في روايتها «تراتيل العدم»
مها حسن تستعين بالقارئ لنسج حكاياتها
2011-01-01
إبراهيم الحجري ❍
تتعاقد الروائية مها حسن منذ بدء الرواية «تراتيل العدم» مع قارئها على أنها لن تقدم متنا حكائيا جاهزا، بل ستفتح أمامه ورشا معقد التركيبة تحتاج إلى اجتهاد كبير على مستوى التلقي، إذ فضلا عن تطلبها لعملية القراءة التأملية المتكررة على مستوى الخطاب، تقتضي وعيا كبيرا من القارئ على مستوى البناء الخطابي وتشكل بنيات السرد داخل الرواية. فقد نسجت مها حسن محكيها، انطلاقا من مماحكات أسلوبية، اشتغلت من خلال المتن على تسريد النص، وتعميق مستوى تشييد أنسجته. مما يتطلب معه قارئا مجتهدا من نوع خاص يستطيع، فضلا عن البحث في مستويات الدلالة والحكاية، تأمل طريقة الترصيص والبناء. وتتمثل رهانات التجريب في النص عبر المستويات والتجليات التالية:
تفتيت النص:
لا يتبنى النص أسلوبا كرونولوجيا تراتبيا جاهزا كما اعتدنا في البنية السردية التقليدية، بل خلخل بنية النص، عبر مراحل. وقد عبرت الروائية عن ذلك من خلال التعاقد الذي أبرمته مع القارئ، عبر البيان التمهيدي الذي يشكل ميثاقا للقراءة، توجه بموجبه عملية القراءة التي تصبح لعبة وظيفية تندرج ضمن عملية الكتابة نفسها؛ تقول فيه: «في البدء، كانت هذه الرواية لجدار، ثم انتقلت كتابتها إلى جوزفين، ولأسباب محض فنية، أنجزت العمل باسمي أنا، مع عدم اضطراري لتأكيد واقعية شخصية جدار، وجوزفين، وغيرهما، إلا أنه وقع الاختيار علي لخروج العمل مذيلا باسمي، لكوني الكائن الأكثر واقعية من بين مجموعة الشخصيات في هذه الرواية» ص 11. وما هذا الإعلان سوى تعبير عن الوعي بكواليس التشكل الخطابي للمادة الحكائية وترهيناتها، من أجل التدليل على المختبر السردي التي أنتجت في الطبخة السردية، بين الراوي والكاتب الضمني والكاتب الفعلي.
- تشغيل القارئ على المتن والصوغ الخطابي، إذ إن الروائية تستعين بقدرات القارئ على تحويل المتن وعجن الحكاية من أجل خلق منطق لها. فالمادة تقدم للمتلقي مشوشة مع سبق الإصرار والترصد، وكأن الرواي يمتحن قراءه، ويختبر مدى حنكتهم وانتباههم أثناء القراءة. حيث إن الفصول غير مرتبة وفق البعد الكرونولوجي التتابعي، مما يخلخل البنية الخطية للقراءة التي تصبح متوترة، تستلزم إعادة ترتيبها لتتم عملية استيعاب الحكاية. إذ لا تبدأ الرواية إلا بعد مرور نصف عدد الصفحات على الحكي، وحيث تنتهي الرواية بآخر حدث وهو تفحم جثة حرز، تعلن الروائية أنها قبيل أن تكتب كلمة انتهت طلبن إحدى الراويات- الشخصيات منها الرغبة في سرد ما رأته لتضيء الأحدث، ولتترك نهاية الرواية مفتوحة على الآفاق البعيدة... تقول بعد نهاية الفصل الثاني مخاطبة المتلقي: «يستطيع القارئ الآن، الاسترخاء، من ضجيج الأسماء والأحداث، قبل أن يدخل إلى الفصل الثالث، لأنه بعد أن كان الفصل الأول، هو التعريف بالأسماء أو الأشخاص، وجاء الفصل الثاني للتعريف بالأحداث، سنبدأ في الفصل الثالث بالرواية، وكل ما سبق كان تمهيدا للرواية، التي تبدأ الآن، شدوا الأحزمة، سنقلع في الصفحة التالية» ص 210.
- تضمين المتن إشارات نقدية وملاحظات حول أسلوب الرواية وبنائها وكواليس تشكلها. ولم يكن هذا على هامش الحكي، بل كان صميميا فيه وداخلا في بؤرته، إذ يوازي النقد الحكي في خطين غير متباعدين، ويتم التفكير في تشكل الصياغة الفنية للمتن موازاة مع تطور الأحداث وتناميها وتدفق حبكاتها. وهذا هو ما يدعى في الأدبيات السردية الجديدة بـ«الميتاروائي»، أي أن الروائي يستعرض داخل المتن الحكائي طقوس الكتابة وما يصاحبها من أسباب النزول وحيرة الرواة وما كان يفكر فيه الراوي أثناء عرض مادته السردية، وما حدث له من سوء التوافق مع الراوي. كل هذا متخللا للعمل، مكسرا بنيته، وكأنه نوع من النقد الذاتي للروائي الممارس على تجربته في الكتابة. ويتطلب هذا التوجه من الكاتب خبرة كبيرة وإلماما بمجال السرديات، إذ يفترض فيه أن يكون ناقدا قبل أن يبدع عمله، كما أن العمل الروائي، يصبح في هذه الحال حقلا للتجريب.
بالرغم من كون شخصية حرز أول ما ابتدأت بها الرواية، وهي تلاقي مصيرا دراماتيكيا مؤلما، حيث احترقت جثتها تماما بفعل اشتعال عقب السيجارة في القش، فإنه يُمكن القول إن “أرض” هي الشخصية الأساسية في النص. وتقابلها في الجانب الآخر شخصية “إغماء”. فأرض، التي أنجبت خمساً وعشرين ابناً في ثلاثة عشر ولادة ضمت في كل ولادة طفلين، وفي المرة الأخيرة طفلاً واحداً، كانت قابلتها أثناء الولادة أفعى لديها شعر يغطي غرفة كبيرة، تملك صفات وقدرات خارقة فوق العادة، في شفاء المرضى ومعرفة المصائر وإحياء الأموات ومحادثة الحيوانات. وتبرز في الجانب المعاكس لإغماء، زوجة ابنها “عناد”، التي استخلصها “جنيّ” لنفسه زوجة وأنجب منها ابنها الوحيد “حرز”، ولا وظيفة لها غير ذلك ما عدا أن تغني أغاني تأسر جميع الناس والحيوانات وتوقفهم عن أعمالهم وحياتهم. وعند انتهائها من الغناء تدخل في حالة الإغماء في الصمت والخروج من الحياة العادية لتعود الحياة والنشاط للكائنات الأخرى. لذلك تبدو هذه الشخصية، شأنها شأن باقي الشخوص، معادلة للعالم السفليّ المضاد لأعمال “أرض» وكائناتها العلويّة.
تبتدئ الرواية بتمدّد القائد الموسيقيّ “حرز” على سرير من القش واحتراقه. ويبقى طوال الرواية مشهد الاحتراق بارزاً. بينما تقوم الروائيّة بنسج حكاياتها في قصّ الحكايات والمصائر للشخصيات بتدخل فني ذكيّ في تقليب زمن الحكايات والشخصيات بين الحاضر أو الماضي أو المستقبل.
وفضلت مها حسن أن تجزئ روايتها إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول يضم التعريف بالأشخاص والثاني يضم التعريف بالأحداث والثالث سمته بداية الرواية، ثم أضافت فصلاً إضافيّاً وملحقين كدليلٍ لأسماء الشخصيات وأبنائها. وهذا كلّه مجرد خداع للقارئ ومكر في التعامل مع لحظة الكتابة. فالرواية تبدأ، بحسب ما رُسم لها في الكتاب، بعد مائتي صفحة!. وما وضعُ ملاحقٍ للأسماء، أو فصول كاملة للحديث عن الشخصيات والأحداث، إلا لعبة من الروائيّة كي ندخل في حالة التسجيل للأحداث كي تبدو حقيقيّة وغير متخيّلة. والكاتبة لم تتوقف عند ذلك. بل أكّدتْ داخل المتن الروائيّ على مسألة غريبة وهي تدخل كاتبتين، هما جدار وجوزفين، في كتابة المخطوطة الأصليّة للرواية، التي اعتمدت في بعض فصولها على دفتر يوميّات لحرز، ثم قامت جوزفين بتسليم المخطوطة ل”مها”، التي يرد اسمها هكذا ككاتبة للنص، كي تشيدها تشييدا أدبيّاً وتختلق لمحكيها حلولاً فنيّة تمكنه من نشر المخطوطة كرواية!! ليس هذا فقط، بل إنها تورد، من حين لحين، تعليقات لجدار وجوزفين، عن حدث ما أو شخصيّة ما، وتضعها بين قوسين دلالة على أنها اجتهاد من الراويين الأولين جدار أو جوزفين، بمعنى أنها لم تتدخل ككاتبة إلا نادرا كي تبرز تدخلات الرواة الآخرين ومدى وظيفية ما يروونه من مسرود على الكتابة.
الرغبة والمكتوب:
داخليا، تبدو الأمور مؤسسة على ذلك الصراع بين الرغبة والمكتوب، هذا التوجه تمثله أرض، وبين معاكسة الأقدار بتدخل الإرادة أو العقل أو العالم السريّ المضاد لها تظل طاحونة السرد تلوي الأحداث وتراكمها مستغلة هذا الصراع الدرامي الرمزي الذي كان وما يزال مستمرا كسؤال فلسفي إلى نهاية العالم... وتمثله إغماء ومَن استغلها من الجان الذين تعاهدوا مع حرز لتغييّر قدره المنحوس. فالصيغة القدرية الأولى التي تهمس بها أرض في أذني أبنائها، وأبنائهم في ما بعد، كما حدث مع حرز، “حذرتك ألا ترتّل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسركَ ويلعنك، يُفتّتكَ فيستحوذ عليك، ولا يكون لكَ منه فرار، فيعدمكَ، وحيداً تموتُ وتشمُّ رائحة رحيلك الأرضُ، ولن ينقذكَ من عذابكَ إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك”. كانت تلك صيغة لتليين المكتوب رغم أنها متيقنة من أنه سيلقى لا محالة، كما والده عناد، مصيراً مرعبا ، ولكنها دأبت على تذكيره بصيغتها الأولى، كما تردد في الرواية مثل موال حزين أو لازمة درامية وببنط غليظ دلالة على استراتيجية المقول فيها وبؤريته، كي ترأف به الأقدار. إذ كان الخوف ملازما لحرز في صغره، بسبب أمه إغماء من جهة، التي كانت تريده أن يكون أنثى.
ثم يأتي الخداع السردي مجدداً، بمقترح ثالث من المؤلفة نفسها وذلك في الصفحة 213: في أن تكون الصيغة الثالثة، الرواية بصيغتها النهائيّة، أكثر قدرة على منحه خلاصاً لم تقدّمه الصيغتان السابقتان.
تستفتح مها حسن متنها الروائي بترتيلة تقول: «حذرتك ألا ترتل هذا النشيد، فيسكن في ذاكرتك، يأسرك ويلعنك، يفتنك فيستحوذ عليك، ولا يكون لك منه فرار، فيعدمك، وحيداً تموت وتشم رائحة رحيلك الأرض، ولن ينقذك من عذابك إلا عيد يأتي في ربيع يتلو رمادك». وهي المقولة التي ستتكرر الترتيلة على مدار المتن الذي تدور فكرته حول الخلق والعدم، كما تحاول الروائية جعل هذه المقولة صيغة ترسم من خلالها طبيعة الرواية وأبطالها المتخيلة بأسمائها وسماتها وعلاقاتها ومجيئها إلى الكون. إذ نلحظ منذ البدء، تتنوع أسماء الشخصيات بين حرز، أرض، طُهر، سماء، سيماء، عناد، شمس، إغماء، حرث، وهناك كائنات أخرى تمارس وظيفتها في عالم الحكي على شاكلة الشخوص الآدمية مثل الأفاعي والكلاب، وتسند لهذه الفواعل غير الآدمية أدوار لا تليق بتكوينها، مما يدل على أن الكاتبة تستلهم أسلوب الحكي الفانطاستيكي والغرائبي، وتصر على أن تمنح لشخصياتها رمزيات ودلالات ترقى بها عن العوامل المعروفة. ومن الأسماء نلحظ هذه السمة، إذ تبدو مقولاتها الاسمية حاملة لدلالات مترادفة أو متنافرة مكرسة بذلك انسجامها مع الطابع الأسطوري للخلق الذي تتأسس عليه فلسفة النص بصفة عامة.
البطل- الضحية:
حرز، الذي هو البطل- الضحية الغائب على مستوى الفعل؛ والدائم الحضور في تراتيل العدم عبر مذكرات الشخوص الأخرى، تدور عليه المرويات والأحاديث والسرود، في حين تبدأ الكاتبة الحكاية بالحديث عن رماد جثته التي احترقت فوق كومة من القش بناء على فعل ذاتي صرف. حرز، هو سليل امرأة اسمها أرض تهيمن على قلعة تغلب على سكانها سمات تتوزع بين الخرافة والأسطورة والدين، ذاك أن الولادات والأعمار والعلاقات والحياة والموت فيها، تتأسس بناء على مقولة أو صيغة تسميها الروائية بــ«تلك الصيغة»؛ وهي في جوهرها عقد داخلي يتواطأ عليه سكان القلعة وتتجسد شيفرته في ما تهمس به الجدة الأولى «أرض». ويمكن اعتبار ترتيلة البداية والتي تتكرر في المتن مثل تلك اللازمة التي تتكرر في الأناشيد والأغاني مُشكلَة، بذلك، جسرا واصلا بين ما يمكن وسمه بالقدر المتمظهر في سلطة الكاتبة الرمزية على عالمها الروائي، وكيفية تحكمها في مصائر الشخوص، وبين ما يمكن اعتباره كونا متخيلا يتأسس على الأساطير والأديان والحكايات الخرافية. ولكي تضمن الروائية الانسجام، في عالمها الروائي، بين ما تتدخل به من هوامش نقدية وتوجيهية للقراءة ولاختياراتها الفنية والخطابية؛ وبين ما يتكفل به الرواة الآخرون، ابتكرت مؤلفين مفترضين لهما تدخلاتهما على هامش النص الأصلي، وهما (جوزفين وجدار).
وتتضح صورة التسلط القدري للرواة على الشخوص من أجل رسم مآسيهم المخزية، بعد قراءة صفحات كثيرة من الرواية حيث تصور الرواية شخصية حرز المتأرجحة بين ضنك الطفولة المقدر والفحولة المكروهة وبين الشك في هويته المهجنة بين الجن والإنس. فهو قبل أن يصبح رجلاً ويتحرر من سخريات عمه «طهر» وقسوة أُمه «إغماء» ومحاولاته المتكررة للتخلص منه والاستخفاف به من قبل غالبية سكان القلعة، يبدو كشخصية مرفوضة نظرا لأصلها غير البشري.
رمزية الأسماء:
يحبل المتن الروائي، بشكل يكاد يكون مفكرا فيه بعناية مبالغ فيها، على الأسماء التي يبلغ عددها حوالي مِائة اسم، بل وتجنح الروائية إلى رصد ملحق لها في نهاية الرواية، وكلّ هذه الشخوص المسماة في الرواية تنحدر من الأم «أرض» ابنة أرضى ويرضى، والأب: «حِرث»، استلهاما لقصة حوّاء وآدم، وينجب هذا الثنائي الأول اثني عشر توْأَماً، في حين يأتي المولود الثالث عشر ذكراً مفرداً «طُهر»، وكأنّه بانفراده بهذه التسمية قد يشكّل ملجأ الخلاص بالنسبة للعائلة التي تحيا في قلعة واحدة. حيث ينفرد بمسكن مستقلّ، ويفكّر بطريقة مغايرة، فيكون بالتالي الولد العاق الوحيد الذي لا يذعن لاستيهامات العائلة حول قدرات أمّه الخارقة «أرض» التي تغدو محجّاً للزوّار كي يتبرّكون بها، ويتبعون أهواءها ورغباتها.
ترد الأسماء بشكل مفكر فيه، حيث يكون الاسم دالاً على مسمى، من حيث المعنى المحال عليه ذهنيا، من خلال بنيته اللسانية فنجد أن دلالة الاسم تبرّر سبب تسمية هذا أو ذاك، أو تعلّق عليها، فيكون الاسم سمة لصاحبه، أو يكون وبَالاً عليه إذا لم يكن مستحقّاً له «حين وُلِد حِرز، ظلّ لعدّة أسابيع دون اسم، إذ لم تكن اسمه تستطيع إدراك أهمّيّة الاسم في حياة الإنسان، ولم يكن أبوه مهتمّاً بتسميته، لأنّه بإدراكه لأهمّيّة الاسم، لم يشأ المساهمة في تحديد هذا الكائن الذي لم يعرف مصدره، فهو إن أطلق عليه اسماً سيّئاً، حبس الولد فيه، وقد يكون ابنه، أمّا لو أطلق عليه اسماً هامّاً، فقد يسبغ عليه صفات لا يستحقّها مَن هو ليس بابنه....».. «فهمست في أذنه: أسمّيك حرز، لأحميك باسمك، من الوقع في أسر ما أسِرّ لي، إلى أنّه سيقع عليك، سوف تنسى ما قلته لك، وتتذكّر فقط أنّ اسمك هو حِرز..». ص31.
فلكل اسم دلالة ملازمة في شقها اللسني المبثوث بعناية، ولكل منها دلالته الرمزية في علاقته التوافقية أو التنافرية مع باقي الأسماء الأخرى. فحرز هو ذاك المحروس والمحمي من طرف جني يفترض أن يكون والده، وحرث هو الزوج لدلالة مذكورة في النص القرآني «نساؤكم حرث لكم» وأرض امرأة خلقت لتكون حرثا لرجل ذكر يدعى حرث. والأرض هنا أيضا تحمل رمزية الخصوبة والعطاء، وفيها سيزرع حرث بذوره لتتشكل السلالة القادمة. أما طهر فرمز للطهارة بناء على تفكيك شفراته اللغوية وبالعودة إلى القواميس التي اشتغلت، بدون شك، عليها الروائية. في حين أن ذاكرة سميت بذلك لقوة ذاكرتها، لذلك فوحدها تكفلت بحفظ الصيغة السر التي تهيكل ؟أقدار الناس في القلعة. وهكذا دواليك، فكل اسم شخصية، فضلا عن كون بنيته اللسنية القاموسية والمعجمية تدعم قضية الدلالة فيه، تجد، في المتن الروائي، تبريرا لها، وكأن الراوية منحت لكل شخصية اسمها انطلاقا من الوظيفة التي تتكفل بها في المحكي الروائي. وبما أن الرواية اتكأت كثيرا على السند الأسطوري، إذ هي تبني الأسطورة ولا تستلهمها تامة من المرجعيات القديمة، فللشخوص امتداد في بنية هذه الأساطير، حيث إنه ليس هناك آمر اعتباطي في العالم الروائي.
❍ ناقد وقاص من المغرب
samedi 16 avril 2011
التغير قادم ولن يبقي سدنة الهيكل الثقافي!
الكاتبة السورية مها حسن: التغير قادم ولن يبقي سدنة الهيكل الثقافي!
عناية جابر
2010-12-14
مها حسن روائية سورية تقيم في فرنسا وتنشر أعمالها في بعض الصحف والمواقع العربية. صدر لحسن رواية جديدة عن دار 'رياض نجيب الرّيس' تحت عنوان:'حبل سرّي' أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة الـ'بوكر' العربية، كما لحسن أعمال من قبل منعت في سورية منذ سنة 2000. ' حبل سريّ تحكي تناقضات الحياة في سورية وفرنسا من خلال قصة أم وابنتها ، وعنها كان هذا الحديث:
* متى بدايات تعرّفك بالقراءة ثم الكتابة، كيف دخلت عالم الأدب وما هي الظروف التي قادتك اليه؟
* نشأت في بيئة شفهية، ليس للكتاب فيها أي حضور. باعتباري الولد البكر، كنت أول من يذهب إلى المدرسة، ويُدخل الكتاب 'المدرسي' إلى المنزل. بعد كتب المدرسة، أصبحت المناشير السياسية هي أول وجود مدون.
دخلت الكتابة من باب السياسة. نشأتي في بيئة سياسية، قادتني باكرا إلى قراءات عالمية، ولو أنها انحصرت في كتيبات سياسية صغيرة، قادتني إلى التعرف على جذور الفكر اليساري، فرحت أقرأ ماركس وإنغلز، وبعض الكتب والروايات المنبثقة من الخط ذاته. بدايات قراءتي كانت مع الأدب الروسي. قرأت مكسيم غوركي باكرا، وإيتماتوف، وليرمنتوف وغيرهم. كان حلم والدي الذي رسمه لي، دراسة الاقتصاد السياسي في روسيا، ولم أفهم آنذاك، الرابط بين الاقتصاد والسياسة. إلا أنني أشعر دوما بالامتنان للسياسة التي فتحت لي أبواب الثقافة، لأن نشأتي وسيرتي، لولا الصُدف السياسية، تؤهلني، مثل بقية بنات العائلة، للذهاب إلى منزل الزوجية التقليدي أو الانخراط في نضال سياسي طوباوي. السياسة فتحت أبواب القراءة أمامي، حيث اكتشفت متعتي أمام الفكر، الذي راح يشدني بالتدريج نحو عالمه، فرحت أقرأ خارج الإطار المفترض، أي خارج الدائرة الماركسية أو الروسية. اكتشفت نيتشه باكرا، ثم رحت إلى هيغل، مرجعية ماركس، وجاء سارتر كفيلسوف أولا، وككاتب تاليا، ليُحدث انقلابا في مساري الذهني.
