samedi 16 avril 2011

'حبل سري' لمها حسن:الذات وآخرها..

عبد المنعم الشنتوف


2011-01-11




تفترض رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن 'حبل سري' الانفتاح على عوالم ممكنة تتعالق بشكل عضوي بمقصدية سردية تسعى إلى الاحتفاء بالذات وبحثها عن الآخر. ولعل ما يحفزنا على الاحتجاج لهذا الافتراض الحضور القوي لهاته الذات داخل فضاء يتسم بتعدد لافت من حيث تمثيلاته الجغرافية والتاريخية والثقافية.

ويمكننا أن نؤكد ذلك من خلال قراءتنا العميقة للرواية وتأملنا في منطقها السردي ودينامية شخوصها وانتقالها الفيزيقي والثقافي بين الأمكنة والتوظيف الدال للحوار. وسوف نتمثل من خلال الركون إلى القراءة التأويلية أن رهان الكتابة الروائية في هذا النص ينهض على إرادة تأسيس وعي سردي بالمغايرة ينهض على أساس استثمار التجربة الحياتية الخاصة للكاتبة وإبداع مسارات سردية تتقاطع بكيفية دالة مع محطات دالة من هذه التجربة. يبدو جليا من خلال النفاذ إلى العوالم التي تتيحها الرواية إن الكاتبة سعت إلى تكثيف تجربتها الخاصة في الانتقال إلى فضاء الآخر واستبطان عوالمه ورؤاه إلى العالم وتجريب فكرة الاختلاف والتعدد على محك المعاش والعلاقات الفيزيقية وليس على أساس الاستيهام.

راهنت الرواية من خلال التنويع الهائل من الشخصيات والفضاءات التي تتوزع بين حلب وقرية عفرين وباريس ومختلف فضاءاتها على رسم مسارات سردية تتوازى وتتقاطع عند رهان أساسي يتمثل في المغايرة واستلزاماتها. بدا واضحا من خلال متابعتنا لهاته المسارات أنها تتأسس على رغبة الذات القادمة من مدينة عربية إلى باريس في تجاوز حالات الهشاشة والتشظي وامحاء الانتماء إلى هوية متسمة بتماسكها وحضورها الإيجابي في التاريخ والجغرافيا. وفي غمرة هذا السعي المحموم تتنفس الذات عبق التعدد الذي يسم باريس وفيض التواريخ والرموز الذي ترشح به فضاءاتها. ثمة في هذا السياق تقابل ضدي بين الأنا والآخر تتضافر قرائن نصية داخل الرواية من أجل تثبيته. بيد أن القارئ سرعان ما سوف يحاط علما مع اطراد قراءته للرواية بأن هذا التضاد المطلق سوف يتوارى مفسحا المجال لما يمكن أن نصفه بأنه تهجين مقصود يستهدف تخصيصا تفكيك مفهوم الهوية المغلقة المتعالية على تأثيرات التاريخ واختلاف الجغرافيات. تتقدم صوفي بيران والحالة هاته باعتبارها شخصية محورية في الرواية وتمثيلا رئيسيا لهذا البحث عن هوية منفلتة ومتشظية. تتحدد السمات المميزة لهذه الشخصية في رفضها الاستقرار في مكان قار وعشقها لقيادة السيارة بسرعة مهولة وعلاقتها الملتبسة بآلان بيران الكاتب الروائي الذي لم يتمكن رغم تفانيه في التسامح والتفهم من أن يحول بينها وبين النهاية المحتومة والمتمثلة في الموت إثر حادثة سير.

يشكل هذا الانتهاء السردي المقصود مفتتح السيرة الصاخبة لشخصية باولا بيران وهي ابنة صوفي بيران من علاقة جنسية عابرة أشبه بالنزوة بسيريل المغامر والأفاق السكير. سوف تقنع صوفي آلان قبيل رحيلها الفاجع بتبني الابنة رسميا، وذلك كي تدفع بفكرة التطابق بينها وبين ابنتها إلى الحدود القصوى. سوف نحاط علما بأن باولا استمرارية لشخصية صوفي وتمثيل آخر لشخصيتها الجانحة نحو المغامرة والبحث الدؤوب عن الهوية. سوف يكون التشديد السردي على شخصيتي حنيفة وشيرين والفروق الحادة بينهما والتقلبات الحياتية والعاطفية التي سوف تعيشانها محفزا للإحاطة علما بدلالات انتقال حنيفة إلى باريس واختيارها اسم صوفي بعد ارتباطها بآلان. تتناسل الشخصيات والأحداث في هذه الرواية المثيرة مفسحة المجال لدينامية سردية آسرة تشي بقدرة الكاتبة على تخصيب متخيلها بتأثير قوة المعاش واللقاء بالآخر.

