mercredi 2 décembre 2009

الجدد لم يأتوا بجديد لأن ثورتهم ثورة أفكار لا أسلوب



حاورها: اسكندر حبش
 مها حسن: الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية
تفاجئنا رواية مها حسن - (كاتبة سورية مقيمة في باريس) - «تراتيل العدم»، (الصادرة عن (الكوكب – رياض الريس للكتب والنشر)، بتجريبيتها العالية. مفاجأة سعيدة بدون شك، ففي حين يذهب كثيرون إلى كتابة تحاول الحفاظ على «أقل الأضرار الممكنة»، نجد مها حسن، تغوص في «السرد الشائك»، بمعنى أن الأسلوب عندها هو الذي يحدد كلّ أطر الرواية.


من إحدى ميزات الرواية ابتعادها عن الحبكة التقليدية وكأن ثمة لعبة بالزمن تحاولها الكاتبة. هذه الحبكة السردية تعللّها مها بكونها، هي، «كاتبة تجريبية»، تؤمن دوما بضرورة الإتيان بالجديد، وتضيف: «أكره التماثل والتشابه والتقليد. الإبداع هو الجديد. كلّ كتاب لي هو محاولة لخلق طريقة جديدة، أنا أعشق التكنيك ومهووسة بالشكل. «المعاني مرصوفة على الطرقات»، كما قال الجاحظ، المهم برأيي هو كيف نقول الأشياء المهمة، بمتعة. الرواية في النهاية هي لعبة، لعبة يجب أن تكون ممتعة للطرفين، للقارئ والكاتب، وليست حكاية، وأنا أرفض اعتبار الرواية حكاية. وربما نشأتي الأولى أو قراءاتي الأولى للفلسفة، شكلّت لديّ هذا الهاجس في كسر البناء التقليدي للرواية، لتحريرها من الحبكة والقص والتسلسل المنطقي للأحداث والتواريخ». إزاء ذلك، حين صدرت روايتها «لوحة الغلاف»، قال لها أحد كتاب مدينة حلب، «لماذا تكتبين رواية؟ «لوحة الغلاف» هي بحث وليست رواية، اذهبي واكتبي أيّ جنس آخر سوى الرواية، «وتعاركنا «لغويا» آنذاك حول التصاق الرواية بالحكاية»...


من هذه الرؤية، ترى مها حسن أن «ما يحصل اليوم في عالم الرواية العربية لا يبشر بأيّ أمل. يتحدثون عن «الرواية الجديدة»، والكُتّاب الجُدد برأيي لم يأتوا بالجديد - مع استثناءات دائمة - لأن ثورتهم ليست ثورة أسلوب، بل ثورة أفكار. وهذه الأفكار ليست مستحدثة، وقد اخترعها الكاتب، بل موجودة، جاء واستعملها في رواية «اجتماعية وأخلاقية»، فدخل عمله ضمن «الكتابة الجديدة». أنا لا أهتم بجرأة الرواية من حيث كسرها للتابو الاجتماعي، ثمة أبحاث ومقالات تقوم بهذا، وأنا أكتب كثيرا في هذه الشؤون التي لا تمّت للإبداع بصلة. الجرأة الروائية هي جرأة شكل، جرأة أسلوب، وجرأة تقنية. روايتي الأولى صدرت منذ أكثر من عشر سنوات، مع تحفظي على وسمها بالرواية، إلا أني لا أزال متمسكة بأنها مكتوبة بتقنية غير موجودة في المنتج الروائي العربي، قد لا تكون قراءتها ممتعة، وقد لا تروق للكثير، وهذا حقهم، ولكنها كتقنية، مختلفة فعلا، وهذا ما أسعى إليه في كتابتي: الاختلاف».