اكتشافي للوجودية كان أهم ما وقع لي، اكتشاف لم يقترحه عليّ أحد، لم يتدخل به أحد، اكتشاف خاص بي، حقيقي وجوهري. ومن هنا كان انفصالي السياسي، رغم الهجوم الحاد، الذي كنت أضعف من تحمله، في سن الطفولة تقريبا 'خمس عشرة أو ست عشرة سنة' حيث اتهمت بالعمالة لليمين البورجوازي، كان اليسار يعتبر سارتر مفكرا بورجوازيا معاديا للشعب!... وهكذا رحت نحو الفكر والأدب وابتعدت عن السياسة كإطار حزبي تقليدي، دون أن أهجر الهمّ السياسي الذي لا يمكن لأي مواطن في العالم العربي، وفي الغرب أيضا، العيش بمعزل عنه.
* ثمة خط من الإلتزام السياسي واضح في روايتك، ألا يُعيق هذا حرية الرواية؟
* هذا الجواب مرتبط بالسابق، لأنني ولدت في بيئة سياسية. مع أنني لست مع أدلجة الأدب، ولا أؤمن بالوظيفة الاجتماعية له، ولكن كل قراءاتي المبكرة ركّزت على الإنسان، لا بل على المكانة المثالية التي يستحقها الإنسان في الطبيعة، وفي العلاقة مع الإله ...من الطبيعي أن أنحاز إلى هذا الإنسان، وإلى المرأة خصوصا، لأنني فوجئت باكرا، أو صُدمت بالازدواجية الاجتماعية، حيث المرأة رفيقة وشريكة في السياسة، إلا أنها تتحول إلى 'دمية' أو 'جارية' أو'محظية' في المنزل. أعتقد أن جذوة غضبي المستمرة من الأوضاع المهينة التي تحياها المرأة في الشرق، عبر جرائم الشرف أولا، وانتهاءً بكل ممارسات العنف اليومية التي تمارس على المرأة، أجبرتني، بشكل غير مقصود ربما، على الانحياز الحقوقي، أكثر منه سياسيا، نحو الطرف الأضعف، الإنسان المهمش والغائب، والمرأة خاصة.
* هل من تأثرات في قراءاتك وكتابتك بكتّاب أجانب، انت التي تعيشين في باريس كما هو معروف، ومفتوحة قراءاتك على عوالم شاسعة ورحبة؟
* لم يمضِ على إقامتي الفرنسية زمن كاف لنتحدث عن التأثر، أنا أقرأ بالعربية، وأتذوق القراءة بهذه اللغة، ولم أصل بعد إلى متعة القراءة بالفرنسية. لهذا فأنا لم أتأثر بأي كاتب فرنسي بسبب عيشي في فرنسا، ولكن يمكن القول بأنني تأثرت بطريقة التفكير الغربية باكرا. تعرفين أن الغرب يمجّد الحريات عبر الكتابة والأدب، من يقرأ الأدب الغربي باكرا، أو حتى الدراسات الفكرية، دون قصد منه ـ لا أحب كلمة لاوعي ـ يتشبّع بمواقف وأفكار الحريات. لقد قرأت كولن ولسون مثلا في سن العشرينيات، كتابه الذي التف حوله المثقفين العرب في فترة الستينيات والسبعينيات، وتأثروا بنموذج المثقف اللامنتمي، وكذلك الأفكار البوهيمية التي جاءتنا من الغرب... كل هذا أثر فيّ باكرا، وخلق بداخلي مساحات من الرفض والبحث المحموم عن الحرية، لهذا فأنا لست متأثرة على صعيد الشكل، ولكنني على صعيد البناء الفكري، أنتمي لهذه الأفكار، التي تعرفت عليها من الغرب، أفكار الحريات وحقوق الإنسان، الرفض والانتماء أو اللاانتماء.
* هل من طقوس معينة لكتابتك، وما هو المعمار الفني الذي اعتمدته لتظهير عملك على سويته من وجهة نظرك؟
* أشبه الروائي بأنثى الكنغر ـ كنت ولا زلت معجبة جدا بهذا الكائن ـ حيث تضع أطفالها في جرابها. تذهلني هذه العلاقة المحتشدة بالحب والحنان والاحتواء، إلى درجة الالتصاق وفقدان الاستقلالية، كذلك يفعل الروائي بشخوصه وأحداث رواياته. ربما تنولد فكرة الرواية الرئيسية مثل الشعر، كحالة ومضة، أما بناؤها فيتم وفق حالة 'كنغرية' بحيث لا يكف الروائي عن الكتابة، في جميع مراحل يومه، الفرح، الحزن، المشاهدات ... مثلا، كلما نظرت إلى وجوه الناس حولي، أولئك الذين أعرفهم، وعلى الأخص الذين لا أعرفهم، أتخيلهم شخوصا قادمة، أو مشاريع مؤجلة في رواياتي. هكذا أعيش الكتابة، أضع العالم الذي أحياه، بكل تفاصيله، نشرات الأخبار، علاقاتي الاجتماعية، صداقاتي المتميزة، إحباطاتي، قراءاتي، أحلام اليقظة التي تغذي كثيرا كتابتي، كوابيسي الليلية التي ترافقني كثيرا إلى درجة الاحتلال لوعيي، رغباتي، أمزجتي، مخاوفي .. أختزن كل شيء في جرابي الروائي، وحين تأتي الومضة الأولى، أكتشف وكأن الرواية موجودة سابقا بداخلي، كانت تحتاج فقط إلى الخيط الأول، الومضة، ثم تنسل لوحدها المخزون المخبأ في الجراب... لوحدها تأتي الشخوص والأحداث ... تكاد تكون مكتوبة، وما عليّ سوى إعارتها أصابعي، لأحولها من وجود مختبئ بداخلي، إلى وجود مادي، مرئي على الشاشة، للأسف أكتب عبر الكمبيوتر...
'حبل سري'، ولدت هكذا، هي أول عمل أكتبه من فرنسا، ويتعلق بالجانب الفرنسي من حياتي. صوفي بيران، تشبهني إلى حد ما، تشبهني ربما كما أحلم لنفسي، حريتها تشبه لهاثي خلف الحرية، لا انتماءها يمثل كثيرا حيرتي في الانتماء، كما لو أنني احتجت لخلق صوفي بيران، لأتحدث عن قلقي من الهوية، ولا انتمائي الذي يربكني، ما بين الأرض الأولى، لا مسقط الرأس، كما يقال، بل موقع السُرة، وبين الأرض الجديدة، أرض الاختيار الناضج. صوفي بارتباكاتها وتقلباتها العاطفية والفكرية وتأرجحها هي أنا. أما باولا، فهي الحلم ربما. الطفل الذي لم أنجبه، وتخيلت وجوده، الطفل الأعقل مني. باولا أنضج من صوفي، هكذا أعتقد ، أنا أؤمن بجيل الأبناء أكثر، لهذا احتجت لباولا، لتحسم قلقي، قلق صوفي، قلق جيلي، نحن الذين اخترنا الضفة الأخرى، ولا تزال مشاعرنا عالقة هناك.
كتبت هذه الرواية بشغف حقيقي. أحببت كل من فيها، سيريل البوهيمي، الذي تعرفت على سيريل يشبهه كثيرا في باريس، آلان الذي أحببته وقسوت عليه، حنيفة الرائعة، التي مزجت فيها عدة نساء أحبهن، هؤلاء أشخاص ينامون في جيبي الروائي، وينهضون ليساعدونني في الكتابة، إنهم مثلي، لديهم رغبة في الاحتجاج والبكاء، معزولون وهامشيون ويخافون، لهذا نحن نكتب، أنا وشخوصي التي ترافقني.
الطقس المهم والرئيسي بالنسبة لنا، أنا شخوصي، هو الوحدة. إنهم يحتاجون إليّ وحدي، ليخرجوا إلى الورق، أو إلى الكيبوورد، لديهم هلع من العالم الخارجي، لا يمكنهم الظهور أمام الآخرين، عليّ أن أستقبلهم بمفردي، حتى نكتب معا، إنها علاقة ممتعة، تماما، كما أنثى الكنغر، أحيا، بحب، باحتواء، بحنان، لا تنحسر أناي ولا تختفي، إلا أمامهم، يلتصقون بي، ويحق لهم إلغائي.
أحب باريس، وأحب بروتانيا، لهذا فالمكان حاضر بقوة في روايتي، من شدة شغفي بالمكان، أكاد أمسك بيد القارئ لأدله على أسماء الشوارع والمقاهي وأسماء الأطباق، هذا ربما أثقل الرواية من وجهة نظر نقدية، لكنني كنت أحاول تعريف القارئ العربي، الذي أبحث عنه، والذي يشبهني، ولا يعرف باريس، أحاول العبور به إلى باريس، عبر روايتي، وبالعكس، كنت راغبة في تعريف الفرنسي، الذي أعيش معه، بالمكان الذي وقعت فيه سُرتي. لكنني لم أتمكن من خيانته، عبر تقديم أرض نشأتي على أنها بلاد الحب والشمس، كنت بحاجة لأصدق معه، فلا أزوّر، وجدتني أحدثه عن الفساد السياسي، عن قمع النساء، عن مداهنة المثقفين... ليس الأمر بيدي، وليس خيارا قصديا، إنها معاناة الناس الذين يعيشون بداخلي، الذين أرتطم بهم كيفما تحركت، هم الذين يكتبون، إنهم يستعملونني للظهور، هذا جنون ربما، ولكن من قال إن الكتابة الإبداعية ممارسة عاقلة!
* ما رأيك بالمشهد الثقافي العام في العالم العربي، وهل تتابعين إصدارات الشباب ومن يعجبك؟
* أكره النق كثيرا، مع أن المشهد الحالي لا يدعو إلى الكثير من التفاؤل، إلا أنني مؤمنة بالتغيير، ثمة ديالكتيك منطقي يقود حركة الكون، لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، ثمة جهود تُبذل، وثمة أشخاص يعترضون على سيرورة المشهد الحالي، وثمة انقلابات لا بد منها. نحن في زمن العولمة، أصبح من السهل الإطلاع على تجارب الآخرين أينما كانت، هذا الانفتاح الهائل على العالم، والثورات التكنولوجية، تخلق فضاءات أمام المثقفين المبعدين. الزمن القادم سينصف هؤلاء، لن يبقى الكبار وأرباب الكتابة سدنة الهيكل الثقافي، نحن مجبرون على التغيير وقبول الآخر، ولكنها قضية وقت، وقت ليس طويل. المشهد العام تحبكه العلاقات والمصالح، ثمة استثناءات طبعا، إن خليت خربت. مشكلة الثقافة هي تبعيتها السياسية، لولا أدلجة الثقافة، وربطها بمنابر ومصالح شخصيات وأحزاب، لكنا بخير، أظن أن عملية التغيير متساوية، بين السياسي والثقافي، فالاستبداد السياسي يخلق استبدادا ثقافيا، وبالعكس، التغيير السياسي والتوجهات الديمقراطية، تخلق أنماطا إبداعية متطورة ومتحررة ومغايرة.
أتابع كل ما يصدر، وفق إمكانياتي المكانية. للأسف، إن مصدري الوحيد لمتابعة الإصدارات هو الصحافة العربية. لأنني لا أعيش في مدينة عربية، أستطيع فيها اللقاء بالمثقفين والكتاب والإطلاع على الحركة الثقافية اليومية. أحتاج لوسيط، هو الصحافة. أنا معجبة جدا بالحراك الثقافي، الذي اكتشفته في وقت متأخر، في المغرب العربي. أكاد أكون مبهورة بجدية المثقف المغربي. لا أعرف أن كان النظام الملكي، يهيئ لخلق ثقافة غير مأسورة أو خائفة أو مبددة بسبب الاهتزاز السياسي. معجبة جدا بالصحافة اللبنانية، رغم عدم الاستقرار السياسي، لكن ثمة 'حريات' وإن كانت نسبية، لكنها تكاد تكون مطلقة لو قارناها بباقي أرجاء العالم العربي.
معجبة أيضا بالتجريب الروائي المصري، التجارب الجديدة للكتاب الجُدد. ثمة في مصر شباب متمردون، مع أني لا أحب اللفظة، ولكنهم قادرون على قلب الطاولة. لا أستطيع تسمية تجربة بعينها، لأنها لا تزال تجارب في بدايات الطريق، نحتاج، كما أعتقد، إلى بعض الزمن، لتأكيد جدية هذه التجارب، أو ربما آنيتها، وابتعادها، وهذا طبعا ما لا أرجوه. إضافة إلى عدم إلمامي بجميع تفاصيل المشهد الإبداعي، خاصة بتجارب المغرب العربي والخليج العربي، وهذا ما يجعل أحكامي ناقصة.
عناية جابر
2010-12-14
مها حسن روائية سورية تقيم في فرنسا وتنشر أعمالها في بعض الصحف والمواقع العربية. صدر لحسن رواية جديدة عن دار 'رياض نجيب الرّيس' تحت عنوان:'حبل سرّي' أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة الـ'بوكر' العربية، كما لحسن أعمال من قبل منعت في سورية منذ سنة 2000. ' حبل سريّ تحكي تناقضات الحياة في سورية وفرنسا من خلال قصة أم وابنتها ، وعنها كان هذا الحديث:
* متى بدايات تعرّفك بالقراءة ثم الكتابة، كيف دخلت عالم الأدب وما هي الظروف التي قادتك اليه؟
* نشأت في بيئة شفهية، ليس للكتاب فيها أي حضور. باعتباري الولد البكر، كنت أول من يذهب إلى المدرسة، ويُدخل الكتاب 'المدرسي' إلى المنزل. بعد كتب المدرسة، أصبحت المناشير السياسية هي أول وجود مدون.
دخلت الكتابة من باب السياسة. نشأتي في بيئة سياسية، قادتني باكرا إلى قراءات عالمية، ولو أنها انحصرت في كتيبات سياسية صغيرة، قادتني إلى التعرف على جذور الفكر اليساري، فرحت أقرأ ماركس وإنغلز، وبعض الكتب والروايات المنبثقة من الخط ذاته. بدايات قراءتي كانت مع الأدب الروسي. قرأت مكسيم غوركي باكرا، وإيتماتوف، وليرمنتوف وغيرهم. كان حلم والدي الذي رسمه لي، دراسة الاقتصاد السياسي في روسيا، ولم أفهم آنذاك، الرابط بين الاقتصاد والسياسة. إلا أنني أشعر دوما بالامتنان للسياسة التي فتحت لي أبواب الثقافة، لأن نشأتي وسيرتي، لولا الصُدف السياسية، تؤهلني، مثل بقية بنات العائلة، للذهاب إلى منزل الزوجية التقليدي أو الانخراط في نضال سياسي طوباوي. السياسة فتحت أبواب القراءة أمامي، حيث اكتشفت متعتي أمام الفكر، الذي راح يشدني بالتدريج نحو عالمه، فرحت أقرأ خارج الإطار المفترض، أي خارج الدائرة الماركسية أو الروسية. اكتشفت نيتشه باكرا، ثم رحت إلى هيغل، مرجعية ماركس، وجاء سارتر كفيلسوف أولا، وككاتب تاليا، ليُحدث انقلابا في مساري الذهني.
اكتشافي للوجودية كان أهم ما وقع لي، اكتشاف لم يقترحه عليّ أحد، لم يتدخل به أحد، اكتشاف خاص بي، حقيقي وجوهري. ومن هنا كان انفصالي السياسي، رغم الهجوم الحاد، الذي كنت أضعف من تحمله، في سن الطفولة تقريبا 'خمس عشرة أو ست عشرة سنة' حيث اتهمت بالعمالة لليمين البورجوازي، كان اليسار يعتبر سارتر مفكرا بورجوازيا معاديا للشعب!... وهكذا رحت نحو الفكر والأدب وابتعدت عن السياسة كإطار حزبي تقليدي، دون أن أهجر الهمّ السياسي الذي لا يمكن لأي مواطن في العالم العربي، وفي الغرب أيضا، العيش بمعزل عنه.
* ثمة خط من الإلتزام السياسي واضح في روايتك، ألا يُعيق هذا حرية الرواية؟
* هذا الجواب مرتبط بالسابق، لأنني ولدت في بيئة سياسية. مع أنني لست مع أدلجة الأدب، ولا أؤمن بالوظيفة الاجتماعية له، ولكن كل قراءاتي المبكرة ركّزت على الإنسان، لا بل على المكانة المثالية التي يستحقها الإنسان في الطبيعة، وفي العلاقة مع الإله ...من الطبيعي أن أنحاز إلى هذا الإنسان، وإلى المرأة خصوصا، لأنني فوجئت باكرا، أو صُدمت بالازدواجية الاجتماعية، حيث المرأة رفيقة وشريكة في السياسة، إلا أنها تتحول إلى 'دمية' أو 'جارية' أو'محظية' في المنزل. أعتقد أن جذوة غضبي المستمرة من الأوضاع المهينة التي تحياها المرأة في الشرق، عبر جرائم الشرف أولا، وانتهاءً بكل ممارسات العنف اليومية التي تمارس على المرأة، أجبرتني، بشكل غير مقصود ربما، على الانحياز الحقوقي، أكثر منه سياسيا، نحو الطرف الأضعف، الإنسان المهمش والغائب، والمرأة خاصة.
* هل من تأثرات في قراءاتك وكتابتك بكتّاب أجانب، انت التي تعيشين في باريس كما هو معروف، ومفتوحة قراءاتك على عوالم شاسعة ورحبة؟
* لم يمضِ على إقامتي الفرنسية زمن كاف لنتحدث عن التأثر، أنا أقرأ بالعربية، وأتذوق القراءة بهذه اللغة، ولم أصل بعد إلى متعة القراءة بالفرنسية. لهذا فأنا لم أتأثر بأي كاتب فرنسي بسبب عيشي في فرنسا، ولكن يمكن القول بأنني تأثرت بطريقة التفكير الغربية باكرا. تعرفين أن الغرب يمجّد الحريات عبر الكتابة والأدب، من يقرأ الأدب الغربي باكرا، أو حتى الدراسات الفكرية، دون قصد منه ـ لا أحب كلمة لاوعي ـ يتشبّع بمواقف وأفكار الحريات. لقد قرأت كولن ولسون مثلا في سن العشرينيات، كتابه الذي التف حوله المثقفين العرب في فترة الستينيات والسبعينيات، وتأثروا بنموذج المثقف اللامنتمي، وكذلك الأفكار البوهيمية التي جاءتنا من الغرب... كل هذا أثر فيّ باكرا، وخلق بداخلي مساحات من الرفض والبحث المحموم عن الحرية، لهذا فأنا لست متأثرة على صعيد الشكل، ولكنني على صعيد البناء الفكري، أنتمي لهذه الأفكار، التي تعرفت عليها من الغرب، أفكار الحريات وحقوق الإنسان، الرفض والانتماء أو اللاانتماء.
* هل من طقوس معينة لكتابتك، وما هو المعمار الفني الذي اعتمدته لتظهير عملك على سويته من وجهة نظرك؟
* أشبه الروائي بأنثى الكنغر ـ كنت ولا زلت معجبة جدا بهذا الكائن ـ حيث تضع أطفالها في جرابها. تذهلني هذه العلاقة المحتشدة بالحب والحنان والاحتواء، إلى درجة الالتصاق وفقدان الاستقلالية، كذلك يفعل الروائي بشخوصه وأحداث رواياته. ربما تنولد فكرة الرواية الرئيسية مثل الشعر، كحالة ومضة، أما بناؤها فيتم وفق حالة 'كنغرية' بحيث لا يكف الروائي عن الكتابة، في جميع مراحل يومه، الفرح، الحزن، المشاهدات ... مثلا، كلما نظرت إلى وجوه الناس حولي، أولئك الذين أعرفهم، وعلى الأخص الذين لا أعرفهم، أتخيلهم شخوصا قادمة، أو مشاريع مؤجلة في رواياتي. هكذا أعيش الكتابة، أضع العالم الذي أحياه، بكل تفاصيله، نشرات الأخبار، علاقاتي الاجتماعية، صداقاتي المتميزة، إحباطاتي، قراءاتي، أحلام اليقظة التي تغذي كثيرا كتابتي، كوابيسي الليلية التي ترافقني كثيرا إلى درجة الاحتلال لوعيي، رغباتي، أمزجتي، مخاوفي .. أختزن كل شيء في جرابي الروائي، وحين تأتي الومضة الأولى، أكتشف وكأن الرواية موجودة سابقا بداخلي، كانت تحتاج فقط إلى الخيط الأول، الومضة، ثم تنسل لوحدها المخزون المخبأ في الجراب... لوحدها تأتي الشخوص والأحداث ... تكاد تكون مكتوبة، وما عليّ سوى إعارتها أصابعي، لأحولها من وجود مختبئ بداخلي، إلى وجود مادي، مرئي على الشاشة، للأسف أكتب عبر الكمبيوتر...
'حبل سري'، ولدت هكذا، هي أول عمل أكتبه من فرنسا، ويتعلق بالجانب الفرنسي من حياتي. صوفي بيران، تشبهني إلى حد ما، تشبهني ربما كما أحلم لنفسي، حريتها تشبه لهاثي خلف الحرية، لا انتماءها يمثل كثيرا حيرتي في الانتماء، كما لو أنني احتجت لخلق صوفي بيران، لأتحدث عن قلقي من الهوية، ولا انتمائي الذي يربكني، ما بين الأرض الأولى، لا مسقط الرأس، كما يقال، بل موقع السُرة، وبين الأرض الجديدة، أرض الاختيار الناضج. صوفي بارتباكاتها وتقلباتها العاطفية والفكرية وتأرجحها هي أنا. أما باولا، فهي الحلم ربما. الطفل الذي لم أنجبه، وتخيلت وجوده، الطفل الأعقل مني. باولا أنضج من صوفي، هكذا أعتقد ، أنا أؤمن بجيل الأبناء أكثر، لهذا احتجت لباولا، لتحسم قلقي، قلق صوفي، قلق جيلي، نحن الذين اخترنا الضفة الأخرى، ولا تزال مشاعرنا عالقة هناك.
كتبت هذه الرواية بشغف حقيقي. أحببت كل من فيها، سيريل البوهيمي، الذي تعرفت على سيريل يشبهه كثيرا في باريس، آلان الذي أحببته وقسوت عليه، حنيفة الرائعة، التي مزجت فيها عدة نساء أحبهن، هؤلاء أشخاص ينامون في جيبي الروائي، وينهضون ليساعدونني في الكتابة، إنهم مثلي، لديهم رغبة في الاحتجاج والبكاء، معزولون وهامشيون ويخافون، لهذا نحن نكتب، أنا وشخوصي التي ترافقني.
