mercredi 19 août 2020

مها حسن في بيت آن فرانك!

 

تلك الزيارة الواقعية أو المتخيلة للروائية السورية مها حسن، إلى هولندا، وإقامتها المفترضة في بيت آن فرانك، أيقونة الاضطهاد اليهودي على يد النازي، جعلت منهما اثنتين في واحدة، حيث مع الوقت تلبّست الطفلة اليهودية التي كتبت مذكراتها قبل موتها في معسكر الاعتقال النازي بعامين، ونشرها والدها بعد سنوات من رحيلها وشقيقتها، جسد مها.

وليس ذلك فحسب، بل إنهما تحطان الرحال في فلسطين، لتستثمر الروائية السورية مشاركتها في الدورة الأولى لملتقى فلسطين للرواية العربية في رام الله، حيث تنطلق الطفلة اليهودية الألمانية متخفية داخل جسد الثانية، ولكل معاناتها على مستوى التهجير، واللجوء، وحتى البحث عن الهوية.

رحلة العبور إلى فلسطين، وزيارة القدس وغيرها، شكلت مساحة لآن فرانك لتراقب كيف يُمارس المُنتَهك في عصرها انتهاكات بحق شعب آخر، منذ المعبر، فيتملكها الخزي في "أرض الميعاد"، حيث "شعرت بالخجل"، ولكنها أكدت "كنت أود أهمس لها أنني لست مسؤولة عن حماقة اليهود هنا"، وتقصد رفيقتها، ليتأرجح هذا الفصل على الأرض الملتبسة بينهما، ما بين لهفة حسن إلى زيارة فلسطين، ولهفة آن فرانك إلى زيارة إسرائيل، التي اعترفت أنها لن تعيش فيها "دون جسد آخر تحيا فيه"، وليس لموقف مبدئي بالأساس هنا، وإن كان الأمر سيتبدل لاحقاً.

وتنحو حسن في روايتها "في بيت آن فرانك" الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، وعن الدار "الرقمية" في رام الله بطبعة فلسطينية، إلى عوالم أخرى غير تلك المطروقة بكثرة في أعمال سينمائية ودرامية وأدبية غربية.. عوالم لا تخلو من فنتازيا غير مشبعة، ومقتصِدة، ولا تخلو من حوارات متناقضة ما بين السورية الكردية العربية وما بين اليهودية التي شاخت في داخلها، لتحقق لها حلم زيارة فلسطين- إسرائيل، على اختلاف نظرة كل منهما، ودون أن تخلو تلك الرحلة من نقاشات حادّة بعض الأحيان، ولكن دون إقصاء، ما يدفع السورية ذات حوار قبل حتى الزيارة إلى فلسطين، مخاطبة آن "يجب أن تعترف إحدانا بحق الأخرى في البقاء"، والحديث الذي هو عن المنزل هنا ينسحب على فلسطين المنزل الأكبر، والحياة التي تبثها مها روائياً في جسد آن فرانك، صاحبة واحدة من أشهر المذكرات تاريخياً.

وفي رحلة مها لاستعادة آن فرانك ليس فقط من التاريخ وحيث دفنت، بل من داخل أروقة المنزل حيث عاشت وكتبت مذكراتها الشهيرة، يتنقل السرد ككرة التنس ما بين الاثنتين، وفي تسارع تربكه اللحظة، والحالة التي تعيشها كل منهما.. تقول آن فرانك في الرواية "ولدتُ سنة 1929، وتوفيتُ سنة 1945، ثم حدث أمر غريب، حيث جلبتني هذه المرأة من الموت في سنة 2007. حيث متّ في آذار 1945، اعتقدتُ أن موتي كباقي البشر، نهائي. إلا أنه، وفي العام 2007، وبعد مضي 62 عاماً على وفاتي، تمكنتُ من العودة إلى الحياة بقوّة الكتابة. لم أتخيّل أن للكتابة تلك المقدرة، أنها تستطيع إعادتي إلى الحياة. حصل هذا في لحظة قوية استثنائية، حين قفزت روحي من صورتي المعلقة على جدار بيتي المهجور في ميرفيديبلين، الذي وصلت إليه هاربة من ألمانيا في الرابع من كانون الثاني 1934".

