جاءت الرواية لتطرح أسئلة عديدة، لا تتعلق بالحرب فقط، بل بآثارها على السوريين، وبعلاقتها بالكتابة. وزعت الروائية سردها على عدة أصوات: الساردة مها التي هاجرت إلى أوروبا واستقرت بباريس وهي كاتبة روائية قررت كتابة سيرة عائلتها. حسام أخوها الّذي استقر في السويد، بعد أن عاش تجربة سقوط الأوهام التي حملتها رياح الربيع العربي، قبل أن يتحوّل إلى حرب عمياء، يتقاتل فيها الجميع ضدّ الجميع. ثمّ شخصية الأم، التي نعتبرها أهم شخصية في هذه الرواية، والتي عادت إلى الحياة بفضل الكتابة.
الحرب والفاعلية الأدبية:
تقول يمنى العيد: «فالدمار الّذي يعيشه الواقع يطول أيضا الثقافي، بمحو معانيه، ويدمّر قيمه ويهدم بناءه. وبذلك تعيش الكتابة، جذريًا، صراع القيم التي تشمل الفكر والفن والسياسة والإبداع»(01).
هل تدفع التحوّلات التاريخية الكُبرى بالكتابة إلى ولادة جديدة؟ «ولادة قادرة على اِستنطاق التاريخ وحقيقته في لحظة دماره، وتمزقه، واِحتمال تحوّل هذه الحقيقة في أكثر اِتجاه (...) وذلك كي تتمكن الكتابة من صوغ قولها، وممارسة فاعليتها في الثقافة»(02).
تتحدث يمنى العيد عن «الفاعلية الأدبية» كأحد تمظهرات تحوّل الكتابة زمن الحروب، والتي تتجلى على صعيد اللّغة، ومدى قدرتها على ممارسة تفكيك البنيات السابقة. «بنية الواقع، بنية الكتابة». فالمقصود بالواقع المرجعي هو الحرب في سوريا، في حين أنّ المرجعية الأدبية: هي الخطاب الأدبي عن الحرب في سوريا. «السجل الأدبي عن هذه الحرب».
لم تقدم مها حسن سرداً تقريريًا، فقد قالت في حوار لها بأنّ روايتها قائمة على مجموعة من الثيمات النفسية والفردية التي على القارئ تفكيكها لأجل فهم أبعادها العميقة. «أنا أدعو إلى تفكيك العمل الروائي عبر ثيمات الكاتب النفسية والفردية، أكثر من الذهاب لقوانين عامة. أي أنّه برأيي، لم أستجب في هذه الرواية لنداءات جماعية ولأصوات ضحايا الحرب، بل انسحبت نحو عالم صغير ومغلق، أتكوّر فيه لأحمي نفسي وذاكرتي وكتاباتي من رعب الحرب».( 03)
إذ نفهم بأنّ الحرب هي شأن شخصي أيضا، قبل أن تكون حدثًا جماعياً؛ فكلٌّ يعيش مأساته الخاصة، التي ليست بالضرورة تتقاطع مع مآسي الآخرين.
حملت الرواية الكثير من العناصر السيرية؛ خاصة وأنّ شخصية الساردة مها، تتقاطع في عناصر كثيرة مع الروائية نفسها، بدءاً من تشابه الأسماء، وتعلقهما بالكتابة، ونشرهما لروايات تحمل العناوين نفسها. لكن على الرغم من كلّ هذه التشابهات، فالرواية اِشتغلت على عناصر تخييلية كثيرة، ولعلّ أهمها على الإطلاق، هي شخصية الأم التي قتلت في الرواية، قبل أن تستعيد روحها من خلال الكتابة، فتروي ألمها واغترابها. يتجلى المتخيل في الرواية، إذاً، في سرد الأحداث من العالم الآخر (شخصية الأم) فالروائية لجأت إلى التخييل الغرائبي لأجل إعادة بناء فني للواقع المرجعي المُتمثل في الحرب في سوريا. لهذا فإنّ الحرب عند مها حسن ليست حدثًا تاريخيًا عنيفًا، بل هي مجموع الآثار التي تخلفها في الإنسان، في شكل دمار نفسي وروحي واجتماعي. وعن سؤالها: ما الحرب؟ تجيب عبر إبراز علاقة الحرب بالكثير من الدواليل: البيت، العائلة، الوطن، المنفى، الكتابة... إلخ. لا تبدو مها مُكترثة بالحرب كحدث تأويلي، يدفع القارئ إلى البحث عن المعاني الخفيّة في حكايات شخصياتها، بل رسمت لنا لوحات شخصانية عن تجربة الموت والفقدان والتهجير والمنفى، وإذا كان لابدّ للقارئ أن يكون طرفاً في الرواية، فأكبر الظن أنّه سيكون حضوره هو حضور المعايشة وليس حضور التأويل. فالحرب لا تمنح وقتًا لتأويل علاماتها.
