jeudi 11 septembre 2014

ماريا فلوريكا صديقتي الرومانية



ماريا فلوريكا صديقتي الرومانية


نشأت صداقتنا منذ ثلاث سنوات تقريباً. تقف يومياً أمام مخبز الحي، تتلقّط رزقها من زبائن المخبز والمارّة. مع مرور الوقت، من كلمة إلى أخرى، ويوماً بعد يوم، كبرت الكلمات بيننا وتحولت إلى جمل، ثم إلى وقفات وأحاديث مطوّلة، دعمَها فضولي من ناحية، وإحساسها بالوحدة من ناحية أخرى.
هكذا، اعتماداً على لغة الإشارات أكثر من اللغة الفرنسية، التي تعرف صديقتي بعضاً من كلماتها الكافية لوصف حاجتها للمال، أو من أجل الطعام، فقط الطعام. أسألها عن مكان سكنها، بيتها، تقول لي برضا وقناعة، ليس بيتاً، هو شيء ما يشبه الخيمة، تنام فيه فوق أكياس الملابس، وتطردها السلطات من وقت لآخر، ثم تعود.

تشعر بالسعادة، وهي تصف لي مدخولها من يوم الجمعة، حيث تتغيّر يومياتها. فبعد الوقوف أمام المخبز في ساعات الصباح، تتجه قبيل الظهيرة صوب مسجد الحي، هناك تنتظر المصلين عقب إنهائهم أداء الصلاة، وتحصل على بعض المال أكثر مما تحصل عليه بقية أيام الأسبوع. في ظل الجليد، تحت الثلج، تحت المطر، في حرّ الصيف النادر، في كل الأوقات أراها... ترفض السنتيمات الصغيرة التي أضعها في كف يدها: "أرسليها لوالدتك" تقول لي. تحاول أن تخلق لي صورة ميتافيزيقية جميلة: حين ترسلين المال لأمك ، فإنه يصل لأمي المتوفاة. صرتُ أُعلمها بمواعيد سفري: "أنا ذاهبة إلى تركيا لرؤية أمي". عانقتني وبكت فرحاً من أجلي. حين أعود إلى فرنسا، أذهب إلى المخبز، تلمحني من أول الشارع، تفتح ذراعيها من بعيد، تحتضنني كأنني من عائلتها.
كانت مريضة منذ أسبوع، ولا تعرف كيف تذهب إلى الطبيب، وهي لا تملك أوراق إقامة ولا أي عنوان مسجل ورسمي لتذهب إلى طبيب الحي، أو تحصل على إجراءات الضمان الصحي. تسعل أمامي وترتجف. أخاف أن تموت في الشارع، من دون أن أستطيع مساعدتها. أذهب إلى البلدية في الحي وأطلب منهم عناوين الجمعيات الإنسانية التي تهتم بحالات مماثلة "من دون أوراق" اتصل بالهواتف. يعطونني عنواناً، ولكن كيف سأشرح لهذه المسكينة طريقة الذهاب إلى ذلك العنوان، فمرافقتها تعني هدر الكثير من وقتي الضيق دائماً، وهي لا تعرف تغيير طريقها من الحارة هنا إلى سكنها...، ربما تسير على قدميها فقط، ولا تبدّل خطوة في طريق حفظته عن ظهر قلب، وهي طبعاً لا تقرأ ولا تكتب، تنتمي إلى فئة الـ "إس دي أف"، وهي الحروف الأولى من عبارة تعني "دون منزل ثابت". 
ظهرت بعد يومين، وجهها متورّد، تزف لي نبأ سعيداً. حصلت على رعاية طبية في مركز عثرت عليه قرب سكنها، وكذلك أعطوها دواءً مجانياً. كدنا نبكي من الفرح. أتلصص على ركنها اليومي كلما عبرت الشارع، إذ لا أشتري الخبز أحياناً، ولكنني أراها من بعيد، تمسك علبة النقود بيدها، وتبتسم للمارة من دون أن تعترض طريقهم، وتشكر كل من يضع سنتيماً واحداً، أما أنا، فأتحايل عليها وأرجوها في كل مرة أن تقبل بسنتيماتي القليلة، مؤكدة لها أن أمّي بخير، وأمّها راضية.
نتعانق أمام المخبز أحياناً، أمام دهشة الفرنسيين، الذين لا يفهم غالبهم هذه العلاقة الغامضة بين امرأة مثلي، وأخرى مثل فلوريكا، تبدو التناقضات الخارجية هائلة بيننا. وحدنا، ماريا فلوريكا وأنا، نفهم هذه الصداقة المتجاوزة للتناقضات.
لدى ماريا الكثير من الحكايا، لو أنني فقط أعرف لغتها، لنقلت عالماً سحرياً غامضاً ومجهولاً لغالبيتنا، نحن المتعلمين، المتنورين، جيل الحداثة والانترنت واللغات والملابس الأنيقة والشوكة والسكين
مها حسن