الطقس المهم والرئيسي بالنسبة لنا، أنا شخوصي، هو الوحدة. إنهم يحتاجون إليّ وحدي، ليخرجوا إلى الورق، أو إلى الكيبوورد، لديهم هلع من العالم الخارجي، لا يمكنهم الظهور أمام الآخرين، عليّ أن أستقبلهم بمفردي، حتى نكتب معا، إنها علاقة ممتعة، تماما، كما أنثى الكنغر، أحيا، بحب، باحتواء، بحنان، لا تنحسر أناي ولا تختفي، إلا أمامهم، يلتصقون بي، ويحق لهم إلغائي.
أحب باريس، وأحب بروتانيا، لهذا فالمكان حاضر بقوة في روايتي، من شدة شغفي بالمكان، أكاد أمسك بيد القارئ لأدله على أسماء الشوارع والمقاهي وأسماء الأطباق، هذا ربما أثقل الرواية من وجهة نظر نقدية، لكنني كنت أحاول تعريف القارئ العربي، الذي أبحث عنه، والذي يشبهني، ولا يعرف باريس، أحاول العبور به إلى باريس، عبر روايتي، وبالعكس، كنت راغبة في تعريف الفرنسي، الذي أعيش معه، بالمكان الذي وقعت فيه سُرتي. لكنني لم أتمكن من خيانته، عبر تقديم أرض نشأتي على أنها بلاد الحب والشمس، كنت بحاجة لأصدق معه، فلا أزوّر، وجدتني أحدثه عن الفساد السياسي، عن قمع النساء، عن مداهنة المثقفين... ليس الأمر بيدي، وليس خيارا قصديا، إنها معاناة الناس الذين يعيشون بداخلي، الذين أرتطم بهم كيفما تحركت، هم الذين يكتبون، إنهم يستعملونني للظهور، هذا جنون ربما، ولكن من قال إن الكتابة الإبداعية ممارسة عاقلة!
* ما رأيك بالمشهد الثقافي العام في العالم العربي، وهل تتابعين إصدارات الشباب ومن يعجبك؟
* أكره النق كثيرا، مع أن المشهد الحالي لا يدعو إلى الكثير من التفاؤل، إلا أنني مؤمنة بالتغيير، ثمة ديالكتيك منطقي يقود حركة الكون، لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، ثمة جهود تُبذل، وثمة أشخاص يعترضون على سيرورة المشهد الحالي، وثمة انقلابات لا بد منها. نحن في زمن العولمة، أصبح من السهل الإطلاع على تجارب الآخرين أينما كانت، هذا الانفتاح الهائل على العالم، والثورات التكنولوجية، تخلق فضاءات أمام المثقفين المبعدين. الزمن القادم سينصف هؤلاء، لن يبقى الكبار وأرباب الكتابة سدنة الهيكل الثقافي، نحن مجبرون على التغيير وقبول الآخر، ولكنها قضية وقت، وقت ليس طويل. المشهد العام تحبكه العلاقات والمصالح، ثمة استثناءات طبعا، إن خليت خربت. مشكلة الثقافة هي تبعيتها السياسية، لولا أدلجة الثقافة، وربطها بمنابر ومصالح شخصيات وأحزاب، لكنا بخير، أظن أن عملية التغيير متساوية، بين السياسي والثقافي، فالاستبداد السياسي يخلق استبدادا ثقافيا، وبالعكس، التغيير السياسي والتوجهات الديمقراطية، تخلق أنماطا إبداعية متطورة ومتحررة ومغايرة.
أتابع كل ما يصدر، وفق إمكانياتي المكانية. للأسف، إن مصدري الوحيد لمتابعة الإصدارات هو الصحافة العربية. لأنني لا أعيش في مدينة عربية، أستطيع فيها اللقاء بالمثقفين والكتاب والإطلاع على الحركة الثقافية اليومية. أحتاج لوسيط، هو الصحافة. أنا معجبة جدا بالحراك الثقافي، الذي اكتشفته في وقت متأخر، في المغرب العربي. أكاد أكون مبهورة بجدية المثقف المغربي. لا أعرف أن كان النظام الملكي، يهيئ لخلق ثقافة غير مأسورة أو خائفة أو مبددة بسبب الاهتزاز السياسي. معجبة جدا بالصحافة اللبنانية، رغم عدم الاستقرار السياسي، لكن ثمة 'حريات' وإن كانت نسبية، لكنها تكاد تكون مطلقة لو قارناها بباقي أرجاء العالم العربي.
معجبة أيضا بالتجريب الروائي المصري، التجارب الجديدة للكتاب الجُدد. ثمة في مصر شباب متمردون، مع أني لا أحب اللفظة، ولكنهم قادرون على قلب الطاولة. لا أستطيع تسمية تجربة بعينها، لأنها لا تزال تجارب في بدايات الطريق، نحتاج، كما أعتقد، إلى بعض الزمن، لتأكيد جدية هذه التجارب، أو ربما آنيتها، وابتعادها، وهذا طبعا ما لا أرجوه. إضافة إلى عدم إلمامي بجميع تفاصيل المشهد الإبداعي، خاصة بتجارب المغرب العربي والخليج العربي، وهذا ما يجعل أحكامي ناقصة.
'حبل سري' لمها حسن:الذات وآخرها..
عبد المنعم الشنتوف
2011-01-11
تفترض رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن 'حبل سري' الانفتاح على عوالم ممكنة تتعالق بشكل عضوي بمقصدية سردية تسعى إلى الاحتفاء بالذات وبحثها عن الآخر. ولعل ما يحفزنا على الاحتجاج لهذا الافتراض الحضور القوي لهاته الذات داخل فضاء يتسم بتعدد لافت من حيث تمثيلاته الجغرافية والتاريخية والثقافية.
ويمكننا أن نؤكد ذلك من خلال قراءتنا العميقة للرواية وتأملنا في منطقها السردي ودينامية شخوصها وانتقالها الفيزيقي والثقافي بين الأمكنة والتوظيف الدال للحوار. وسوف نتمثل من خلال الركون إلى القراءة التأويلية أن رهان الكتابة الروائية في هذا النص ينهض على إرادة تأسيس وعي سردي بالمغايرة ينهض على أساس استثمار التجربة الحياتية الخاصة للكاتبة وإبداع مسارات سردية تتقاطع بكيفية دالة مع محطات دالة من هذه التجربة. يبدو جليا من خلال النفاذ إلى العوالم التي تتيحها الرواية إن الكاتبة سعت إلى تكثيف تجربتها الخاصة في الانتقال إلى فضاء الآخر واستبطان عوالمه ورؤاه إلى العالم وتجريب فكرة الاختلاف والتعدد على محك المعاش والعلاقات الفيزيقية وليس على أساس الاستيهام.
راهنت الرواية من خلال التنويع الهائل من الشخصيات والفضاءات التي تتوزع بين حلب وقرية عفرين وباريس ومختلف فضاءاتها على رسم مسارات سردية تتوازى وتتقاطع عند رهان أساسي يتمثل في المغايرة واستلزاماتها. بدا واضحا من خلال متابعتنا لهاته المسارات أنها تتأسس على رغبة الذات القادمة من مدينة عربية إلى باريس في تجاوز حالات الهشاشة والتشظي وامحاء الانتماء إلى هوية متسمة بتماسكها وحضورها الإيجابي في التاريخ والجغرافيا. وفي غمرة هذا السعي المحموم تتنفس الذات عبق التعدد الذي يسم باريس وفيض التواريخ والرموز الذي ترشح به فضاءاتها. ثمة في هذا السياق تقابل ضدي بين الأنا والآخر تتضافر قرائن نصية داخل الرواية من أجل تثبيته. بيد أن القارئ سرعان ما سوف يحاط علما مع اطراد قراءته للرواية بأن هذا التضاد المطلق سوف يتوارى مفسحا المجال لما يمكن أن نصفه بأنه تهجين مقصود يستهدف تخصيصا تفكيك مفهوم الهوية المغلقة المتعالية على تأثيرات التاريخ واختلاف الجغرافيات. تتقدم صوفي بيران والحالة هاته باعتبارها شخصية محورية في الرواية وتمثيلا رئيسيا لهذا البحث عن هوية منفلتة ومتشظية. تتحدد السمات المميزة لهذه الشخصية في رفضها الاستقرار في مكان قار وعشقها لقيادة السيارة بسرعة مهولة وعلاقتها الملتبسة بآلان بيران الكاتب الروائي الذي لم يتمكن رغم تفانيه في التسامح والتفهم من أن يحول بينها وبين النهاية المحتومة والمتمثلة في الموت إثر حادثة سير.
يشكل هذا الانتهاء السردي المقصود مفتتح السيرة الصاخبة لشخصية باولا بيران وهي ابنة صوفي بيران من علاقة جنسية عابرة أشبه بالنزوة بسيريل المغامر والأفاق السكير. سوف تقنع صوفي آلان قبيل رحيلها الفاجع بتبني الابنة رسميا، وذلك كي تدفع بفكرة التطابق بينها وبين ابنتها إلى الحدود القصوى. سوف نحاط علما بأن باولا استمرارية لشخصية صوفي وتمثيل آخر لشخصيتها الجانحة نحو المغامرة والبحث الدؤوب عن الهوية. سوف يكون التشديد السردي على شخصيتي حنيفة وشيرين والفروق الحادة بينهما والتقلبات الحياتية والعاطفية التي سوف تعيشانها محفزا للإحاطة علما بدلالات انتقال حنيفة إلى باريس واختيارها اسم صوفي بعد ارتباطها بآلان. تتناسل الشخصيات والأحداث في هذه الرواية المثيرة مفسحة المجال لدينامية سردية آسرة تشي بقدرة الكاتبة على تخصيب متخيلها بتأثير قوة المعاش واللقاء بالآخر.
تتقدم صوفي باعتبارها امتدادا لحنيفة المتمردة والشأن نفسه بالنسبة لباولا التي تمثل كما سبقت الإشارة استمرارية لصوفي. يمكننا أن نفترض والحالة هاته أن الكاتبة تعيد الوصل بما أثبتته على لسان أحد شخوصها من أن السرد فعل نسائي أو أنثوي بامتياز، وهي بهذا الصنيع تذكرنا بشهرزاد ومغامرتها الألفية مع شهريار:
'.. كانت تتنبأ بأن مستقبل الرواية هو للمرأة القادمة من الشرق، لأن الرواية مهارة نسوية. هكذا فكرت صوفي، إن كتابة الرواية تحتاج لمهارة امرأة تجيد التفاصيل... الرواية دقة وبناء وصبر ومتعة سرد. كل هذا تجيده المرأة، وتجيده المرأة الشرقية أكثر من غيرها، فهي موغلة في ثنايا الروح. الرواية روح' (الرواية. ص، 173- 174).
يمكننا أن نتمثل في تطور الأحداث ودينامية الشخصيات وتوظيف الحوار تلكم القدرة على إضفاء البعد الحسي على السرد والاقتراب به من الحياة. يلفي القارئ ذاته أمام تنويع من الروائح وصنوف الطعام والشراب والتعبير الشهوي المتعدد عن الرغبة الجنسية ومختلف لغاتها؛ وهو ما يؤشر بطريقة دالة على تلكم الرغبة في الاحتفاء بالاختلاف والتعدد. تمثل باولا بيران التي تعشق التمثيل المسرحي تجسيدا قويا لهذا البحث اللحوح عن الهوية الذي يرافقه ذلك التوق إلى تجذير قيمة التعدد. والأسئلة التي أرقت صوفي سوف تستمر على امتداد التطور الملحمي لهذه الرواية:
' محكوم عليكم بالتيه أيها الأكراد. إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل، ولا من الخارج. أشعر بقوة دفع في داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي. وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما، ولا أدري خيانة لمن' (الرواية، ص 139).
اختارت الكاتبة الركون إلى منطق الصدفة كي تتيح تبريرا سرديا لعودة باولا إلى سورية بحثا عن أصول أمها صوفي. سوف تلتقي في أحد مقاهي ساحة الباستيل بامرأة يصاحبها شاب وسيم، ولن تتأخر في الإحاطة علما بعد شعور قوي بالانجذاب بأن المرأة كردية واسمها حنيفة جاءت من حلب إلى باريس بغرض الاستشفاء من داء السرطان. كان الشبه القوي بين المرأة وصورة صوفي الراحلة مفتتح علاقة قوية سوف نحاط علما خلالها بأن حنيفة ليست سوى عمة صوفي التي تعهدت بتربيتها بعد طلاق أمها من أبيها. وسوف تستشرف هذه العلاقة ذروتها في الرغبة المحمومة التي سوف تصلها بجوليان الطبيب ذي الأصول الكردية المرافق للعمة، والتي سوف تحملها على اتخاذ قرار السفر إلى سورية سعيا وراء ظلال أمها الراحلة.
سوف تشكل هذه الرحلة الاستكشافية المعكوسة مفتتح عالم ممكن يتجذر داخله التقابل الضدي المشار إليه آنفا بين الذات والآخر. تستقر 'الغرابة' حين تحل باولا بين ظهراني أهل أمها، وتتبدى الفروق الحادة بين عوائد الفتاة القادمة من بلد الحرية وعوائد الأسرة التي تنهل من قيم القدامة وسطوة الذكورة. يمكن للقارئ أن يتلمس في هذا الصدد التناقض الجذري بين الشرق والغرب أو بين الاستبداد والقمع والرؤية الأحادية والوثوقية للأشياء والظواهر والغرب بما هو رديف للحرية والتعدد والاختلاف. تكون هذه العودة إلى جذور الأم مفتتح عالم تتقاطع داخله الذوات والروائح والأحاسيس والصور واللغات المحيلة على الهوية الكردية، بالإضافة إلى قرائن قوية تؤشر على الهجنة وانعدام الصفاء.
لم يشكل شعور 'الغرابة' الذي رافق باولا منذ وصولها إلى سورية عائقا بينها وبين استشراف الألفة بتنويع الفضاءات والثراء اللافت الذي يسم حركة الذوات. سوف تشكل عودتها إلى باريس والرسالة التي توصلت بها من روني والصبوة التي تخلقت من جراء ذلك مدعاة للعودة من جديد إلى سورية والإقامة بها بعد قرارها الارتباط بروني. غير أن شعورها بوطأة الاستبداد الذي يحصي الأنفاس ويذيب الاختلاف في التطابق سوف يحملها على الشعور بالحاجة الملحة إلى الحرية بما هي قيمة:
' تعرضت باولا للكثير من المضايقات، خاصة أثناء التسوق، وهي تستمتع كثيرا بالذهاب إلى سوق الخضرة والفاكهة واللحوم، ولكن ما إن يسمع أحدهم لكنتها، وهي تجيد بعض الكلمات العربية أسماء الخضار على الأقل، حتى تبدأ المضايقات اللفظية، أو التلميحات أو النظرات المشبعة بالرغبة والاشتهاء...لقد كانت سعيدة في بداية حياتها هنا ولكن الضيافة انتهت، وعلى باولا التعامل مع هذا البلد كبلدها... الحياة تختلف حين نكون ضيوفا في مكان ما، عما هي عليه، حين نصبح أبناء المكان. بدأت باولا تشعر بالخوف، وهذا ما لم تعرفه يوما' (الرواية، ص، 458 -459).
يمكن لنا باعتبارنا ذوات ٍ متلقية أن نرى في الشعور بالخوف قرينة دالة على بداية القطيعة مع الشرق باعتباره فضاء يسوده الاستبداد والقتل الدائم للحرية والحق في الاختلاف. تتحول باولا والحالة هاته إلى صورة للغرب بما هو متخيل يقترن بكيفية عضوية بالحرية وتقديس الاختلاف والتعدد. قررت باولا بيران القطيعة مع روني رغم حملها منه واختارت العودة إلى فرنسا. هل يسعنا النظر إلى هذا الاختيار باعتباره اعترافا بفشل رهان المغايرة بما هو إقرار بالحق في الاختلاف والحضور بمعزل عن أي إكراه على التماهي والركون القسري إلى التطابق؟ تمثل العودة النهائية إلى باريس بعد إعلان القطيعة مع روني أو الشرق المستبد اعترافا ضمنيا بافتراض مؤداه إن الغرب فضاء مطلق للحرية والحق في المغايرة الإيجابية. في هذا السياق، إذن، نلمس دلالة هذا المقطع القوي الذي أنهت به الساردة مغامرة باولا في سورية:
'.. صعدت الطائرة وحدها، أحست بقوة يتمها ووحدتها. ما من يد لوحت لها من بعيد. إلا أنها أحست كما لو أن حملا ثقيلا نزل عن كتفيها، فشعرت بتحرر مباغت، وسعادة خفية، رغم مرارة الفراق، حتى إن طفلتها ركلتها من بطنها، فضحكت وقالت لنفسها: الصغيرة تؤنبني على شيء ما.. أو لعلها تشكرني' (الرواية، ص، 477).
لن يعجز القارئ في هذا الخصوص أن يحاط علما بأن الجنين الأنثى الذي اختارت له اسم إلزا وهي امتداد آخر للذات الكردية الباحثة عن الهوية والمغايرة الإيجابية تؤنب أمها باولا على فكرة العودة إلى الشرق المظلم والمستبد أو تشكرها على القطيعة والعودة إلى باريس الأنوار. غير أنني أختلف جذريا مع هذه الرؤية إلى الغرب المتسمة بمثاليتها وإطلاقيتها وتعاليها على تأثيرات وإكراهات التاريخ. ولن أذكر الكاتبة في هذا المعرض بفرنسا التي كانت تتغنى بمبادئ الثورة الفرنسية في الوقت الذي كانت تنشر فيه أطماعها الإمبريالية في المغرب العربي وبقاع أخرى من المعمورة وترغم المواطنين الأصليين على القبول بوضع 'الأهالي'. ويمكنني أن أستدعي في السياق ذاته طروحات فرانز فانون ونظرية إدوارد سعيد عن الشرق الذي أبدعه الغرب والذي يتأسس على الاستيهام وسلطة الأحكام المسبقة الجاهزة، علاوة على إسهامات منظري تيار ما بعد الاستعمار من قبيل هومي بهابها وغاياتري سبيفاك في خصوص هيمنة المركز الأوروبي واستراتيجياته في إرغام الهوامش على الرضا بوضع التابع. لا يمكن على سبيل الختام لباريس أن تشكل فضاء مطلقا للحرية وحماية الحق في الاختلاف ما دامت تلوذ بمنطق الكيل بمكيالين في التعاطي مع حق التعبير عن 'الحضور' وتعلن على سبيل التمثيل الحرب الشاملة على الفنان الفرنسي الخلاسي ديودوني بسبب جرأته في التشكيك في 'المحرقة' والاستغلال المنتظم للوبي الصهيوني في فرنسا من أجل تثبيت انتشاره السرطاني في المجتمع الفرنسي وأجهزة ومؤسسات الدولة. ولن يفوتني أن أذكر بمئات الجزائريين الذين قذفت بهم شرطة باريس في نهر السين، علاوة على ضلوع الدولة الفرنسية على امتداد تاريخها الحديث والمعاصر في حماية الأنظمة المستبدة في المشرق والمغرب العربيين وبعض الأقطار الإفريقية.
أعترف بداهة بحق الذات الكاتبة في التعبير السردي عن رؤيتها الخاصة لمعضلة الهوية الكردية في السياق العربي والعلاقة بالآخر الغربي على وجه التخصيص. ويهمني أن أشدد من جديد على طلاوة السرد والقدرة على إدهاش المتلقي وجعله مشدودا بقوة إلى التطور الملحمي للأحداث علاوة على براعتها في التوظيف الإيجابي لمكونات النوع الروائي وفق دينامية تبتعد عن الركاكة والإسفاف والتمحل، وأثير انتباه المتلقي في هذا الخصوص إلى الحضور النوعي للحوار ودينامية الشخصيات. ولن يسعني رغم هذه المسافة النقدية الضرورية إلا أن أعبر عن إعجابي بالقيمة 'الجمالية' لهذه التجربة السردية الواعدة والمنزلة التي تحظى بها في خارطة السرد العربي.
2011-01-11
تفترض رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن 'حبل سري' الانفتاح على عوالم ممكنة تتعالق بشكل عضوي بمقصدية سردية تسعى إلى الاحتفاء بالذات وبحثها عن الآخر. ولعل ما يحفزنا على الاحتجاج لهذا الافتراض الحضور القوي لهاته الذات داخل فضاء يتسم بتعدد لافت من حيث تمثيلاته الجغرافية والتاريخية والثقافية.
ويمكننا أن نؤكد ذلك من خلال قراءتنا العميقة للرواية وتأملنا في منطقها السردي ودينامية شخوصها وانتقالها الفيزيقي والثقافي بين الأمكنة والتوظيف الدال للحوار. وسوف نتمثل من خلال الركون إلى القراءة التأويلية أن رهان الكتابة الروائية في هذا النص ينهض على إرادة تأسيس وعي سردي بالمغايرة ينهض على أساس استثمار التجربة الحياتية الخاصة للكاتبة وإبداع مسارات سردية تتقاطع بكيفية دالة مع محطات دالة من هذه التجربة. يبدو جليا من خلال النفاذ إلى العوالم التي تتيحها الرواية إن الكاتبة سعت إلى تكثيف تجربتها الخاصة في الانتقال إلى فضاء الآخر واستبطان عوالمه ورؤاه إلى العالم وتجريب فكرة الاختلاف والتعدد على محك المعاش والعلاقات الفيزيقية وليس على أساس الاستيهام.