أقنعة الأحلام:
عادت مها حسن إلى بدايات الحرب في سوريا منذ 2011، عبر شخصية حسام –أخ مها الساردة– الّذي عاش الثورة في شكل حلم جميل، فقد «بدأ الأمر ما يشبه اللعب»(04). أليست الحروب في آخر المطاف هي «لعب» بعد أن فقد قواعده فأصبح الذين كانوا يلعبون يبيدون بعضهم البعض؟ لم يكن أحد يدري أنّ تلك المظاهرات التي رفعت شعارات السلمية، والتي كثيرا ما تتخللها مناوشات مع قوات حفظ الأمن، ستتحوّل إلى شرارات لاِندلاع أعمال عنف، قبل أن تتخذ شكل حرب ضارية أتت على الأخضر واليابس. لكن كانت الأيّام الأولى حالمة، بحيث «سيبدأ الشباب بتذوق نكهة الحرية».(05). حيث عاش حسام الأيّام الأولى من الاِنتفاضة الشعبية كلحظة فرح، واستعادة روح الفرد داخل الجماعة. من خلال العمل الجمعي، وتعزيز المشاعر والروابط الجماعية. فـ»هرمون الجماعة يفرز اِنتصارات، تشترط التواجد داخل الجماعة ذاتها، يضخم التفوّق، ويُقلل من الخسارة والخوف، ويمنح بعض التهور».(06). لكن سرعان ما تحوّل هذا الشعور إلى كابوس حقيقي. بسبب ردة فعل النظام من المتظاهرين، ثمّ ظهور الحركات الجهادية والتكفيرية التي لم تكن أقل سوءا من النظام نفسه. في هذه الحرب، يموت الناس بالصدفة، دون أن يروا حتّى وجه قاتلهم، فقط لأنّ أحدهم خرج إلى الشارع فتلقفته رصاصة قناص. الحرب عمياء، ومجنونة، لا تفرق بين ضحاياها، عندما يتحوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام فقط. صُدم حسام أمام هول التحوّلات التي أصابت الثورة، فظهرت جماعات معارضة اِتخذت من الإسلام هوية لها، فتشددت، فجعلوا للثورة مرجعيات دينية، يحتكمون إليها: «اِنصدمتُ بفقدان الثورة، هذه الثورة التي خرجتُ فيها، واشتغلت بإنسانية ومبادئ راقية، فقدتها»(07).
كان حسام شاهداً على تحوّلات الثورة من لحظة ميلادها كحلم مشروع بالحرية حرّك قطاعًا من الشعب يُطالب بإسقاط النظام، إلى أن صارت حربًا أهلية ودينية عبثية، أصابت الجميع بالجنون. فالذين كانوا رفاق المدرسة والحارة تحوّلوا إلى آلات باردة للقتل. فقدت الثورة هويتها، فأصبحت مزيجًا من النهب والثأر والاِنتقام.
سيرة البيت زمن الحرب:
يكتسي فضاء البيت موقعاً مركزيًا في هذه الرواية، فهو الفضاء الّذي يحمل دلالات الحميمية والألفة والدفء والطمأنينة والسعادة...إلخ لكنّه أيضا المكان الّذي يكون هدفًا سهلاً لصواريخ المقاتلين، لقتل الحياة التي تزخر بها هذه البيوت. فليس البشر من يموت فقط في الحروب، فبيوتهم أيضا تموت، لما تتحوّل إلى كتلة من الأنقاض غير المنسجمة، والمتناثرة، التي تطمس كلّ أثر لحياة سابقة.
ما هي الحرب؟ سؤالٌ يتكرّر كثيرا في رواية صاحبة «ميترو حلب»، لكنّها لا تحشو عقل القارئ بالتعريفات التي تزخر بها كُتب التاريخ والسياسة العسكرية؛ فالحرب بكلّ بساطة هي أن تفقد بيتك، بسبب قذيفة تأتي من مكان ما، ألقاها مقاتل مبرمج على القتل، فتحوّله إلى حطام. وفي تعريفٍ آخر، فالحرب هي المنفى، بِمَا هي الهروب الاِضطراري من البيت. أو هو فقدان البيت إمَّا مُؤقتًا أو إلى الأبد.