jeudi 4 septembre 2014

الكتابة المضجرة



الكتابة المضجرة ـ مها حسن

لماذا تعاني الكتابة العربية عموماً من الضجر؟ حيث العثور على كتاب شيق ورشيق وحيوي وممتع ومفيد، يكاد يكون بمثابة الوقوع على كنز ثمين
وهل على القارئ أن يبذل جهداً في القراءة، لأن الكاتب ليس مسؤولاً عن إمتاع القارئ؟ بوصفي كاتبة مقيمة في الغرب، فإنني أتحسّر على مصيرنا الكتابي، كلما صادفت رجلاً أو امرأة في المترو، أو الباص، غارقين في القراءة، غير مبالين بالزحام والضجيج والتبرّم وضيق المكان وثقل الآخر، بل يمسك أحدهم بالكتاب، يرفعه أمام عينيه بين الأيدي الكثيرة المتداخلة والمتشابكة الممتدة لتمسك بالعارضة الحديدية، فكأن القارئ منفصل عن المكان، مستمتع في عالمه
وحين أتلصص على عناوين الكتب التي تفصل القارئ عن الضجيج والزحام، أجد أن أغلبها أعمالاً روائية

إلا أننا في العالم العربي، لا نعثر على هذه العلاقة المتعوية بين القارئ والكتاب، إلى درجة أن يتشبث أحدنا بالكتاب ليستغرق فيه ناسياً ما حوله، إنما نقرأ غالباً بدافع الواجب والضرورة، لا بدافع المتعة
كيف يمكننا إذن حل مشكلة عدم المتعة أو الضجر في القراءة العربية، لنرمّم الفجوة بين الكاتب والقارئ، وأيهما معني بهذه المبادرة، الكاتب أم القارئ؟ من أين يأتي الضجر في الكتابة العربية دون أن يكون القصد الحديث عن الضجر، إذ يمكننا كتابة نص مشوق عن الضجر، كرواية «السأم» لمورافيا، المتّسمة بالتشويق والإثارة، أو أن نكتب عن البطء (لكونديرا) دون أن نشعر بالبطء أو الملل
الجاذبية ضد الملل لمعارضة الملل، يذهب بنا الحديث عن الضد، أي الكتابة الجاذبة، أو النص الجذاب، ولتوضيح التعريف، يمكنني الاستشهاد ببعض النصوص المخالفة للضجر، ككتاب «سجينة طهران» لمارينا نعمت
سيرة تمسك بالقارئ منذ بدايات السرد وتخلق الرغبة في القراءة، بحيث لا تكون القراءة مجرد تتبع قسري للكاتب، أو أن تتطلب مجهوداً إضافياً، بل تتحول عملية القراءة إلى شراكة إبداعية، بين القارئ والكاتب
وذلك لأن الكاتبة جهدت في تدوين النص المستمد من سيرتها الشخصية، أي الصدق في الروي، ومتعة السرد، الذي لا يعني أبدا حالة السعادة أثناء السرد، بل يعني على العكس أحياناً، التعبير عن الألم والخوف، ولكن يتحول كل ذلك العذاب والمعاناة، إلى متعة سردية فور انتهاء عملية التدوين
هناك أمثلة عديدة في الرواية العربية المعاصرة، حيث نجح بعض الكتاب في إنتاج نص جاذب متحرر من الضجر، نص مشغول عليه بمتعة، تتعلق بشغف الكتابة وحبها، من تلك الأمثلة، كتابات الروائي اليمني علي المقري، خاصة في روايته «اليهودي الحالي» حيث تلك الكتابة التي يصعب العثور فيها على مقاطع زائدة تحتاج إلى القصقصة أو المرور عليها
كتابة خالصة، تترك المفيد والممتع إبداعياً وتنسف الحواشي والسرد الممل
مضافة الكاتب الملل إذن، هو أحد أهم عوائق القراءة العربية، حيث يصف لنا القارئ في صفحات مطولة، ما لا يهمنا ولا يؤثر في مسار السرد، تماماً كالمضيف الذي يسرد لضيفه حكايات متشعبة بهدف الثرثرة والرغبة في الكلام، دون التوقف أمام أهمية أو عدم أهمية ذلك الكلام.
حين يذهب القارئ إلى الكتاب، تتحول العلاقة بين الكاتب والقارئ إلى ما يشبه علاقة الاستضافة، يكون الكاتب فيها هو المضيف، والقارئ هو الضيف، فكيف يُحسن المضيف استقبال ضيفه؟ من أولويات حُسن الضيافة: المتعة