تتقدم صوفي باعتبارها امتدادا لحنيفة المتمردة والشأن نفسه بالنسبة لباولا التي تمثل كما سبقت الإشارة استمرارية لصوفي. يمكننا أن نفترض والحالة هاته أن الكاتبة تعيد الوصل بما أثبتته على لسان أحد شخوصها من أن السرد فعل نسائي أو أنثوي بامتياز، وهي بهذا الصنيع تذكرنا بشهرزاد ومغامرتها الألفية مع شهريار:

'.. كانت تتنبأ بأن مستقبل الرواية هو للمرأة القادمة من الشرق، لأن الرواية مهارة نسوية. هكذا فكرت صوفي، إن كتابة الرواية تحتاج لمهارة امرأة تجيد التفاصيل... الرواية دقة وبناء وصبر ومتعة سرد. كل هذا تجيده المرأة، وتجيده المرأة الشرقية أكثر من غيرها، فهي موغلة في ثنايا الروح. الرواية روح' (الرواية. ص، 173- 174).

يمكننا أن نتمثل في تطور الأحداث ودينامية الشخصيات وتوظيف الحوار تلكم القدرة على إضفاء البعد الحسي على السرد والاقتراب به من الحياة. يلفي القارئ ذاته أمام تنويع من الروائح وصنوف الطعام والشراب والتعبير الشهوي المتعدد عن الرغبة الجنسية ومختلف لغاتها؛ وهو ما يؤشر بطريقة دالة على تلكم الرغبة في الاحتفاء بالاختلاف والتعدد. تمثل باولا بيران التي تعشق التمثيل المسرحي تجسيدا قويا لهذا البحث اللحوح عن الهوية الذي يرافقه ذلك التوق إلى تجذير قيمة التعدد. والأسئلة التي أرقت صوفي سوف تستمر على امتداد التطور الملحمي لهذه الرواية:

' محكوم عليكم بالتيه أيها الأكراد. إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل، ولا من الخارج. أشعر بقوة دفع في داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي. وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما، ولا أدري خيانة لمن' (الرواية، ص 139).

اختارت الكاتبة الركون إلى منطق الصدفة كي تتيح تبريرا سرديا لعودة باولا إلى سورية بحثا عن أصول أمها صوفي. سوف تلتقي في أحد مقاهي ساحة الباستيل بامرأة يصاحبها شاب وسيم، ولن تتأخر في الإحاطة علما بعد شعور قوي بالانجذاب بأن المرأة كردية واسمها حنيفة جاءت من حلب إلى باريس بغرض الاستشفاء من داء السرطان. كان الشبه القوي بين المرأة وصورة صوفي الراحلة مفتتح علاقة قوية سوف نحاط علما خلالها بأن حنيفة ليست سوى عمة صوفي التي تعهدت بتربيتها بعد طلاق أمها من أبيها. وسوف تستشرف هذه العلاقة ذروتها في الرغبة المحمومة التي سوف تصلها بجوليان الطبيب ذي الأصول الكردية المرافق للعمة، والتي سوف تحملها على اتخاذ قرار السفر إلى سورية سعيا وراء ظلال أمها الراحلة.

سوف تشكل هذه الرحلة الاستكشافية المعكوسة مفتتح عالم ممكن يتجذر داخله التقابل الضدي المشار إليه آنفا بين الذات والآخر. تستقر 'الغرابة' حين تحل باولا بين ظهراني أهل أمها، وتتبدى الفروق الحادة بين عوائد الفتاة القادمة من بلد الحرية وعوائد الأسرة التي تنهل من قيم القدامة وسطوة الذكورة. يمكن للقارئ أن يتلمس في هذا الصدد التناقض الجذري بين الشرق والغرب أو بين الاستبداد والقمع والرؤية الأحادية والوثوقية للأشياء والظواهر والغرب بما هو رديف للحرية والتعدد والاختلاف. تكون هذه العودة إلى جذور الأم مفتتح عالم تتقاطع داخله الذوات والروائح والأحاسيس والصور واللغات المحيلة على الهوية الكردية، بالإضافة إلى قرائن قوية تؤشر على الهجنة وانعدام الصفاء.

لم يشكل شعور 'الغرابة' الذي رافق باولا منذ وصولها إلى سورية عائقا بينها وبين استشراف الألفة بتنويع الفضاءات والثراء اللافت الذي يسم حركة الذوات. سوف تشكل عودتها إلى باريس والرسالة التي توصلت بها من روني والصبوة التي تخلقت من جراء ذلك مدعاة للعودة من جديد إلى سورية والإقامة بها بعد قرارها الارتباط بروني. غير أن شعورها بوطأة الاستبداد الذي يحصي الأنفاس ويذيب الاختلاف في التطابق سوف يحملها على الشعور بالحاجة الملحة إلى الحرية بما هي قيمة:

' تعرضت باولا للكثير من المضايقات، خاصة أثناء التسوق، وهي تستمتع كثيرا بالذهاب إلى سوق الخضرة والفاكهة واللحوم، ولكن ما إن يسمع أحدهم لكنتها، وهي تجيد بعض الكلمات العربية أسماء الخضار على الأقل، حتى تبدأ المضايقات اللفظية، أو التلميحات أو النظرات المشبعة بالرغبة والاشتهاء...لقد كانت سعيدة في بداية حياتها هنا ولكن الضيافة انتهت، وعلى باولا التعامل مع هذا البلد كبلدها... الحياة تختلف حين نكون ضيوفا في مكان ما، عما هي عليه، حين نصبح أبناء المكان. بدأت باولا تشعر بالخوف، وهذا ما لم تعرفه يوما' (الرواية، ص، 458 -459).