يحضر فضاء البيت في هذه الرواية على نحو لافت، وحضوره تجاوز وظيفته كعنصر في التأثيث للفضاء السردي، بل هو حضور مشحون بالدلالات، بل يدفع القارئ إلى تأويل البيت كمعادل موضوعي للوطن، وللهوية. ومن بين الدلالات التي سيستشفها القارئ هي دلالة الأمان: «ولكن ظل إحساسي بالأمان قائمًا، حين أغلقُ باب البيت، كأّنني أغلق على الخوف والخطر اللذين يبقيان خارج الباب، وأبقى داخل البيت محمية من أشباح الحرب».(08).
تظهر قيمة البيت في كونه فضاءً مغلقًا على حميميات من يقطن فيه، فجوهره هو أنّه يفصل الإنسان عن العالم الخارجي، ويحميه منه فيشعر بالأمان حتّى لو أنّ الخطر يتهدّده في أي لحظة. يوم بدأت الحرب في سوريا، اتخذت الأم قراراً صعبًا بمغادرة بيتها، فالإحساس بألم الفراق لا يختلف عن الإحساس بمرارة الحرب. لأنّ منزلها يمثل جزءاً كبيراً من حياتها، وخزانة أسرارها وذكرياتها. فالبيوت تنتمي إلى الجزء الحميمي في الإنسان، لذا فإنّ تدمير «بيت» هو تدمير لذاكرته. إنّ ما يمنح الألفة لفضاء مثل البيت هي ذكرياتنا. نحتاج هنا إلى قراءة ظاهراتية مثل تلك التي قدمها غاستون باشلار لأجل أن نتجاوز وظيفة وصف البيت إلى ما هو أهم منه، وهو إبراز البيت بوصفه مكانًا حميميًا، أو «قوقعة أصلية». يقول باشلار: «يجب أن أُبيّن أنّ البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية».(9). ويضيف: «الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت».(10).
وإذا عدنا إلى الرواية، تتضح لنا مكانة البيت عند شخصية الأم، فيوم عادت إلى بيتها، بعد هروبها من القصف، كانت كمن يدخل الجنة: «ما إن دفعت باب البيت، ولمحت أريكتي هذه حتّى أحسستُ بأنّ الدنيا تدور بي، كأنّني أدخل الجنة».(11).
لقد وفّر لها البيت الشعور بالسلام الداخلي، على الرغم من أنّها أصبحت وحيدة بعد هجرة كلّ أبنائها، فالشوق إلى المكان الّذي يحمل ذكريات الماضي، أعلى من الشوق إلى البشر. وبتعبيرها فإنّ البيت مُخلّص من الضجر الّذي يُحدثه البشر. ومن جهة أخرى، فقد اِنتبهت الساردة مها إلى وجود علاقة بين الكتابة والبيت؛ فقد اِكتشفت أنّها اِكتسبت ثقافة كبيرة عن البيوت في حارتها، ما أهّلها للكتابة عنها؛ فالبيوت عامرة بالقصص والحكايات والأحداث: «اِكتشفتُ أنّني أكتبُ طويلاً عن البيوت. حتّى إنّني أملك المشاريع العديدة عن لوائح بيوت صديقاتي الكاتبات، وعلاقة الكتابة بالبيت، وبيوت أخرى ألهمتني الكتابة، وبيوت منحتني الحلم».(12).
الكتابة والحرب:
قدمتْ مها حسن نوعين من الخطاب: خطاب عن الحرب وعن آثارها، وخطاب عن الكتابة وعلاقتها بالحرب. فهذا الخطاب الأخير، ينتمي إلى ما يُسمى بالخطاب الواصف، ويدرج بعض منظري الرواية هذا النوع من الخطاب في دائرة رواية ما بعد الحداثة. في سياق تحليلنا لا يهمنا هذا النوع من التصنيفات، بقدر ما يهمنا الكشف عن الوعي الفني داخل الرواية بالكتابة ودورها، وبأهمية الحكاية في زمن الحروب.
تقول يمنى العيد: «غير أنّ رواية الحرب الموضوعة أمام واقع قوام حكايته التفكك والدمار، وأمام بناء شخصية لشخص مرجعي يمارس القتل ويغرق في ضياع الهوية الواضحة، أو في الاِختلاف عليها، رافضًا الاِنتماء القومي الشمولي... مثل هذه الروايات بدت، ومن حيث علاقتها بحكاية الحرب، مدعوة لتجاوز الرواية السابقة، أو الخطاب الّذي ينبني بمنظور البطولة الشمولية، أو الشخصية النامية بإيقاع الزمن في التيه، أو الزمن المولد، بخطيته وبإطراده، لدلالات التمسك البطولي، ووضوحه».(13).