وهذا يقودنا بتلقائية إلى ما قيل من قبل حول متعة الكتابة والقراءة، أو «لذة النص» حسب رولان بارت الذي يقول إن لذة القراءة معروفة ومشروحة منذ زمن بعيد، وليس هناك سبب يدعو لإنكارها والحجر عليها حتى لو كانت تفصح عن نفسها في إطار ما يمكن أن نسميه بالفكر النخبوي
هل يمكننا إذن، وعكس اللذة، أن تُستخدم مفردة الملل في سياق النقد الأدبي، لنقول عن نص إبداعي (رواية ـ شعر ـ قصةبأنه ممل، أو حتى عن السينما والفن التشكيلي؟ بمعنى هل من شروط نجاح العمل الفني، ألا يكون مملاً، أو أن يكون جذاباً ومتحرراً من الضجر؟ هذا السؤال مشروع خاصة في ظل المزاحمة غير القصدية حتى، بين الأدبين، الغربي والعربي، ومن حق المهتم بالأدب العربي ومستقبل الكتابة العربية والحريص على تألقها، طرح هذه الأسئلة ومحاولة استنتاج وصفات «تحرير» الكتابة العربية من «الضجر» وخلق العلاقة مع الآخر/ القارئ، بحيث تنشأ علاقة عقدية بين الكاتب والقارئ، قائمة على المتعة المشتركة
لا يمكن وضع هذا الكلام في خانة الرقابة على الكاتب، ولا يمكن مطالبة الكاتب بشروط مسبقة للكتابة، ولا حتى عليه أن يفكّر بالقارئ أثناء الكتابة، حتى لا تتحول رغبات القارئ إلى سلطة تتدخل في العملية الإبداعية، ولكن في المحصلة، فإن النص الناجح، هو ذلك الذي يحقق تلك المتعة، وحسن الضيافة كما وصفنا العلاقة للتو، دون أن يتعمّد الكاتب فعل هذا، بحيث تكون متعة القراءة مرتبطة بمتعة الكتابة
بوصفي كاتبة، فإن القراءة هي من أساسيات مهنتي، ولهذا أيضاً، فإنني مضطرة غالباً إلى قراءة إصدارات زميلاتي وزملائي في الكتابة، من مبدعين عرب أعرفهم، ويساهمون في تشكيل المشهد الإبداعي، وفعلاً حين أجدني مضطرة إلى فعل القراءة بفعل الضرورة المهنية من ناحية والواجب بين الأصدقاء من ناحية أخرى، فإنني من الناحية المهنية أشعر بإشكالية الكتابة العربية، ومن الناحية الشخصية أشعر بحرج انتقاد عمل لصديق، ينتظر منك غالباً أن تتحدث عن الزوايا الإيجابية في كتابته
لا أدعي في هذا السياق، بأنني أنتج نصوصاً مغايرة، ربما تكون كتابتي أيضاً وبالنسبة للآخر مملة وجالبة للضجر وهادرة للوقت.
لو أنني ناقدة فقط، وتربطني بالنص الآخر علاقة موضوعية قائمة على تفكيك النص دون الاهتمام إلى عامل الزمالة أو الشراكة الإبداعية لخصصت وقتا طويلاً للتحدث ودرس الإعمال الإبداعية المملة، وبالعكس، لوهبت الكثير من الوقت لأكتشف النصوص المغايرة، تلك التي يمكن وصفها بالنصوص أو الكتابة الجذابة
مستويات المتعة تتحقق هذه الشراكة الإبداعية، في عدة صياغات: المتعة المشروطة: حين يتم الإسقاط بين النص الشخصي للكاتب والتجربة المماثلة للقارئ، إذ يتم ما يشبه التماهي بين القارئ والكتاب، ويتتبع القارئ مسيرة الكتاب، للتعرف على مستقبل تجربته
المتعة الجمالية أو البسيطة: ويمكن استبدالها بمصطلح التشويق، حين يتبع القارئ الكتاب مأخوذاً بمتعة الحكاية وجماليات القص أو الجماليات الإبداعية
