محمد سمير ندا
في روايتها الأحدث “في بيت آن فرانك”، الصادرة عن منشورات المتوسط هذا العام، تضع الروائية السورية مها حسن القراء أمام اختبار حقيقي قوامه سؤال واحد، ولكنه امتحان شديد الصعوبة، أخشى ألا يفلح البعض في تخطّيه بنجاح!
رواية سيرة، أم محض خيال روائي؟
السيرة هنا تتسع كرداء جامع لحيوات المقهورين من كل عرق ولون ودين، سيرة الكاتبة، التي هي مها حسن، وسيرة آن فرانك، الفتاة اليهودية التي تجرعت مرارة العنصرية النازية، حتى توفيت في الرابعة عشر من عمرها، قبل أن تصبح يومياتها ذائعة الصيت فيما بعد، كشهادة تؤرخ اضطهاد هتلر لليهود. الخيال الروائي هنا مضفور بأحداث حقيقية، نسيح واحد طُرز بعناية في قماشة الواقع، بحيث يصعب في الكثير من المواضع الفصل بين الواقعي والمتخيل، اللهم إلا في الفصول التي تعتلي فيها آن فرانك منصة السرد، وحتى هذه الفصول، كثيرًا ما شعرتُ أن الراوية تروي -حرفيًا- ما مرت به، سواء كان حلول الروح حقيقة خابرتها، أو عاشتها كأحد أنواع الهلاوس السمعية والبصرية. في النهاية: نحن أمام نص روائي كتب بالمشاعر الصادقة المترسخة في وجدان الكاتبة، قبل أن يمس القلم أول الأوراق المكتوبة.
عتبة المنزل (المكان)
تخطو الكاتبة عتبة منزل آن فرانك، هناك في “ميرفيديبلين” في أمستردام، حيث عَرفتْ الفتاة آخر فصول حياتها الطبيعية، قبل أن تهرب وتختبئ في عدة أماكن حتى تموت بحمى التيفويد في معسكر الاعتقال في برجن بيلسن. الكاتبة هنا عربية سورية كردية، هربتْ من بلادها قبل تفجر ثورات الربيع العربي إلى فرنسا، عانت الأمرّين حتى صارت لها بطاقة هوية فرنسية، هي وثيقة رسمية تضمن العبور وتحقق أحد درجات الأمان، ولكنها لا تعوضها أبدًا عن الوطن المسلوب، ولا تبث الراحة في وجدانها المضطرب العامر بالقلق، حائرة هي طوال الوقت، بين اكتشاف ماهيتها، ومحاولة غض بصرها عن الوجه البشع للحياة التي يُشكلها الطغاة، واكتشاف المعنى المنطقي للتواجد في هذا العالم، لذلك فهي تنسلخ عن كل شيء، تكفر بمسميات الوطن والدين والعرق والهوية، تحاول أن تركل بعيدًا عن محيطها كل ما هو مفروض أو موروث، هكذا تريد وتعتقد، حتى ينتهي بها الأمر بالتكوّر في وضعية جنين يخلق لنفسه رحمًا من الكلمات، يستقر في حشاياه، ويتصل بالعالم عبر حبل سري يمده بالحبر، فما عاد بحاجة إلى المزيد من الدم ليحيا، فكفاه ما رأى، وحسبه أنه وجد المستراح في مروج الخيال، حيث لا قنابل ولا قصف ولا اضطهاد ولا عنصرية. بهذا التكوين الإنساني تدخل الكاتبة إلى منزل آن فرانك بدعوة لقضاء عام كمنحة تقدمها جهة ثقافية تتفرغ خلالها للكتابة، ولأن التكوين الإنساني الرافض والمقاوم لكل أشكال التمييز هو المكون الرئيسي للكاتبة، تتعاطف مع حكاية الفتاة آن فرانك، وتنخرط في قراءة يومياتها، وتتلمس تدريجيًا أوجه التشابه بين وجوه المقهورين، فالندوب والجروح لا تتباين بين جسد مسلم وآخر يهودي، والدم الذي يلطخ جباه الطغاة له ذات الحمرة.
