الرواياتُ أيضاً تتناسخُ كمَا تتناسخُ الأرواح، لتأخذك إلى عالمٍ نورانيٍّ بعيدٍ عن الحقيقة لكنّه قريبٌ مِن الواقع، لا يقتربُ من الصواب لكنّه صادق، لا يمكن أنْ تستوعبَ ما يحدثُ فيه، لكنكّ تصدّقه وترغبُ في معرفة المزيد. إنّه عالمٌ تتناسخُ فيه الحكايات وتتداخلُ فيه القِصص والوقائع... متاهة سردية تلك التّي اختلقتْها الروائيّة السورية مها حسن في رواية «قريناتي» الصّادرة عن «منشورات المتوسط». ما إنْ تقبض فيها على خيطٍ يشدّ بيدك إلى الحقيقة حتّى تضيّعه، لتعاودَ البحثَ عنه مجدداً. أثناء ذلك، تضيّع الطريق، لكنّك تمسك بإشارةٍ أخرى تقود إلى ممرّاتٍ مختلفة، وهكذا تتكاثرُ الخُيوط وتتكاثفُ الحكايات. نجدَ أنفسنا في بدايةِ البدايات، مع صديقات ألماز لمعان وإزيس، لكن بسرعة سَردية غير متوقّعة نعثرُ على ألماز أخرى، تلك الألماز تنجبُ نظلية، لنسقط مجدداً في فخّ مها حسن وسردها اللئيم، فالمتحدّثُ الآن هو لمعان صديقة ألماز التي تعرّفنا عليها في البداية. مرّةً أخرى تتحكم مها حسن بزمام السرد وخبايا الحكايا، إذ نقفُ مجدداً مع ألماز أخرى، فنّانة عاشقة للحياة والحريّة، جميلة للحد الذي يصبحُ فيه «الجمال هو تناغم الهدف مع الشكل» كما قال أحدهم. لكن بقدر ما تعشقُ هذه الألماز الفنّ، تهوى الحُريّة، ما دفعها للهرب إلى إيطاليا بحقيبة تدسّ فيها أحلامها بحياة مُشتهاةٍ. وهناك، عرفتِ الحبّ كما كان ينبغي لها أن تعرف، وعرفتِ الفنّ الّذي جعلها تفكّر في نفسها ككائن آخر يستحقّ حياة أفضل، لكن خلقتِ الأحلام كي لا تتحقّق، لتفاجأ بموتِ مربيّتها، ما اضطرّها للعودة مجدداً لديارها.
تأخذنا الكاتبة إلى فصولٍ أخرى من
حياة ألماز وعودتها لزوجها وكلّ القصص الغريبة التّي حدثتْ في مكانٍ لا يُشبهها،
فاختارتْ أن تنزوي في مكانٍ قصّي في الغاب ترسم وترسم، حتّى يدركها التعب: «فسوف
أعود إليّ، أنا هناك، لا أزال أنتظرني في الغابة. روحي هناك، أناي الكارهة للضوء
المزيَّف المزيِّف، أنا لستُ ابنة الصالات النظيفة اللامعة، أنا الوحشة، الغولة،
ابنة الحكايات التي لا يصدقّها العقلاء».
نعثر أخيراً على الخيط، إنّه يعود بنا إلى البداية، إلى
لمعان صديقة ألماز الأولى، إذ تحكي حكايتها برواية، في فصلٍ جديد غير متوقّع.
تشعر أنّ مها حسن تكتب حيوات كثيرة أشخاص عرفتْهم في
مشاهد الحياة المتواصلة، إذ ذكرت في الرواية على لسان ألماز المطرب الكردي أحمد
كايا الذي تشعرُ كأن أغانيه تفتحُ أبواب الذاكرة الموصدة فهي: «تسمع أحمد كايا،
وتبكي وهي ترسم. تهتزّ مع الموسيقى، وفي كلّ اهتزاز، تشعرُ بأنها تحرّك النساء
النائمات أو ربما المُغمى عليهن، في كهوفها المنسيّة، هي مكان، ليس فقط هذا الجسد
المرئي، بل تواريخ وذواكر وشُخوص تقبع في كهفِ الجسد، الكهفُ اللامرئي، الذي تثيره
الموسيقى العالية، الرقص». هكذا تكلمت الرِوايّة.
تنقلُ الروائيّة أوجاع البشر، مآسيهم، وحريّاتهم
المخنوقة في مجتمع يستظلّ بظلال الأعراف، تبرز أيضاً ماهيّة الفقد الذي يجمّله
الفن أو لربّما يرسّخه أكثر: «كان الفقدُ عنوان حالاتها الدائمة. كأنّها تعيشُ على
مدّخراتها من الحياة التي عاشتها، فترسم من وحي ما عاشتْه، أو ما تتخيّله، لأنّ
الحياةَ الراهنة، لم تعدْ سوى استعادة للذكريات عبر اللوحات، أو تفريغ للمخيّلة
والمنامات، عبر الأشكال والألوان».
تقدّم الرِواية نموذجاً للفنانة التي تحملُ هواجس أكبر
من أنْ يستوعبها المجتمع، تلك التي تبحثُ عن الصدق والمحبّة اللامشروطة ولا بأس
إنْ وجدتْها عند الكلاب وفي الغابة: «إنّني أعتبرُ ولائي للكلاب كأهم كائناتٌ في
حياتي، وأحبّ حضور هذه الكائنات حولي، وما يهمّني حبُّ هذه الكائنات لي، أعني
الحبّ المتبادَل بيننا». كأنّ الروائية تستذكِر حكايا الجدّات اللواتي لم يمتلكن
فنّ الكتابة، لكنّهن امتلكن القِصص المفتولة بخبرة الحياة، في عالمٍ كان مفتوحاً
على الحكي، فلا جُمل زائدة تعرقلُ فهمه ولا سرد مطولاً يثقل صدق محمولاته، ولا
تعابير ركيكة تفسدُ سحره، إذ ذكرت في الروايّة عبارة ذات مدلولات قويّة، كأنها
مستوحاة من ذاكرة الروائيّة نفسها، لتكتُبها كمشهدٍ عصي على النسيان، مكتوب بسحر
البيان، عندما رأتْ ألماز الجدة، خَجيْ تشاهد شيئاً، وعندما اقتربتْ ألماز، لم تجد
لا تلفازاً ولا شيئاً. سألتها ماذا تفعلين؟ قالت: أشاهدُ أفلامي الداخليّة. أي
تستذكرُ الماضي وكأنّه مشاهدٌ من فيلم.
كتأويل للعملِ، أرادت الروائية أن تُنبّه قارئها بعدم
ربط الرواية بالواقع أثناء القراءة، لكن حين تنتهي من ذلك، فكّر في الرواية التي
تماهتْ داخلك، لدرجةٍ يصبحُ فيها الواقع قابلاً للتفسير والتعاطي معه بشكلٍ مختلف،
وهنا يكمن سحر الأدب وقدْرته الخرافية في قول ما لا يقال إلاّ روائياً.
«قريناتي» ليست رواية عن تناسخ الأرواح فحسب، وإنما عن
النساء، عن الفقد والفنّ حين يصبح شكلاً من أشكال التعاطي مع الحياة، إذ تقتربُ
الرواية من الفنّ للحدّ الذي يصبحُ فيه قريناً لها: إذ ترى أنّ «الفنّ يمثّل
الغابة غير المكتشفة: كلما كانتِ الفنّانة أميَل للوَحشة بداخلها، اقتربتْ من
الفنّ» كما جاء في الرواية .
جريدة الأخبار ـ ساره سليم