المتعة الخالصة، وهي أعلى درجات متعة النص، حين يصل الكتاب إلى قارئ غير محدد المواصفات سلفاً، قارئ يبحث عن متعة القراءة، من وجهة نظر عمومية، متطلّبة على الغالب، وهنا ندخل في محور إشكالي يتعلق بحالة القراءة في العالم العربي وغياب هذا الطقس من الثقافة العربية عموماً وارتكازها أو تمحورها في طبقة خاصة هي طبقة الكتاب أو الطلاب الباحثين
أسباب الضجر لماذا لدينا هذا الحجم من الكتابة المضجرة على حساب الكتابة المبدعة العميقة أو الجاذبة؟ الحديث هنا إذن عن الإبداع
إبداع الكتابة، وإبداع المتعة في الكتابة، وإبداع المتعة بعد الكتابة، ولهذا علينا أن نقسو على أنفسنا قليلاً ونحن نحلل ونفكك كتابتنا المملة، لفهم أسباب هذا الملل.
من أحد أسباب الملل، السطحية الكتابية، وقانون السوق
حيث تساهم انتشار أعمال قليلة القيمة، في فرض ذائقة أدبية سطحية في الساحة، وهي ظواهر فردية، متواجدة في الثقافتين العربية والغربية معاً، لها أسبابها المنفصلة عن هذا السياق، فتتحول هذه الظواهر، أو البيست سيلر، إلى قواعد او وصفات يفكر البعض باتّباعها، للوصول إلى حجم ( النجاح) الذي حققه ذلك الكاتب أو ذلك الكتاب
أذكر مثلاً في بداية كتابتي، كيف قال لي أحد المعارف، لماذا لا تكتبين مثل أحلام مستغانمي؟ أجبته، ببساطة، لأنني لست أحلام مستغانمي! فكرة التقليد أو اتباع الوصفة، تغيّب الإبداع، ونجاح كتاب ما، بفعل الطفرة، لا يعني بأنه الطريق الصحيح.
هذا الخطأ، يقود إلى إنتاج كتابات مملة تنهل من نفس المنهل الاستثنائي، وتقود إلى الضجر وغياب المتعة، تلك الطارئة والاستثنائية التي حققها (البيست سيلر) المتعارض غالباً مع القيمة
من العوامل الأخرى لتكريس الضجر، هو النظرة الكلاسيكية للكتابة، وهذا موضوع متعلق وشائك، سيتم التوقف عنده في محطات قادمة، لإنصاف الكتابة، وعزلها عن الثرثرة، والكليشيهات والسرد الطويل الممل المحتشد بالتزيين اللغوي والبذخ التعبيري، المنفصلين تماماً عن النص وروحه أو كيميائه، وهذه الكلاسيكية، ساهم في تكريسها الكثير من العوامل، أهمها الناقد الكلاسيكي غير المبدع، الناقد الحريص على قوانين اللغة المنتمية إلى العصور الآفلة، متكئاً على اللغة البرانية للنص، مهملاً القيمة الإبداعية المضيفة للكتابة، فكأن الكتابة هي مجاز لغوي وتراكيب معقدة وتحديات لإبراز المهارة اللغوية للكاتب، تلك المهارة التي يمكن تنزيل الكثير منها عبر القواميس المخزّنة والمتروكة على الرفوف حيث تعلوها الغبار
لهذا فالعملية الإبداعية هي تماماً العكس، هي كنس ذلك الغبار، وتحرير الكتابة من اللغة التي لا تشبهها، اللغة الزائدة، الوصفية، المملة، غير اللازمة
المشهد الأخير لا يمكننا في نهاية المطاف وضع مجمل الكتابة العربية في كفة الملل، لأن السنوات العشرين الأخيرة خاصة، وتحديداً على مستوى الرواية، وربما من باب الذائقة الشخصية، قدمت نماذج من الكتابة الرشيقة الحيوية الممتعة، وتخلص أصحابها من الضجر، والأمثلة كثيرة، ربما يكون إيرادها تعسفاً لتغييب أسماء لا ترد للفور في الذاكرة
كما أن استحداث جوائز الرواية في العالم العربي فتح باب الاجتهاد والتجريب وساهم في تقديم أعمال ذكية وجريئة دخلت في باب المتعة وحققت لذة القراءة، ولذة الكتابة
ويمكننا ختم الكلام بالقول إن الإبداع الحقيقي يتعارض مع الضجر، الإبداع هو قدرتنا ورغبتنا على قراءة العمل ذاته، مرة وأكثر، والقدرة على تزويد القارئ بمتعة القراءة.