راهنت الرواية من خلال التنويع الهائل من الشخصيات والفضاءات التي تتوزع بين حلب وقرية عفرين وباريس ومختلف فضاءاتها على رسم مسارات سردية تتوازى وتتقاطع عند رهان أساسي يتمثل في المغايرة واستلزاماتها. بدا واضحا من خلال متابعتنا لهاته المسارات أنها تتأسس على رغبة الذات القادمة من مدينة عربية إلى باريس في تجاوز حالات الهشاشة والتشظي وامحاء الانتماء إلى هوية متسمة بتماسكها وحضورها الإيجابي في التاريخ والجغرافيا. وفي غمرة هذا السعي المحموم تتنفس الذات عبق التعدد الذي يسم باريس وفيض التواريخ والرموز الذي ترشح به فضاءاتها. ثمة في هذا السياق تقابل ضدي بين الأنا والآخر تتضافر قرائن نصية داخل الرواية من أجل تثبيته. بيد أن القارئ سرعان ما سوف يحاط علما مع اطراد قراءته للرواية بأن هذا التضاد المطلق سوف يتوارى مفسحا المجال لما يمكن أن نصفه بأنه تهجين مقصود يستهدف تخصيصا تفكيك مفهوم الهوية المغلقة المتعالية على تأثيرات التاريخ واختلاف الجغرافيات. تتقدم صوفي بيران والحالة هاته باعتبارها شخصية محورية في الرواية وتمثيلا رئيسيا لهذا البحث عن هوية منفلتة ومتشظية. تتحدد السمات المميزة لهذه الشخصية في رفضها الاستقرار في مكان قار وعشقها لقيادة السيارة بسرعة مهولة وعلاقتها الملتبسة بآلان بيران الكاتب الروائي الذي لم يتمكن رغم تفانيه في التسامح والتفهم من أن يحول بينها وبين النهاية المحتومة والمتمثلة في الموت إثر حادثة سير.
يشكل هذا الانتهاء السردي المقصود مفتتح السيرة الصاخبة لشخصية باولا بيران وهي ابنة صوفي بيران من علاقة جنسية عابرة أشبه بالنزوة بسيريل المغامر والأفاق السكير. سوف تقنع صوفي آلان قبيل رحيلها الفاجع بتبني الابنة رسميا، وذلك كي تدفع بفكرة التطابق بينها وبين ابنتها إلى الحدود القصوى. سوف نحاط علما بأن باولا استمرارية لشخصية صوفي وتمثيل آخر لشخصيتها الجانحة نحو المغامرة والبحث الدؤوب عن الهوية. سوف يكون التشديد السردي على شخصيتي حنيفة وشيرين والفروق الحادة بينهما والتقلبات الحياتية والعاطفية التي سوف تعيشانها محفزا للإحاطة علما بدلالات انتقال حنيفة إلى باريس واختيارها اسم صوفي بعد ارتباطها بآلان. تتناسل الشخصيات والأحداث في هذه الرواية المثيرة مفسحة المجال لدينامية سردية آسرة تشي بقدرة الكاتبة على تخصيب متخيلها بتأثير قوة المعاش واللقاء بالآخر.
تتقدم صوفي باعتبارها امتدادا لحنيفة المتمردة والشأن نفسه بالنسبة لباولا التي تمثل كما سبقت الإشارة استمرارية لصوفي. يمكننا أن نفترض والحالة هاته أن الكاتبة تعيد الوصل بما أثبتته على لسان أحد شخوصها من أن السرد فعل نسائي أو أنثوي بامتياز، وهي بهذا الصنيع تذكرنا بشهرزاد ومغامرتها الألفية مع شهريار:
'.. كانت تتنبأ بأن مستقبل الرواية هو للمرأة القادمة من الشرق، لأن الرواية مهارة نسوية. هكذا فكرت صوفي، إن كتابة الرواية تحتاج لمهارة امرأة تجيد التفاصيل... الرواية دقة وبناء وصبر ومتعة سرد. كل هذا تجيده المرأة، وتجيده المرأة الشرقية أكثر من غيرها، فهي موغلة في ثنايا الروح. الرواية روح' (الرواية. ص، 173- 174).
يمكننا أن نتمثل في تطور الأحداث ودينامية الشخصيات وتوظيف الحوار تلكم القدرة على إضفاء البعد الحسي على السرد والاقتراب به من الحياة. يلفي القارئ ذاته أمام تنويع من الروائح وصنوف الطعام والشراب والتعبير الشهوي المتعدد عن الرغبة الجنسية ومختلف لغاتها؛ وهو ما يؤشر بطريقة دالة على تلكم الرغبة في الاحتفاء بالاختلاف والتعدد. تمثل باولا بيران التي تعشق التمثيل المسرحي تجسيدا قويا لهذا البحث اللحوح عن الهوية الذي يرافقه ذلك التوق إلى تجذير قيمة التعدد. والأسئلة التي أرقت صوفي سوف تستمر على امتداد التطور الملحمي لهذه الرواية:
' محكوم عليكم بالتيه أيها الأكراد. إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل، ولا من الخارج. أشعر بقوة دفع في داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي. وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما، ولا أدري خيانة لمن' (الرواية، ص 139).
اختارت الكاتبة الركون إلى منطق الصدفة كي تتيح تبريرا سرديا لعودة باولا إلى سورية بحثا عن أصول أمها صوفي. سوف تلتقي في أحد مقاهي ساحة الباستيل بامرأة يصاحبها شاب وسيم، ولن تتأخر في الإحاطة علما بعد شعور قوي بالانجذاب بأن المرأة كردية واسمها حنيفة جاءت من حلب إلى باريس بغرض الاستشفاء من داء السرطان. كان الشبه القوي بين المرأة وصورة صوفي الراحلة مفتتح علاقة قوية سوف نحاط علما خلالها بأن حنيفة ليست سوى عمة صوفي التي تعهدت بتربيتها بعد طلاق أمها من أبيها. وسوف تستشرف هذه العلاقة ذروتها في الرغبة المحمومة التي سوف تصلها بجوليان الطبيب ذي الأصول الكردية المرافق للعمة، والتي سوف تحملها على اتخاذ قرار السفر إلى سورية سعيا وراء ظلال أمها الراحلة.
سوف تشكل هذه الرحلة الاستكشافية المعكوسة مفتتح عالم ممكن يتجذر داخله التقابل الضدي المشار إليه آنفا بين الذات والآخر. تستقر 'الغرابة' حين تحل باولا بين ظهراني أهل أمها، وتتبدى الفروق الحادة بين عوائد الفتاة القادمة من بلد الحرية وعوائد الأسرة التي تنهل من قيم القدامة وسطوة الذكورة. يمكن للقارئ أن يتلمس في هذا الصدد التناقض الجذري بين الشرق والغرب أو بين الاستبداد والقمع والرؤية الأحادية والوثوقية للأشياء والظواهر والغرب بما هو رديف للحرية والتعدد والاختلاف. تكون هذه العودة إلى جذور الأم مفتتح عالم تتقاطع داخله الذوات والروائح والأحاسيس والصور واللغات المحيلة على الهوية الكردية، بالإضافة إلى قرائن قوية تؤشر على الهجنة وانعدام الصفاء.
لم يشكل شعور 'الغرابة' الذي رافق باولا منذ وصولها إلى سورية عائقا بينها وبين استشراف الألفة بتنويع الفضاءات والثراء اللافت الذي يسم حركة الذوات. سوف تشكل عودتها إلى باريس والرسالة التي توصلت بها من روني والصبوة التي تخلقت من جراء ذلك مدعاة للعودة من جديد إلى سورية والإقامة بها بعد قرارها الارتباط بروني. غير أن شعورها بوطأة الاستبداد الذي يحصي الأنفاس ويذيب الاختلاف في التطابق سوف يحملها على الشعور بالحاجة الملحة إلى الحرية بما هي قيمة:
' تعرضت باولا للكثير من المضايقات، خاصة أثناء التسوق، وهي تستمتع كثيرا بالذهاب إلى سوق الخضرة والفاكهة واللحوم، ولكن ما إن يسمع أحدهم لكنتها، وهي تجيد بعض الكلمات العربية أسماء الخضار على الأقل، حتى تبدأ المضايقات اللفظية، أو التلميحات أو النظرات المشبعة بالرغبة والاشتهاء...لقد كانت سعيدة في بداية حياتها هنا ولكن الضيافة انتهت، وعلى باولا التعامل مع هذا البلد كبلدها... الحياة تختلف حين نكون ضيوفا في مكان ما، عما هي عليه، حين نصبح أبناء المكان. بدأت باولا تشعر بالخوف، وهذا ما لم تعرفه يوما' (الرواية، ص، 458 -459).
يمكن لنا باعتبارنا ذوات ٍ متلقية أن نرى في الشعور بالخوف قرينة دالة على بداية القطيعة مع الشرق باعتباره فضاء يسوده الاستبداد والقتل الدائم للحرية والحق في الاختلاف. تتحول باولا والحالة هاته إلى صورة للغرب بما هو متخيل يقترن بكيفية عضوية بالحرية وتقديس الاختلاف والتعدد. قررت باولا بيران القطيعة مع روني رغم حملها منه واختارت العودة إلى فرنسا. هل يسعنا النظر إلى هذا الاختيار باعتباره اعترافا بفشل رهان المغايرة بما هو إقرار بالحق في الاختلاف والحضور بمعزل عن أي إكراه على التماهي والركون القسري إلى التطابق؟ تمثل العودة النهائية إلى باريس بعد إعلان القطيعة مع روني أو الشرق المستبد اعترافا ضمنيا بافتراض مؤداه إن الغرب فضاء مطلق للحرية والحق في المغايرة الإيجابية. في هذا السياق، إذن، نلمس دلالة هذا المقطع القوي الذي أنهت به الساردة مغامرة باولا في سورية:
'.. صعدت الطائرة وحدها، أحست بقوة يتمها ووحدتها. ما من يد لوحت لها من بعيد. إلا أنها أحست كما لو أن حملا ثقيلا نزل عن كتفيها، فشعرت بتحرر مباغت، وسعادة خفية، رغم مرارة الفراق، حتى إن طفلتها ركلتها من بطنها، فضحكت وقالت لنفسها: الصغيرة تؤنبني على شيء ما.. أو لعلها تشكرني' (الرواية، ص، 477).
لن يعجز القارئ في هذا الخصوص أن يحاط علما بأن الجنين الأنثى الذي اختارت له اسم إلزا وهي امتداد آخر للذات الكردية الباحثة عن الهوية والمغايرة الإيجابية تؤنب أمها باولا على فكرة العودة إلى الشرق المظلم والمستبد أو تشكرها على القطيعة والعودة إلى باريس الأنوار. غير أنني أختلف جذريا مع هذه الرؤية إلى الغرب المتسمة بمثاليتها وإطلاقيتها وتعاليها على تأثيرات وإكراهات التاريخ. ولن أذكر الكاتبة في هذا المعرض بفرنسا التي كانت تتغنى بمبادئ الثورة الفرنسية في الوقت الذي كانت تنشر فيه أطماعها الإمبريالية في المغرب العربي وبقاع أخرى من المعمورة وترغم المواطنين الأصليين على القبول بوضع 'الأهالي'. ويمكنني أن أستدعي في السياق ذاته طروحات فرانز فانون ونظرية إدوارد سعيد عن الشرق الذي أبدعه الغرب والذي يتأسس على الاستيهام وسلطة الأحكام المسبقة الجاهزة، علاوة على إسهامات منظري تيار ما بعد الاستعمار من قبيل هومي بهابها وغاياتري سبيفاك في خصوص هيمنة المركز الأوروبي واستراتيجياته في إرغام الهوامش على الرضا بوضع التابع. لا يمكن على سبيل الختام لباريس أن تشكل فضاء مطلقا للحرية وحماية الحق في الاختلاف ما دامت تلوذ بمنطق الكيل بمكيالين في التعاطي مع حق التعبير عن 'الحضور' وتعلن على سبيل التمثيل الحرب الشاملة على الفنان الفرنسي الخلاسي ديودوني بسبب جرأته في التشكيك في 'المحرقة' والاستغلال المنتظم للوبي الصهيوني في فرنسا من أجل تثبيت انتشاره السرطاني في المجتمع الفرنسي وأجهزة ومؤسسات الدولة. ولن يفوتني أن أذكر بمئات الجزائريين الذين قذفت بهم شرطة باريس في نهر السين، علاوة على ضلوع الدولة الفرنسية على امتداد تاريخها الحديث والمعاصر في حماية الأنظمة المستبدة في المشرق والمغرب العربيين وبعض الأقطار الإفريقية.
أعترف بداهة بحق الذات الكاتبة في التعبير السردي عن رؤيتها الخاصة لمعضلة الهوية الكردية في السياق العربي والعلاقة بالآخر الغربي على وجه التخصيص. ويهمني أن أشدد من جديد على طلاوة السرد والقدرة على إدهاش المتلقي وجعله مشدودا بقوة إلى التطور الملحمي للأحداث علاوة على براعتها في التوظيف الإيجابي لمكونات النوع الروائي وفق دينامية تبتعد عن الركاكة والإسفاف والتمحل، وأثير انتباه المتلقي في هذا الخصوص إلى الحضور النوعي للحوار ودينامية الشخصيات. ولن يسعني رغم هذه المسافة النقدية الضرورية إلا أن أعبر عن إعجابي بالقيمة 'الجمالية' لهذه التجربة السردية الواعدة والمنزلة التي تحظى بها في خارطة السرد العربي.
مها حسن تطرح سؤالاً شائكاً حول الهوية
مها حسن تطرح سؤالاً شائكاً حول الهوية
الجمعة, 21 يناير 2011
إبراهيم فرغلي
Related Nodes:
200104b.jpg
عندما انتهيت من قراءة «حبل سري» للروائية السورية مها حسن، الصادرة عن دار رياض الريس، كنت مفتوناً بالرواية حتى أنني تمنيت، في لحظة افتتاني تلك، التوجه الى مقبرة روائي عظيم مثل دوستويفسكي، وإهداء روحه نسخة من هذا النص.
مبالغة؟ ربما، لكنها في نظري ليست كذلك، فاليوم تشيع مقولات غير دقيقة عن أن الذوق الفردي يحكم قراءة الأعمال الأدبية، وهي مقولة تستحق وقفات عدة، لما تحمل من مغالطات، ليس هنا موضوعها في أي حال.
بين فرنسا والشام تدور وقائع رواية «حبل سُرّي» للروائية السورية مها حسن، جغرافياً، لكنها تتوزع فنياً على مساحة شاسعة من الشخوص، والنماذج البشرية، المرسومة بعناية، لتولد الأفكار التي تنبثق، عبر سلوكيات هؤلاء البشر، وبحثهم عن الهوية ومعنى الوجود.
رحلة فنية ممتعة تصحبنا فيها هذه الرواية، عبر أطراف عدة، تذكرنا بدوستويفسكي في ابتداع بنى رواياته من نماذج وش خصيات عدة؛ تتعدد مشاربهم، ومسارات حياتهم، لكنهم يتقاطعون بصدف وأقدار فنية، تتوزع على امتداد العمل بمهارة، وبطريقة غير مباشرة. وبينما نتأمل تفاصيل سلوكيات هؤلاء الأفراد، ونستمع إلى حواراتهم، وننصت الى أصواتهم الباطنية وهواجسهم ومخاوفهم، تتولد لدينا افكار تتناسل على امتداد الرواية.
وعلى رغم التنوع الكبير بين شخصيات الرواية، فرنسيين أو أكراداً، حلبيين أو فرنسيين من أصل عربي أو كردي، وسواهم، فإن كل شخصية تمتلك السمات والصفات التي تعكس صدقها الفني، من جهة، كما تعكس مدى دقة الكاتبة وعنايتها بالتفاصيل، وعكوفها على البحث في تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات في ما تأكله من أطعمة، وترتديه من أزياء، وما تسمعه من موسيقى، وما تفكر فيه. وكيف ينعكس كل ذلك على سلوكها في الحياة أو بالأحرى كيف يعكس ذلك نمط حياتها.
ثمة معادلة صعبة حققتها الكاتبة في هذا النص عبر امتلاكها لغة رشيقة واضحة يتدفق بها النص، مغوياً القراء، لكن هذه اللغة ذاتها، في تدفقها او انسيابها الذي يعطي إحساساً أكيداً بالسلاسة والانسيابية، وخادعاً بالبساطة، تمنح القارئ موجات من الأفكار العميقة والأسئلة التي تتسرب الى وعيه تارة، أو تلطمه بقسوة تارة أخرى، مع لمسات درامية مشحونة بالعاطفة تتوغل عميقاً في وجدان القارئ، تعكس خبرة الكاتبة السردية التي لا تخطئها العين.
يتنقل النص بين ثقافتين هما الثقافة الغربية عبر الشخصيات التي تعيش في باريس، وبين الشرق ممثلاً في الشخصيات التي تعيش في حلب في سورية، وفي هذا التنقل يطرح سؤال جوهري عن الهوية، ما معناها؟ وما مكونها الحقيقي؟ هل تتكون الهوية مما تشكله ذاكرة زمن محدد، أو مكان، أم من اللغة، أم من وطن مرجعي بعاداته وتراثه؟
تقول صوفي بيران بطلة الرواية: «إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل ولا من الخارج. اشعر بقوة دفع داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي، وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما ولا أدري خيانة لمن».
صوفي بيران الفرنسية، إقامة وزواجاً ولغة، هي في الأساس، كردية اسمها حنيفة كمال، قررت بعد خيبات عدة، بينها قرار الأب، رضوخاً لأمه وشقيقاته، أن يتخلى عنها هي وأمها الكردية ليعيش مع زوجته الأخرى، العربية، وابنتها شيرين (التي تتنازعها وحنيفة علاقة حب وكراهية مدهشة ومتناقضة) وشقيقهما إدريس... قررت أن تخرج وبقوة غضب داخلي لا تخبو نيرانه، من بلدها وتهاجر إلى فرنسا. غيّرت اسمها ولغتها، وعاشت لا تقوى على المكوث في مكان. تقود سيارتها، بسرعة جنونية، من بلدة الى اخرى، ومن شارع الى آخر بلا هدف، تستمع الى الموسيقى وتبكي، وتسأل نفسها عن هويتها.
ومع شخص لا تحبه، وفي لحظة من لحظات حمى الحياة، كانت تهذي بخواطرها عن الهوية، تتفجر الأسئلة التي تؤرق وجودها كله حول معنى هويتها، فيما يقول لها العشيق: «كفّي عن بحثك عن الوطن، الوطن هو أنت، أنظريني، ها أنا فرنسي، ماذا تعني لي فرنسا؟ لا شيء المهم هو أنا وليس الأرض، الوطن هو الانسان، أما الارض فهي مجرد شيء، مكان، ظرف وظيفته تقديمنا. وها انت اخيراً موجودة سواء وجدت كردستان ام لا. كردستان هي انت».
تتوالى أسئلة صوفي عن الوطن، أن يكون للفرد مكان أمر يختلف تماماً عن أن يكون له مكان يقرر هو أنه لا ينتمي اليه إن شاء، أمر مختلف، وأن يكون للفرد مكان يُنتزع منه، كما هو شأن الفلسطينيين، مقابل ألا يكون له مكان ينتزع منه، كأنه يولد مستلب الهوية من الأساس، وما يؤدي إليه ذلك من شعور بأنه بلا شرعية.
إنها الأسئلة الإنسانية التي تخلقها هذه الرواية، وليست الأفكار السياسية، فهي رواية بعيدة كل البعد عن السياسة، وأوهامها وآثامها.
من هذا الشخص، الذي كان ابعد ما يكون عن نموذج الرجل كما تحب، وخصوصاً أبعد ما يكون عن زوجها الفرنسي المتوازن، تنجب صوفي طفلة تحمل ملامحها الجميلة ذاتها، وبزرقة العينين نفسها أيضاً، ثم، ووفقاً لقدر متعثر، تتركها للعالم، يتيمة، وحيدة، بعد ميتة متوقعة لامرأة تقضي ثلثي حياتها على الطرق تقود سيارتها بسرعة قصوى، لكنها لم تكن تقود سيارتها في ذلك الحادث المذهل، بل دراجة نارية تخص زوجها آلان، الكاتب الفرنسي، المتحفظ في مشاعره، الذي يكتب رواية عن صوفي، ويرعى ابنتها في الوقت نفسه، بل ويعاملها كابنته مقدماً نموذجاً فريداً للفرد الليبرالي المتحرر في اكثر صوره إنسانيةً.
وتستكمل ابنتها (باولا) رحلة الأم في البحث عن هويتها، في عالم غربي تنتمي إليه ذهناً وعاطفة ونمط حياة. لكن سيرة أمها تغويها للبحث عن حقيقتها، وبالتالي لتعيد طرح السؤال عن هويتها. لكنها لا تكتفي بالسؤال، بل تتورط في البحث بنفسها عائدة إلى جذور أمها بعد مفارقة مدهشة تجعلها تلتقي بصدفة مذهلة مع جدتها حنيفة، عمة صوفي (أو حنيفة كما عرفت في طفولتها) في باريس. وهذا ما يجعلها تقرر زيارة سورية للتعرف على المجتمع الشرقي ممثلاً في الشام، وفي جذور أمها الثقافية؛ كما يجسدها المجتمع الكردي الذي يعيش في حلب عبر عناصر عدة متنوعة من أفراد ينتمون الى عائلة الأم وقد كبروا وتحولوا، وفق ظروف الحياة وما فعلته بكل منهم، وكل يعبّر عن التغيرات التي لحقت بالمجتمع. وأظنها كانت تحتاج الى رسم توضيحي لشجرة العائلة في بداية الكتاب من فرط تشعبها.
بل إنها تفتتن بمجتمع الشرق، وتقرر الزواج من أحد أصدقاء اطراف العائلة، بعد تأملٍ في حاله وظروفه المختلفة، وتتعرّف على التناقضات التي يمور بها هذا المجتمع الشرقي. هذه التناقضات ستجد فيها غواية ما في البداية، ثم سرعان ما تصبح عبئاً لا تحتمله، حين تقرر العيش في قلب تلك المتناقضات وتكتوي بنيرانها، فتصل إلى ذروة صراعها الفكري والوجودي حول مفهوم الهوية فترى أن الإنسان في النهاية لا يمكن أن يمتلك هوية واحدة وحيدة في مجتمع اليوم المابعد الحداثي. فهو يتعين عليه أن يحمل أكثر من هوية، أو مكوناً من هويات عدة، يسير بها جميعاً بلا تعارض. وهذا ما سنرى ومضات تفسيرية له من حياة اشخاص أُخر، وبينهم احد عشاقها الذين يجدون في فرديتهم هذا التنوع الفريد للهوية.