عتبة الحلول (الزمان)
تأنس روح آن فرانك الحائرة بوجود الكاتبة، تشعر بألفة ورابط قوي يجمع روحيهما، لم لا وقد تناوبت عليهما مصائر الغربة والشتات، وتقاسمتا موروث الاضطهاد والنبذ؟ كلتاهما نبيذة في زمان مغاير، وبحلول روح آن فرانك في جسد الكاتبة، تنصهر الأزمان، وتسيل نهرًا مخضبًا بالخوف، يمضي في إيقاع جنائزي ليصل بين الماضي والحاضر. تتنقل المحطات السردية بين يوميات فتاة مضطهدة مطاردة في الأربعينيات دون ذنب اقترفته سوى مجيئها إلى الدنيا من أبوين يهوديين، ويوميات امرأة عربية شاءت أقدارها أن تولد لعائلة كردية، في أوطان تنبذ المرأة وتقهرها بالسليقة، فما بالنا بامرأة كردية فقدت هويتها الأم منذ مولدها؟ تتلاقى الخيوط وتتشابك حتى تتشابه الوجوه والمرويات، الكتابة عالم رحب يرحب بكلتاهما، ففوق الأسطر وبين والحروف وفوق رؤوس الكلماتـ، لا يميز المكتوب بين كاتب وآخر، مرة أخرى تستخدم مها حسن الكتابة كمرادف للتحرر من العالم المتشابك الذي عرفته، ولكنها هذه المرة تصطحب معها روح فتاة يهودية إلى عالم يقبل الاختلاف ولا تعرف قواميسه مفردات التمييز. تضعنا الكاتبة أمام مرآة تقف هي أمامها فتنعكس فيها صورة أن فرانك! تشتبك الأصوات وتمتزج الوجوه والأزمان، لتضعنا الكاتبة أمام أحجية قديمة: اكتشفوا الفوارق بين الصورتين!
وهو سؤال يضع القارئ في ورطة، فبإجابة هذا السؤال يفصح المُجيب عن درجة الإنسانية التي يتمتع بها!
عتبة الكشف (التقاء الزمان والمكان)
تعقد الكاتبة اتفاقًا مع الروح التي تطنّ في رأسها وتؤرقها، بأن تصحبها إلى فلسطين، لتغادرها هناك للأبد، نعرف أن الكاتبة قد انتقلت من مكان إلى آخر، نلملم أشلاء حكايتها المنثورة هنا وهناك، في ردهات الذاكرة التي تأبي أن تضمحل، على أعتاب المطارات، وفي شرفات الخيال، وفي حبر الأختام على جواز السفر، طيف أب صارم، وأم لم تكن ودودة بما يكفي، إخوة مشتتون، شبح زوج، وتجربة إجهاض يتم تمريرها بين السطور، حكايات الأب والأم تتماس مع ذاكرة آن فرانك القصيرة، وتتطابق الأفكار التحررية مع بذرة التمرد التي غرست في عقل فتاة لم يمنحها القدر فرصة التحليق فوق أسوار الممنوع. تدمج الكاتبة بين هذه التجربة الغرائبية الفانتازية في بعض أجوائها، وتجربة حقيقية عاشتها مها حسن حين سافرت إلى الأردن ثم إلى رام الله لحضور مؤتمر أدبي ترعاه وزارة الثقافة الفلسطينية، تذكر أسماء كتاب حقيقيين رافقوها هناك، ويغلب على بعض المقاطع طابع التوثيق، ولكن آن فرانك تشاهد أرض ميعادها عبر عيون مها، وتغادر جسدها هناك، لتتعرف على الوطن الذي حلم بها جدودها منذ قرون، ولكنها تنكمش وتشعر بالأسى لما تلقاه هناك من انعدام الأمان الذي طالما تاقت له، وهي هنا تجزم بأن الأمان مفتقد لدى الطرفين، من يحمل السلاح، ومن يحمل الحجر أو يجعل من جسده قنبلة تدوي عبرها صرخته المكتومة. تلتم الأزمنة المبعثرة على حافة المكان، رام الله، القطعة النابضة المستأصلة من الجسد العربي عبر جراحة تمت دون تخدير، تستعيد الكاتبة شعور الطفلة في قرية أبيها، وتستعيد آن فرانك الشعور بالحياة وقد تحررت من موتها في وطن دولة اليهود التي لم تعرف عنهم غير اضطهادهم من هتلر، ولم تسمع بمجازرهم واجتياحهم لديار العرب.
