mardi 20 octobre 2009

تراتيل العدم ـ الصيغة الأبدية



خالد سليمان
تراتيل العدم، عنوان رواية جديدة صدرت للروائية الكردية السورية مها حسن عن دار الكوكب التابعة لشركة «رياض الريس للكتب والنشر» ـ بيروت. وهذه الرواية التي تبدأ بترتيلة تتكرر في السرد الروائي وتنبني عليها مصائر شخصياتها، هي العمل الثالث للكاتبة بعد الأول «سيرة الآخر اللامتناهي» ١٩٩٥ والثاني «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى»٢٠٠٢. كما عُرفت الكاتبة مها حسن كناشطة في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات العامة وحصلت على جائزة (هيلمان – هاميت) التي تمنحها منظمة (هيومان رايتس ووتش) لعام ٢٠٠٥. تبدأ الكاتبة السرد الروائي بترتيلة تقول: «حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تمون وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». وتتكرر هذه الترتيلة في مجمل خارطة النص الذي تدور فكرته حول الخلق والعدم، كما تحاول الروائية جعلها صيغة ترسم من خلالها طبيعة الرواية وأبطالها المتخيلة بأسمائها وسماتها وعلاقاتها ومجيئها إلى الكون. ففي المستوى البياني الأول تتنوع أسماء الشخصيات بين حرز، أرض، طُهر، سماء، سيماء، عناد، شمس، إغماء، حرث، وهناك كائنات خرافية تدخل في نسق الرواية على هيئة الإنسان مثل الأفاعي والكلاب وتؤدي أدواراً نلاحظها ونسمعها غالباً في قصص الخلق والنصوص الدينية كما في الحكايات الشعبية والقصص المتخيلة في ذاكرة الشعوب. حرز، الذي هو البطل الغائب والدائم الحضور في تراتيل العدم، تدور عنه الروايات والأحاديث والشكوك، في حين تبدأ الكاتبة الحكاية بالحديث عن رماد جثته التي احترقت فوق كومة من القش بفعل ذاتي محض. حرز، هو سليل امرأة اسمها أرض تتحكم بأمور قلعة تتوزع سمات سكانها بين الخرافة والأسطورة والدين، ذاك ان الولادات والأعمار والعلاقات والحياة والموت فيها، تتكون بمقتضى نص أو صيغة تسميها الروائية بــ«تلك الصيغة»؛ وهي في جوهرها عقد داخلي بين سكان القلعة ويكمن سرّه ومفتاحه في أي شيء تبوح به الجدة الأكبر «أرض». تالياً، يمكن اعتبار ترتيلة البداية والتي تتكرر في النص مثل تلك الأشعار والمناجاة التي تقولها الجوقة في المسرحيات اليونانية القديمة، عقداً ورابطاً بين ما يمكن وصفها بالواقع المتمثل بسلطة الكاتبة وكيفية رسمها لمصائر الشخصيات، وبين ما يمكن اعتباره بعالم تتشكل ملامحه من الأساطير والأديان والحكايات الخرافية. وهناك تداخل افتراضي في سرد «العقد» هذا، تلتجئ فيه الروائية إلى إيجاد ساردتين أُخريين تشاركانها في لملمة الحكايات وإدراجها ضمن نقاشات يمكن وصفها بالهوامش الروائية، وهما (جوزفين وجدار). تتضح هذه الصورة بعد قراءة صفحات كثيرة من الرواية حيث صور شخصية حرز المتحولة بين القهر الطفولي والفحولة وبين الشك في أُصوله المتسمة بشيء من العدمية، فهو قبل أن يصبح رجلاً ويتحرر من سخريات عمه «طهر» وقسوة أُمه «إغماء» ومحاولاته المتكررة للتخلص من عضوه الذكري وإستهباله من قبل غالبية سكان القلعة، يبدو كشخص دون أصول بشرية. يعترف له والده بأنه ليس منه ولا يستبعد أن يكون من بذرة علاقة أُمه مع كائن بدا على هيئة كلب وكان يتحول كما رآه مرة إلى إنسان مثلنا، وقد لاحظ قدميه في غرفة زوجته «إغماء» قبل ذلك التحول حيث كانتا مثل أقدام بط، حيث الأغشية بدل الأصابع. ومذ ذاك لم يعتبر «عناد» الأب حرز ابناً له بعدما اكتشف علاقة إغماء بذلك الكائن «المتحول» بين الإنسان والبط والكلب. ولكن الأُم تعتبره إبناً حقيقياً لأبيه الذي كلما مارس الحب معها شعرت بألم غشاء بكارتها بذات القوة التي شعرت بها للمرة الأولى، ولذلك كانت تقسو عليه كلما حممّته ورأت عضوه الذكري، ذاك ان عضو الصغير كان يذكرها بذلك الألم الذي أدخله عناد مراراً إلى أحشائها. أناشيد زرادشتيه هناك بعد آخر في هذه العلاقة الشائكة التي تضع شخصيات الرواية أمام فكرة الاستبداد بالجسد وحيواته وغرائزه، وهو حضور «الجنين المسيحي » في أحشاء نساء القلعة، فمنهن ينتفخ بطنها دون الحاجة إلى الرجال وألم غشاء البكارة، وكأن هناك إلهة تنفخ في بطونهن وتزرع فيها بذور الخصوبة دون الحاجة إلى عنصر الفحولة. ولا تبدو الكاتبة هنا متأثرة