في رحلة البحث عن الهوية تلك يتكشف لباولا أن هناك «حبلاً سرياً» يربط مصيرها بمصير أمها، وينعكس على مفهومها للهوية في شكل ما. وهذا مستوى من مستوى الدلالات الذي يحمله عنوان هذه الرواية، بينما يحمل مستوى آخر من الدلالات التي قد تجعلنا ننطق كلمة سُري، بكسر السين، ونعيد التأمل في مصائر كل تلك الشخصيات التي رغم تقاطعات حياتها ومصائرها، فإن لكل منها سراً قد لا يعرفه غيره، يعيش ويموت به.
عالم الأسرار في هذه الرواية هو عالم يبدو كأنه سمة أساسية للفرد، أياً كانت ثقافته، إن كان متحفظاً عاجزاً عن التعبير عن مشاعره مثل آلان، أو متحرراً من كل قيود المجتمع مثل العشيق الذي تحرك نوازعه عقد علاقـته بأمه وأبيه، أو شرقياً محافظاً كما الكـثيـر من افراد العائلة، أو متناقضاً كما بعض المثقفين الشرقيين الذين تقدمهم الرواية، وهم كثر، أو مثل باولا نفسها التي تخفي سر حملها وإجهاضها عن والدها الروحي، آلان، وتواجه تجربتها وإجهاضها بنفسها.
وعالم الأسرار هذا عادة ما نجده في النص مقترناً بموضوع ميتافيزيقي يتعلق بالمصير، وقراءة الطالع، والنجوم، وكأن الأسرار، هي مصائر مقدرة سلفاً، قد تؤثر في مسارات حياة الأفراد، أو هي مجرد احتمالات لحيوات لا تكتمل. وقد تكون دلالة وعلامة لدى الفرد، يختلقها الوعي من فرط اهتمامه بسؤال من أسئلة وجوده، وفيها يجد جواباً رمزياً ما عن واحد من أسئلته. وأظن أن هذه المنطقة، التي تبدو أساسية في مصائر أشخاص هذا النص، لها علاقة كبيرة حتى بالالتباس الذي يتولد في السطور الأخيرة من الرواية حين نتوقف أمام احتمالات عدة تقصدها الرواية عما إذا كان ما قرأناه كله رواية الكاتب الفرنسي آلان بيران «الرغبة الأخيرة لصوفي بيران»، أم أحد احتمالات النص. خصوصاً ونحن نرى في الفصل الأول صورة غلاف الرواية في مقعد سيارة صوفي وهي تقرأها كأنها تقرأ فيها مصيرها.
في هذه المنطقة الخاصة، منطقة الأسرار، تستعرض مها حسن قدراتها الفنية في إظهار حساسيتها في فهم التغيرات السلوكية البشرية في لحظات التحول.
الجمعة, 21 يناير 2011
إبراهيم فرغلي
Related Nodes:
200104b.jpg
عندما انتهيت من قراءة «حبل سري» للروائية السورية مها حسن، الصادرة عن دار رياض الريس، كنت مفتوناً بالرواية حتى أنني تمنيت، في لحظة افتتاني تلك، التوجه الى مقبرة روائي عظيم مثل دوستويفسكي، وإهداء روحه نسخة من هذا النص.
مبالغة؟ ربما، لكنها في نظري ليست كذلك، فاليوم تشيع مقولات غير دقيقة عن أن الذوق الفردي يحكم قراءة الأعمال الأدبية، وهي مقولة تستحق وقفات عدة، لما تحمل من مغالطات، ليس هنا موضوعها في أي حال.
بين فرنسا والشام تدور وقائع رواية «حبل سُرّي» للروائية السورية مها حسن، جغرافياً، لكنها تتوزع فنياً على مساحة شاسعة من الشخوص، والنماذج البشرية، المرسومة بعناية، لتولد الأفكار التي تنبثق، عبر سلوكيات هؤلاء البشر، وبحثهم عن الهوية ومعنى الوجود.
رحلة فنية ممتعة تصحبنا فيها هذه الرواية، عبر أطراف عدة، تذكرنا بدوستويفسكي في ابتداع بنى رواياته من نماذج وش خصيات عدة؛ تتعدد مشاربهم، ومسارات حياتهم، لكنهم يتقاطعون بصدف وأقدار فنية، تتوزع على امتداد العمل بمهارة، وبطريقة غير مباشرة. وبينما نتأمل تفاصيل سلوكيات هؤلاء الأفراد، ونستمع إلى حواراتهم، وننصت الى أصواتهم الباطنية وهواجسهم ومخاوفهم، تتولد لدينا افكار تتناسل على امتداد الرواية.
وعلى رغم التنوع الكبير بين شخصيات الرواية، فرنسيين أو أكراداً، حلبيين أو فرنسيين من أصل عربي أو كردي، وسواهم، فإن كل شخصية تمتلك السمات والصفات التي تعكس صدقها الفني، من جهة، كما تعكس مدى دقة الكاتبة وعنايتها بالتفاصيل، وعكوفها على البحث في تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات في ما تأكله من أطعمة، وترتديه من أزياء، وما تسمعه من موسيقى، وما تفكر فيه. وكيف ينعكس كل ذلك على سلوكها في الحياة أو بالأحرى كيف يعكس ذلك نمط حياتها.
ثمة معادلة صعبة حققتها الكاتبة في هذا النص عبر امتلاكها لغة رشيقة واضحة يتدفق بها النص، مغوياً القراء، لكن هذه اللغة ذاتها، في تدفقها او انسيابها الذي يعطي إحساساً أكيداً بالسلاسة والانسيابية، وخادعاً بالبساطة، تمنح القارئ موجات من الأفكار العميقة والأسئلة التي تتسرب الى وعيه تارة، أو تلطمه بقسوة تارة أخرى، مع لمسات درامية مشحونة بالعاطفة تتوغل عميقاً في وجدان القارئ، تعكس خبرة الكاتبة السردية التي لا تخطئها العين.
يتنقل النص بين ثقافتين هما الثقافة الغربية عبر الشخصيات التي تعيش في باريس، وبين الشرق ممثلاً في الشخصيات التي تعيش في حلب في سورية، وفي هذا التنقل يطرح سؤال جوهري عن الهوية، ما معناها؟ وما مكونها الحقيقي؟ هل تتكون الهوية مما تشكله ذاكرة زمن محدد، أو مكان، أم من اللغة، أم من وطن مرجعي بعاداته وتراثه؟
تقول صوفي بيران بطلة الرواية: «إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل ولا من الخارج. اشعر بقوة دفع داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي، وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما ولا أدري خيانة لمن».
صوفي بيران الفرنسية، إقامة وزواجاً ولغة، هي في الأساس، كردية اسمها حنيفة كمال، قررت بعد خيبات عدة، بينها قرار الأب، رضوخاً لأمه وشقيقاته، أن يتخلى عنها هي وأمها الكردية ليعيش مع زوجته الأخرى، العربية، وابنتها شيرين (التي تتنازعها وحنيفة علاقة حب وكراهية مدهشة ومتناقضة) وشقيقهما إدريس... قررت أن تخرج وبقوة غضب داخلي لا تخبو نيرانه، من بلدها وتهاجر إلى فرنسا. غيّرت اسمها ولغتها، وعاشت لا تقوى على المكوث في مكان. تقود سيارتها، بسرعة جنونية، من بلدة الى اخرى، ومن شارع الى آخر بلا هدف، تستمع الى الموسيقى وتبكي، وتسأل نفسها عن هويتها.
ومع شخص لا تحبه، وفي لحظة من لحظات حمى الحياة، كانت تهذي بخواطرها عن الهوية، تتفجر الأسئلة التي تؤرق وجودها كله حول معنى هويتها، فيما يقول لها العشيق: «كفّي عن بحثك عن الوطن، الوطن هو أنت، أنظريني، ها أنا فرنسي، ماذا تعني لي فرنسا؟ لا شيء المهم هو أنا وليس الأرض، الوطن هو الانسان، أما الارض فهي مجرد شيء، مكان، ظرف وظيفته تقديمنا. وها انت اخيراً موجودة سواء وجدت كردستان ام لا. كردستان هي انت».
تتوالى أسئلة صوفي عن الوطن، أن يكون للفرد مكان أمر يختلف تماماً عن أن يكون له مكان يقرر هو أنه لا ينتمي اليه إن شاء، أمر مختلف، وأن يكون للفرد مكان يُنتزع منه، كما هو شأن الفلسطينيين، مقابل ألا يكون له مكان ينتزع منه، كأنه يولد مستلب الهوية من الأساس، وما يؤدي إليه ذلك من شعور بأنه بلا شرعية.
إنها الأسئلة الإنسانية التي تخلقها هذه الرواية، وليست الأفكار السياسية، فهي رواية بعيدة كل البعد عن السياسة، وأوهامها وآثامها.
من هذا الشخص، الذي كان ابعد ما يكون عن نموذج الرجل كما تحب، وخصوصاً أبعد ما يكون عن زوجها الفرنسي المتوازن، تنجب صوفي طفلة تحمل ملامحها الجميلة ذاتها، وبزرقة العينين نفسها أيضاً، ثم، ووفقاً لقدر متعثر، تتركها للعالم، يتيمة، وحيدة، بعد ميتة متوقعة لامرأة تقضي ثلثي حياتها على الطرق تقود سيارتها بسرعة قصوى، لكنها لم تكن تقود سيارتها في ذلك الحادث المذهل، بل دراجة نارية تخص زوجها آلان، الكاتب الفرنسي، المتحفظ في مشاعره، الذي يكتب رواية عن صوفي، ويرعى ابنتها في الوقت نفسه، بل ويعاملها كابنته مقدماً نموذجاً فريداً للفرد الليبرالي المتحرر في اكثر صوره إنسانيةً.
وتستكمل ابنتها (باولا) رحلة الأم في البحث عن هويتها، في عالم غربي تنتمي إليه ذهناً وعاطفة ونمط حياة. لكن سيرة أمها تغويها للبحث عن حقيقتها، وبالتالي لتعيد طرح السؤال عن هويتها. لكنها لا تكتفي بالسؤال، بل تتورط في البحث بنفسها عائدة إلى جذور أمها بعد مفارقة مدهشة تجعلها تلتقي بصدفة مذهلة مع جدتها حنيفة، عمة صوفي (أو حنيفة كما عرفت في طفولتها) في باريس. وهذا ما يجعلها تقرر زيارة سورية للتعرف على المجتمع الشرقي ممثلاً في الشام، وفي جذور أمها الثقافية؛ كما يجسدها المجتمع الكردي الذي يعيش في حلب عبر عناصر عدة متنوعة من أفراد ينتمون الى عائلة الأم وقد كبروا وتحولوا، وفق ظروف الحياة وما فعلته بكل منهم، وكل يعبّر عن التغيرات التي لحقت بالمجتمع. وأظنها كانت تحتاج الى رسم توضيحي لشجرة العائلة في بداية الكتاب من فرط تشعبها.
بل إنها تفتتن بمجتمع الشرق، وتقرر الزواج من أحد أصدقاء اطراف العائلة، بعد تأملٍ في حاله وظروفه المختلفة، وتتعرّف على التناقضات التي يمور بها هذا المجتمع الشرقي. هذه التناقضات ستجد فيها غواية ما في البداية، ثم سرعان ما تصبح عبئاً لا تحتمله، حين تقرر العيش في قلب تلك المتناقضات وتكتوي بنيرانها، فتصل إلى ذروة صراعها الفكري والوجودي حول مفهوم الهوية فترى أن الإنسان في النهاية لا يمكن أن يمتلك هوية واحدة وحيدة في مجتمع اليوم المابعد الحداثي. فهو يتعين عليه أن يحمل أكثر من هوية، أو مكوناً من هويات عدة، يسير بها جميعاً بلا تعارض. وهذا ما سنرى ومضات تفسيرية له من حياة اشخاص أُخر، وبينهم احد عشاقها الذين يجدون في فرديتهم هذا التنوع الفريد للهوية.
في رحلة البحث عن الهوية تلك يتكشف لباولا أن هناك «حبلاً سرياً» يربط مصيرها بمصير أمها، وينعكس على مفهومها للهوية في شكل ما. وهذا مستوى من مستوى الدلالات الذي يحمله عنوان هذه الرواية، بينما يحمل مستوى آخر من الدلالات التي قد تجعلنا ننطق كلمة سُري، بكسر السين، ونعيد التأمل في مصائر كل تلك الشخصيات التي رغم تقاطعات حياتها ومصائرها، فإن لكل منها سراً قد لا يعرفه غيره، يعيش ويموت به.
عالم الأسرار في هذه الرواية هو عالم يبدو كأنه سمة أساسية للفرد، أياً كانت ثقافته، إن كان متحفظاً عاجزاً عن التعبير عن مشاعره مثل آلان، أو متحرراً من كل قيود المجتمع مثل العشيق الذي تحرك نوازعه عقد علاقـته بأمه وأبيه، أو شرقياً محافظاً كما الكـثيـر من افراد العائلة، أو متناقضاً كما بعض المثقفين الشرقيين الذين تقدمهم الرواية، وهم كثر، أو مثل باولا نفسها التي تخفي سر حملها وإجهاضها عن والدها الروحي، آلان، وتواجه تجربتها وإجهاضها بنفسها.
وعالم الأسرار هذا عادة ما نجده في النص مقترناً بموضوع ميتافيزيقي يتعلق بالمصير، وقراءة الطالع، والنجوم، وكأن الأسرار، هي مصائر مقدرة سلفاً، قد تؤثر في مسارات حياة الأفراد، أو هي مجرد احتمالات لحيوات لا تكتمل. وقد تكون دلالة وعلامة لدى الفرد، يختلقها الوعي من فرط اهتمامه بسؤال من أسئلة وجوده، وفيها يجد جواباً رمزياً ما عن واحد من أسئلته. وأظن أن هذه المنطقة، التي تبدو أساسية في مصائر أشخاص هذا النص، لها علاقة كبيرة حتى بالالتباس الذي يتولد في السطور الأخيرة من الرواية حين نتوقف أمام احتمالات عدة تقصدها الرواية عما إذا كان ما قرأناه كله رواية الكاتب الفرنسي آلان بيران «الرغبة الأخيرة لصوفي بيران»، أم أحد احتمالات النص. خصوصاً ونحن نرى في الفصل الأول صورة غلاف الرواية في مقعد سيارة صوفي وهي تقرأها كأنها تقرأ فيها مصيرها.
في هذه المنطقة الخاصة، منطقة الأسرار، تستعرض مها حسن قدراتها الفنية في إظهار حساسيتها في فهم التغيرات السلوكية البشرية في لحظات التحول.
حبل سري” للسورية مها حسن: رواية مفتوحة على النزق.. والأحزان
عناية جابر
عن «دار الكوكب» ريــاض الريس للكتب والنشر، صدرت رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن تحت عنوان «حبل سري» تتمهل فيها الكاتبة في سرد حياة باريسية، فرنسية على وجه الخصوص، مكثفة لشخصيات تتنوع نوازعها العاطفية، والمادية، جذرها عنوان الرواية الموفق «حبل سري» الذي يربط كل منها ببيئته ونشأته في تباينات شعورية تشوبها الرقة والقسوة بحسب الكشف الذي برعت الكاتـبة في الاعتناء السردي به.
الخطوط الروائية المتشعبة لرواية «حبل سري» مرتبــطة بتكــنيك السرد الروائي، لكن ترتبط أكثر بموضوعها العــام: شياطين الحـنين الى الانتماء التي تستحوذ على بطلة الرواية الآتية الى باريس بموروثها العربي ـ الكردي المتــسلط، لجهة تسلــّط العائــلة (ذكــورها على الإناث) تعطي الروايــة كــكل وحدة داخلية هي الأبرز في التحام الســرد ونكهته، وفي تأمل حياة أبــطال «حبل سري» كل من بيئـته وثقافته المختلفتين.
ما فعلته حسن في روايتــها، هو تأليفها من منطقة غير كلاسيــكية تأخذ معها الروائية بتـطوير موضوعاتها التي تتحقق بثبات داخل ومع القصة في آن. ثمة ما يشّد مها حسن الى هجر روايتها في بعض المواقع، لتبيان بعض الثوابت عندها في الانتصار للمرأة، او للإنسان بشكل عام ولحقوقه المشروعة، ويظهر هذا الكشف في مواضع عديدة ما يضعف قليلاً قوة السرد، وتلقائيته، كمن يستنطق عامداً شيئا سبق استنطاقه وتعريفه، فيما في مواضع اخرى تبرع حسن في صهر الحلم بالواقع على سجية شاعرة تعرف تماماً ماهية الحب في شقه العاطفي والجسدي.
سرد رشيق
صوفي بيران، بحقيبة ظهر صغيرة، تنتقل بها من مدينــة لاخــرى، وترافقها مع محتوياتها ذاتــها في جميع الفنادق. صـوفي الباحثة في رواية آلان بيران عن مصيرها الذي تجهله، تأخذنا معها في سرد الكاتبة الرشيق الى دواخل ورغبات مفاجئة وحزن مباغت، وتلعب على هوسها بالقيادة السريعة المتأصل فيها، كحالة انتقام من الثبات، او حالة سخرية من عالم آلان بيران نفسه، الذي تحمل اسمه. حقيبة هي مجرد حجة، لحمل مجموعة من نوازع صوفي، ومن رغباتها وتأملاتها، ومع ذلك فهذه الحقيبة تشكل مدخلاً الى عالمها، وضرورة لإعطاء السرد حس الرواية المفتوحة على النزق، والحزن.
فرنسيان وسوريات. فرنسيون وسوريـون وأكـراد أشــخاص روايـة مهـا حســن، نجد فــيها عرضــاً لأفكار الكاتبة التي تتركهم الى مصائرهم من دون كثــير تدخل، تتركهـم لوجودهم الــحر، ولكل صخرته التي تسحقه ويتلوى تحت ثقلها.
مـن الســطر الاول في الــرواية، تتعــمد الكاتبة تحــميل لغــتها نغـمة مرحة، ساخرة، مستفزة، تجريبية ومتـسائلة وإن تضـعف على ما ذكرنا، حـين تكون حكــمية او مبـاشـرة تشـير بأصــابع الاتــهام الى «دونية» المرأة العــربية في مجتمعاتنا، في إدانة واضحة، مترابطة مع أفكار الكاتبة وحقيقة المسألة المشار إليها. المرأة العربية في حياتها في باريس او سواها، تبقى استمراراً لحياة أمها، كقدر لا مفر منه لان جوهر حريتها الحقيقية متجذر في مواضيع اخرى، ما يجعل حياتها أقل حياة، ومقتصرة على التأمل الشعري في الوجود، ما يستدعي بعض التفسيرات الاجتماعية والتاريخية لمجتمعاتنا المتخلفة، من دون تحديد حياة الشخصيات في مجال زمني معيّن.
تفسّخ
أغلب شخصــيات روايـة «حبل سري» كما لو هي في قفــص، وعليــها ان تجـد طريـقة للخــروج منـه، تناسب الاختفاء التدريجي لمفهوم التفسخ الذي يعيــشه الإنــسان العربي والغربي في آن، التفـسخ الروحي والاستــلاب المــادي الذي يعبث الآن بكــل شيء، ويقذف بالإنسان الى شواطئ مجهــولة، من دون إمكانية «الحب» الذي يبقى حاجة اولى وملاذاً، وغالياً أكثر من الأوطان نفسها.
نستطيع ان نتبـين في رواية مها حسن، المهارة في سرد الطبيعة العلائقية بين كائنين، ســواء في الحب او في الصــداقة او النــبوة والأخــوة. كل علاقــة عندها تتــوفر علـى كمية من الإشارات تسيّرها حركة ذكية وعارفة للدواخل البــشرية، المفتوحة على كل الاحتمالات التي تـذكي حيويتها. كثافة متساوية في كل المشاهد، خصوصاً مواصفات الحب الذي تذهب فيه الكــاتبة حتــى منتهـاه، غــير متحرجــة من أي توصيف يرفع في الضغط الانفعالي للمشهد حتى لو أتى جريئاً. مهمة الكاتبة في المواضع التي ذكرنا هي إيجاد ألفاظ صـادقة، جديدة أكثر كثافة وتضجراً من المشـهد نفـسه، والأمر برأيي، هو حاجة الكاتبة قبل كل شيء، التي تحتاج الى الفن في التعبير، فيكون الانتشاء بصياغة الكلمات أكثر من الانتشاء من المشهد نفسه. رواية ضخمة لمها حسن تستحق التأمل والمتابعة.
السفير
عن «دار الكوكب» ريــاض الريس للكتب والنشر، صدرت رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن تحت عنوان «حبل سري» تتمهل فيها الكاتبة في سرد حياة باريسية، فرنسية على وجه الخصوص، مكثفة لشخصيات تتنوع نوازعها العاطفية، والمادية، جذرها عنوان الرواية الموفق «حبل سري» الذي يربط كل منها ببيئته ونشأته في تباينات شعورية تشوبها الرقة والقسوة بحسب الكشف الذي برعت الكاتـبة في الاعتناء السردي به.
الخطوط الروائية المتشعبة لرواية «حبل سري» مرتبــطة بتكــنيك السرد الروائي، لكن ترتبط أكثر بموضوعها العــام: شياطين الحـنين الى الانتماء التي تستحوذ على بطلة الرواية الآتية الى باريس بموروثها العربي ـ الكردي المتــسلط، لجهة تسلــّط العائــلة (ذكــورها على الإناث) تعطي الروايــة كــكل وحدة داخلية هي الأبرز في التحام الســرد ونكهته، وفي تأمل حياة أبــطال «حبل سري» كل من بيئـته وثقافته المختلفتين.
ما فعلته حسن في روايتــها، هو تأليفها من منطقة غير كلاسيــكية تأخذ معها الروائية بتـطوير موضوعاتها التي تتحقق بثبات داخل ومع القصة في آن. ثمة ما يشّد مها حسن الى هجر روايتها في بعض المواقع، لتبيان بعض الثوابت عندها في الانتصار للمرأة، او للإنسان بشكل عام ولحقوقه المشروعة، ويظهر هذا الكشف في مواضع عديدة ما يضعف قليلاً قوة السرد، وتلقائيته، كمن يستنطق عامداً شيئا سبق استنطاقه وتعريفه، فيما في مواضع اخرى تبرع حسن في صهر الحلم بالواقع على سجية شاعرة تعرف تماماً ماهية الحب في شقه العاطفي والجسدي.