في مدينة ذكورية


هذا الاختلاف بدأ منذ ولادتها، إذا جاز التعبير. فهي ولدت، كما تقول، في «حيّ محافظ ومنغلق في مدينة حلب الذكورية، حيث يصعب اختلاط الرجال بالنساء. وحيث تؤثم أيّ اختلاف تقوم به المرأة». لكنها لا تحمل أيّا من صفات المدينة التي ولدت فيها فهي لا تشعر بأيّ انتماء أو حنين لها. هي الطفل الأول لعائلة تشكل العائلة الكردية الوحيدة، في الحيّ الذي ولدت فيه. «وكان أبي، اليساري الوحيد، ولو بتكتم، وكنت وحدي، أخرج صباحا من بين كلّ فتيات الحيّ للذهاب إلى المدرسة، ثم الجامعة، ثم العمل، ووحدي التي لا أضع غطاء رأس، وكنت «كالعين المقلوعة» في ذلك الحيّ المرعب.


كان عليها، وهي التي نمت في أسرة بسيطة من الناحية الاجتماعية، وفقيرة جدا من الناحية الفكرية (ولأبوين أميّين) أن تشق الطريق وحدها، بوصفها الشخص الأول المتعلم في تلك البيئة. إذ «كان مجرد متابعة التعليم في عائلتي حظا استثنائيا لي، ولكن الدخول المبكر للسياسة في حياتي، فتح عيني على القراءة، ومن هنا كان السحر. القراءة هي التي صنعت مني كائنا آخر، وغيّرت مسار قدري التقليدي».


بدأت مها حسن، في الرابعة عشرة، بقراءة هيغل: «أمر مضحك، كنت لا أفهم ما أقرأ، ولكني ألتقط جملا أدونها و«أصفن فيها» حتى أفهم الديالكتيك الهيغلي، نظرا لأن هيغل كان مرجعية ماركس كما تعلمت آنذاك»، وتضيف: «في الوسط الكردي، يُقدّس الشباب «نيتشه» ويعتبرون «هكذا تكلم زراداشت» بمثابة المرجعية الضرورية لكلّ مثقف كردي. توجهت كذكور العائلة «المسيّسين جميعا بالفكر القومي» إلى زراداشت نيتشه، وكان الانقلاب في حياتي». كان نيتشه صاحب الضوء الأول الذي تسرّبت منه عبر ممرّات القراءة وكهوفها السحرية، ومنه انزلقت إلى سارتر، «دفعت فواتير ضخمة نتيجة إيماني الأعمى بسارتر، وتمّت قطيعتي مع اليسار بسبب سارتر «البورجوازي». وهكذا تمّت المسألة بالتدريج وعبر سنوات» تعرفت من خلال سارتر على الوجودية، على هايدغر وكيركيغادر «الذي أهديت روايتي الثانية للإنسان الذي تحدث عنه في يومياته «ذلك الفرد»، ثم دخلت في دوائر السرياليين. وبدأت أتلمس متعتي الخاصة لا في قراءة الفلسفة فحسب، كما كنت أحكم على نفسي، بل باكتشاف متعة الرواية». أمام ذلك كلّه تجد مها حسن أنها مدينة للسياسة التي دفعتها نحو الفلسفة، «حيث تعلمت وتمتعت بالقراءة، القراءة التي هي المفتاح السحري لاكتشاف الذات والآخر». أمام ذلك كان لا بدّ أن تأتي «مصيدة الكتابة، لأنه يصبح لدينا أشياؤنا التي نريد أن نقولها، بعد أن أصغينا للآخر في ما قاله. تصبح لنا أنواتنا المختلفة التي تحاول أن تخرج من شرنقة الجماعة، لتعبر عن فرادتها، حتى ولو كانت تلك الفرادة أو التفرد، عبر طرح مختلف لحالة الألم، أو المقت، أو الخوف». أول إصدارات مها حسن كان في العام 1995، مع كتاب «اللامتناهي – سيرة الآخر»، الذي لا ترغب في أن تدعوه رواية، ولا سيرة ذاتية أيضا، فقد كان «سيرة الآخر»، كما دونت في العنوان، كانت، مع كتابته، تحلم بابتداع جنس أدبي، عبر شكل سيرة الآخر، «أدهم بن ورقة»، لا البيوغرافيا، بل السرد المتعدد. فأدهم، متعدد الولادات، متعدد الشخصيات في كل ولادة، إنه الإنسان اللامتناهي فينا. بعد سبع سنوات (2002)، جاء الكتاب الثاني: «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى». تتعرض في هذه الرواية لمفهوم الخيبة عبر الأجيال، عبر كريم الحاوي، بطل الرواية العربي، الوجودي، الكافكاوي، «الذي يشبه الكثير منا، نحن أبناء الخيبة، وخاصة تلك التي تكرست فينا بعد الستينيات «هزيمة 67»، التي أدت مثلا، وأبقى في مجال الفن، إلى انتحار فنان بمستوى لؤي كيالي «انتحاره غير مؤكد»، أو حتى الانتحار الفاتن الذي قام به خليل حاوي».