dimanche 17 août 2014

أساطير العزلة








مها حسن *

أساطير العزلة
على بعد سبعين كيلو متراً غربي مدينة مرسين التركية، تقع قلعة البنت، ذلك المكان الذي يتوسط البحر، والمبتعد عن الساحل بمسافة مائتي متر.
هناك، في ذلك الصرح، كان لجيجرو، حاكم مدينة كوريكوس، ابنة حاول تحصينها من الموت، حين أخبرته العرافة، بأن وحيدته الجميلة والنبيلة والتي يحبها حباً جماً، ستموت في شبابها من لدغة أفعى.
‏قرر الملك أن يشيّد قصراً من الحجر الأبيض على جزيرة صغيرة في البحر، وأن يضع ابنته فيه.



وفي أحد الأيام ظهرت أفعى من إحدى سلال العنب المرسلة من القصر إلى القلعة حتى لدغت الأميرة فقتلتها.
أصبح هذا المكان اليوم، من أكثر الأماكن ارتياداً، في تركيا عامة، وفي مرسين خاصة، حيث تصطف السيارات على الساحل المقابل للقلعة، وتزدحم المنطقة بالسياح والمواطنين الأتراك، الذين يبحثون عن الاستجمام والسباحة وتناول الطعام في أحد المطاعم الكثيرة المنتشرة قبالة القلعة.
ذلك المكان الذي عزل فيه الملك ابنته عن العالم، وحاول إبعاد الموت والأذى عنها، تحول إلى العكس، إلى نقيض العزلة، إلى ضجيج وصخب يستمران حتى ساعات الصباح.
هذا التناقض الجمالي بين العزلة والصخب، يثير التساؤل حول إمكانية العزلة في الزمن المعاصر، في زمن يُسر المواصلات والتكنولوجيا وسرعة انتقال المعلومة.
فالمكان الذي كان الوصول إليه غير متاح، إلا عبر السباحة أو عبر المراكب، حسب حكاية البنت المعزولة والمحمية في القلعة، أصبح الوصول إليه اليوم متاحاً عبر المراكب السريعة، وصارت حكاية العزلة ذاتها، سبباً لجذب الناس، نحو قلعة العزلة.
الأمر ذاته، وبصيغة مختلفة، وقع لشخوص الكهف، حيث انعزلوا في النوم العميق داخل الكهف، لمدة ثلاثمئة وتسع سنوات.
يعتبر هذا الكهف اليوم، من الأماكن المرتادة سياحياً في مرسين، ولا تخلو رحلة فردية أو جماعية، من التركيز على زيارة الكهف ضمن برنامجها السياحي.
هذا أيضاً يأخذنا إلى حكاية العزلة، واستحالتها في الزمن الحديث، إلى أن تغدو العزلة اليوم، بمثابة أسطورة، لا أحد يستطيع تمثلها، أو عيشها، أو تطبيقها.
العزلة كعقاب إلى جانب العزلة المُحِبة، حين عزل الملك ابنته حباً ورغبة في حمايتها، وعزل الله الفتيان السبعة وكلبهم حماية لهم، ثمة أنواع أخرى من العزلة، تلك القسرية، والتي تُستخدم كعقاب، كما في عزل المساجين وحبسهم، فتتحول سجونهم كذلك إلى نقاط سياحية.
فحبس الدم في قلعة حلب، من الأماكن السياحية المرتادة في مدينة حلب العريقة والشهيرة بقلعتها والكثير من عمرانها وتاريخها القديم، حيث كانت واقعة على طريق الحرير التجاري، وأسواقها متميزة في العالم العربي، حبس الدم إذن، يستقطب السياح والمواطنين كذلك.
حين كنت صغيرة، وذهبت في رحلة مدرسية لزيارة القلعة، ارتجفت ساقاي وأنا أنزل تلك السلالم الضيقة، الموصولة من أعلى الفتحة الضيقة نحو الأسفل.