سرد رشيق
صوفي بيران، بحقيبة ظهر صغيرة، تنتقل بها من مدينــة لاخــرى، وترافقها مع محتوياتها ذاتــها في جميع الفنادق. صـوفي الباحثة في رواية آلان بيران عن مصيرها الذي تجهله، تأخذنا معها في سرد الكاتبة الرشيق الى دواخل ورغبات مفاجئة وحزن مباغت، وتلعب على هوسها بالقيادة السريعة المتأصل فيها، كحالة انتقام من الثبات، او حالة سخرية من عالم آلان بيران نفسه، الذي تحمل اسمه. حقيبة هي مجرد حجة، لحمل مجموعة من نوازع صوفي، ومن رغباتها وتأملاتها، ومع ذلك فهذه الحقيبة تشكل مدخلاً الى عالمها، وضرورة لإعطاء السرد حس الرواية المفتوحة على النزق، والحزن.
فرنسيان وسوريات. فرنسيون وسوريـون وأكـراد أشــخاص روايـة مهـا حســن، نجد فــيها عرضــاً لأفكار الكاتبة التي تتركهم الى مصائرهم من دون كثــير تدخل، تتركهـم لوجودهم الــحر، ولكل صخرته التي تسحقه ويتلوى تحت ثقلها.
مـن الســطر الاول في الــرواية، تتعــمد الكاتبة تحــميل لغــتها نغـمة مرحة، ساخرة، مستفزة، تجريبية ومتـسائلة وإن تضـعف على ما ذكرنا، حـين تكون حكــمية او مبـاشـرة تشـير بأصــابع الاتــهام الى «دونية» المرأة العــربية في مجتمعاتنا، في إدانة واضحة، مترابطة مع أفكار الكاتبة وحقيقة المسألة المشار إليها. المرأة العربية في حياتها في باريس او سواها، تبقى استمراراً لحياة أمها، كقدر لا مفر منه لان جوهر حريتها الحقيقية متجذر في مواضيع اخرى، ما يجعل حياتها أقل حياة، ومقتصرة على التأمل الشعري في الوجود، ما يستدعي بعض التفسيرات الاجتماعية والتاريخية لمجتمعاتنا المتخلفة، من دون تحديد حياة الشخصيات في مجال زمني معيّن.
تفسّخ
أغلب شخصــيات روايـة «حبل سري» كما لو هي في قفــص، وعليــها ان تجـد طريـقة للخــروج منـه، تناسب الاختفاء التدريجي لمفهوم التفسخ الذي يعيــشه الإنــسان العربي والغربي في آن، التفـسخ الروحي والاستــلاب المــادي الذي يعبث الآن بكــل شيء، ويقذف بالإنسان الى شواطئ مجهــولة، من دون إمكانية «الحب» الذي يبقى حاجة اولى وملاذاً، وغالياً أكثر من الأوطان نفسها.
نستطيع ان نتبـين في رواية مها حسن، المهارة في سرد الطبيعة العلائقية بين كائنين، ســواء في الحب او في الصــداقة او النــبوة والأخــوة. كل علاقــة عندها تتــوفر علـى كمية من الإشارات تسيّرها حركة ذكية وعارفة للدواخل البــشرية، المفتوحة على كل الاحتمالات التي تـذكي حيويتها. كثافة متساوية في كل المشاهد، خصوصاً مواصفات الحب الذي تذهب فيه الكــاتبة حتــى منتهـاه، غــير متحرجــة من أي توصيف يرفع في الضغط الانفعالي للمشهد حتى لو أتى جريئاً. مهمة الكاتبة في المواضع التي ذكرنا هي إيجاد ألفاظ صـادقة، جديدة أكثر كثافة وتضجراً من المشـهد نفـسه، والأمر برأيي، هو حاجة الكاتبة قبل كل شيء، التي تحتاج الى الفن في التعبير، فيكون الانتشاء بصياغة الكلمات أكثر من الانتشاء من المشهد نفسه. رواية ضخمة لمها حسن تستحق التأمل والمتابعة.
السفير
"حبل سري" للكاتبة السورية مها حسن ... محاولة تجسير بين الشرق والغرب
الحوار المفترض المنشود بين الشرق والغرب، الصراع الحقيقي الدائر في قلب الشرق، ذاك الذي ينقله الشرقيون معهم أنّى حلّوا وارتحلوا،التناقض السافر الذي يعشّش في ذهنيات الكثيرين من أبناء الشرق
الجغرافيات المتصارعة، التاريخ المشكوك فيه جملة وتفصيلاً، الهويات المتقاتلة المتناحرة، الواقع البائس، المدن التي تلفظ أبناءها، الأبناء الذين يتعاركون على أبسط الأمور، الخلافات التي لا تنتهي، الهزائم الكبرى التي يُمنى بها الناس في قراراتهم، الانكسار المستولَد، اليأس المتفشّي، الاستبداد المتعاظم، الجنون الهالك القاهر، التهميش المدروس الممارَس، ومحاور أخرى كثيرة، تشتغل عليها الروائية السورية مها حسن في روايتها "حبل سرّي"، الصادرة عن "دار رياض الريّس، الكوكب". جملة من المحاور تتداخل في ما بينها، ناسجة شبكة علائقية واسعة ومتشعبة، منتقلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لا بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى الحضاري والاجتماعي: من مدينة حلب السورية، حيث مرتع الطفولة، وملاعب الصبا، إلى باريس التي تغدو مسرح الأحداث، وحاضنة الشخصيات الهاربة من ذاتها وتاريخها وهزائمها، الباحثة عن أمان مفقود، عن وطن بديل، وعن موت مريح.
تهاجر حنيفة التي تغيّر اسمها إلى صوفي بيران، من حلب إلى باريس، بعد أن تنتكب مرّات عدة، حين يطلّق والدها أمّها، حين يتخلّى عنها أهلها، وحين تنكسر آمالها في الحصول على الأمان والحبّ والمأوى والوطن. بعد سلسلة من المآسي، تنتقل حنيفة من مدينة إلى أخرى، تُنتزَع من موطنها الذي كانت تشعر فيه بالانتماء والأمان، فتضطرّ لترك بيتها والعيش في بيت أهل والدتها، حيث تفقد الأمان والثقة بكلّ شيء، تفقد الانتماء، تعيش مغتربة مستلبة، فيتعاظم اغترابها واستلابها يوماً بيوم، يكبران معها، يرتحلان في داخلها، فتكاد تفشل في دراستها، لولا عنادها الذي يسمها، ويدفعها لترك البيت، والعيش مع عمّتها. يختار لها المحيطون بها فرعاً لا يلائم ميولها، فتترك كلّ شيء، وتهرب إلى اليونان، حيث أخوها غير الشقيق إدريس، ومن هناك تهرب وحيدة إلى باريس، تغيّر هويّتها واسمها، تنزع عنها لبوس اللاانتماء، تسعى جهدها للاندماج في المجتمع الباريسيّ، تترك ماضيها خلفها، تغدو مارقة في عرف أهلها وذويها في البلد، لا تلتحق بكلية الطبّ التي كان يفترض بها أن تدرس فيها، بل تفضّل البحث عن حياة جديدة، تثبت فيه أناها، التي تنقسم في معمعة البحث أنوات، كلّ واحدة منها تتشظّى وتنفجر، لتستولد شخصيات متعاركة في الداخل، تصدّر الضجيج إلى الخارج، عبر الموسيقى الصاخبة، وقيادة السيارة بطريقة مجنونة متهوّرة. تصادق شبّاناً فرنسيين، تعيش حياة منعتقة من كلّ القيود، تسافر كما يحلو لها، تمارس ما تشاء، تجعل من نفسها وجسدها حقل تجارب، تمارس سلوكيات تعويضية، تشذّ في بعض أفعالها، لكنها لا تفلح في الانسلاخ عن ذاتها وماضيها والشخصية التي تسكنها وتحرّكها وتدفعها إلى تصرّفات لا ترتضيها، لكنها تجد نفسها مرغمة على فعل ذلك، في محاولتها للتبرؤ ممّا يثقل كاهلها من وجع التيه، وجنون الضياع.
ترتبط صوفي بيران بعلاقة مع ألان، روائي فرنسي، تعيش معه في شقته أحياناً، وتمضي معظم أوقاتها في الترحال، كأنها تهرب من مواجهة ذاتها، فيكون الفرار سمة حياتها، ويربطها حبل سرّي بكل ما كان وسيكون، لا تستطيع قطع ذلك الحبل، لأنه يحتل الحيّز الأكبر من حياتها، يربطها ذاك الحبل بالأماكن التي هربت منها، وبأخرى تهرب إليها، يربطها بالمستقبل الضبابي، يشدّها إلى الماضي الكارثي، يأبى الانقطاع، يقوى بمرور الأيام.
حتى بعد أن تموت صوفي بيران في حادثة أليمة، تستكمل ابنتها الوحيدة، باولا، سيرتها الناقصة، كما ترث منها روايتها التي ينبغي لها أن تكمل كتابتها، كأنها تسدّ بذلك الفجوات التي ظلّت ناقصة من حياة أمّها التائهة، تحاول تجسير الهاويات بين الماضي الذي هربت منه صوفي والمستقبل الذي لم يسعفها، بين مدينتها المنغلقة حلب، وباريس التي لم تنجدها في العثور على ما ظلّت توسوس في البحث عنه. تعاني باولا قلق الانتماء نفسه، تستبطن شخصية قلقة ثائرة متمرّدة، تكون نتاج علاقة عابرة بين صوفي والشخص الذي كانت تكرهه، لكنها غرقت في علاقة مجنونة معه، وكانت النتيجة باولا التي حاولت تحقيق ما فشلت صوفي في تحقيقه. ترفض باولا الاعتراف بأبّوة لا تناسبها، تعتبر ألان والدها الحقيقيّ، تعيش في كنفه، ترتاح إليه، وهو بدوره يتركها على هواها، ولا يحاول التدخّل في قراراتها وحياتها. تقود المصادفة باولا للتعرّف إلى عمّة أمّها حنيفة، التي كانت تتداوى في باريس من مرض خبيث، شفيت بعد تعرّفها إلى باولا، وتحسّنت حالتها النفسية. تكون المصادفة المنطلقة من تكهّن عرّافة باريسية، هي المحرّك الرئيسي لكثير من الأحداث، ما كان يدفع باولا إلى الاستعانة بها بين الآونة والأخرى. تكون الفرصة مناسبة لباولا كي تكتشف ما ظلّ يؤرّق صوفي، فتقرّر خوض غمار مغامرة صعبة، وتنغمس في علاقة مع جوليان، قريبها البعيد. تسافر مع حنيفة إلى حلب، وهناك تطّلع على كثير من الخبايا، وتكتشف حجم المعاناة التي يعانيها الأكراد السوريون، في الموازاة مع غيرهم من المواطنين. تكتشف الكبت المتغلغل في النفوس والأجساد، التناقضات السافرة التي تغزو الوجوه والعقول، الحروب الوهمية التي تطحن البشر هناك، وتكتشف شرقاً بائساً تعيساً لا يمتّ إلى شرق "ألف ليلة وليلة"، وليالي الأنس، والشهوة المتأجّجة المستعرة، الذي كانت قد رسمته في مخيّلتها. يقابلها جدها وجدتها بالرفض واللامبالاة، تشفق على نفسها وعلى صوفي وعلى الجميع، كلّ واحد يحمل أساه ويضغط على جراحه. تتعرّف إلى حياة المدينة الحقيقية، تكون نظرتها ذات أبعاد مختلفة، فلا تكتفي بوجهة نظر واحدة، بل تستعرض مجموعة من وجهات النظر. لا تكتفي بالوقوف على التخوم، والتفرّج من بعيد، بل تدخل قلب الرعب، وتسرد كثيراً من القصص التي راح ضحيتها الأبرياء في خضمّ الانسياق وراء الأعراف القاتلة. تصوّر الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها، تحكي عن عالم مهمّش لا يملك الحقّ في التعبير عن أيّ شيء يخصّه، وتقدّم نماذج وعيّنات واقعية يتمّ التغاضي عن التصريح بها، وتروي الازدواجية التي تسكن الشرق، والسفور الذي يغلّفه. ترتبط باولا بقصة حبّ مع روني؛ ابن خالتها شيرين، تعود للزواج به بعد أشهر من سفرها إلى باريس، تحبل منه، تفشل بالاندماج في المجتمع الشرقي، الحلبي، فينتهي بها المطاف حائرة هاربة بحملها إلى باريس، مؤثرة الحرية على الحبّ والرواية والقرابة، فتضع هناك ابنتها إلزا في ظروف أفضل، في ظلّ حرية معيشة، لا في ظلّ نظام يسوده قانون الطوارئ، من السلطة والمجتمع سواء بسواء، وتسيّره الأحكام العرفية المكبّلة.
كأنما تدوّن الكاتبة رواية معارضة، محاكية، لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، وإن كانت تنسج على النول نفسه، ولكن عبر شخصيات نسائية، صوفي، باولا... صور لمصطفى سعيد. تنتقل كلّ منهما من حضن إلى آخر، تقيم الكثير من العلاقات العابرة، تغزو الغرب في عقر داره، تستعمر الآخر جسديّاً، تنتقم منه على ما اقترفه في حقّها وذويها وبلدها من تهميش وإقصاء واستعمار ردحاً من الزمن. تنتدب نفسها وارثة لعالم يسِمه قلق الانتماء إلى المكان، وإلى الأمان، تورث ابنتها القلق نفسه، تورثها العناد والتحرّر والروايات. تورثها التخبّط والأسطورة، بحيث تكون كلّ واحدة منهما الخيميائية التي تسعى الى مضاهاة سحر الخيميائيّ، بل والتفوّق عليه. تمارس الشخصيات شعائر الحياة الغربيّة، ولا تتناسى الجانب الشرقي المشرق فيها. وبرغم ذلك تكون تائهة بين شرق وغرب، مرتبطة بحبل سرّي إلى كلّ منهما. همزة وصل تحافظ على التوازن ما أمكنها، كي لا ينفلت الحبل فيودي بكلّ شيء تمّ ترتيبه بالتراكم.
نوّعت الكاتبة في طرائق العنونة، قسّمت روايتها ثلاثة فصول، عنونت كلّ فصل باسم شخصيّة: صوفي بيران، باولا بيران، إلزا بيران. اعتمدت في الفصلين الأوّل والثالث على ترقيم الفصول الفرعية بالأعداد بالترتيب، حوى الفصل الأوّل سبعة عشر فصلاً، في حين حوى الفصل الثالث خمسة وعشرين فصلاً، بينما اكتفت في الفصل الثاني بالعناوين الفرعيّة، كما أبقت بعضها من دون عنوان. اشتملت الرواية، كعادة الكاتبة في رواياتها السابقة "اللامتناهي - سيرة الآخر"، "لوحة الغلاف"، "تراتيل العدم"، على أزمنة متعددة متشعبة، وأجيال متوارثة الهموم والهواجس والوساوس، يتبدّى ذلك في التقسيم التسلسلي للشخصيات المتناسلة المتعاقبة، كما يتبدّى في أحداث الرواية. لكن الكاتبة في "حبل سرّي" تبدو متخفّفة من ثقل اللغة، ومن ضغط الجانب الفلسفي الذي كانت تغرق فيه رواياتها السابقة.
"حبل سرّي" رواية صادمة غنيّة بالتفاصيل الممتعة، والقضايا الشائكة المتشابكة، استشراق معاكس، واستغراب هجين، برعت الكاتبة في تحبيكها وربطها بحبال سرية متينة، قدّمت أزمنة متعدّدة، والكثير من الأمكنة المتناقضة، هنا وهناك، وما بينهما من نقاط التقاء وتضادّ. تسبر الكاتبة أغوار المجتمع الغربي، الباريسي نموذجاً، في الموازاة مع المجتمع الشرقي، السوريّ الحلبي، بكرده وعربه وموزاييكه المتنوّع نموذجاً مقابلاً، تربط بينهما بحبل سرّي، هو في جانب منه عبارة عن شخصيات صوفي، باولا، روني، حنيفة، جوليان، شيرين... إلخ، الكثير من الآمال والآلام معاً، في جانب آخر، التيه الذي يبقى فاعلاً ومستمرّاً. يبقى الشرق شرقاً والغرب غرباً، والحبل السرّي الذي يربط بينهما، الجسر الذي يربطهما، لا يستطيع دمجهما معاً، ولا ينفكّ عن أيّ منهما. يظلّ مشدوداً وموضع تجاذبات لا تنتهي.
هيثم حسين
النهار
الجغرافيات المتصارعة، التاريخ المشكوك فيه جملة وتفصيلاً، الهويات المتقاتلة المتناحرة، الواقع البائس، المدن التي تلفظ أبناءها، الأبناء الذين يتعاركون على أبسط الأمور، الخلافات التي لا تنتهي، الهزائم الكبرى التي يُمنى بها الناس في قراراتهم، الانكسار المستولَد، اليأس المتفشّي، الاستبداد المتعاظم، الجنون الهالك القاهر، التهميش المدروس الممارَس، ومحاور أخرى كثيرة، تشتغل عليها الروائية السورية مها حسن في روايتها "حبل سرّي"، الصادرة عن "دار رياض الريّس، الكوكب". جملة من المحاور تتداخل في ما بينها، ناسجة شبكة علائقية واسعة ومتشعبة، منتقلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لا بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى الحضاري والاجتماعي: من مدينة حلب السورية، حيث مرتع الطفولة، وملاعب الصبا، إلى باريس التي تغدو مسرح الأحداث، وحاضنة الشخصيات الهاربة من ذاتها وتاريخها وهزائمها، الباحثة عن أمان مفقود، عن وطن بديل، وعن موت مريح.
تهاجر حنيفة التي تغيّر اسمها إلى صوفي بيران، من حلب إلى باريس، بعد أن تنتكب مرّات عدة، حين يطلّق والدها أمّها، حين يتخلّى عنها أهلها، وحين تنكسر آمالها في الحصول على الأمان والحبّ والمأوى والوطن. بعد سلسلة من المآسي، تنتقل حنيفة من مدينة إلى أخرى، تُنتزَع من موطنها الذي كانت تشعر فيه بالانتماء والأمان، فتضطرّ لترك بيتها والعيش في بيت أهل والدتها، حيث تفقد الأمان والثقة بكلّ شيء، تفقد الانتماء، تعيش مغتربة مستلبة، فيتعاظم اغترابها واستلابها يوماً بيوم، يكبران معها، يرتحلان في داخلها، فتكاد تفشل في دراستها، لولا عنادها الذي يسمها، ويدفعها لترك البيت، والعيش مع عمّتها. يختار لها المحيطون بها فرعاً لا يلائم ميولها، فتترك كلّ شيء، وتهرب إلى اليونان، حيث أخوها غير الشقيق إدريس، ومن هناك تهرب وحيدة إلى باريس، تغيّر هويّتها واسمها، تنزع عنها لبوس اللاانتماء، تسعى جهدها للاندماج في المجتمع الباريسيّ، تترك ماضيها خلفها، تغدو مارقة في عرف أهلها وذويها في البلد، لا تلتحق بكلية الطبّ التي كان يفترض بها أن تدرس فيها، بل تفضّل البحث عن حياة جديدة، تثبت فيه أناها، التي تنقسم في معمعة البحث أنوات، كلّ واحدة منها تتشظّى وتنفجر، لتستولد شخصيات متعاركة في الداخل، تصدّر الضجيج إلى الخارج، عبر الموسيقى الصاخبة، وقيادة السيارة بطريقة مجنونة متهوّرة. تصادق شبّاناً فرنسيين، تعيش حياة منعتقة من كلّ القيود، تسافر كما يحلو لها، تمارس ما تشاء، تجعل من نفسها وجسدها حقل تجارب، تمارس سلوكيات تعويضية، تشذّ في بعض أفعالها، لكنها لا تفلح في الانسلاخ عن ذاتها وماضيها والشخصية التي تسكنها وتحرّكها وتدفعها إلى تصرّفات لا ترتضيها، لكنها تجد نفسها مرغمة على فعل ذلك، في محاولتها للتبرؤ ممّا يثقل كاهلها من وجع التيه، وجنون الضياع.
ترتبط صوفي بيران بعلاقة مع ألان، روائي فرنسي، تعيش معه في شقته أحياناً، وتمضي معظم أوقاتها في الترحال، كأنها تهرب من مواجهة ذاتها، فيكون الفرار سمة حياتها، ويربطها حبل سرّي بكل ما كان وسيكون، لا تستطيع قطع ذلك الحبل، لأنه يحتل الحيّز الأكبر من حياتها، يربطها ذاك الحبل بالأماكن التي هربت منها، وبأخرى تهرب إليها، يربطها بالمستقبل الضبابي، يشدّها إلى الماضي الكارثي، يأبى الانقطاع، يقوى بمرور الأيام.