عتبة مجدل شمس (انفصال)
تظن الكاتبة أن الانفصال قد تم بينها وبين قرينتها، غادرتها روح آن فرانك في رام الله، وعادت هي إلى فرنسا ثم ارتحلت إلى القاهرة، لتجد شبح آن فرانك يتجسد من جديد في غرفة فندقها المتاخم للمعبد اليهودي في شارع عدلي.
هنا تتم المواجهة المؤجلة بين الكاتبة والروح المطاردة لها، فبقدر ما تأثرت مها بيوميات آن فرانك، وبقدر ما تأثرت آن فرانك بقراءتها لمخطوطة رواية مها حسن “عمت صباحًا أيتها الحرب”، وبقدر ما تشابكت صور المعاناة وتشابهت، تتباين بينهما الرؤى حول الكتاب الذي بين يدينا الآن، فآن فرانك ترى أن الكتابة غير موضوعية ومنقوصة، وأن مها تنقل نظرة أحادية لوضع ثنائي الأطراف، فهي تصف القهر والذعر الذي يعيش فيه أهل فلسطين، ولا تذكر شيئًا عن الرعب الذي يظلل حياة اليهود في المستوطنات. تراجع كلتاهما مخطوطة روايتنا، وتنخرطان في بحث عن اليهود الأكراد، فتتضح لهما صورة تتسق مع حكاية كل منهما، فاليهودي الكردي غريب في دولة اليهود المغتصبة من الجسد العربي، والكردي العربي غريب في الدولة العربية التي جاءت منها الكاتبة، تصر آن فرانك على أن إنهاء النص بالشكل الأكثر موضوعية يستلزم زيارة أخرى إلى فلسطين المحتلة، حتى تتيقن الكاتبة من عدالة السماء في تفريق أنصبة الذعر وسحب دثر الأمان عن الكافة، ولكن الكاتبة تسقط في حيرة من أمرها، ولا تعدها بشيء، يتحقق الانفصال الأخير بينهما، تحلق روح آن فرانك بعيدًا، وتقرر الكاتبة تأجيل نشر النص، حتى يردها مقطع فيديو يظهر فيه أصدقاؤها فيما يشتلون شجرة تحمل اسمها في قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، عقب تلك الرسالة العفوية الصادقة، تشعر الكاتبة بأن نصها قد اكتمل، على الأقل في وجدانها، وتقرر أن تظهره للنور.
الوقوف بثبات فوق اللغم
أدبيًا، كتبتُ مسبقًا عن كتابة مها حسن، عن لغتها الناقلة لنبضات قلبها، حد أنني في بعض المواضع كنت أسمع تنهداتها بين سطر وآخر، والزفرات الحارة التي تطلق سراحها في خواتيم الفصول. لمها حسن عوالمها شديدة الخصوصية، حكايتها مروية بشجن الرحيل، وبميراثها الشخصي من القهر والفقد والاغتراب.
ولكنها بهذا النص الإنساني العامر بالمشاعر النبيلة، الرافضة لكل أفكار التفرقة البشرية، المعارضة لكل صنوف التمييز العرقي والديني، تخطو بثبات لتقف فوق اللغم! فهي بذلك تخوض في فضاء غير مسموح تناوله، وربما أكاد أسمع الاتهامات المقولبة التي حتمًا سوف توجه لها، سيقال مثلاً: كاتبة عربية سورية تكتب عن آن فرانك، ولا تُكذب حكايتها التي اختلقها اليهود من ألفها إلى يائها! أو: انظروا؛ كاتبة سورية كردية تعترف بحكاية آن فرانك! ثم: ها هي مها حسن تؤيد التوجه العربي نحو التطبيع برواية عن فتاة يهودية يُعدها اليهود أحد أبطالهم ورموزهم…… إلى آخره من هذه الاتهامات المحضرة سلفًا، ليس لمها على وجه التحديد، ولكن لكل من يدخل إلى تلك المنطقة المحظورة في العقول العربية التي عششت في أركانها عنصرية حربائية الطباع، تطفو على السطح وقت الحاجة، وحسب الهوى.
فهل من العدالة أن يتم اختزال هذه الكتابة الإنسانية البديعة بهذه الطريقة؟ لا أعتقد!