تنهمك مها حسن في العمل على أسماء شخصياتها في رواياتها: كريم الحاوي، سوزان الحاج، خالدة الغاوي. وهو يتبدى بقوة في «تراتيل العدم»، حيث يحمل الكثير من المضامين. يكاد هذا الولع أن يكون «ثيمة ثابتة في كتاباتها»: «هذا أحد هواجسي في بناء الرواية، إذ في بعض الأحيان، فإن الاسم يساعدني في رسم ملامح الشخصية وسلوكها. خذ مثلا «أدهم بن ورقة» بطل «اللامتناهي»، كلّ النص يلعب على اسمه، ويبرر في كل مرة، أو في كل ولادة تتم لأدهم، لماذا هو «ابن ورقة». ولن أفسر أكثر، لأن إجابتي الدقيقة على سؤالك «الهدف من تحميلها هذه المضامين» قد يحرم القارئ برأيي من متعة البحث، ويحرمني من لذة اللهو قليلا مع القارئ، لندع للرواية بعض أسرارها!


مع «تراتيل العدم»، تذهب مها حسن إلى الكتابة الملحمية، وكأن فيها كتابة «إغريقية». لا زالت تبحث إذاً عن هذا «الاختلاف» الذي دفعها إلى الذهاب «إلى هذه التقنية في روايتي، عبر وجود كورس ملازم للسرد، وأنا لا أريد أن أشرح، وأنت تعرف أنه يصعب كثيرا تفسير رواية متعددة الدلالات، تستحق عدة وقفات، لتلخيص هاجسها في سطور. ولكني كما أسلفت لك، في كلّ كتاب لي، أحاول أن أكون مختلفة عن غيره، ثمة كتابة «وجودية» في «لوحة الغلاف»، وثمة كتابة فانتازية أسطورية في «تراتيل العدم»، أنت تراها ملحمية، ربما اقترابها من التقنية المسرحية، أعطاها هذا الإحساس الملحمي. يسعدني، أن تُفسر هكذا، لأني حين كتبتها، لم أكن واعية لهذه المسألة، أو على الأدق لم أكن قاصدة».


المنفى


هل بسبب كل هذه «المواصفات المسبقة» غادرت بلدها لتعيش في «المنفى»، وهل هو منفى أصلا؟ ترى الكاتبة أن كلمة المنفى «ترتبط عادة بالعقاب، أما منفاي فهو حريتي. في الغرب الفرد هو المهم، وليس تاريخه العائلي، فهو لا يتحمل تبعة غيره. الحرية المرتبطة بالمسؤولية هنا، حررتني من الكثير من الخوف، ومن «الانهماك» بالآخر، بالمعنى السارتري للكلمة، الآخر الذي هو الجحيم حين يتدخل في كل تفاصيل حياتنا، ويصبح نعيما، حين نضع له حدودا، فتكون العلاقة قائمة على الحوار والحرية، لا على الخضوع والتبعية. هذا ما منحني إياه «المنفى»، حريتي في التفكير والمخالفة والاعتراض واللامبالاة. حريتي في كوني أنا. لا الآخر. أعتقد أن المنفى حالة داخلية لا ترتبط بالمكان، أنا كنت «منفية» في بلادي «التي لم أعد أشعر كثيرا بياء النسبة هذه»، بينما أنا هنا، في «منفى» يحترم إنسانيتي وحريتي، ببداهة ودون معارك ونضالات».
عن السفير