حتى بعد أن تموت صوفي بيران في حادثة أليمة، تستكمل ابنتها الوحيدة، باولا، سيرتها الناقصة، كما ترث منها روايتها التي ينبغي لها أن تكمل كتابتها، كأنها تسدّ بذلك الفجوات التي ظلّت ناقصة من حياة أمّها التائهة، تحاول تجسير الهاويات بين الماضي الذي هربت منه صوفي والمستقبل الذي لم يسعفها، بين مدينتها المنغلقة حلب، وباريس التي لم تنجدها في العثور على ما ظلّت توسوس في البحث عنه. تعاني باولا قلق الانتماء نفسه، تستبطن شخصية قلقة ثائرة متمرّدة، تكون نتاج علاقة عابرة بين صوفي والشخص الذي كانت تكرهه، لكنها غرقت في علاقة مجنونة معه، وكانت النتيجة باولا التي حاولت تحقيق ما فشلت صوفي في تحقيقه. ترفض باولا الاعتراف بأبّوة لا تناسبها، تعتبر ألان والدها الحقيقيّ، تعيش في كنفه، ترتاح إليه، وهو بدوره يتركها على هواها، ولا يحاول التدخّل في قراراتها وحياتها. تقود المصادفة باولا للتعرّف إلى عمّة أمّها حنيفة، التي كانت تتداوى في باريس من مرض خبيث، شفيت بعد تعرّفها إلى باولا، وتحسّنت حالتها النفسية. تكون المصادفة المنطلقة من تكهّن عرّافة باريسية، هي المحرّك الرئيسي لكثير من الأحداث، ما كان يدفع باولا إلى الاستعانة بها بين الآونة والأخرى. تكون الفرصة مناسبة لباولا كي تكتشف ما ظلّ يؤرّق صوفي، فتقرّر خوض غمار مغامرة صعبة، وتنغمس في علاقة مع جوليان، قريبها البعيد. تسافر مع حنيفة إلى حلب، وهناك تطّلع على كثير من الخبايا، وتكتشف حجم المعاناة التي يعانيها الأكراد السوريون، في الموازاة مع غيرهم من المواطنين. تكتشف الكبت المتغلغل في النفوس والأجساد، التناقضات السافرة التي تغزو الوجوه والعقول، الحروب الوهمية التي تطحن البشر هناك، وتكتشف شرقاً بائساً تعيساً لا يمتّ إلى شرق "ألف ليلة وليلة"، وليالي الأنس، والشهوة المتأجّجة المستعرة، الذي كانت قد رسمته في مخيّلتها. يقابلها جدها وجدتها بالرفض واللامبالاة، تشفق على نفسها وعلى صوفي وعلى الجميع، كلّ واحد يحمل أساه ويضغط على جراحه. تتعرّف إلى حياة المدينة الحقيقية، تكون نظرتها ذات أبعاد مختلفة، فلا تكتفي بوجهة نظر واحدة، بل تستعرض مجموعة من وجهات النظر. لا تكتفي بالوقوف على التخوم، والتفرّج من بعيد، بل تدخل قلب الرعب، وتسرد كثيراً من القصص التي راح ضحيتها الأبرياء في خضمّ الانسياق وراء الأعراف القاتلة. تصوّر الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها، تحكي عن عالم مهمّش لا يملك الحقّ في التعبير عن أيّ شيء يخصّه، وتقدّم نماذج وعيّنات واقعية يتمّ التغاضي عن التصريح بها، وتروي الازدواجية التي تسكن الشرق، والسفور الذي يغلّفه. ترتبط باولا بقصة حبّ مع روني؛ ابن خالتها شيرين، تعود للزواج به بعد أشهر من سفرها إلى باريس، تحبل منه، تفشل بالاندماج في المجتمع الشرقي، الحلبي، فينتهي بها المطاف حائرة هاربة بحملها إلى باريس، مؤثرة الحرية على الحبّ والرواية والقرابة، فتضع هناك ابنتها إلزا في ظروف أفضل، في ظلّ حرية معيشة، لا في ظلّ نظام يسوده قانون الطوارئ، من السلطة والمجتمع سواء بسواء، وتسيّره الأحكام العرفية المكبّلة.
كأنما تدوّن الكاتبة رواية معارضة، محاكية، لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، وإن كانت تنسج على النول نفسه، ولكن عبر شخصيات نسائية، صوفي، باولا... صور لمصطفى سعيد. تنتقل كلّ منهما من حضن إلى آخر، تقيم الكثير من العلاقات العابرة، تغزو الغرب في عقر داره، تستعمر الآخر جسديّاً، تنتقم منه على ما اقترفه في حقّها وذويها وبلدها من تهميش وإقصاء واستعمار ردحاً من الزمن. تنتدب نفسها وارثة لعالم يسِمه قلق الانتماء إلى المكان، وإلى الأمان، تورث ابنتها القلق نفسه، تورثها العناد والتحرّر والروايات. تورثها التخبّط والأسطورة، بحيث تكون كلّ واحدة منهما الخيميائية التي تسعى الى مضاهاة سحر الخيميائيّ، بل والتفوّق عليه. تمارس الشخصيات شعائر الحياة الغربيّة، ولا تتناسى الجانب الشرقي المشرق فيها. وبرغم ذلك تكون تائهة بين شرق وغرب، مرتبطة بحبل سرّي إلى كلّ منهما. همزة وصل تحافظ على التوازن ما أمكنها، كي لا ينفلت الحبل فيودي بكلّ شيء تمّ ترتيبه بالتراكم.
نوّعت الكاتبة في طرائق العنونة، قسّمت روايتها ثلاثة فصول، عنونت كلّ فصل باسم شخصيّة: صوفي بيران، باولا بيران، إلزا بيران. اعتمدت في الفصلين الأوّل والثالث على ترقيم الفصول الفرعية بالأعداد بالترتيب، حوى الفصل الأوّل سبعة عشر فصلاً، في حين حوى الفصل الثالث خمسة وعشرين فصلاً، بينما اكتفت في الفصل الثاني بالعناوين الفرعيّة، كما أبقت بعضها من دون عنوان. اشتملت الرواية، كعادة الكاتبة في رواياتها السابقة "اللامتناهي - سيرة الآخر"، "لوحة الغلاف"، "تراتيل العدم"، على أزمنة متعددة متشعبة، وأجيال متوارثة الهموم والهواجس والوساوس، يتبدّى ذلك في التقسيم التسلسلي للشخصيات المتناسلة المتعاقبة، كما يتبدّى في أحداث الرواية. لكن الكاتبة في "حبل سرّي" تبدو متخفّفة من ثقل اللغة، ومن ضغط الجانب الفلسفي الذي كانت تغرق فيه رواياتها السابقة.
"حبل سرّي" رواية صادمة غنيّة بالتفاصيل الممتعة، والقضايا الشائكة المتشابكة، استشراق معاكس، واستغراب هجين، برعت الكاتبة في تحبيكها وربطها بحبال سرية متينة، قدّمت أزمنة متعدّدة، والكثير من الأمكنة المتناقضة، هنا وهناك، وما بينهما من نقاط التقاء وتضادّ. تسبر الكاتبة أغوار المجتمع الغربي، الباريسي نموذجاً، في الموازاة مع المجتمع الشرقي، السوريّ الحلبي، بكرده وعربه وموزاييكه المتنوّع نموذجاً مقابلاً، تربط بينهما بحبل سرّي، هو في جانب منه عبارة عن شخصيات صوفي، باولا، روني، حنيفة، جوليان، شيرين... إلخ، الكثير من الآمال والآلام معاً، في جانب آخر، التيه الذي يبقى فاعلاً ومستمرّاً. يبقى الشرق شرقاً والغرب غرباً، والحبل السرّي الذي يربط بينهما، الجسر الذي يربطهما، لا يستطيع دمجهما معاً، ولا ينفكّ عن أيّ منهما. يظلّ مشدوداً وموضع تجاذبات لا تنتهي.
هيثم حسين
النهار
مها حسن... سؤال الهويّات المشتّتة
سعيد خطيبي
في زمن الثورات العربية وانتفاضة الشباب المدافع عن خيار الحرية وقيم الديموقراطية، تتراءى جلّ الأحلام ممكنة. تكبر فينا رغبة التغيير وقلب المفاهيم السائدة. لكننا ننسى، في لحظة من اللحظات، أن هناك أناساً «آخرين» مثلنا، يعيشون بعيداً في المنفى، غير قادرين على شمّ عبق الثورة التي تصنع يومياتنا. «آخرون» أرغمتهم آلة التعسف الرسمية على هجر طفولتهم وتمزيق ذكرياتهم. لهذا، قررت الروائية السوريّة مها حسن أن تمنحهم صوتها في رواية «حبل سرّي» (رياض الرّيس). يعرّف فولتير الوطن بالمكان الذي نجد فيه سعادتنا. تعريف يتفق بعض الشيء مع رؤية جان بول سارتر الذي يعتقد أنّ الوطن، مثل الشرف أو الحرية، مفاهيم يمكن تأسيسها أينما وجدنا، ولا تتصل برقعة جغرافية محدّدة. لكنّ مها حسن ترى العكس. شخصيات روايتها الأخيرة لا تشعر بالطمأنينة إلا من خلال التفكير في الوطن/ الأرض، والغوص في حلم العودة إليه يوماً ما.
ذلك ما نلاحظه مع تتبع تطوّر حياة البطلة حنيفة سليمان التي أحبّت السينما وهجرت شمال سوريا إلى فرنسا. هناك غيّرت اسمها إلى صوفي بيران، وشاءت الأقدار أن تجد نفسها وسط فضاء اجتماعي مستقرّ. لكنها تعيش قلقاً دائماً، مشوباً بالكثير من الخوف والارتياب. تصرخ مرّة، في وجه زوجها الروائي آلان: «أنتم شعوب لم تدركوا الاستعمار. كنتم مستعمرين لغيركم، لذلك فالشعور بالقوة والتفوق هو ما يملأكم، أما الانكسار والخوف، فهذا أمر لا تفهمه الشعوب المستبدة». رغم أنها عاشت سنوات طويلة في باريس، وأسست فيها صداقات حميمة، إلا أنّها تقرّ في النهاية: «أنا فرنسية نعم، بالأوراق، لكنني في العمق لست هكذا».
رغبة واحدة ظلّت تراود ذهن صوفي/ حنيفة طيلة حياتها: العودة إلى قريتها النائية في سوريا وملاقاة أهلها. لكنها ماتت في حادث سير، من دون بلوغ مرادها، فعهدت إلى ابنتها باولا مهمة تحقيق حلمها.
بعدما تجاوزت باولا العشرين، وشرعت بتجربتها الفنية في المسرح، زارت مسقط رأس والدتها. هناك، التقت بعض أفراد عائلة لا تعرفهم: شيرين، دلبرين، روزلين، إبراهيم، جدتها فريدة وجدها كمال. شعرت بفرح داخلي كونها حققت أمنية والدتها. لكنّها صدمت، في الوقت نفسه، بتنكر الجد والجدة لها، انتقاماً من الأم التي تمرّدت وهجرت قريتها وبلدها، معلنةً رفضها للمنطق الاجتماعي المنغلق، والبطريركية المطلقة. رواية «حبل سرّي» هي رحلة علاج الذات المنكسرة. سؤال الهوية المشتتة. لكنّ الرواية تحمل الكثير من الأسئلة الأخرى: «كيف يشعر الناس بالانتماء إلى المكان؟» تسأل صوفي أو حنيفة التي تتحدث دائماً «عن تلك الفجوة العميقة بداخلها، التجويف الذي يقطعها، يخترقها كوهاد شديدة الانحدار، تبعد تكويناتها الداخلية، وتشعرها دوماً بأنها خائفة، قلقة، غير متجذرة، مقطوعة».
يخيّم على الرواية شبح «خيميائي» باولو كويلو. تسافر البطلة عبر نقاط مختلفة، من جنوب فرنسا إلى شمالها، ومن أحياء حلب الشعبية إلى شوارع أمستردام الصاخبة. تحكي رغبات شخصيات عادية في عيش الممتع والممنوع. ترسم بورتريهات نساء يجسّدن اختلافهن بالتنازل عن بعض مظاهر أنوثتهن. رواية تنطلق من سذاجة حلم طفولة مسلوبة وتنتهي بفاجعة ومنفى.
في زمن الثورات العربية وانتفاضة الشباب المدافع عن خيار الحرية وقيم الديموقراطية، تتراءى جلّ الأحلام ممكنة. تكبر فينا رغبة التغيير وقلب المفاهيم السائدة. لكننا ننسى، في لحظة من اللحظات، أن هناك أناساً «آخرين» مثلنا، يعيشون بعيداً في المنفى، غير قادرين على شمّ عبق الثورة التي تصنع يومياتنا. «آخرون» أرغمتهم آلة التعسف الرسمية على هجر طفولتهم وتمزيق ذكرياتهم. لهذا، قررت الروائية السوريّة مها حسن أن تمنحهم صوتها في رواية «حبل سرّي» (رياض الرّيس). يعرّف فولتير الوطن بالمكان الذي نجد فيه سعادتنا. تعريف يتفق بعض الشيء مع رؤية جان بول سارتر الذي يعتقد أنّ الوطن، مثل الشرف أو الحرية، مفاهيم يمكن تأسيسها أينما وجدنا، ولا تتصل برقعة جغرافية محدّدة. لكنّ مها حسن ترى العكس. شخصيات روايتها الأخيرة لا تشعر بالطمأنينة إلا من خلال التفكير في الوطن/ الأرض، والغوص في حلم العودة إليه يوماً ما.
ذلك ما نلاحظه مع تتبع تطوّر حياة البطلة حنيفة سليمان التي أحبّت السينما وهجرت شمال سوريا إلى فرنسا. هناك غيّرت اسمها إلى صوفي بيران، وشاءت الأقدار أن تجد نفسها وسط فضاء اجتماعي مستقرّ. لكنها تعيش قلقاً دائماً، مشوباً بالكثير من الخوف والارتياب. تصرخ مرّة، في وجه زوجها الروائي آلان: «أنتم شعوب لم تدركوا الاستعمار. كنتم مستعمرين لغيركم، لذلك فالشعور بالقوة والتفوق هو ما يملأكم، أما الانكسار والخوف، فهذا أمر لا تفهمه الشعوب المستبدة». رغم أنها عاشت سنوات طويلة في باريس، وأسست فيها صداقات حميمة، إلا أنّها تقرّ في النهاية: «أنا فرنسية نعم، بالأوراق، لكنني في العمق لست هكذا».
رغبة واحدة ظلّت تراود ذهن صوفي/ حنيفة طيلة حياتها: العودة إلى قريتها النائية في سوريا وملاقاة أهلها. لكنها ماتت في حادث سير، من دون بلوغ مرادها، فعهدت إلى ابنتها باولا مهمة تحقيق حلمها.
بعدما تجاوزت باولا العشرين، وشرعت بتجربتها الفنية في المسرح، زارت مسقط رأس والدتها. هناك، التقت بعض أفراد عائلة لا تعرفهم: شيرين، دلبرين، روزلين، إبراهيم، جدتها فريدة وجدها كمال. شعرت بفرح داخلي كونها حققت أمنية والدتها. لكنّها صدمت، في الوقت نفسه، بتنكر الجد والجدة لها، انتقاماً من الأم التي تمرّدت وهجرت قريتها وبلدها، معلنةً رفضها للمنطق الاجتماعي المنغلق، والبطريركية المطلقة. رواية «حبل سرّي» هي رحلة علاج الذات المنكسرة. سؤال الهوية المشتتة. لكنّ الرواية تحمل الكثير من الأسئلة الأخرى: «كيف يشعر الناس بالانتماء إلى المكان؟» تسأل صوفي أو حنيفة التي تتحدث دائماً «عن تلك الفجوة العميقة بداخلها، التجويف الذي يقطعها، يخترقها كوهاد شديدة الانحدار، تبعد تكويناتها الداخلية، وتشعرها دوماً بأنها خائفة، قلقة، غير متجذرة، مقطوعة».
يخيّم على الرواية شبح «خيميائي» باولو كويلو. تسافر البطلة عبر نقاط مختلفة، من جنوب فرنسا إلى شمالها، ومن أحياء حلب الشعبية إلى شوارع أمستردام الصاخبة. تحكي رغبات شخصيات عادية في عيش الممتع والممنوع. ترسم بورتريهات نساء يجسّدن اختلافهن بالتنازل عن بعض مظاهر أنوثتهن. رواية تنطلق من سذاجة حلم طفولة مسلوبة وتنتهي بفاجعة ومنفى.
الروائية مها حسن في حوار لـ"الفجر الثقافي"
الكتابة عن الحب، الحرية، والجنس هي رهانات الكاتب
2010.12.26
alfadjr
الجوائز لم تعد تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على الكتابات المهمّشة
على الرغم من خروج روايتها الموسومة بـ"حبل سري" من القائمة القصيرة لجائزة"بوكر الرواية العربية، في دورتها الرابعة لهذه السنة، إلا أن الروائية السورية ذات الأصل الكردي، مها حسن، استطاعت أن تجد نفسها مرة أخرى محط اهتمام العديد من الكتاب والنقاد العرب، بعد سلسلة من الإصدارات في عالم الرواية
خاصة بعد صدور روايتها الأخيرة التي أثارت الجدل الكثير فور صدورها ببيروت عن دار رياض نجيب الريس. وللحديث عن هذا العمل الذي تناولت فيه مها، تناقضات الحياة في سوريا وفرنسا، وهاجس الكتابة عموما، كانت لـ"الفجر" فرصة إجراء هذا اللقاء معها..
مرّة أخرى تعود الروائية السورية مها حسن، إلى القارئ بنص تصرّ فيه على الهروب من هويتها العربية، لتعيد كتابة سيرتها الذاتية من خلال أبطال الرواية. لماذا كل هذا الإصرار منك على العودة إلى الماضي؟
أنا لا أهرب من هويتي العربية، لأنني ببساطة لست عربية. أنا أفكر وأكتب باللغة العربية، إلا أنني جينيا، أنحدر من عائلة كردية. سؤال الهوية لا يزال يشكل هاجسا كبير لديّ، بتّ أميل إلى الاقتناع بأنه ليس أكثر من مسألة أوراق وترتيبات إدارية، أما الهوية من العمق، كإحساس بالأنا، فهي لا تنتمي إلى هذه التقسيمات الحادة. لم أعد أؤمن بمفهوم الهوية بمعناه الجغرافي أوالإقليمي، الهوية حالة فردية جدا، وبهذا التعريف، فهويتي هي أنا ككاتبة، هذا أكثر ما يناسبني ويتفق مع إحساسي بي وبكينونتي، أما الماضي، فهو لازمة متكررة في حياتي وحياة أبطالي، يكاد يكون حامل المفاتيح الأولية والشيفرات المركزية لكل تجليات الراهن التي غالبا ما تكون انعكاس لهذا الماضي.. لست ممن يمجد الماضي، ولكني لا أستطيع الخروج منه بسهولة، لأنه المسؤول الدائم عن راهني، أشعر بثقله اليومي، وكأنه مقيم بين كتفيّ، يراقب آنيتي، وفق دورين متناقضين، أولهما للاطمئنان على أني لن أغادره، والثاني رغبة منه في دفقي ودفعي نحو الخارج، تماما كالعلاقة بين الطفل والرحم، الماضي هو رحمي، خانق ربما، دافئ أيضا ، المسألة مركبة ويصعب فهمها ضمن معطيات واضحة ودقيقة.
ثمة إسقاطات عديدة لمفهوم الحب، الحرية، التواصل، الجنس، الأنا في عملك هذا، برأيك لماذا تراهن المرأة الكاتبة بشكل عام في نصوصها الأدبية على هذه المواضيع عكس ما نقرأه في أدب الآخر؟
لا أعتقد أن المواضيع التي تؤرقني تختلف عن تلك التي تؤرق زميلي الرجل. أنا لا أنتمي لدائرة الأدب النسوي، وهذا لا يعني أنني أدين هذه الكتابة. أنا أؤمن بالتنوع، ولكن قراءتي الأولية، وتأسيسي الذهني تم على أيدي "رجال"، إلا أن كل النماذج التي أسرتني في الفكر والرواية، هي نماذج للرجال ـ لا أحب استعمال لفظ ذكورية هنا ـ قد يكون الدافع الخفي لمقاربتي لأدب غير جنسوي، هو رفض بشكل ما للدور الدوني الذي يصنف داخله أدب المرأة. بطبيعتي أنا كائن رافض على الدوام، القلق الذي يسكنني يجعلني كائن خارج الجماعة وخارج التأطيرات، لدي هوس ربما بتقديم كتابة لا تقل عن كتابة الرجل، لأنني لم أشعر يوما بدونيتي أمام الرجل، على العكس، أعتقد أن المرأة كائن خلاق ومبتكر، ولكن الظروف التاريخية هي التي أضرت بهذا الكائن المبدع، انتقال المجتمعات من المرحلة الأمومية إلى الذكورية أضر بالطرفين، الرجال والنساء، لخدمة مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى. لهذا فأنا أعتقد أن كتابتي عن الحب والحرية والتواصل والجنس، كما وردت في سؤالك، هي رهانات الكاتب، بغض النظر عن التاء المربوطة التي تحيل إلى جنسه.
من هذا المنطلق كيف ترين صورة المرأة المبدعة في أدبها؟
أنا ضد كل هذه التصنيفات والتقسيمات للأدب، سواء الجغرافية أو الجنسوية، أما إذا كان هدف السؤال هو تقييم المنتج الأدبي للمرأة الكاتبة، فإن هذا برأيي من اختصاص النقاد. لست على دراية بكل ما يصدر من إبداع روائي أو شعري أو حتى سينمائي، ولست مخولة للرد على هذا السؤال.
وصول روايتك الموسومة بـ"حبل سري" إلى القائمة الـ16 لجائزة "بوكر للرواية العربية"، في حدّ ذاتها يعد إنجازا بالنسبة إليك، خاصة إذا نظرنا إلى الأسماء الرائدة التي شاركت هذه السنة في المسابقة، أنت كيف تقيمين نصك بعد هذه التجربة؟
لم أفهم السؤال تماما، وهل عليّ أن أقيم نصي قبل وبعد القائمة؟ إن علاقتي مع كتابتي لا تتغير وفق هذه المعطيات، لا أنكر أن وصول روايتي إلى اللائحة الطويلة، أحدث حراكا خاصا بمسيرة روايتي، بمعنى أنها حققت بعض التواجد في الساحة الإعلامية، وسمع بي أشخاص لم يكونوا على دراية بتواجدي الأدبي. إن الجوائز لا تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على بعض الكتابات المهمّشة مثلا، وأنا أعتقد أن ثمة أسباب كثيرة، أهمها افتقادي لموهبة العلاقات العامة، ساهمت في تهميش تجربتي، هذه روايتي الرابعة، وأنا بدأت النشر كروائية، لم أنشر القصة القصيرة إلا في المجلات والصحف، أي كتبي المنشورة هي الرواية، وهاجسي كان ولايزال حتى اللحظة هو الرواية. لم يأتِ اهتمامي بسبب اتجاه العالم اليوم إلى الرواية، بل أنا ابنة الرواية، فيها فقط أجدني، لهذا فإني لست مهووسة بمسألة الأسماء. حين فازت موللر بنوبل، لم يكن قد سمع عنها الكثيرون، أخاف دوما على نفسي من أن تغويني لذة الشهرة والضوء، لأن هذه أيضا حاجة نفسية لدى الكاتب، نحن لا نكتب من أجل أنفسنا، ثمة عقد خفي بين القارئ المجهول في ذهن الكاتب، والكاتب، علاقة فيها بعض الإلهام ، ولكن الضوء وهاجس الجوائز، فخ أحاول تجنبه.
