lundi 17 février 2025

 

مقام الكرد

أنعام كه جه جي 

فعلتها مها حسن. كتبت، حسب علمي، أول رواية عربية تفاعلية. والمقصود نص لا يعتمد على ما هو مكتوب على الورق فحسب، بل يحيل القارئ إلى روابط مدرجة في الهوامش ويدعوه لسماع هذه الأغنية أو تلك الموسيقى المذكورة في الرواية. تأخذ هاتفك الذكي وتمسح الرابط فيطلع لك، مثل جنّي، التسجيل الصوتي المقصود.

ومها حسن روائية سورية مقيمة في فرنسا. كردية القومية عربية اللغة. ثنائية جميلة في حال أتقن المرء اللغتين. لكن حال الكاتبة مثل واقع بطلة روايتها، لم تتعلم لغة أجدادها. وإذا كنا نعرف مها التي تكتب بدأب وقد جعلت من الكتابة إكسير حياتها، فمن هي بطلة الرواية؟ أهي فالنتينا التي تتكلم الفرنسية وتعجز عن نطق كلمة بالكردية، أم فرانسواز أم تالين أم خزامى أم دلشان؟

يمكن للاغتراب اللغوي أن يكون بطل «مقام الكرد»، الرواية الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط. حالة نلمسها حولنا وتمسّ الملايين من أبناء الأوطان الطاردة. يضيع المهاجر وابن المهاجر بين اللغات والثقافات وهو يجتهد لأن يستكين إلى لغة البيت. يلجأ إليها ويتدفأ بها ويستعين على منفاه. يجد في أغانيها سلامه الروحي. ليس من العبث أن يضع المهاجر أشرطة الكاسيت في الحقيبة.

في «مقام الكرد» تفاصيل عن سوريا التي نعرف ولا نعرف. تبعث فالنتينا، الطالبة المتفوقة، رسالة إلى بشار الأسد تشكو فيها حرمانها من البعثة العلمية لأنها ابنة معتقل. «سيدي الرئيس أنا مواطنة لا علاقة لها بالسياسة. كنت في السادسة حين أفقت على أصوات رجال يقتحمون دارنا في القرية ويركلون أبي النائم وهم يصيحون ويشتمون. تبولت من الرعب سيدي الرئيس.»

تلجأ مها حسن إلى الصوت لاستعادة صلتها بلغة أمها. تقدم لنا رشوة لطيفة: «هناك جينات موسيقية في الذاكرة الفردية لكلّ منا». نقرأ في المدخل: «بينما أسمع الأغاني الكردية كنت أكتب هذه الرواية باللغة العربية. ساعدتني الموسيقى الكردية على كتابتها. فهي التي خلقت لديّ الفكرة الأولى ثم أكملت معي مسيرة السرد. كأن الموسيقى من تكتب.»

أعرف روائيين كثراً يصغون إلى أسطوانة كلاسيكية أثناء الكتابة. الجديد هنا هو دعوة القارئ إلى أن يكون شريكاً في الاستماع. أن يدخل في مزاج السرد عيناً وأذناً. تنشر مها حسن جدولاً بالأغاني الواردة في الرواية مع وصلاتها على النت. تحلم الكاتبة، في حال تحول النص إلى رواية مسموعة، بأن يرافق الحكاية المروية تسجيل للأغاني. سيتضافر السرد مع الغناء.

تحلم أيضاً، وأحلم معها، بالرواية الإلكترونية. أن يفتح القارئ النص المكتوب فيجد مقاطع مصورة وأخرى مسموعة. وبالعودة إلى «مقام الكرد» نكون مع شخصيات تداوي بالموسيقى انفصامها اللغوي. بل إن الكاتبة مغتربة مرتين، عن لغة القرية ولغة المهجر. وهي مثل بطلتها فالنتينا، تطارد صوتاً صدح في ماضيها. تلتقط المقام وتسحب خيوط الذكرى. نقرأ على الغلاف الأخير: يعيش الكرد بالموسيقى وبالحب.

 

mercredi 12 février 2025

 

الوجه الآخر للكوردي.. وجه لا يعرفه أحد!

الوجه الآخر للكوردي.. وجه لا يعرفه أحد!

بقلم: مها حسن 

تقول صديقتي الإسبانية المقيمة في أربيل : لقد تجولت لسنوات طويلة في العالم العربي وبلاد الشرق، الأردن، مصر، المغرب، لبنان.. لكنني أشعر أن المواطن الكوردي هنا لديه شيء مختلف، إلا أنني لا أعرف كيف أعبّر عن هذا الاختلاف..