أما حسن فتقول "إن وجودي في منزل يهودي يحمّلني شعوراً مسبقاً بالذنب، أو بالاتهام، وبضرورة الدفاع عن نفسي، لأثبت أن تواجدي في هذا المنزل لا يقع تحت أي تسميات سياسية، وانّي أتمتع بحريّتي الفكرية، وأستطيع أن أعادي إسرائيل من هذا المنزل. ومن ناحية أخرى، فإن هذا المنزل، منزل قديم، أي منزل يهودي في الداخل. بالإضافة إلى معاناتي الحالية عليّ أن أعود أيضاً إلى التاريخ، كلما أغلقت أبواب الشقة لأدخل أيضاً في صراع غير عادل بين الطرفين. أنا الضحية القادمة من بلاد تذبح أبناءها لو تعاطفوا مع اليهود، هل عليّ أن أُنصف في التاريخ؟ وأن أنصف آن فرانك مثلاً التي تستضيفني في بيتها، وهذا حق لها، وواجب عليّ، لأن آن لم تختر يهوديتها كما أنا لم أختر كرديتي أو عروبتي؟".

وفيما سبق يتضح أن مها حسن تفرّق جيداً ما بين كرهها لإسرائيل كقوة احتلال، وتعاطفها مكمن التساؤل مع يهودية تعرضت كغيرها من اليهود لاضطهادات بشعة على يد النازي في أوروبا، ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، هي التي تستعيد فصولاً من مذكرات آن فرانك، وتسقطها على ذكرياتها هي، على الصعيدين العائلي والاجتماعي بالدرجة الأولى، كما على صعيد الإبداع الكتابي، فعلاقة فرانك الملتبسة بأمها، والتي ينقشع ضبابها لاحقاً، أحالت الروائية السورية إلى علاقتها الشخصية بوالدتها، كما كانت هناك حالة من المقارنة ما بين حضور الأب لدى كلتيهما، فلم يجمعهما المنزل فحسب، وفعل الكتابة أيضاً، بل تلك المعاناة المشتركة لاثنتين بينهما عقود في الولادة والمأساة، لكنهما عايشتا الحرب، واللجوء، والتشرد الداخلي وفي المنافي، ورائحة الدم والجثث الطازجة والمتعفنة.

"قفز ذلك العالم القديم الذي غادرته توأمي منذ سنوات، وحُرمت من بلد الأجداد والجدّات حصراً، لتعيش في فرنسا(الحديث هنا عن مها حسن بلسان آن فرانك)، كما حُرمتُ أنا من أرض مولدي، فارّة إلى هولندا. جمعنا المنفى بعد الكتابة، جمعنا، أي توأمي وأنا. كنتُ سعيدة لسعادتها، مزاجها الرائق ذاته منحني الحرّية للتجوال في رأسها، والخروج من نافذة الباص للطيران في تلك المساحات بحرّية، لم أذقها منذ سنوات بعيدة، منذ كنت أقود عجلتي الهوائية في ميرفيدبلين عائدة من المدرسة. امتلأت روحي بهواء الحرية على مشارف رام الله. لكنّي عدتُ سريعاً إلى رأس توأمي حين أحسست بالخوف يداهمها".

وكما تنقل السرد بين الاثنتين في عدة اتجاهات، نحا في فصل "هذا كتاب ناقص" إلى تناص أدبي ما، عبر استحضار شيء من مذكرات آن فرانك التي تاهت في القدس، حيث لم يمض أكثر من ثلاثة أيام على إحساسها بالسلام ليقع تفجير "إرهابي" في بار يهودي، وما بين "مذكرات" مها حسن، التي ارتحلت إليها فرانك لعلها تسكنها مرّة أخرى، حيث كانت في غرفة منزلها بمورليه، وهي تدوّن حكاية أمها التي ماتت بسبب قصف بيتها في حلب.. "لكنها الآن تكتب، وأنا أقرأ كتابها، وأرتعش من شدّة التقارب مع ما عشته في أمستردام، قبل خمس وسبعين سنة تقريباً".