لقد تجاوز دور الكتابة وظيفته التقليدية المتمثلة في التوثيق للحرب، إلى دور أكبر، وهو بعث الحياة في الأشخاص الذين قُتلوا في هذه الحرب؛ وقوّة بعث الحياة، تكسي الكتابة القوة على تجاوز القوانين الطبيعية، وبذلك تمنحها سلطة اِختراق الواقع المرجعي.
وتضيف يمنى العيد: «تبدو مشكلة الكتابة في زمن الحرب مشكلة شائكة، لأنّها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المتخيل».(14).
لقد تمكنت مها (الشخصية في الرواية) من بعث أمها من عالم الموتى، فعالم الحكايات هو أقوى مضاد للخوف من العالم المجنون الّذي تُمزقه القنابل خارجًا، ثمّ بالكتابة كانت مها تُقرِّب المسافات بين منفاها الباريسي وموطنها الأم الّذي يحترق تحت نيران الحرب، ليُخفِّف داخلها آلام الفراق والفقدان والغربة والاِغتراب. لقد مارست مها الكتابة في عز الحرب، فكانت تُواجه أسئلتها الكبيرة، سواء التي لها علاقة بالحرب أو بالاِنتماء، أو بالدين أو بالهوية بشكلٍ عام. فكانت تُفكك هذه المقولات بشجاعة، حتّى تصفي حسابها معها: «عبر الكتابة رحتِ تُفككين اِنتماءاتك، وتحللينها، وتقتربين مني خطوة إثر خطوة».(15). لكنّها في الوقت نفسه، اِكتشفت إلى أي مدى كانت الكتابة شاقة. ففي زمن الحرب، تفتح الكتابة صندوق باندورا الأسطوري.
صورة الأم في الرواية:
ما يُثير في حضور الأم هو الطابع الغرائبي لهذه الشخصية، إذ بعثتها الساردة من قبرها، حتّى تروي يومياتها عن الحرب: «منذ بداية الكتاب وأنا أروي لكِ من قبري».(16).
لا تنتمي الأم، إذاً إلى الشخصيات المرجعية التي تنتمي للواقع (وإن كانت تجربتها تتقاطع مع تجربة أي أم في الحرب)، بل هي شخصية غرائبية، لأنّها لم تعد تنتمي لعالم الأحياء. يُمكن أن نُشبهها بشخصية أنكيدو في ملحمة غلغامش الّذي عاد من عالم الموتى. فكيف يكون العالم بعيون شخصية فارقت الحياة؟
لقد قدمت الأم سرداً حميميًا ومُوجعًا، يترك في القارئ مرارة –على الأقل هذا ما حدث لي– إذ ننصت إلى صوت قادم من عالم آخر، عاد إلى الحياة عبر السرد، لأنّ ثمّة ما يجب قوله، فالحرب لا تمنح الوقت الكافي لسرد الحقيقة، لهذا يموت البشر وفي قلوبهم غصّة كبيرة، وهي: أنّ لديهم ما يمكن لهم قوله. نتـتبع يوميّات هذه الأم، قصتها مع الحرب، وتعلقها الشديد ببيتها الّذي هو جنتها، لكن ما يهم هو ذلك الموقف من الحرب. كيف يعقل لميت أن يخاف من الموت مرةّ ثانية؟
«نعم، نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا».(17). لقد بلغ السرد في الرواية مستويات عالية من التراجيديا في هذه الجملة «نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا). إنّ الحرب التي تُخيف الموتى هي حرب قاسية، ولا مثيل لها. لذا فإنّ خطاب الأم يضعنا أمام الصورة العبثية للحرب في سوريا، حيث حتّى الموتى يموتون أكثر من مرّة، ويتعرّضون للقصف، فتقذف جُثثهم من تحت الأرض. «حين نسمع القصف، نخاف على أماكننا، نخاف أن تنبش القذائفُ التربةَ، وتقلبَ قبورنا صوب السطح، فتتعرى أجسادنا وأكفاننا».(18).