سلالم التي لم تكن موجودة إبان الحبس، بل كان يُلقى بالسجين دفعاً داخل الحفرة، ثم يُرسل بالكلاب والقطط لتعذيب السجين حتى سيلان دمه، إلى أن سُمي بحبس الدم.
ذلك المكان المخيف، المعدّ للتعذيب، أصبح اليوم مكاناً سياحياً، ليطّلع الزوار، في رحلات رغبوية، أو منهجية مقصودة، كرحلات المدارس التي وقعت لي، على عذابات المساجين، إلى درجة يشعرون فيها برائحة الدم الحبيس في تلك الحفرة العميقة، المظلمة.
العزلة الطوعية أما الرهبان، في قلاع متعددة، كقلعة سمعان في سوريا، وغيرها من القلاع في العالم، فقد اختاروا عزلتهم، تقرّباً من الله، فتحولت جغرافيا عزلتهم إلى أماكن سياحية، والأمثلة كثيرة، لرهبان اعتزلوا العالم، وتفرغوا للعبادة، فصارت مراكز عبادتهم أماكن سياحية منفصلة عن الدافع الديني وصار المكان بذاته، مزاراً ضد العزلة.
كما حال بعض الأديرة المنعزلة النائية، التي يتطلب الوصول إليها جهداً وطاقة جسدية كبيرة، حيث لا تصلها المواصلات، وتقع أحياناً في الكهوف أو الجبال، تقرّباً من الله.
لنذهب أبعد من هذا، إلى العزلة الفكرية، حيث ينعزل كاتب كسالينجر عن العالم، ويبتعد عن الضجيج وعن الكتابة حتى، ليتحول إلى ما يشبه الأسطورة بعد موته، يبحث العالم عنه وعن كتاباته ومخطوطاته التي امتنع عن نشرها في حياته.
فكأن العزلة استحالة، وكأن الحياة المعاصرة، وكلما ذهبت نحو المعاصرة أكثر، ابتعدت عن العزلة، أو كأننا أمام استحالة العزلة.
استحالة العزل أو العزلة بين العزلة كفرض من الطرف الآخر: الأب الذي يحمي أولاده، رجل السلطة الذي يعاقب معارضيه، الزوج الذي يخاف على امرأته، فيدفنها في بيوت موصدة بإحكام، وقصص ألف ليلة وليلة تعجّ بهذه الحكايات، فتتسرب النساء من الأبواب الخلفية للقاء العشاق، أو لعيش مغامرات، يعتقد الزوج أنه يحصّن حياته الزوجية عنها، حين يسجن من يحب، وعبر نماذج عديدة من العزلة التي يفرضها طرف على آخر، وبين العزلة الطوعية، لأسباب دينية، أو لاختيارات فردية فكرية، أو لمزاج شخصي سوداوي مكتئب يخشى الآخر، أو يرفضه، أو يتعالى عليه، بين كل أشكال العزلة، تلك التي نعرفها، وكشفها التاريخ أمامنا، وبين تلك المخفية حتى الآن، والتي ستنكشف أيضاً بحكم التاريخ، وحكم قوانين الديالكتيك الحديثة، عبر عولمة العالم، أصبح الحديث عن العزلة مستحيلاً، حيث يمكن لرجل أو امرأة يعيش أحدهما في كهف منعزل، أو قبو بعيد، أو جبل عالٍ، أن يتحولا إلى حكاية تثير الارتياد وتجذب العالم نحوهما، سواء كان هذا الجذب مادياً، كما مثال قلعة البنت وافتتاح المطاعم والفنادق وانتشار السياحة حول المكان، أو بالجذب المعنوي، كمثال سالينجر، الروائي الأميركي الذي أقبل الناس عليه بعد موته أكثر مما حدث حين حياته.