بقصة «العذراء» بقدر تأثرها بقصة روح المياه المتمثلة بالإلهة «آناهيد» في الديانة الزرادشتية. ومن بين التراتيل الزرادشتية هناك ترتيلة تسمى بــ«ابان نيايبشن» تتلى في النهار قرب الأنهار والينابيع وعند مشاهد جريان المياه، إذ تجري فيها الإشارة إلى الإلهة «أرديفيزور» تقوم بتطهير البذور من عنصر الفحولة وتطهير الأرحام لدى جميع الإناث لتجعلها قادرة على الإنجاب، كما انها تقوم بجعل الحليب يتدفق لدى الإناث بما يلزم وكما يلزم. فحين تضع «حداد» زوجة حرز مولودها، يُعتقد بأنها حين كانت تستحم في البحيرة مع صبايا أُخريات ودون ان تعرف، تسرّبت إلى أحشائها كائنات لامرئية وانتفخ بطنها. ولئن بدا حرز كائناً واعياً لغموض هذه العلاقة التي تجرّد الذكور من ذكوريتهم وتضعهم أمام سلطة حكايات النسوة، ومدركاً في ذات الوقت لحيوات جسده بعدما كان مشروعاً لسادية أنثوية مجسدة في سلوك الأُم، تحول إلى رماد يهابه الجميع. فهو إذ ذاق مأسآة الواقع والحلم، المنام واليقظة، أحداث وقعت ونسيها، أحداث بقي ملكاً للغموض، أم لم تقع أساساً، بقي كائناً لا تحتمله ذاته في النهاية. وهو فوق ذلك إبن فكرة خرافية يُمعنن وجوده فيها من خلال زرع الأبناء في الأرحام المشاعة، أنه تالياً، خليط من أبوين مختلفي التكوين، من امرأة نصف حاضرة، وأكثر من نصف غائبة، وأب مسافر ومبتعد وفي شبه غياب تام، امرأة يشك بأصلها ومنشئها، وجدة سحرية وشبه أسطورية. وهذه الأخيرة، إنما هي صاحبة فكّ جميع الرموز و«تلك الصيغة» المتمثلة بإنسان مطلوب وطالب. تعالج مها حسن في هذه الرواية معادلة مستعصية في ما خص موضوع الخلق والعدم، وهي؛ هل نحن من صنع النص أم النص هو الذي صنعنا وأجاد لنا العالم؟ انه سؤال ظل يعرّضنا للأخطار ويضعنا في قلب قصص الخلق والأساطير والأديان. فنحن دون إدراك منطقي للأشياء نعيد إنتاج النصوص الدينية والأسطورية في حياتنا، وتتشكل منها رؤيتنا للكون والعلاقات والمحرّمات والنجاسة والطهر، كما اننا نختبر كل لحظة من وجودنا في تلك اللحظة النفسية القلقة، والتي يسمي سيغموند فرويد ضحاياها بــ«عصاب الصدمة». ذاك ان الفرق بين الواقع والمتخيل يتلاشى في «النص القدسي» الذي طالما افتقد الإسنان فيه قدرة الطلاق معه. ففي هذا الثاني إذ يلوح الإنشاء فيه إلى تقارب نصوص جميع الأديان والأساطير في ما خص عدمية الإنسان أمام «الصيغة الأبدية»، يبدو الحلم وسماتها «اللازمنية» السائلة في الرغبة والعقاب شيئاً مشابهاً للواقع، بل بديل له. من يقرأ رواية تراتيل العدم، يشعر انه أمام نص يرجع تاريخ كتابته إلى زمن إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس، وذلك من خلال تكرار تلك اللحظة التي تبدأ فيها تراجيديا البطل زمناً وكتابةً وسياقاً. ففي المسرحيات اليونانية القديمة تظهر الجوقة كلما مرّت فترة على ولادة المأساة وتعيد المتلقي إلى بدايات القصة أو تذكّره به، وفي جوهر هذا الطقس المسرحي عقاب وتطهير فرضه التفكير الإغريقي في الفنون والفلسفة والمعارف العامة. وفي النص الديني أيضاً، يبدو التذكير بالعقاب والتطهير كحضور مطلق في حياة الأفراد، فثمة إثم دائم ينتظر الإنسان، أو خطيئة يليها عقاب. انه تالياً نص عن عالم تصنع فيه التراتيل الدينية والأسطورية مجتمع غير قادر على اختراق الوجود المرسوم له، ومن يبحث عن أسرار الأشياء فيتحول إلى الرماد. ذاك ان الصيغة الأبدية التي يحاط بها الأفراد، هي ليست نصاًَ مكتوباً فحسب، بل جزء من كينونة الأفراد ورؤيـــتهم لذواتــهم دون الاقتراب من لحظة تسمــيها الروائية بلحظة (الزلزال الأعظم). وهي كما تشير في هامش صفحة من الرواية تقتبس هذا التعبير من الفيلسوف الدنماركي «كير كيغارد» لتصف بها تلك اللحظة التي يكتشف فيها حرز اللذة الجنسية. تدخل مها حسن في عالم تتشكل معالمه من أسماء وأحداث وأقدار ومصائر متخيلة، إنما هي في الوقت ذاته مصائر تؤسس لوجود الشخصيات معاني في حكايات أصبحت من الذاكرة والثقافات الشفاهية للشعوب. فجميع شخصيات الرواية اسطورية كما تمت الإشارة وليست لها علاقة ما بالواقع المعاش، وهي شخصيات ذات ممارسات واقعية مثل الغرائز والغيرة والطموح والشك واليقين والسيطرة والخضوع أيضاً. (كاتب عراقي مقيم في كندا)
عن السفير الثقافي