ألا يحق لمها أن توثق تاريخ القهر وتوحد بين ضحايا الطغاة في جسد واحد؟ ألا يتساوى ألم القتل بين البشر جميعًا؟ ألا تتشابه وجوه الجناة، وتتطابق وجوه الضحايا؟ لم تنكر مها مأساة فلسطين، ولا حقوقهم، ولم تعترف لا هي ولا حتى آن فرانك بإسرائيل، ولكن مها أقرت بإنسانية آن فرانك، وخلقت تناصًا أدبيًا بين حكايات الاضطهاد البشري عبر الأزمان، فهل عرف عالمنا البشع بين مخلوقاته كائنًا أقسى وأكثر شرًا من الإنسان؟
عزيزي القارئ،
أنت أمام اختبار لإنسانيتك، هل تشعر بذات الألم والحزن تجاه سائر ضحايا الحروب والمجازر الجماعية عبر تاريخ الإنسان المغمور بالدم؟ هل تتعاطف مع أسرة يهودية أحرقها هتلر، كما تتعاطف مع أسرة فلسطينية بَقرَتْ بطون نسائها عصابات اليهود في النكبة، كما تتعاطف مع أسرة سورية قُذفت بالأسلحة الكيماوية، سواء كان مطلق الصاروخ هو جيش بشار أو جبهه النصرة أو الجيش الحر، أو داعش؟ هل تتألم حين تعرف أن جنديًا مصريًا قد قتل في سيناء سواء كان مسلمًا، أو مسيحيًا؟ هل تتساوى لديك حرمة الدم التي اتفقت عليها الأديان والشرائع السماوية؟ هل تنزعج إذا ما دهست دبابة إسرائيلية طفلًا فلسطينيًا، بذات القدر الذي تنزعج به عند سماعك لأخبار عن أسر داعش للإيزيديات واغتصابهن ثم قتلهن؟ أو حين تسمع عن إبادة وتدمير مدينة كاملة كانت تسمى يومًا كوباني؟ هل أزعجك التاريخ الموثق لحملة صدام “الأنفال” على إقليم كردستان سنة 1988 والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 50 ألف شخص أغلبهم من الأكراد، كما أزعجك التاريخ بشرح مجازر صبرا وشاتيلا، وحادثة مدرسة بحر البقر في مصر؟ هل أحزنك استشهاد النائب العام المصري هشام بركات، بقدر ما حزنت على سحل رجل الدين الشيعي حسن شحاتة حتى الموت في مصر؟
عزيزتي الكاتبة
لقد وقفتِ فوق اللغم بكامل إرادتك، وتلوتِ على الشهود نصًا إنسانيًا تنهار فيه كل الحواجز الفكرية والعقائدية لتضعنا أمام عالم إنساني مسالم يعيش فيه الناس دون حرب واقتتال، نصٌّ يحرم الدم كله، ويدعو لسلام عادل لا تنازل فيه ولا خضوع، أنتِ رفضتِ إقصاء آن فرانك من ذاكرة الإنسانية، كما نرفض جميعًا إقصاء الآلاف من ضحايا العرب خارج صحف التاريخ. ولكن؛ أنتِ تعرفين ما قد ينالك بسبب هذه الجرأة، وإثر هذه الشحنة الإنسانية الصافية الصادقة المستفزة للكثيرين، وأعتقد أنكِ تذكرين ما جرى للكتاب المصريين الذي شاركوكِ حضور ذات المؤتمر الأدبي في رام الله في 2017. ولكنني رغم كل ذلك، أدعوكِ لأن تواصلي حراكك، أعبري فوق اللغم، غني وارقصي وانشري تلك المشاعر، طوفي حول شجرتكِ في مجدل شمس، وراقبيها حتى تكبر وتظلل سماءك، اخلقي المزيد من أوطان الكتابة الآمنة، ولا تخشي ألغامهم، فهي ألغام عربية، واللغم العربي لا يصدر عنه سوى ضوضاء، وربما بعض الدويّ، قصير الأمد.
ربما يكون حلمك بهذا العالم المثالي صعب التحقق، فهو يخالف فطرة قابيل وهابيل، ولكن؛ يكفينا أن يظل بيننا من يؤمن بهذا الحلم، ويصر على توثيقه، ولو في أوطان من ورق.
شكرًا مها
#محمد_سمير_ندا