الآخر الّذي لا يشبه ذاته المتخيلة:
حين وصل حسام (أخ مها) إلى السويد، كان يحمل صورة إنسانية عن أوروبا التي تحترم حقوق الإنسان وتدافع عنها، لكن بمجرّد وصوله إلى دائرة الهجرة اِكتشف الحقيقة، وسقطت تلك الصورة المثالية التي طالما صدّقها. ما حدث لحسام، أنّ «لا شيء يشبه ما تخيله».(19). أمّا تينا السويدية، التي كانت هناك لاِستقبال الهاربين من الحرب، فلم تعد ذلك الملاك الحارس الّذي سينتشله من محنته، بل كانت أقرب إلى صورة مديرة سجن. «فهي غير مبالية باللاجئين، وتنظر إليهم على أنّهم كائنات بحاجة إلى الطعام والسكن فقط، وعليهم أن يأكلوا ويناموا بصمت».(20).
قد ينجو اللاجئ من الموت تحت أنقاض بيته، لكنّه لن ينجو من برودة المنافي، ومن قسوة المحتشدات التي تُذكّره أنّه مجرّد ذلك الغريب المنبوذ الّذي يبحث عن الشفقة. لم تعد أوروبا التي رآها حسام تشبه تلك التي كان يحلم بها، أو تلك التي كان يحمل عنها صوراً جميلة وإنسانية عن الأوروبي الإنساني الّذي يفتح ذراعيه للأجانب. لم يجد أي شيء من تلك الصورة الوهمية، بقدر ما كانت الحقيقة قاسية. لقد كان اللجوء مجرّد شكل مخفف من الاِعتقال: «سيبقى اللاجئ محكومًا بالاِعتقال داخل حياة ضيقة، لا أحلام ولا إذن بالعيش خارج مجتمع صغير، مجتمع له قوانينه التي لا تشبه قوانين السويديين. هنا لستَ في أوربا، ولا في اليونان، ولا في تركيا».(21).
تتحدث الساردة عن تجربة أخيها حسام، الّذي وصل إلى السويد، لكنّه وجد نفسه في ملجأ، مُنع من الاِتصال بالعالم الخارجي. فقد أُستقبل حسام في منطقة عزل، لا هو في السويد ولا هو في موطنه الأصلي. يعيش حالة اللامكان، واللاتحديد. هل يستطيع الأجنبي الاِندماج بسهولة في المجتمع المستقبل؟ الطريف في قصة حسام أنّه وجد نفسه في ملجأ كان يرى في الآخر صورة الأجنبي. الأجنبي بالنسبة للسويدي هو «تقويم أدنى من المواطن».(22). والعكس يحدث في الأوطان العربية بحيث يرفع من شأن الأجانب حد التقديس: «نحن محكومون بالترتيب الأدنى، سواء كنا في بلادنا، أو في بلاد الآخرين».(23).
خاتمة
حرصت مها حسن في روايتها «عمتِ صباحًا أيّتها الحرب» على تقديم شكل روائي يتوزع بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، من خلال سرد تتناوب فيه شخصيات مختلفة، غير أنّه كان يتقطّع بسبب قذيفة أو غارة جوية أو اِنفجار مدوّ. كان السرد قلقا، متشظيًا، معبّرا من خلال توتره عن تجربة الحرب؛ فالشكل الّذي جاءت عليه الرواية كان مناسبًا للتعبير عن الحالات النفسية والاِنفعالية التي صاحبت عملية التذكّر. فالرواية، وإن كانت عملاً تخييليًا، فهي بنت متخيلها السردي على ذاكرة الحرب بِمَا هي ذاكرة الإنسان وذاكرة المكان. وكما قال باشلار، فالمكان يمثل لحظة تكثيف زمني للتجربة الإنسانية، لذا حضر البيت بكلّ حمولته الدلالية في الرواية.
إحالات:
1)–يمني العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي بيروت، ط01، 2011، ص32.
2)-المرجع نفسه، ص32.
3)–حوار أجراه مصطفى ديب في موقع ألترا صوت.
4)-مها حسن، عمت صباحا أيتها الحرب، منشورات المتوسط ميلانو،ط01،ص105.
5)-الرواية،ص105. -6)-الرواية،ص106. -7)-الرواية،ص183. -8)-الرواية،ص21.
9)-غاستون باشلار، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984، ص38 .
10)–المصدر نفسه،ص39.
11)-الرواية، ص22. -12)-الرواية، ص26.
13)- يمنى العيد، الرواية العربية: المتخيل وبنيته الفنية، مرجع سابق، ص39. - 14)-المرجع نفسه،ص32.
15)-الرواية، ص142.- 16)-الرواية، ص137. - 17)– الرواية، ص 80، 81. -18)-الرواية، ص120.- 19)-الرواية، ص56.- 20)-الرواية، ص56. -21)-الرواية،ص68. -22)-الرواية، ص77.- 23)-الرواية، ص77.