vendredi 7 octobre 2011

'بنات البراري' يُطالبن بإسقاط النظام الذكوري


مايا الحاج

اشتمّت مها حسن رائحة الثورة في بلادها من على بعدٍ زماني وآخر مكاني، فكتبت بإحساس الثوّار قبل أن تراهم يتظاهرون في شوارع مدن الفلّ والياسمين والنارنج. هكذا أتت الرواية من دون تخطيط منسجمة مع هذا التوقيت المفصلي الذي تعيشه بلادها.



انتهت من كتابتها بداية آذار/ مارس 2011. فكانت الرواية كاملة قبيل انفجار الوضع الداخلي في سورية، مع هذا هي لا تبدو بعيدة عن الأجواء التي تعيشها سورية اليوم.

«بنات البراري» للكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن هي أيضاً ثورة. ثورة تُنادي بالحرية والتغيير والتحسين، لا بل بإسقاط النظام. إنما، مع كلّ ما ذكرناه، هي ليست رواية سياسية على الإطلاق.

بل هي تعود إلى الأساس لتنطلق منه، فتثور أولاً على الظلم الإنساني الذي لا يمكن في وجوده أن يصلح نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. تضع مها حسن بين أيدينا في زمن إسقاط الأنظمة عملاً إبداعياً يُطالب هو أيضاً بإسقاط النظام الذكوري قبل المطالبة بإزاحة أي نظام آخر لأنها تُدرك جيداً أنّ تحسّن وتقدّم المجتمعات لا يُقاس إلاّ بوضع المرأة فيه.

من هنا، اختارت في زمن الربيع العربي أن توجّه أنظارنا نحو نظام وحشي قاهر وجائر لا جنسية له ولا هويّة. فجرائم الشرف التي تتحكم في مصائر مجتمعاتنا وفي أقدار بناتنا غالباً ما تجدها مُرفقة بالكثير من المبررات الجاهزة والدوافع الاجتماعية المُعولبة التي يتمسّك بها الغالبية الساحقة من الناس على اختلاف خلفياتهم السياسية والدينية والإجتماعة والثقافية.

والمعارضون المستعدون للموت من أجل الحريّة في بلادهم هم أيضاً يُطالبون بكلّ شيء، إلاّ بقضية المرأة وتحرّرها.



ارتأت الكاتبة السورية- الكردية التي نشأت في بيئة غنية بقصص القتل وجرائم الشرف أن تُناصر المرأة في تحرّرها وأن تُحارب إلى جانبها ضدّ الجرائم المقزّزة التي تتجمّل خلف كلمة «شرف» لتغدو أكثر لُطفاً بل حقاً مشروعاً لا يُسمح بانتقاده أو الطعن به.



كتبت حسن روايتها بنزق ثائرة ولغةٍ حرّة وأملٍ بربيع قريب. فلم تكن الروائية موضوعية وهي تتطرّق إلى قضية أُزهقت في سبيلها أرواح ضحيتها الكثيرات من بنات جنسها اللواتي أُهديت لهنّ الرواية، فكانت تتدخل في الرواية وتُدخل القارئ معها وتُشارك في آراء شخوصها وتُشرك قارئها أيضاً.

وبأسلوب ديدروا في «جاك القدري» الشهير: «الكلام عن تميمة لا ينتهي، بما أنّ هذا المقطع قد قطع السرد، فعلينا الإقتناع بالتوقف، وإلاّ لروينا قصصاً طويلة عن تميمة، ونسينا سلطانة معلقة، خائفة من العقاب، حائرة... أليس علينا أن نضحّي قليلاً بسيرة تميمة، لنعود إلى حكايتنا المركزية هنا، حكاية سلطانة؟» (ص33).

وفي هذا الجمع بين الراوي والقارئ تعميم لشمولية المشكلة التي تطالنا كلّنا وتكريساً لخطورتها.



افتتحت الكاتبة روايتها بمشهد فني قاسٍ من شدّة فتنته: «في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل. مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول عن الرأس، يتدلّى بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين؟ رأس في الأعلى، وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأول، المفصول عن جسده. لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الراس الثاني.

المرأة العجوز الجالسة خلف النافذة، الملتصقة بكرسيها، لا تتحرك كما لو أنها ميتة، إلاّ أننا نعلم بأنها ليست هكذا، فقط عبر دموعها. هو أيضاً الرجل العجوز الجالس خلف النافذة، الملتصق بكرسيه، لا يتحرّك كما لو أنّه ميت، إلاّ أننا نعلم بأنّه ليس هكذا، فقط عبر بريق عينيه.

الرأس الجديد الواصل للتوّ إلى الحياة ، لا يصرخ، لا يُعلن ميلاده، كما لو أنّه عرف وأحسّ بأنّ وجوده مرفوض، منبوذ» (ص12، 13). في هذه الإفتتاحية تُصوّر الكاتبة جريمة شرف لامرأة ولدت فتاة أخرى في اللحظة التي أُعدمت فيها.

المرأة التي ماتت هي سلطانة التي دفعت حياتها ثمن حبّها لإبراهيم، والفتاة التي ولدت هي تلك التي نبذها المجتمع فأخذها والدها وعاشا معاً في البراري حيث لا عادات ولا تقاليد ولا حتى مُغريات لخرقهما أيضاً، وهي التي ظلّت بدون إسم إلى أن اكتشفت الحبّ صدفة وسماها حبيبها «ريحانة» قبل أن يقتلها والدها ابراهيم الذي لم يستطع أن يحفظ وعده لحبيبته المقتولة المغدورة بصون ابنتهما ومنحها حريتها باختيار حبيبها والتمتّع بحبّها كما تحب وتحلم.



اختارت الكاتبة لعبة الألوان في عنونة فصول روايتها: «الأحمر» (لون الدم)، «الأصفر» (لون الخوف)، «البرتقالي» (بداية الأمل)...، إلاّ أنّه كان بالإمكان الإستغناء عنها لتبديد هذا الجوّ الغرائبي الذي يُرافقك طوال الرواية من دون أي تأثير أو إضافة في المُنجز.

كما أنّ الأسلوب الروائي الذي تنتهي فيه الرواية عبر الفصول الأخيرة لا تُشبه الإنطلاقة المدهشة التي بدأتها الكاتبة، ما يُشعرك بأنّ ثمة مزاجين مختلفين سيطرا على كتابة تلك الرواية.



«بنات البراري» هي رواية أنثوية بامتياز. كُتبت بصدق يجعلك تحسّ بأنّ الكاتبة هذه تحمل ثقل كلّ تلك الجرائم البشعة التي تُرتكب تحت شعار غسل العار. هي رواية شابة ثائرة في زمن الشباب الثائر، فهل يُمكن أن تصل إليهم لينظروا إلى قضايا المرأة كمطلب أساسي لا يقلّ أهمية عن مطالبهم السياسية والحياتية والمعيشية؟