يمكن لنا باعتبارنا ذوات ٍ متلقية أن نرى في الشعور بالخوف قرينة دالة على بداية القطيعة مع الشرق باعتباره فضاء يسوده الاستبداد والقتل الدائم للحرية والحق في الاختلاف. تتحول باولا والحالة هاته إلى صورة للغرب بما هو متخيل يقترن بكيفية عضوية بالحرية وتقديس الاختلاف والتعدد. قررت باولا بيران القطيعة مع روني رغم حملها منه واختارت العودة إلى فرنسا. هل يسعنا النظر إلى هذا الاختيار باعتباره اعترافا بفشل رهان المغايرة بما هو إقرار بالحق في الاختلاف والحضور بمعزل عن أي إكراه على التماهي والركون القسري إلى التطابق؟ تمثل العودة النهائية إلى باريس بعد إعلان القطيعة مع روني أو الشرق المستبد اعترافا ضمنيا بافتراض مؤداه إن الغرب فضاء مطلق للحرية والحق في المغايرة الإيجابية. في هذا السياق، إذن، نلمس دلالة هذا المقطع القوي الذي أنهت به الساردة مغامرة باولا في سورية:

'.. صعدت الطائرة وحدها، أحست بقوة يتمها ووحدتها. ما من يد لوحت لها من بعيد. إلا أنها أحست كما لو أن حملا ثقيلا نزل عن كتفيها، فشعرت بتحرر مباغت، وسعادة خفية، رغم مرارة الفراق، حتى إن طفلتها ركلتها من بطنها، فضحكت وقالت لنفسها: الصغيرة تؤنبني على شيء ما.. أو لعلها تشكرني' (الرواية، ص، 477).

لن يعجز القارئ في هذا الخصوص أن يحاط علما بأن الجنين الأنثى الذي اختارت له اسم إلزا وهي امتداد آخر للذات الكردية الباحثة عن الهوية والمغايرة الإيجابية تؤنب أمها باولا على فكرة العودة إلى الشرق المظلم والمستبد أو تشكرها على القطيعة والعودة إلى باريس الأنوار. غير أنني أختلف جذريا مع هذه الرؤية إلى الغرب المتسمة بمثاليتها وإطلاقيتها وتعاليها على تأثيرات وإكراهات التاريخ. ولن أذكر الكاتبة في هذا المعرض بفرنسا التي كانت تتغنى بمبادئ الثورة الفرنسية في الوقت الذي كانت تنشر فيه أطماعها الإمبريالية في المغرب العربي وبقاع أخرى من المعمورة وترغم المواطنين الأصليين على القبول بوضع 'الأهالي'. ويمكنني أن أستدعي في السياق ذاته طروحات فرانز فانون ونظرية إدوارد سعيد عن الشرق الذي أبدعه الغرب والذي يتأسس على الاستيهام وسلطة الأحكام المسبقة الجاهزة، علاوة على إسهامات منظري تيار ما بعد الاستعمار من قبيل هومي بهابها وغاياتري سبيفاك في خصوص هيمنة المركز الأوروبي واستراتيجياته في إرغام الهوامش على الرضا بوضع التابع. لا يمكن على سبيل الختام لباريس أن تشكل فضاء مطلقا للحرية وحماية الحق في الاختلاف ما دامت تلوذ بمنطق الكيل بمكيالين في التعاطي مع حق التعبير عن 'الحضور' وتعلن على سبيل التمثيل الحرب الشاملة على الفنان الفرنسي الخلاسي ديودوني بسبب جرأته في التشكيك في 'المحرقة' والاستغلال المنتظم للوبي الصهيوني في فرنسا من أجل تثبيت انتشاره السرطاني في المجتمع الفرنسي وأجهزة ومؤسسات الدولة. ولن يفوتني أن أذكر بمئات الجزائريين الذين قذفت بهم شرطة باريس في نهر السين، علاوة على ضلوع الدولة الفرنسية على امتداد تاريخها الحديث والمعاصر في حماية الأنظمة المستبدة في المشرق والمغرب العربيين وبعض الأقطار الإفريقية.

أعترف بداهة بحق الذات الكاتبة في التعبير السردي عن رؤيتها الخاصة لمعضلة الهوية الكردية في السياق العربي والعلاقة بالآخر الغربي على وجه التخصيص. ويهمني أن أشدد من جديد على طلاوة السرد والقدرة على إدهاش المتلقي وجعله مشدودا بقوة إلى التطور الملحمي للأحداث علاوة على براعتها في التوظيف الإيجابي لمكونات النوع الروائي وفق دينامية تبتعد عن الركاكة والإسفاف والتمحل، وأثير انتباه المتلقي في هذا الخصوص إلى الحضور النوعي للحوار ودينامية الشخصيات. ولن يسعني رغم هذه المسافة النقدية الضرورية إلا أن أعبر عن إعجابي بالقيمة 'الجمالية' لهذه التجربة السردية الواعدة والمنزلة التي تحظى بها في خارطة السرد العربي.