ما رأيك في الأسماء التي تضمنتها القائمة القصيرة للجائزة هذه السنة؟
أنا لا أدخل في هذه التقييمات، لا أسمح لنفسي بهذا. كنت سعيدة بوجودي في اللائحة الطويلة، ولكني لست مستعدة لتقييم عمل اللجنة أو الأعمال الواصلة إلى اللائحة القصيرة، هذا الأمر لا يدخل ضمن اهتماماتي.
يتساءل القارئ لأعمالك عن السبب الحقيقي لاختيارك عنوان "حبل سري"، دون غيره من العناوين الأخرى التي توحي بما رغبت في إيصاله إليه؟
حبل سري، أو المشيمة كما احترت بين العنوانين، هو المفتاح الجوهري لأزمة بطلاتي، هذه العلاقة الخفية مع الرحم، والرحم هنا طبعا ليس الأم فقط، بل كل التأسيسات الأولى التي نمونا وترعرنا بداخلها، لا أحب شرح كتبي ولا عناوينها، ولكن الحبل السُري، بضم السين، هو الحامل الرئيسي، بما يشبه الجذر، للشخصية الروائية، أوالواقعية. من هنا أكرر ما قلته في حوار آخر، بأنني أفضل دوما التدليل على البلد الأول لأي شخص، باستبدال مصطلح "مسقط السرة" عن مسقط الرأس.. تروي لي أمي حكاية مهمة أثرت في مخيلتي، ربما يكون هذا الموروث الشعبي متواجدا في بدان عربية أخرى، وهو دفن سرة الوليد. حيث قامت أمي بدفن سرتي في مقاعد مدرسة كان خالي يتعلم فيها، ويُعتقد بأن مكان السرة، يحدد للطفل لاحقا، توجهه في الحياة.. كنت الولد الأول "باعتباري البكر" في العائلة الذي يذهب إلى المدرسة ويتابع تعليمه العالي حتى الجامعة، في عائلتي، أكاد، حتى اليوم، ومع نشوء أجيال لاحقة لجيلي، لاأزال البنت الوحيدة التي حصلت على تعليم جامعي، لا أزعم بأن "مخبأ السرة" هو السبب، إلا أن هذه اللعبة التي صدقتها أمي، ونقلتها لي، خلقت بداخلي توجها غير مقصود ـ لا أستعمل بتاتا لفظة لاوعي ـ نحو التعلم والكشف وخوض الجديد، أظن أن حبلنا السري يحمل الكثير من الإجابات، واللفظة بالعربية، هي الوحيدة التي تجمع بين السرة والسر.. بينما هو في الفرنسية والانجليزية أمر مختلف، أومبليكال كورد، لا علاقة له بالسر.
هل أفهم أن الحنين إلى الذاكرة الأولى يجعلك تستحضرين هذه الذاكرة في شخوص نصك، لتبدو الرواية وكأنها رحلة عودة إلى تلك الذاكرة، واعتراف منك على سلطة المكان الأول عليك، أم أن موضوع الروائية فرض نفسه بعفوية ما؟
أظن أنه ينبغي دوما التمييز بين السرد الذاتي والرواية، ورواية السرد الذاتي. لكل رواية محرض ما لانطلاقها من داخل الكاتب، ولكل قانونها الخاص بها. في تجربتي الكتابية فإن روايتي، بعد أن تؤسس بداياتها على الورق، تنطلق لتبحث عن مرجعياتها، الواقعية أو الإفتراضية. لهذا فإنني لا أميل إلى اعتبار روايتي بمثابة تصفية حساب شخصي، لا على صعيد الفرح ولا الحزن. يجب فصل العمل الفني عن صاحبه، أنا صارمة بهذا، ولا أقحم ذاكرتي الشخصية، إلا ضمن الحدود الفنية، فالكتابة ذاكرة أيضا، ولكن ثمة فارق بين الحشر القسري للذاكرة الشخصية، والتوظيف الفني لذكريات ما، تتسلل من خزاني، دون الكثير من القصدية.
سلطت الضوء في"حبل سري" على حقيقة الفرد العربي داخل المجتمع الغربي، من خلال صوفي الفرنسية، وحنيفة العربية، المختلفتين عن بعضهما البعض، ولكنك حاولت أن تتركي القارئ يكتشف الإنتماء الجغرافي والإيديولوجي الذي يجمع هاتين الشخصيتين. ترى ماذا أرادت مها أن تقول من خلال هذا النص؟
يا إلهي يا حياة، على القارئ التوصل إلى هذا الجواب، لست عرافته، ولن أقوده في طريق قراءتي، تعرفين أن القراءة دوما، هكذا أراها، نص متعدد الإحتمالات، لماذا أسجن القارئ داخل شرنقة شرحي.. لنترك لكل قارئ يذهب بتفسيراته وتأويلاته حيث يذهب، أنا واثقة ومؤمن بقارئ متفوق على الروائي.
نلت سنة 2005، جائزة هلمان - هامت الأمريكية التي تمنح للكتاب والصحفيين الذين واجهوا ويواجهون التضييق في بلادهم، ماذا أضافت هذه الجائزة لمسيرتك على الصعيدين الإبداعي والشخصي، خاصة أنك تعرضت إلى مضايقات عديدة في وطنك سوريا، وصل إلى منعك من نشر أعمالك؟
بصراحة، بات هذا السؤال يثقل علي لكثرة ما تردد أولا، حيث ومنذ خمس سنوات، منذ الحصول على الجائزة، وحتى اليوم، أضطر للجواب ذاته، إضافة إلى حجم الهجوم الذي تعرضت إليه من قبل الكثير من الأشخاص الذين يخلطون بين العمل الحقوقي من جهة والسياسي من جهة، وكذلك بين الحقوقي والسياسي من جهة والإبداعي..
حسنا سأجيب، هذه الجائزة كانت بمثابة تكريم لتجربتي كامرأة متحدرة من طبقة عادية، شقت طريقها في عالم الكتابة، حمّلها الإيديولوجيون المعارضون لي، أعباء وانتقادات ، أفسدت فرحي بها، بسبب أني لا أصرخ وأرفع شعارات، كوني كائن منشغل بالهم الإبداعي، دون إهمال الجانب الإنساني والحقوقي، ولكن دون تنظيرات وشعارات فارغة تساهم في تعميق الوهم الشعاراتي وتغريب الإنسان عن ذاته وإلحاقه بالشعارات.
على أي نص تشتغل مها حسن في هذه الفترة، والمعروف عنك أنك تحرصين على التواجد في المشهد الإبداعي في كل موسم؟
هذا ليس دقيقا، لست ابنة مواسم. لقد توقفت عن النشر بعد روايتي الثانية التي صدرت في عام 2002، لما يقارب سبع سنوات حتى نشرت روايتي الثالثة، والتي كنت قد أنهيتها منذ سنوات وتركتها إلى أن جاءت فرصتها للنشر. أتحدث عن ترتيل العدم، أما روايتي الأخيرة، فهي الأولى التي كتبتها في فرنسا. أنا مقيمة هنا منذ ست سنوات، وهذا عملي الأول، أي استغرق مني ما لا يقل من أربع سنوات من كتابة وتردد في النشر، النشر مغامرة لا أجرؤ على الدخول فيها دوما، لهذا فأنا لا أعرف بعد، وليس أمامي من خيار آني.
حاورتها:حياة.س
2010.12.26
alfadjr
الجوائز لم تعد تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على الكتابات المهمّشة
على الرغم من خروج روايتها الموسومة بـ"حبل سري" من القائمة القصيرة لجائزة"بوكر الرواية العربية، في دورتها الرابعة لهذه السنة، إلا أن الروائية السورية ذات الأصل الكردي، مها حسن، استطاعت أن تجد نفسها مرة أخرى محط اهتمام العديد من الكتاب والنقاد العرب، بعد سلسلة من الإصدارات في عالم الرواية
خاصة بعد صدور روايتها الأخيرة التي أثارت الجدل الكثير فور صدورها ببيروت عن دار رياض نجيب الريس. وللحديث عن هذا العمل الذي تناولت فيه مها، تناقضات الحياة في سوريا وفرنسا، وهاجس الكتابة عموما، كانت لـ"الفجر" فرصة إجراء هذا اللقاء معها..
مرّة أخرى تعود الروائية السورية مها حسن، إلى القارئ بنص تصرّ فيه على الهروب من هويتها العربية، لتعيد كتابة سيرتها الذاتية من خلال أبطال الرواية. لماذا كل هذا الإصرار منك على العودة إلى الماضي؟
أنا لا أهرب من هويتي العربية، لأنني ببساطة لست عربية. أنا أفكر وأكتب باللغة العربية، إلا أنني جينيا، أنحدر من عائلة كردية. سؤال الهوية لا يزال يشكل هاجسا كبير لديّ، بتّ أميل إلى الاقتناع بأنه ليس أكثر من مسألة أوراق وترتيبات إدارية، أما الهوية من العمق، كإحساس بالأنا، فهي لا تنتمي إلى هذه التقسيمات الحادة. لم أعد أؤمن بمفهوم الهوية بمعناه الجغرافي أوالإقليمي، الهوية حالة فردية جدا، وبهذا التعريف، فهويتي هي أنا ككاتبة، هذا أكثر ما يناسبني ويتفق مع إحساسي بي وبكينونتي، أما الماضي، فهو لازمة متكررة في حياتي وحياة أبطالي، يكاد يكون حامل المفاتيح الأولية والشيفرات المركزية لكل تجليات الراهن التي غالبا ما تكون انعكاس لهذا الماضي.. لست ممن يمجد الماضي، ولكني لا أستطيع الخروج منه بسهولة، لأنه المسؤول الدائم عن راهني، أشعر بثقله اليومي، وكأنه مقيم بين كتفيّ، يراقب آنيتي، وفق دورين متناقضين، أولهما للاطمئنان على أني لن أغادره، والثاني رغبة منه في دفقي ودفعي نحو الخارج، تماما كالعلاقة بين الطفل والرحم، الماضي هو رحمي، خانق ربما، دافئ أيضا ، المسألة مركبة ويصعب فهمها ضمن معطيات واضحة ودقيقة.
ثمة إسقاطات عديدة لمفهوم الحب، الحرية، التواصل، الجنس، الأنا في عملك هذا، برأيك لماذا تراهن المرأة الكاتبة بشكل عام في نصوصها الأدبية على هذه المواضيع عكس ما نقرأه في أدب الآخر؟
لا أعتقد أن المواضيع التي تؤرقني تختلف عن تلك التي تؤرق زميلي الرجل. أنا لا أنتمي لدائرة الأدب النسوي، وهذا لا يعني أنني أدين هذه الكتابة. أنا أؤمن بالتنوع، ولكن قراءتي الأولية، وتأسيسي الذهني تم على أيدي "رجال"، إلا أن كل النماذج التي أسرتني في الفكر والرواية، هي نماذج للرجال ـ لا أحب استعمال لفظ ذكورية هنا ـ قد يكون الدافع الخفي لمقاربتي لأدب غير جنسوي، هو رفض بشكل ما للدور الدوني الذي يصنف داخله أدب المرأة. بطبيعتي أنا كائن رافض على الدوام، القلق الذي يسكنني يجعلني كائن خارج الجماعة وخارج التأطيرات، لدي هوس ربما بتقديم كتابة لا تقل عن كتابة الرجل، لأنني لم أشعر يوما بدونيتي أمام الرجل، على العكس، أعتقد أن المرأة كائن خلاق ومبتكر، ولكن الظروف التاريخية هي التي أضرت بهذا الكائن المبدع، انتقال المجتمعات من المرحلة الأمومية إلى الذكورية أضر بالطرفين، الرجال والنساء، لخدمة مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى. لهذا فأنا أعتقد أن كتابتي عن الحب والحرية والتواصل والجنس، كما وردت في سؤالك، هي رهانات الكاتب، بغض النظر عن التاء المربوطة التي تحيل إلى جنسه.
من هذا المنطلق كيف ترين صورة المرأة المبدعة في أدبها؟
أنا ضد كل هذه التصنيفات والتقسيمات للأدب، سواء الجغرافية أو الجنسوية، أما إذا كان هدف السؤال هو تقييم المنتج الأدبي للمرأة الكاتبة، فإن هذا برأيي من اختصاص النقاد. لست على دراية بكل ما يصدر من إبداع روائي أو شعري أو حتى سينمائي، ولست مخولة للرد على هذا السؤال.
وصول روايتك الموسومة بـ"حبل سري" إلى القائمة الـ16 لجائزة "بوكر للرواية العربية"، في حدّ ذاتها يعد إنجازا بالنسبة إليك، خاصة إذا نظرنا إلى الأسماء الرائدة التي شاركت هذه السنة في المسابقة، أنت كيف تقيمين نصك بعد هذه التجربة؟
لم أفهم السؤال تماما، وهل عليّ أن أقيم نصي قبل وبعد القائمة؟ إن علاقتي مع كتابتي لا تتغير وفق هذه المعطيات، لا أنكر أن وصول روايتي إلى اللائحة الطويلة، أحدث حراكا خاصا بمسيرة روايتي، بمعنى أنها حققت بعض التواجد في الساحة الإعلامية، وسمع بي أشخاص لم يكونوا على دراية بتواجدي الأدبي. إن الجوائز لا تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على بعض الكتابات المهمّشة مثلا، وأنا أعتقد أن ثمة أسباب كثيرة، أهمها افتقادي لموهبة العلاقات العامة، ساهمت في تهميش تجربتي، هذه روايتي الرابعة، وأنا بدأت النشر كروائية، لم أنشر القصة القصيرة إلا في المجلات والصحف، أي كتبي المنشورة هي الرواية، وهاجسي كان ولايزال حتى اللحظة هو الرواية. لم يأتِ اهتمامي بسبب اتجاه العالم اليوم إلى الرواية، بل أنا ابنة الرواية، فيها فقط أجدني، لهذا فإني لست مهووسة بمسألة الأسماء. حين فازت موللر بنوبل، لم يكن قد سمع عنها الكثيرون، أخاف دوما على نفسي من أن تغويني لذة الشهرة والضوء، لأن هذه أيضا حاجة نفسية لدى الكاتب، نحن لا نكتب من أجل أنفسنا، ثمة عقد خفي بين القارئ المجهول في ذهن الكاتب، والكاتب، علاقة فيها بعض الإلهام ، ولكن الضوء وهاجس الجوائز، فخ أحاول تجنبه.
ما رأيك في الأسماء التي تضمنتها القائمة القصيرة للجائزة هذه السنة؟
أنا لا أدخل في هذه التقييمات، لا أسمح لنفسي بهذا. كنت سعيدة بوجودي في اللائحة الطويلة، ولكني لست مستعدة لتقييم عمل اللجنة أو الأعمال الواصلة إلى اللائحة القصيرة، هذا الأمر لا يدخل ضمن اهتماماتي.
يتساءل القارئ لأعمالك عن السبب الحقيقي لاختيارك عنوان "حبل سري"، دون غيره من العناوين الأخرى التي توحي بما رغبت في إيصاله إليه؟
حبل سري، أو المشيمة كما احترت بين العنوانين، هو المفتاح الجوهري لأزمة بطلاتي، هذه العلاقة الخفية مع الرحم، والرحم هنا طبعا ليس الأم فقط، بل كل التأسيسات الأولى التي نمونا وترعرنا بداخلها، لا أحب شرح كتبي ولا عناوينها، ولكن الحبل السُري، بضم السين، هو الحامل الرئيسي، بما يشبه الجذر، للشخصية الروائية، أوالواقعية. من هنا أكرر ما قلته في حوار آخر، بأنني أفضل دوما التدليل على البلد الأول لأي شخص، باستبدال مصطلح "مسقط السرة" عن مسقط الرأس.. تروي لي أمي حكاية مهمة أثرت في مخيلتي، ربما يكون هذا الموروث الشعبي متواجدا في بدان عربية أخرى، وهو دفن سرة الوليد. حيث قامت أمي بدفن سرتي في مقاعد مدرسة كان خالي يتعلم فيها، ويُعتقد بأن مكان السرة، يحدد للطفل لاحقا، توجهه في الحياة.. كنت الولد الأول "باعتباري البكر" في العائلة الذي يذهب إلى المدرسة ويتابع تعليمه العالي حتى الجامعة، في عائلتي، أكاد، حتى اليوم، ومع نشوء أجيال لاحقة لجيلي، لاأزال البنت الوحيدة التي حصلت على تعليم جامعي، لا أزعم بأن "مخبأ السرة" هو السبب، إلا أن هذه اللعبة التي صدقتها أمي، ونقلتها لي، خلقت بداخلي توجها غير مقصود ـ لا أستعمل بتاتا لفظة لاوعي ـ نحو التعلم والكشف وخوض الجديد، أظن أن حبلنا السري يحمل الكثير من الإجابات، واللفظة بالعربية، هي الوحيدة التي تجمع بين السرة والسر.. بينما هو في الفرنسية والانجليزية أمر مختلف، أومبليكال كورد، لا علاقة له بالسر.
هل أفهم أن الحنين إلى الذاكرة الأولى يجعلك تستحضرين هذه الذاكرة في شخوص نصك، لتبدو الرواية وكأنها رحلة عودة إلى تلك الذاكرة، واعتراف منك على سلطة المكان الأول عليك، أم أن موضوع الروائية فرض نفسه بعفوية ما؟
أظن أنه ينبغي دوما التمييز بين السرد الذاتي والرواية، ورواية السرد الذاتي. لكل رواية محرض ما لانطلاقها من داخل الكاتب، ولكل قانونها الخاص بها. في تجربتي الكتابية فإن روايتي، بعد أن تؤسس بداياتها على الورق، تنطلق لتبحث عن مرجعياتها، الواقعية أو الإفتراضية. لهذا فإنني لا أميل إلى اعتبار روايتي بمثابة تصفية حساب شخصي، لا على صعيد الفرح ولا الحزن. يجب فصل العمل الفني عن صاحبه، أنا صارمة بهذا، ولا أقحم ذاكرتي الشخصية، إلا ضمن الحدود الفنية، فالكتابة ذاكرة أيضا، ولكن ثمة فارق بين الحشر القسري للذاكرة الشخصية، والتوظيف الفني لذكريات ما، تتسلل من خزاني، دون الكثير من القصدية.
سلطت الضوء في"حبل سري" على حقيقة الفرد العربي داخل المجتمع الغربي، من خلال صوفي الفرنسية، وحنيفة العربية، المختلفتين عن بعضهما البعض، ولكنك حاولت أن تتركي القارئ يكتشف الإنتماء الجغرافي والإيديولوجي الذي يجمع هاتين الشخصيتين. ترى ماذا أرادت مها أن تقول من خلال هذا النص؟
يا إلهي يا حياة، على القارئ التوصل إلى هذا الجواب، لست عرافته، ولن أقوده في طريق قراءتي، تعرفين أن القراءة دوما، هكذا أراها، نص متعدد الإحتمالات، لماذا أسجن القارئ داخل شرنقة شرحي.. لنترك لكل قارئ يذهب بتفسيراته وتأويلاته حيث يذهب، أنا واثقة ومؤمن بقارئ متفوق على الروائي.
نلت سنة 2005، جائزة هلمان - هامت الأمريكية التي تمنح للكتاب والصحفيين الذين واجهوا ويواجهون التضييق في بلادهم، ماذا أضافت هذه الجائزة لمسيرتك على الصعيدين الإبداعي والشخصي، خاصة أنك تعرضت إلى مضايقات عديدة في وطنك سوريا، وصل إلى منعك من نشر أعمالك؟
بصراحة، بات هذا السؤال يثقل علي لكثرة ما تردد أولا، حيث ومنذ خمس سنوات، منذ الحصول على الجائزة، وحتى اليوم، أضطر للجواب ذاته، إضافة إلى حجم الهجوم الذي تعرضت إليه من قبل الكثير من الأشخاص الذين يخلطون بين العمل الحقوقي من جهة والسياسي من جهة، وكذلك بين الحقوقي والسياسي من جهة والإبداعي..
حسنا سأجيب، هذه الجائزة كانت بمثابة تكريم لتجربتي كامرأة متحدرة من طبقة عادية، شقت طريقها في عالم الكتابة، حمّلها الإيديولوجيون المعارضون لي، أعباء وانتقادات ، أفسدت فرحي بها، بسبب أني لا أصرخ وأرفع شعارات، كوني كائن منشغل بالهم الإبداعي، دون إهمال الجانب الإنساني والحقوقي، ولكن دون تنظيرات وشعارات فارغة تساهم في تعميق الوهم الشعاراتي وتغريب الإنسان عن ذاته وإلحاقه بالشعارات.
على أي نص تشتغل مها حسن في هذه الفترة، والمعروف عنك أنك تحرصين على التواجد في المشهد الإبداعي في كل موسم؟
هذا ليس دقيقا، لست ابنة مواسم. لقد توقفت عن النشر بعد روايتي الثانية التي صدرت في عام 2002، لما يقارب سبع سنوات حتى نشرت روايتي الثالثة، والتي كنت قد أنهيتها منذ سنوات وتركتها إلى أن جاءت فرصتها للنشر. أتحدث عن ترتيل العدم، أما روايتي الأخيرة، فهي الأولى التي كتبتها في فرنسا. أنا مقيمة هنا منذ ست سنوات، وهذا عملي الأول، أي استغرق مني ما لا يقل من أربع سنوات من كتابة وتردد في النشر، النشر مغامرة لا أجرؤ على الدخول فيها دوما، لهذا فأنا لا أعرف بعد، وليس أمامي من خيار آني.
حاورتها:حياة.س