من الطبيعي ألا تفهم صديقتي الأوربية بسهولة خصوصية الكورد، فأنا أيضاً، المرأة التي وُلدت بينهم، أشعر أنني أحتاج إلى كثير من الكتابة، للتعبير عن هذا العالم المختلف، الذي نحيا فيه، ولا نعرف كيف نصفه، هذا الكوردي الفريد الذي لم تنصفه بعد الكتابة الإبداعية ولا السينما ولا السياسة..

يقول صديقي العربي المهاجر إلى أربيل : أقارن بين مجتمعي العربي والمجتمع الكوردي هنا، فأحسّ بطبيعة الكورد الخاصة، إنهم طيبون إلى درجة غير مألوفة بالنسبة لي، إنهم لا يملكون أية بذور للعنف..

صديقي العربي السوري الذي زار أربيل من فرنسا، حدثني مندهشاً عن هذه المدينة، وهو يحاول تعريفها، فيقول بطريقة فطرية: أهل أربيل يشبهون أهلنا الريفيين هناك في سورية...

أما أنا، فطالما كررت أمام الأصدقاء، وأمام الإعلام : أستعيد نفسي في أربيل، أتعرف على هويتي في هولير.

من المدهش حقاً، أن أتعرف على ذاتي الغامضة بالنسبة لي، عبر الحياة في أربيل، لأقوم بتجميع عناصري المشتتة هنا وهناك، وأضمّها كحبات المسبحة، لأتعرف على هويتي الواسعة الكبيرة، وأنا أحلل انتماءاتي وأصولي..

أحلم منذ سنوات طويلة، بالكتابة عن هذه المنطقة بطريقة الأنثربولوجيا، بالطريقة التي عمل فيها ليفي شتراوس في كتابه العظيم " المداران الحزينان"، وأنا أشعر بشغف غريب كأنني سأكتشف لغزاً مجهولاً حين سأكتب عن تفاصيل الناس في إقليم كوردستان..

أشعر بالمسؤولية صوب خصوصية هذا الشعب، ليس فقط لأنني كوردية، بل لأنني كاتبة، منحتني الحياة الحظ الجيد لأعيش عشرين عاماً في فرنسا، ثم أعود محملة بعقلي النقدي الممزوج بروحانية الشرق التي لا تزال تسكنني، فأشكل عجينة ممتعة أفردها أمام العالم، عبر الكتابة عن هذا الجزء الطيب والنبيل والفريد من العالم، عن الناس في كوردستان.

قد يبدو كلامي مبالغاً فيه، وهذا من حق أي شخص أن يشعر به، وسوف يشعر به الأشخاص الذين ينتمون لفئتين : الكورد الذين اعتادوا هذه الصور ونمط العيش بطريقة لا تدهشهم، والكورد أو العرب الذي لم يأتوا إلى هنا، ورأوا ما رأيته، لذلك سأستخدم عبارة جلجامش الشهيرة : أنا الذي رأيت كل شيء.

وللتحدث عن كل شيء، أحتاج إلى وقت طويل، أتفرغ فيه لكتابي عن كوردستان التي تلهمني الحياة فيها، كأن جني الإبداع/ أو الجنية، ينتظرونني هنا، وأتساءل في هذه اللحظة عم إذا كانت هذه الجنية، أو القرينة كما كتبت في روايتي " قريناتي"، تنتظرني هنا لأكتب ما لم أكتب حتى اليوم؟

لهذا، ولأنني أرغب فقط في التحدث عن جزء مما عايشته هنا، سوف أكتب الآن فقط عن بارزان، هذه المنطقة التي قلبت روحي، وجعلتني أشعر كأنني أكتشف كوكباً خاصاً يراه الجميع، ولا ينتبهون إليه، وكما اكتشف كولومبس أمريكا، أكتشف أنا اليوم، منطقة بارزان بحمولتها الروحانية النادرة، الموحية، الحنونة إلى درجة تمنحك الإحساس الكامل بالسلام ..

في بارزان، التي زرتها ليوم واحد، والتي أحتاج للعودة إليها، رأيت كل هذا السحر والجمال:

*خلان

في الطريق إلى بارزان، توقفت السيارة في مدينة خلان، وبعيداً عن صعوبة وصف الجمال المرتبط بالحرية، حيث أشعر أنني في مكان، لا هو شرقي يشبه البلاد التي زرتها من قبل، ولا غربي يشبه بلاد الغرب التي أعيش فيها منذ عشرين عاماً..