العزلة غير حقيقية، إلا أن «مائة عام من العزلة» هي رواية سحرية، تحدث في المخيلة، وقصة أن «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» هي أيضاً اليوم حكاية سحرية، تتعاطف مع المقهورين وأسرى الانتظار، لأن منتظري «غودو»، الجالسين في محطة الثبات الأزلي، عالقين بين عقارب ساعات قطارات الرحلات المتكررة، هي حكاية تساند خوف الانتظار، والموت دون تحقق ما نتتظره، لكن الحقيقة اليوم، في زمن القرية الكونية، و(الفيسبوك) و (الواتس آب) وكل هذه المدمّرات الجميلة ـ مع تناقض العبارة ـ للعزلة، تجعلنا نصدق اليوم، أن غودو قادم، وأن رداً آتٍ لا محالة على كولونيل ماركيز الذي أمضى نهاراته الحارة الدبقة مستلقياً في أرجوحة تتسول القليل من الهواء.
تستطيع أن تغلق الباب على من تحب، خوفاً من أن يذهب منك، وتستطيع أن تحبسه في غرفة محكمة الإقفال، وتستطيع أن تُلقي بالمختلف معك في سجون لا يسمع بها أحد، ولا يعرف عنها أحد، وتستطيع أن تستأثر بمن تحب، فتحبسه داخلك، وتمنع عنه العالم، إلا أن تلك «الاستطاعات» وهمية، ومن طرف واحد، لأن الحكاية الحديثة تفرض صيغاً مختلفة، لتفتح عيوننا ومخيلاتنا على «استطاعات» الطرف الآخر، حيث للغرفة المحكمة، سرداب سري يقود إلى ضوء لا يراه السجّان، وللحبس المادي أو المعنوي، منافذ ومخارج يكتشفها المحابيس، محابيس الحب أو محابيس السياسة، وكل المحبوسين قسراً، يخرمشون الجدران، ويفتحون كوّات من العزلة، تقع على الطرف الآخر من العيش، طرف غير مرئي للسجان الذي يرى المكان بعين واحدة، ترى الحبس ولا ترى امتداده نحو الحرية.
مكر العزلة تستطيع بالتوازي، أن تحبس نفسك طوعاً، حين تشعر بأمان الحبس، أو بحماية العزلة، لكنك ستكتشف لاحقاً، خديعة العزلة، بأنك محاط بالعالم دون أن تدري، أو أنك، متواطئ ضد عزلتك، حيث وأنت تختار العزلة، تخدع نفسك وتعتقد أنك تخدع العالم، لتثير ريبة اعتزالك لدى الآخر، ليهرول نحوك طارقاً أبواب كهفك أو كوخك البعيد، لتشعر بنرجسية المختلف، المبتعد، الخارج عن القطيع، الذي يحلم في عمق الحالة، أن يعترف به ذلك «القطيع»، فكأن لسان حاله يقول: اعتزلتكم، لأنكم لم تعرفونني، ولم تحبونني، ولم تكونوا معي كما أريد، وليس كما برر اعتزاله، أن العالم لا يستحقه.
إن أسطورة العزلة اليوم شبيهة بأسطورة الجحيم الذي دسّه سارتر في عقولنا، وخاصة جيلي، ذلك الجيل الذي انبهر بسارتر وبوجوديته الساحرة، لنلهث خلف سارتر مكررين: الآخرون هم الجحيم، لأننا نبحث عن « آخرين» كما نريد، فكأننا أطفال نحرد وننهض عن الطعام، حتى يهرع أهلنا خلفنا ويرجوننا لتناول بعض اللقم.
فنأكل بغنج مزيّف، ونحن ندرك أن الإقبال على الطعام، هو رغبتنا لا رغبة الأهل، لأن الجحيم ليس الآخر، ولأننا في العمق نحب هذا الآخر، ولأن العزلة ليست قراراً جدياً في العمق، حين تكون طوعية، وليست حقيقية وفعالة، حين تكون قسرية، بل هي عزلة «افتراضية»، وحتى الذين ماتوا في أقبية التعذيب والعزلة، الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم بعد، سيتحولون إلى نجوم مضيئة ورموز ضد العزلة، وسيسمع بهم العالم، أكثر مما سمع بفارضي العزلة وسجانيهم
.