وعلى لسان آن فرانك، تُختصر الحكاية، بعد أن أصبحت حياة توأمها مها، مثلها قبل سبعين عاماً، مليئة بالجثث وأخبار الموت والخوف.. "الحرب هي الحرب في كل مكان وزمان، قاسية وشرسة وغير عادلة، ولا جدوى لها. الأقسى، وما أحياه الآن، هو أنه حين تحدث الحرب في مكان وزمان جديدين، تحرّك ذاكرة الحرب السابقة. نعم كنت أعيش آلام الحربين: حرب 1944 وحرب 2014. العام الأقسى الذي مرّ على توأمي منذ بداية الاقتتال في حلب".

وتطير الرواية، إلى ألمانيا الحلم وتوأمها قبل سبعين سنة، ألمانيا الألم.. "ها أنا أتابع القراءة في كتاب مها، لتقول أمها بأنها تحلم في الذهب إلى ألمانيا، حيث تتواجد أخواتها وأخوتها الذين فرّوا أثناء الحرب، هكذا تتحدث الأم عن ألمانيا بوصفها بلاد الأحلام (...) يا توأمي أمّك الآن ترى الأمان في ألمانيا، بينما ما حصل معي كان مختلفاً تماماً، وها أنا أذكر ما كتبته يوم الجمعة 9 تشرين الأول: شعب لامع هؤلاء الألمان، أنا التي أقول بأنني أنتمي إليهم! ثم إنّ هتلر جعل منّا، منذ فترة طويلة، أناساً بدون جنسية، وعلى كلّ لا توجد أشدّ عداوة في العالم من التي توجد ما بين اليهود والألمان".

وفي مسيرة مها حسن التي حملت آن فرانك داخلها، منذ أن حلّت في بيتها بأمستردام، مروراً برحلة فلسطين، إلى فرنسا حيث استرقت آن قراءة كتاب مها، الذي وصفته في آخر الرحلة بأنها "ناقص وغير موضوعي"، وكادت بذلك تتبدد علاقة طويلة تكونت بينهما، فعادتا إلى لحظة البداية غريبتين، وهي العبارة التي هدمت جسور التواصل الكتابية والإنسانية والشعورية فيما بينهما، قبل أن تعودا إلى نقاش حول صورة الإنسان الفلسطيني في رحلة رام الله والمدن الأخرى والعسكري الإسرائيلي المُدان والمُنتقَد حتى من آن نفسها، مع تجاهل مها للمدنيّ الإسرائيلي، لتتهمها آن بأنها كتبتْ عن آلام جهة وتجاهلت الثانية، مع أنها، أي آن، أكدت أنها لم تكن فخورة بتأسيس هذه الإسرائيل، فهي المقتولة في معسكرات النازية لا يمكن لها أن تتماهى مع الجلّاد.. وهنا يدور نقاش حاد وساخن، حول ضرورة اكتمال الرواية بزيارة لبيوت المستوطنين، تطلبها آن، وترفضها مها التي تتحدث عن اغتصاب الأرض، بينما تحدثها آن عن إمكانية الحل عبر المفاوضات!

ومع ذلك، وبعد نقاشات جديدة، تخلص الرواية إلى أنه "لم يعد لدينا ما نكتبه بعد الآن. ربّما عليّ الذهاب مجدداً إلى فلسطين، لأتمّم هذا الكتاب ذات يوم، لكن هذا ما استطعتُ كتابته حتى اليوم".. قبل أن تخلص مها حسن بأمنية مشتركة لها ولتوأمها آن فرانك "حين يُشفى العالم من داء الحرب، سأعود إليكِ، تقرئين كتابتي بالعربية على جمهور عربي وغربي، وأقرأ كتبكِ بلغات أخرى، على الجمهور ذاته.. تعالِ نضفّر خصلات شعرنا، لنصنع جديلة واحدة ضد هذا العالم الخانق للحريّات"
جريدة الأيام الفلسطينية ـ بديعة زيدان .