أدخل برفقة أصدقائي الذين معي إلى ما يشبه مقهى في الفضاء المفتوح، رجال ونساء يحتسون القهوة والشاي المغليين على الحطب.. لا أحد ينظر إلى أحد بفضول أو يخترق مساحته الشخصية، نساء بملابس متنوعة، بدءاً من التي شيرت وبنطال جينز، حتى الفستان الكوردي المزركش والملون...

كل هذا التنوع والراحة والانسجام، لا نراه عادة في الشرق الصارم، أو الغرب البارد.

في الطريق إلى بارزان، بعد استراحة القهوة في خلان، كدت أشهق من الدهشة، وأنا أرى فتيات شابات ترفعن سلال التوت فوق رؤوسهن، بملابسهن الكوردية التقليدية، ليذكرنني بتماثيل آلهات الخصوبة في وادي الرافدين... بنات يبعن التوت بطريقة شاعرية، كأنهن يمنحن السلام والمحبة ويشرحن للعالم مفهوم الكرم والعطاء.

*مزار الخالدين

وصلنا بارزان،  ووجهتنا الأولى كانت المزار : مزار الخالدين، ملا مصطفى البارزاني وإدريس البارزاني، رافقنا في جولتنا أحد المشايخ المشرفين على المزار، ليشرح لنا تفاصيل المزار وما يحيط به.

لم أشاهد أية مظاهر احتفائية استعراضية، وأنا أقرأ الفاتحة قرب سور المزار، حيث القبور تشير إلى التواضع والروحانية العميقة.

تجولت في المتحف دون شك، وحضرت فيلماً وثائقياً عن بارزان وعن نضالات البارزايين، وعن مفاهيم الطبيعة هنا، وحماية الحيوانات وتقدير المرأة. تفاصيل أمتلئ فيها بالنشوة لأنني حظيت بهذه الزيارة، وبالحسرة في نفس الوقت، لأن هذا الجمال غير متاح للعالم بأسره... حيث هنا دروس المحبة والعطاء والسلام، التي يحتاجها العالم الغارق حتى أذنيه في الاقتتال والعنف والحرب..

تكية بارزان التي غسلت روحي

في تكية بارزان، غُسلت روحي!

يجري الماء برفق داخل التكية.. روح صانعي المكان تجول هنا. يغمر السلام كل من يدخل المكان، فيشعر بأمان كامل..

لا خلاف حول الأديان، لا قتل للحيوانات، لا عنف، لا كراهية..

تجري الحياة هنا كأنها في كوكب آخر. البشر هنا لا يشبهوننا، إنهم ملائكة دون مبالغة.

بعيداً عن العنف الذي نحياه في كل لحظة، هنا في وسائل التواصل، في الإعلام، في البيوت، في العلاقات، في الصداقات أحياناً، الناس في بارزان ينعمون بحياة لا تشبه حياتنا.

أنحني أمام هذه التكية التي يجري فيها النبع بتواضع، وتحيطها أشجار التين والرمان والتوت، وتعربش فيها أوراق الدالية منتشرة بكرم غير محدود.

في بارزان، زرت متحف الأنفال، وقابلت أحيا الذي قررت أن أعود مرة أخرى من أجله، لأتحدث إليه مطولاً، لأنني لمست بيدي ورأيت بعيني ما لم أره من قبل وأختبره بهذا القرب : هذا الدرس في التسامح والحب والسلام..

سأكتب عن أحيا الذي قابلته في متحف الأنفال، وأنحني مجدداً لكل هذا الكرم والسمو الروحي لأهل بارزان، المتمسكين بالفطرة، بالنقاء، بالتسامح، بالعطاء دون انتظار مقابل أو تقييم.

في بارزان، ثمة وجه للكوردي لا يعرفه العالم، الوجه الحنون، المسالم، المحب للحياة، رافض الكراهية والعنف والانتقام..

هناك، في بارزان، كما كتب نيكوس كازانتزاكي تقريره إلى غريكو، سأعود لأكتب عن الاغتسال الروحي الذي نحتاجه أكثر من قبل، في زمن الصراع وتلوث القلوب والأرواح...

كل ذلك الماء والشجر والفاكهة والحيوانات، وعلى الأخص روح البشر، الأحياء والراحلين، تغسل الروح، وتعيدنا أطفالاً يولدون من جديد، وهي تجربة نفسية وروحية، أتمنى أن يحظى بها كل من يستطيع الذهاب إلى بارزان المحاطة بالجبال والمليئة بغابات البلوط والتي يجري فيها نهري الزاب الكبير والصغير، وحيث أشجار الجوز والرمان والتين والتوت.