jeudi 14 août 2014

Rappresentazioni del corpo nel romanzo delle scrittrici siriane contemporanee

Censi, Martina
Use this identifier to cite or link to this document: http://hdl.handle.net/10579/3062
Publisher: Università Ca' Foscari Venezia
Date: 2013-04-05
Copyright: © Martina Censi, 2013
openAccess

Abstract:

In this study, I consider the different representations of the body in a selection of Arabic novels, published by Syrian contemporary women writers: Kursī by Dīma Wannūs, Ḥurrās al-hawā’ by Rūzā Yāsīn Ḥasan, Banāt al-barārī by Mahā Ḥasan, Rāʼiḥat al-qirfa by Samar Yazbik, Imrāʼa min haḏā al-ʽaṣr by Hayfāʼ Bīṭār and Burhān al-ʽasal by Salwā al-Naʽīmī. Even if we can not talk about fundamental difference between “male writing” and “female writing”, the difference resides in women's position in the society which results from the action of several socio-symbolic pressures. Writing breaks the silence in which women have historically been relegated. Women's writing is, therefore, a twofold process of liberation from the pressures of the patriarchal system, on one hand, and from political censorship on the other. These writers deepen all the aspects of the body as a fundamental representation of the individual. The body is the place of negotiation between the individual and the collective dimensions and it becomes a metaphor of the individual as a "desiring subject" in opposition to the concept of "subdued".
Dans cette étude, j'envisage les différentes représentations du corps dans un corpus de romans en langue arabe des écrivaines syriennes contemporaines : Kursī de Dīma Wannūs, Ḥurrās al-hawā’ de Rūzā Yāsīn Ḥasan, Banāt al-barārī de Mahā Ḥasan, Rāʼiḥat al-qirfa de Samar Yazbik, Imrāʼa min haḏā al-ʽaṣr de Hayfāʼ Bīṭār et Burhān al-ʽasal de Salwā al-Naʽīmī. Pour l'analyse du corpus je m'appuie sur une méthodologie plurielle, capable d'intégrer la narratologie avec la théorie littéraire et la critique féministe. Même si le roman lui-même n'a pas de gender, la valeur d'un roman écrit par une femme peut se révéler différente de la valeur d'un roman écrit par un homme. L'écriture brise le silence dans lequel la femme a été historiquement reléguée en ressortant d'un double processus de libération : des pressions du système patriarcal et de la censure politique. Les écrivaines du corpus s'éloignent de la question nationale – centrale dans la production des années soixante-dix et quatre-vingt-dix – pour s'approcher de celle de l'individu. Le regard est dirigé vers le corps comme lieu fondamental de l'individu, en tant que « sujet désirant » en opposition à l'« assujetti ». Le corps est le lieu de négociation entre instances individuelle et collective.
In questo studio considero le diverse rappresentazioni del corpo all'interno di una selezione di romanzi, in lingua araba, di sei scrittrici siriane contemporanee: Imrāʼa min haḏā al-ʻaṣr di Hayfāʼ Bīṭār, Banāt al-barārī di Mahā Ḥasan, Burhān al-ʻasal di Salwā al-Naʻīmī, Kursī di Dīma Wannūs, Ḥurrās al-hawā’ di Rūzā Yāsīn Ḥasan e Rāʼiḥat al-qirfa di Samar Yazbik. Per l'analisi del corpus, mi servo di un approccio metodologico plurale, capace di integrare gli strumenti della narratologia e della teoria letteraria con quelli della critica femminista. Se infatti il romanzo non ha gender, la valenza di un romanzo scritto da una donna è diversa, in quanto la scrittura femminile proviene da un duplice atto liberatorio: dalle pressioni del sistema patriarcale e dalla censura politica. Le scrittrici arabe contemporanee si allontanano dai concetti di patria e di identità nazionale – centrali nella produzione degli anni Settanta e Ottanta – per concentrarsi sulla sfera individuale. In quest'ottica, il corpo diventa la rappresentazione primaria dell'individuo nella sua qualità di soggetto desiderante, in contrapposizione all'assoggettato. Il corpo è il terreno sul quale si gioca la negoziazione tra istanza individuale e collettiva.